الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثالثة القلعة
(بفتح القاف) ويعبر عنها بقلعة الجبل، وهي مقرّة السلطان الآن ودار مملكته.
بناها الطواشي بهاء الدين قراقوش المتقدّم ذكره للملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، وموقعها بين ظاهر القاهرة والجبل المقطّم والفسطاط، وما يليه من القرافة المتصلة بعمارة القاهرة والقرافة «1» وطولها وعرضها على ما تقدم في الفسطاط أيضا، وهي على نشز «2» مرتفع من تقاطيع الجبل المقطّم، ترتفع في موضع وتنخفض في آخر.
وكان موضعها قبل أن تبنى، مساجد من بناء الفاطميين «3» : منها مسجد رديني الذي هو بين آدر الحريم السلطانية.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: قال لي والدي رحمه الله: عرض عليّ الملك الكامل إمامته، فامتنعت لكونه بين آدر الحريم. ولم يسكنها «4» السلطان صلاح الدين رحمه الله، ويقال: إن ابنه الملك العزيز سكنها مدّة في حياة أبيه، ثم انتقل منها إلى دار الوزارة.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: قال لي والدي رحمه الله: كنا نطلع إليها قبل أن تسكن في ليالي الجمع نبيت متفرّجين كما نبيت في جواسق «1» الجبل والقرافة.
وأول من سكنها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب انتقل إليها من قصر الفاطميين سنة أربع وستمائة، واستقرّت بعده سكنا للسلاطين إلى الآن.
ومن غريب ما يحكى أن السلطان صلاح الدين رحمه الله طلع إليها ومعه أخوه العادل أبو بكر، فقال السلطان لأخيه العادل: هذه القلعة بنيت لأولادك، فثقل ذلك على العادل وعرف السلطان صلاح الدين ذلك منه، فقال: لم تفهم عني إنما أردت أني أنا نجيب فلا يكون لي أولاد نجباء، وأنت غير نجيب فتكون أولادك نجباء فسرّي عنه، وكان الأمر كما قال السلطان صلاح الدين، وبقيت خالية حتّى ملك العادل مصر والشام، فاستناب ولده الملك الكامل محمدا في الديار المصرية فسكنها.
وذكر في «مسالك الأبصار» أن أول من سكنها العادل أبو بكر، ولما سكنها الكامل المذكور، احتفل بأمرها واهتم بعمارتها وعمر بها أبراجا، منها البرج الأحمر وغيره.
وفي أواخر سنة اثنتين وثمانين وستمائة عمر بها السلطان الملك المنصور قلاوون برجا عظيما على جانب باب السر الكبير، وبنى عليه مشترفات حسنة البنيان، بهجة الرخام، رائقة الزّخرفة. وسكنها في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
ثم عمر بها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ثلاثة أماكن، كملت بها معانيها، واستحق بها القلعة على بانيها:
أحدها- القصر الأبلق «1» الذي يجلس به السلطان في عامة أيامه، ويدخل عليه فيه أمراؤه وخواصّه، وقد استجدّ به السلطان الملك الأشرف «شعبان بن حسين» رحمه الله في جانبه مقعدا بإزاء الإسطبلات السلطانية جاء في نهاية من الحسن والبهجة.
والثاني- الإيوان الكبير الذي يجلس فيه السلطان في أيام المواكب للخدمة العامة وإقامة العدل في الرعية.
والثالث- جامع الخطبة الذي يصلي فيه السلطان الجمعة، وستأتي صفة هذه الأماكن كلها.
وهذه القلعة ذات سور وأبراج، فسيحة الأفنية، كثيرة العمائرة، ولها ثلاثة أبواب يدخل منها إليها:
أحدها- من جهة القرافة والجبل المقطّم، وهو أقل أبوابها سالكا وأعزّها استطراقا.
والثاني- باب السر. ويختص الدخول والخروج منه بأكابر الأمراء وخواصّ الدولة: كالوزير وكاتب السر ونحوهما، يتوصل إليه من الصوّة «2» ، وهي بقية النّشر الذي بنيت عليه القلعة من جهة القاهرة، بتعريج يمشي فيه مع جانب جدارها البحري حتّى ينتهي إليه بحيث يكون مدخله منه مقابل الإيوان الكبير الذي يجلس فيه السلطان أيام المواكب، وهذا الباب لا يزال مغلقا حتى ينتهي إليه من يستحق الدخول أو الخروج منه فيفتح له ثم يغلق.
والثالث- وهو بابها الأعظم الذي يدخل منه باقي الأمراء وسائر الناس، يتوصل إليه من أعلى الصوّة المتقدّم ذكرها، يرقى إليه في درج متناسبة حتّى يكون
مدخله في أول الجانب الشرقيّ من القلعة؛ ويتوصل منه إلى ساحة مستطيلة ينتهي منها إلى دركاه «1» جليلة يجلس بها الأمراء حتّى يؤذن لهم بالدخول؛ وفي قبليّ هذه الدركاه (دار النيابة)«2» وهي التي يجلس بها النائب الكافل «3» للحكم إذا كان ثمّ نائب، و (قاعة الصاحب)«4» وهي التي يجلس بها الوزير وكتّاب الدولة، و (ديوان الإنشاء) وهو الذي يجلس فيه كاتب السر وكتّاب ديوانه، وكذلك (ديوان الجيش) وسائر الدواوين السلطانية.
وبصدر هذه الدّركاه باب يقال له «باب القلّة» يدخل منه إلى دهاليز فسيحة، على يسرة الداخل منها باب يتوصل منه إلى جامع الخطبة المتقدّم «5» ذكره؛ وهو من أعظم الجوامع، وأحسنها وأبهجها نظرا، وأكثرها زخرفة، متسع الأرجاء، مرتفع البناء، مفروش الأرض بالرخام الفائق، مبطّن السّقوف بالذهب؛ في وسطه قبة يليها مقصورة يصلّي فيها السلطان الجمعة، مستورة هي والرواقات المشتملة عليها بشبابيك من حديد محكمة الصنعة، يحفّ بصحنه رواقات من جميع جهاته ويتوصل من ظاهر هذا الجامع إلى باب الستارة، ودور الحريم السلطانية.
وبصدر الدهاليز المتقدّمة الذكر مصطبة يجلس عليها مقدّم المماليك «1» ، وعندها مدخل باب السر المتقدّم ذكره، وفي مجنبة ذلك ممرّ يدخل منه إلى ساحة يواجه الداخل إليها باب الإيوان الكبير المتقدّم ذكره، وهو إيوان عظيم عديم النظير، مرتفع الابنية، واسع الأفنية، عظيم العمد، عليه شبابيك من حديد عظيمة الشأن محكمة الصنعة؛ وبصدره سرير الملك، وهو منبر من رخام مرتفع، يجلس عليه السلطان في أيام المواكب العظام لقدوم رسل الملوك ونحو ذلك.
ويتامن عن هذا الإيوان إلى ساحة لطيفة بها باب القصر الأبلق المتقدّم ذكره، وبنواحيها مصاطب يجلس عليها خواصّ الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة؛ ويدخل من باب القصر إلى دهاليز عظيمة الشأن، نبيهة القدر، يتوصّل منها إلى القصر المذكور، وهو قصر عظيم البناء، شاهق في الهواء، به إيوانان في جهتي الشّمال والجنوب، أعظمهما الشّماليّ، يطلّ منهما على الإصطبلات السلطانية، ويمتدّ النظر منهما إلى سوق الخيل والقاهرة والفسطاط وحواضرها، إلى مجرى النيل، وما يلي ذلك من بلاد الجيزة والجبل وما والى ذلك؛ وبصدره منبر من رخام كالذي في الإيوان الكبير يجلس عليه السلطان أحيانا في وقت الخدمة على ما يأتي ذكره.
والإيوان الثاني وهو القبليّ خاص بخروج السلطان وخواصّه منه، من باب السر إلى الإيوان الكبير خارج القصر للجلوس فيه أيام المواكب العامّة، ويدخل من القصر المتقدّم ذكره إلى ثلاثة قصور جوّانية: واحد منها مسامت لأرض القصر الكبير، واثنان مرفوعان، يصعد إليهما بدرج؛ في جميعها شبابيك من حديد تشرف على ما يشرف عليه القصر، ويدخل من القصور الجوّانية إلى دور الحريم وأبواب الستور السلطانية؛ وهذه القصور جميعها ظاهرها بالحجر الأسود
والأصفر، وداخلها مؤزّر بالرخام والفصّ المذهب المشجر بالصّدف وأنواع الملونات، والسقوف المبطّنة بالذهب واللّازورد تخرق لضوء «1» في جدرانها بطاقات من الزجاج القبرسيّ الملوّن كقطع الجوهر المؤلفة في العقود، وجميع أرضها مفروشة بالرخام المنقول من أقطار الأرض مما لا يوجد مثله.
قال في «مسالك الأبصار» : فأما الآدر السلطانية فعلى ما صح عندي خبره أنها ذوات بساتين وأشجار ومناخات للحيوانات البديعة والأبقار والأغنام والطيور الدّواجن.
وخارج هذه القصور طباق واسعة للماليك السلطانية، ودور عظام لخواص الأمراء من مقدّمي الألوف، ومن عظم قدره من امراء الطّبلخاناه والعشرات، ومن خرج عن حكم الخاصكية إلى حكم البرانيين.
وبها بيوت ومساكن لكثير من الناس، وسوق للمآكل؛ ويباع بها النّفيس من السلاح والقماش مع الدّلالين يطوفون به.
وبهذه القلعة مع ارتفاع أرضها وكونها مبنية على جبل بئر ماء «2» معين منقوبة في الحجر، احتفرها بهاء الدين قراقوش المتقدّم ذكره حين بناء القلعة، وهي من أعجب الآبار، بأسفلها سواق تدور فيها الأبقار، وتنقل الماء في وسطها، وبوسطها سواق تدور فيها الأبقار أيضا وتنقل الماء إلى أعلاها؛ ولها طريق إلى
الماء ينزل البقر فيه إلى معينها في مجاز، وجميع ذلك نحت في الحجر ليس فيه بناء.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: وسمعت من يحكي من المشايخ أنها لما نقرت، جاء ماؤها عذبا فأراد قراقوش أو نوّابه الزيادة في مائها فوسع نقرا في الجبل، فخرجت منه عين مالحة غيرت عذوبتها. ويقال: إن أرضها تسامت أرض بركة الفيل؛ وهذه البئر ينتفع بها أهل القلعة فيما عدا الشرب من سائر أنواع الاستعمالات. أما شربهم فمن الماء العذب المنقول إليها من النيل بالرّوايا «1» على ظهور الجمال والبغال مع ما ينساق إلى السلطان ودور أكابر الأمراء المجاورين للسلطان من ماء النيل في المجاري، بالسواقي النّقّالات والدواليب التي تديرها الأبقار وتنقل الماء من مقرّ إلى آخر حتّى ينتهي إلى القلعة، ويدخل إلى القصور والآدر في ارتفاع نحو خمسمائة ذراع.
وقد استجدّ السلطان الملك الظاهر برقوق بهذه القلعة صهريجا عظيما يملأ في كل سنة زمن النيل من الماء المنقول إلى القلعة من السواقي النّقّالات، ورتب عليه سبيلا بالدّركاه التي بها دار النيابة يسقى فيه الماء وحصل به للناس رفق عظيم.
وتحت مشترف هذه القلعة مما يلي القصور السلطانية ميدان عظيم يحول بين الإصطبلات السلطانية وسوق الخيل، ممرّج بالنجيل الأخضر، فسيح المدى، يسافر النظر في أرجائه، به أنواع من الوحوش المستحسنة المنظر، وتربط به الخواصّ من الخيول السلطانية للتفسح؛ وفيه يصلي السلطان العيدين على ما سيأتي ذكره؛ وفيه تعرض الخيول السلطانية في أوقات الإطلاقات ووصول التقادم والمشترى، وربما أطعم فيه الجوارح السلطانية؛ وإذا أراد السلطان النزول إليه خرج من باب إيوان القصر وركب من درج تليه إلى إصطبل الخيول الخاص، ثم
نزل إليه راكبا وخواصّ الأمراء في خدمته مشاة، ثم يعود إلى القصر كذلك.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في «خططه» : وكان هذا الميدان وما حوله يعرف قديما بالميدان، وبه قصر أحمد بن طولون وداره التي يسكنها، والأماكن المعروفة بالقطائع حوله على ما تقدّم ذكره في خطط الفسطاط، ولم يزل كذلك حتّى بنى الملك الكامل بن العادل بن أيوب هذا الميدان تحت القلعة حين سكنها، وأجرى السواقي النّقالات من النيل إليه، وعمر إلى جانبه ثلاث برك تملأ لسقيه؛ ثم تعطل في أيامه مدّة، ثم اهتم به الملك العادل ولده، ثم اهتم به الصالح نجم الدين أيوب اهتماما عظيما، وجدّد له ساقية أخرى، وغرس في جوانبه أشجارا فصار في نهاية الحسن. فلما توفّي الصالح تلاشى حاله إلى أن هدم في سنة خمسين وستمائة، أو سنة إحدى وخمسين في الأيام المعزّيّة أيبك التركماني، وهدمت السواقي والقناطر وعفت آثارها، وبقي كذلك حتّى عمره «1» السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون رحمه الله، فأحسن عمارته ورصّفه أبدع ترصيف، وهو على ذلك إلى الآن.
أما الميدان السلطانيّ الذي بخطّ اللوق، وهو الذي يركب إليه السلطان عند وفاء النيل للعب الكرة، فبناه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعل به المناظر الحسنة ونصب الطّوارق على بابه كما تنصب على باب القلاع وغيرها، ولم تزل الطوارق منصوبة عليه إلى ما بعد السبعمائة؛ وسيأتي الكلام على كيفية الركوب إليه في المواكب في الكلام على ترتيب المملكة فيما بعد إن شاء الله تعالى.
والقلعة التي بالرّوضة تقدم الكلام عليها [في الكلام]«2» على خطط الفسطاط.
ومما يتصل بهذه القواعد الثلاث ويلتحق بها «القرافة» التي هي مدفن أمواتها، وهي تربة عظيمة ممتدّة في سفح المقطّم، موقعها بين المقطم والفسطاط وبعض القاهرة، تمتدّ من قلعة الجبل المتقدّم ذكرها آخذة في جهة الجنوب إلى بركة الحبش وما حولها. وكان سبب جعلها مقبرة ما رواه ابن الحكم عن الليث بن سعد: أن المقوقس سأل عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فتعجب عمرو من ذلك، وكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فكتب إليه عمر: أن سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها؛ فسأله، فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فكتب إليه عمر:«إنّي لا أرى غرس الجنة إلا للمؤمنين فاقبر بها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعها بشيء» فقال المقوقس لعمر: ما على ذا عاهدتنا، فقطع لهم قطعة تدفن فيها النصارى، وهي التي على القرب من بركة الحبش، وكان أول من قبر بسفح المقطم من المسلمين رجلا من المعافر اسمه عامر، فقيل عمرت.
ويروى أن عيسى عليه السلام مرّ على سفح المقطم في سياحة ومعه أمّه، فقال:«يا أمّاه! هذه مقبرة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم» . وفيها ضرائح الأنبياء عليهم السلام كإخوة يوسف وغيرهم. وبها قبر آسية امرأة فرعون، ومشاهد جماعة من أهل البيت والصحابة والتابعين والعلماء والزّهّاد والأولياء.
وقد بنى الناس بها الأبنية الرائقة، والمناظر البهجة، والقصور البديعة، يسرح الناظر في أرجائها، ويبتهج الخاطر برؤيتها؛ وبها الجوامع والمساجد والزوايا والرّبط والخوانق، وهي في الحقيقة مدينة عظيمة إلا أنها قليلة الساكن «1» .