الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبهذه الفضائل حافظت الغريزة الإنسانية على قبوله بطلب تعلّمه محافظة لم يحتج بها إلى تذكار بعد الغيبة. ولهذه العلّة استغنى عن كتاب يصنّف فيه» .
واعلم أنه قد تقدّم في الكلام على اللغة في «النوع الأول مما يحتاج إليه الكاتب» أنه ينبغي للكاتب أن يتعلّم لغة من يحتاج إلى مخاطبته، أو مكاتبته من اللغات غير العربية؛ فكذلك ينبغي أن يتعلم من الخطوط غير العربية ما يحتاج إليه من ذلك، فقد قال محمد بن عمر المدائني «1» في كتاب «القلم والدواة» إنه يجب عليه أن يتعلم الهندية وغيرها من الخطوط العجمية. ويؤيد ذلك ما تقدّم في الكلام على اللغة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أمر زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم كتاب يهود من السّريانية أو العبرانية فتعلّمها» وكان يقرأ على النبيّ صلى الله عليه وسلم كتبهم ويجيبهم عنه.
الطرف الثالث في وضع الخط؛ وفيه جملتان
الجملة الأولى في بيان المقصود من وضعه، والموازنة بينه وبين اللفظ
أما بيان المقصود من وضعه، فاعلم أنّ وضع اللفظ لأداء المعنى، الحاصل في الذهن المشعور به للمسمع؛ إذ لا وقوف على ما في الذهن؛ ووضع الخط لأداء اللفظ المقصود فهمه للناظر فيه. فإذا أردت إيقافك أحدا على ما في ذهنك من المعاني تكلمت بألفاظ وضعت لها، وإذا أردت تأدية ألفاظ لذلك الإيقاف إلى أحد
بغير شفاه، نقشت النّقوش الموضوعة لتلك الألفاظ، فيطالع تلك النّقوش، ويفهم منها تلك الألفاظ، ومن الألفاظ تلك المعاني؛ ولا علاقة معقولة بين المعاني والألفاظ على الأمر العام، ولا بين الألفاظ والنقوش الموضوعة؛ ومن ثمّ جاء اختلاف اللّغات والخطوط كالعربيّة والرّومية وغيرهما.
وأما الموازنة بينه وبين اللفظ، فالأصل في ذلك أن الخطّ واللّفظ يتقاسمان فضيلة البيان ويشتركان فيها: من حيث إن الخطّ دالّ على الألفاظ والألفاظ دالّة على الأوهام؛ ولاشتراك الخط واللفظ في هذه الفضيلة وقع التناسب بينهما في كثير من أحوالهما؛ وذلك أنهما يعبران عن المعاني، إلا أن اللفظ معنى متحرّك والخطّ معنى ساكن، وهو وإن كان ساكنا فإنه يفعل فعل المتحرّك بإيصاله كلّ ما تضمنه إلا الأفهام وهو مستقرّ في حيّزه، قائم «1» في مكانه؛ كما أن اللفظ فيه العذب الرشيق السائغ في الأسماع كذلك الخط فيه الرائق المستحسن الأشكال والصّور، وكما أن اللفظ فيه الجزل الفصيح الذي يستعمله مصاقع الخطباء، ومفالق الشّعراء، والمبتذل السخيف الذي يستعمله العوامّ في المكاتبة والمخاطبة، كذلك الخطّ فيه المحرّر المحقّق الذي تكتب به الكتب السلطانية والأمور المهمة، وفيه المطلق المرسل الذي يتكاتب به الناس ويستعملونه فيما بينهم. وكما أن اللفظ يقع فيه لحن الإعراب الذي يهجّنه، كذلك الخط يقع فيه لحن الهجاء. وكما أن اللفظ إذا كان مقبولا حلوا رفع المعنى الخسيس وقرّبه من النّفوس، وإن كان غثّا مستكرها وضع المعنى الرفيع وبعّده من القلوب، وكذلك الخط إذا كان جيّدا حسنا بعث الإنسان على قراءة ما أودع فيه وإن كان قليل الفائدة، وإن كان ركيكا قبيحا صرفه عن تأمّل ما تضمّنه وإن كان جليل الفائدة.
ولما اشترك اللفظ والخط في الفوائد العامّة التي جعلت فيهما وقع الاشتراك أيضا بين آلتيهما، إذ آلة اللفظ اللسان، وآلة الخط القلم؛ وكل منهما يفعل فعل