الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث من المقالة الثانية في ذكر مملكة الدّيار المصرية ومضافاتها، وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأوّل في مملكة الدّيار المصرية ومضافاتها، وفيه طرفان
الطرف الأوّل في الدّيار المصرية، وفيه اثنا عشر مقصدا
المقصد الأوّل في فضلها ومحاسنها
أما فضلها فقد ورد في الكتاب والسنة ما يشهد لها بالفضيلة، ويقضي لها بالفخر، قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها
«1» يريد بالقوم بني إسرائيل، وبالأرض أرض مصر؛ ووصفها بالبركة إما بمعنى الفضل كما في قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ
«2» . وإما من الخصب وسعة الرزق بدليل قوله تعالى مخبرا عن قوم فرعون: فأخرجناهم مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ
«3» . وقال جل
وعز: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً
«1» فأمر بالعبادة في بيوتها إشارة إلى شرف أرضها ورفعة قدرها.
وقد ذكر الله تعالى اسمها في غير موضع من كتابه العزيز في ضمن قصص الأنبياء عليهم السلام، فقال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ
«2» وفي موضع آخر: وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
«3» وقال حكاية عن فرعون لعنه الله: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي
«4» وفي معناه قوله تعالى خطابا لبني إسرائيل: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ
«5» على قراءة الحسن «6» والأعمش «7» مصر غير مصروف.
قال القضاعيّ: وكذلك قراءة من قرأ اهْبِطُوا مِصْراً
مصروفا بناء على أن مصر مذكر سمي به مذكرا فلم يمنع الصرف فيه، والتصريح بذكرها دون غيرها من الأقاليم دليل الشرف والفضل.
وقد ورد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «8» : «إنّكم ستفتحون بلادا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لأهلها نسبا وصهرا» أراد بالنسب هاجر أم إسماعيل عليه السلام، وكان بعض ملوك مصر قد وهبها لزوجته سارة وأراد بالصّهر مارية أمّ إبراهيم، ولد النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان المقوقس قد أهداها للنبيّ صلى الله عليه وسلم في جملة هديته.
ويروى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتّخذوا بها جندا كثيفا، فذاك خير جند الأرض، قيل: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنهم في رباط إلى يوم القيامة» .
وعن أبي هريرة»
رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مصر أطيب الأرضين ترابا وعجمها أكرم العجم نصابا» «2» .
ويقال في التوراة: «مصر خزائن الله، فمن أرادها بسوء قصمه الله» .
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه «ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة» .
ومن كلام كعب الأحبار «3» : «مصر بلد معافى من الفتن، فمن أرادها بسوء كبّه الله على وجهه» .
ووصفها الكنديّ «4» فقال: «جبلها مقدس، ونيلها مبارك، وبها الطّور الذي كلّم الله تعالى عليه موسى عليه السلام» .
قال كعب الأحبار: «كلم الله تعالى موسى من الطور إلى طوى» وفي التوراة «واد مقدّس أفيح» «5» يريد وادي موسى عليه السلام.
ودخلها جماعة من الأنبياء عليهم السلام، منهم إبراهيم ويعقوب، ويوسف، وإخوته عليهم السلام.
ونقل في «الروض المعطار» عن الجاحظ أن عيسى بن مريم عليه السلام ولد بها بكورة «1» أهناس الآتي ذكرها في كور مصر المقدّسة، وأن نخلة مريم كانت بأهناس قائمة إلى زمانه. وذكر أيضا أن موسى عليه السلام ولد بها بمدينة أسكر شرقيّ النيل، وهي الآن قرية من الأعمال الإطفيحية الآتي ذكرها في أعمال الدّيار المصرية.
وبها سجن يوسف عليه السلام بمدينة بوصير الخراب «2» من الأعمال الجيزية على القرب من البدرشين «3» .
قال القضاعيّ: أجمع أهل المعرفة من أهل مصر على صحة هذا المكان، وأن الوحي كان ينزل عليه به، وسطحه معروف بإجابة الدّعاء.
سأل كافور الإخشيديّ «4» الإمام أبا بكر بن الحدّاد «5» الفقيه الشافعي عن موضع يستجاب فيه الدّعاء فأشار عليه بالدّعاء على سطح هذا السجن.
قال القضاعيّ: وعلى القرب منه مسجد موسى عليه السلام، وهو مسجد مبارك.
وبسفح المقطّم بالقرافة الصغرى «1» قبر (يهوذا وروبيل) من إخوة يوسف عليه السلام.
وقد روي أنه دخلها من الصحابة رضوان الله عليهم ما يزيد على مائة رجل، ودفن بقرافتها جماعة «2» منهم فيما ذكره ابن عبد الحكم «3» عن ابن لهيعة «4» خمسة نفر، وهم: عمرو بن العاص، وعبد الله بن حذافة، وأبو بصرة الغفاريّ، وعقبة بن عامر الجهنيّ، وعبد الله بن الحارث الزبيديّ وهو آخرهم موتا «5» .
قال القضاعي: وذكر غير ابن لهيعة أن مسلمة بن مخلّد الأنصاري «6» أيضا مات بها، وهو أميرها.
أما محاسنها، فلا شك أن مصر مع ما اشتملت عليه من الفضائل، وحفّت به
من المآثر أعظم الأقاليم خطرا، وأجلّها قدرا، وأفخمها مملكة، وأطيبها تربة، وأخفّها ماء وأخصبها زرعا، وأحسنها ثمارا، وأعدلها هواءا، وألطفها ساكنا.
ولذلك ترى الناس يرحلون إليها وفودا، ويفدون عليها من كل ناحية، وقلّ أن يخرج منها من دخلها، أو يرحل عنها من ولجها مع ما اشتملت عليه من حسن المنظر، وبهجة الرّونق لا سيما في زمن الربيع، وما يبدو بها من الزروع التي تملأ العين وسامة وحسنا، وتروق صورة ومعنى.
قال المسعوديّ «1» : وصف الحكماء مصر فقالوا: ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، وثلاثة أشهر مسكة سوداء، وثلاثة أشهر زمرّدة خضراء، وثلاثة أشهر سبيكة حمراء.
فاللؤلؤة البيضاء، زمان النيل، والمسكة السوداء، زمان نضوب الماء عن أرضها والزّمرّدة الخضراء، زمان طلوع زروعها، والسّبيكة الحمراء، زمان هيج الزرع واكتهاله.
وقد قيل: لو ضرب بينها وبين غيرها من البلاد سور، لغني أهلها بها عما سواها ولما احتاجوا إلى غيرها من البلاد، وناهيك ما أخبر الله تعالى به عن فرعون مع عتوّه وتجبّره وادعائه الربوبية بافتخاره بملكها بقوله: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ
«2» .
قال ابن الأثير «3» في «عجائب المخلوقات» «4» : وهي إقليم العجائب،