الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قطعة جيدة جعلت شونة «1» للغلال، وأهل إسنا يذكرون أن الفأر لا يدخلها، وإن دخلها مات.
ومن الآثار العجيبة بمصر أيضا مسلّتان بعين شمس على القرب من المطريّة من ضواحي القاهرة من حجر صوّان أحمر محدّدتا الرأسين. ذكر القضاعي: أن الشمس تطلع على الجنوبية منهما في أقصر يوم في السنة، وعلى الشّمالية في أطول يوم في السنة، وتتردّد فيما بينهما في بقية السنة. وذكر أنه كان عليهما صومعتان «2» من نحاس، إذا كان زمن زيادة النيل تقاطر الماء من أعلاهما إلى أسفلهما، فينبت حولهما العوسج، وما في معناه من الحشيش.
ومن العجائب حائط العجوز، وهو حائط من لبن، بنتها دلوكة ملكة مصر بعد فرعون، من العريش إلى أسوان، دائرة على أراضي مصر من شرقيّها وغربيّها في لحف جبليها؛ وجعلت بين كل ثلاثة أميال محرسا، وشقّت خليجا من النيل إلى جانبها، وآثارها باقية إلى الآن بالجانب الشرقي والجانب الغربي.
المقصد الثاني عشر في ذكر قواعدها المستقرّة وهي ثلاث قواعد، قد تقاربت واختلطت حتّى صارت كالقاعدة الواحدة
.
القاعدة الأولى مدينة الفسطاط
(بفاء مضمومة وسين مهملة ساكنة وطاء مهملة مفتوحة بعدها ألف ثم طاء ثانية في الآخر) . ويقال فيه فسطاط بإبدال الطاء الأولى تاء وفسّاط. قال الجوهري:
وكسر الفاء لغة فيهن؛ وهي المدينة المعروفة بين العامة بمصر واسمها القديم باب أليون «1» .
قال أبو السعادات بن الأثير «2» في نهايته: (بفتح الهمزة وسكون اللام وضم الياء المثناة تحت وسكون الواو ونون في الآخر) .
قال القضاعي: وهو اسمها بلغة الرّوم والسّودان ولذلك يعرف القصر الذي بالشرق بباب أليون، وموقعها في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة.
قال في «كتاب الأطوال» : وطولها ثلاث وخمسون درجة، وعرضها ثلاثون درجة وعشر دقائق.
وقال في «القانون» «3» : طولها أربع وخمسون درجة وأربعون دقيقة، وعرضها تسع وعشرون درجة وخمس وخمسون دقيقة.
وقال ابن سعيد: طولها ثلاث وخمسون درجة وخمسون دقيقة، وعرضها تسع وعشرون درجة وخمس وخمسون دقيقة.
وقال في «رسم المعمور» : طولها أربع وخمسون درجة وأربعون دقيقة والذي عليه عمل أهل زماننا في وضع الآلات وغيرها طول خمس وخمسين درجة، وعرض ثلاثين.
واختلف في سبب «1» تسميتها بالفسطاط، فقال ابن قتيبة: إن كل مدينة تسمّى فسطاطا ولذلك سميت مصر الفسطاط.
وقال الزّمخشريّ: الفسطاط اسم لضرب من الأبنية، في القدر دون السّرادق «2» والذي عليه الجمهور أنه يسمّى بذلك لمكان فسطاط عمرو بن العاص رضي الله عنه يعني خيمته، وذلك أن عمر لما فتح الحصن المعروف بقصر الشمع في سنة إحدى وعشرين من الهجرة واستولى عليه ضرب فسطاطه على القرب منه، فلما قصد التوجه إلى الإسكندرية لفتحها، أمر بنزع فسطاطه للرحيل، فإذا بحمام قد أفرخ فيه فقال: لقد تحرّم منا بحرم، وأمر بإقرار الفسطاط مكانه، وأوصى على الحمام، وسار إلى الإسكندرية ففتحها، ثم عاد إلى فسطاطه ونزل به ونزل الناس حوله، وابتنى داره الصغرى التي هي على القرب من الجامع العتيق مكان فسطاطه وأخذ الناس في الاختطاط حوله فتنافست القبائل في المواضع والاختطاط، فولّى عمرو على الخطط معاوية بن حديج التّجيبيّ، وشريك بن سميّ الغطيفيّ، وعمرو بن قحزم الخولانيّ، وحيويل بن ناشرة المعافري، ففصلوا بين القبائل وأنزلوا الناس منازلهم «3» ، فاختطّوا «4» الخطط «5» وبنوا الدور والمساجد، وعرفت كل خطة بالقبيلة أو الجماعة التي اختطتها أو بصاحبها الذي اختطها.
فأما الخطط والآدر التي عرفت بالقبائل والجماعات:
(فمنها) خطّة أهل الراية، وهم جماعة من قريش، والأنصار، وخزاعة، وأسلم، وغفار، ومزينة، وأشجع، وجهينة، وثقيف، ودوس، وعبس بن
بغيض، وجرش من بني كنانة، وليث بن بكر «1» ؛ لم يكن لكل منهم من العدد ما ينفرد به بدعوة من الديوان فجعل لهم عمرو بن العاص راية لم ينسبها إلى أحد، وقال: يكون وقوفكم تحتها، فكانت لهم كالنسب الجامع، وكان ديوانهم عليها فعرفوا بأهل الراية، وانفردوا بخطّة وحدهم، وخطّتهم من أعظم الخطط وأوسعها.
(ومنها) خطّة مهرة، وهم بنو مهرة بن حيدان بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة ابن مالك بن حمير، من قبائل اليمن.
(ومنها) خطّة تجيب، وهم بنو عديّ وسعد ابني الأشرس بن شبيب بن السّكن بن الأشرس بن كندة؛ وتجيب اسم أمهما عرفت القبيلة بها.
(ومنها) خطط لخم، وهي ثلاث: الأولى، بنو لخم «2» بن عديّ «3» بن مرّة بن أدد، ومن خالطهم من جذام «4» . والثانية، بنو عبد ربه بن عمرو بن الحارث بن وائل بن راشدة بن لخم. والثالثة، بنو راشدة بن أذبّ بن «5» جزيلة بن لخم.
(ومنها) خطط اللّفيف، وهم جماعة من القبائل تسارعوا إلى مراكب الرّوم حين بلغ عمرا قدومهم الإسكندرية عند فتحها، فقال لهم عمرو «6» ، وقد استكثرهم: إنكم لكما قال الله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً
«7» فسمّوا اللّفيف من يومئذ.
(ومنها) خطط أهل الظاهر، وهم جماعة من القبائل قفلوا من الإسكندرية بعد قفول عمرو بن العاص، فوجدوا الناس قد أخذوا منازلهم، فتحاكموا إلى معاوية بن حديج الذي جعله عمرو على الخطط، فقال لهم: إني أرى لكم أن تظهروا على هذه القبائل فتتخذوا لكم منازل، فسميت منازلهم الظاهر «1» .
(ومنها) خطط غافق «2» ، وهم بنو غافق بن الحارث «3» بن عكّ بن عدثان بن عبد الله بن الأزد.
(ومنها) خطط الصّدف (بفتح الصاد وكسر الدال المهملتين) . وهم بنو مالك ابن سهل بن عمرو بن حمير من قبائل اليمن، وقيل بنو مالك بن مرقّع بن كندة، سمّي الصّدف لأنه صدف بوجهه عن قومه حين أتاهم سيل العرم.
(ومنها) خطط خولان، وهم بنو خولان بن عمرو بن «4» مالك بن زيد بن عريب.
(ومنها) خطط الفارسيين «5» ، وهم بقايا جند باذان، عامل كسرى ملك الفرس على اليمن.
(ومنها) خطط مذحج، وهم بنو مالك «6» بن مرّة بن أدد بن زيد بن كهلان بن عبد الله.
(ومنها) خطّة يحصب، وهم بنو يحصب بن «1» مالك بن أسلم بن زيد بن غوث بن حمير.
(ومنها) خطّة رعين، وهم بنو رعين بن زيد بن سهل بن يعفر بن مرّة بن أدد.
(ومنها) خطّة بني الكلاع، وهو الكلاع بن شرحبيل بن سعد بن حمير.
(ومنها) خطّة المعافر، وهم بنو المعافر بن يعفر «2» بن مرّة بن أدد.
(ومنها) خطط سبإ؛ وهم بنو مالك بن زيد بن «3» وليعة بن معبد بن سبإ.
(ومنها) خطّة بني وائل، وهو وائل بن زيد مناة بن أفصى بن إياس بن حرام ابن جذام بن عديّ.
(ومنها) خطّة القبض، وهم بنو القبض بن مرثد.
(ومنها) خطط الحمراوات، وهي ثلاث «4» ، سميت بذلك لنزول الروم «5» بها، وهم حمر الألوان:
الأولى- الحمراء الدّنيا، وبها خطة بليّ، وهم بنو بليّ بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة إلا من كان منهم في أهل الراية، وخطّة ثراد من الأزد، وخطة فهم، وهم بنو فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان، وخطة بني بحر بن سوادة من الأزد «6» .
الثانية- الحمراء الوسطى، وبها خطة بني نبه، وهم قوم من الروم حضروا
الفتح؛ وخطّة هذيل، وهم بنو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر وخطّة بني سلامان «1» من الأزد.
الثالثة- الحمراء القصوى، وهي خطة بني الأزرق من الرّوم وحضر الفتح منهم أربعمائة رجل، وخطّة بني يشكر بن جزيلة «2» من لخم، وإليهم ينسب جبل يشكر الذي بني عليه جامع أحمد بن طولون الآتي ذكره مع جوامع الفسطاط إن شاء الله تعالى.
(ومنها) خطط حضر موت، وهم بنو حضر موت بن عمرو بن قيس بن معاوية بن حمير إلى غير ذلك من الخطط «3» التي درست قبل الاهتمام بالتأليف في الخطط.
واعلم أنه كان في خلال هذه الخطط دور جماعة كثيرة من الصحابة رضوان الله عليهم ممن حضر الفتح.
(منها) دار عمرو بن العاص «4» ، ودار الزّبير بن العوام «5» ، ودار قيس بن سعد بن عباد الأنصاري «6» ، ودار مسلمة بن مخلّد الأنصاري «7» ، ودار عبد
الرحمن بن عديس البلويّ «1» ، ودار وهب بن عمير بن وهب بن خلف الجمحي، ودار نافع بن عبد القيس بن لقيط الفهري، ودار سعد بن أبي وقّاص «2» ، ودار عقبة بن عامر الجهنيّ «3» ، ودار القاسم وعمرو ابني قيس بن عمرو، ودار عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامريّ، ودار مسعود بن الأسود بن عبد شمس بن حرام البلويّ، ودار المستورد بن شداد الفهريّ، ودار حييّ بن حرام اللّيثيّ، (وفي صحبته خلاف) ، ودار الحارث بن مالك اللّيثي المعروف بابن البرصاء، ودار بشر بن أرطاة العامريّ، ودار أبي ثعلبة الخشني، ودار إياس بن البكير الليثيّ، ودار معمر بن عبد الله بن نضلة القرشيّ العدويّ، ودار أبي الدّرداء الأنصاريّ، ودار يعقوب القبطيّ «4» رسول المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مارية: أم ولده إبراهيم وأختها شيرين، ودار مهاجر مولى أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودار علبة بن زيد الأنصاريّ، ودار محمد بن مسلمة الأنصاريّ، ودار أبي الأسود مسروح بن سندر الخصيّ «5» ، ودار عبد الله بن عمر «6» بن الخطّاب، ودار خارجة بن حذافة بن غانم العدويّ «7» ، ودار عقبة بن الحارث «8» ، ودار عبد الله بن حذافة السهميّ «9» ، ودار محمية بن جزء الزّبيديّ، ودار المطّلب بن أبي
وداعة السّهميّ، ودار هبيب بن معقل الغفاريّ، وبه يعرف وادي هبيب بالقرب من الإسكندرية، ودار عبد الله بن السائب المخزوميّ، ودار جبر القبطيّ رسول المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودار يزيد بن زياد الأسلميّ، ودار عبد الله بن ريّان الأسلميّ «1» ، (وفي صحبته خلاف) ، ودار أبي عميرة رشيد بن مالك المزنيّ، ودار سباع بن عرفطة الغفاريّ «2» ، ودار نضلة بن الحارث الغفاريّ، ودار الحارث بن أسد الخزاعيّ (وفي صحبته خلاف) ، ودار عبد الله بن هشام بن زهرة «3» من ولد تميم بن مرّة، ودار خارجة «4» بن حذافة بن غانم العدويّ، وهو أوّل من ابتنى غرفة بالفسطاط، فكوتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أمرها فكتب إلى عمرو بن العاص: أن ادخل غرفة خارجة وانصب فيها سريرا، وأقم عليه رجلا ليس بالطويل ولا بالقصير، فإن اطّلع من كواها فاهدمها، ففعل عمرو فلم يبلغ الكوى فأقرّها، ودار محمد بن حاطب الجمحي «5» ، ودار رفاعة الدّوسيّ، ودار فضالة بن عبيد الأنصاريّ، ودار المطلب «6» بن أبي وداعة السهميّ. إلى غير ذلك من الدور التي أغفلت ذكرها أصحاب الخطط «7» .
قلت: وكان أمراء مصر القائمون مقام ملوكها الآن ينزلون بالفسطاط، ولم يكن لهم في ابتداء الأمر مقرّة معيّنة، ولا دار للإمارة مخصوصة. فنزل عمرو بن
العاص أوّل أمرائها بداره على القرب من الجامع، ولم يزل كلّ أمير بعده ينزل بالدار التي يكون بها سكنه إلى آخر الدولة الأمويّة، وكان عبد العزيز بن مروان، وهو أمير مصر في خلافة أخيه عبد الملك بن مروان قد بنى دارا عظيمة بالفسطاط سنة سبع وستين من الهجرة وسماها دار الذهب، وجعل لها قبّة مذهبة إذا طلعت عليها الشمس لا يستطيع الناظر التأمل فيها خوفا على بصره، وكانت تعرف بالمدينة لسعتها وعظمها وكان عبد العزيز ينزلها، ثم نزلها بنوه بعده، فلما هرب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أميّة إلى مصر، نزل هذه الدار فلما رهقه القوم، أمر بإحراقها، فلامه في ذلك بعض بني عبد العزيز بن مروان فقال: إن أبق، أبنها لبنة من ذهب ولبنة من فضّة، وإلا فما تصاب به في نفسك أعظم، ولا يتمتع بها عدوّك من بعدك.
فلما غلب بنو العبّاس على بني أميّة وهرب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أميّة إلى الديار المصرية، وتبعه عليّ بن صالح بن عليّ الهاشميّ إلى أن أدركه بمصر وقتله «1» واستقر أميرا على مصر في خلافة السّفّاح أوّل خلفاء بني العباس، ابتنى دارا للإمارة ونزلها، وصارت منزلة للأمراء بعده إلى أن ولي «2» أحمد بن طولون الديار المصرية فنزل بها في أوّل أمره، ثم اختطّ بعد ذلك قصره المعروف بالميدان فيما بين قلعة الجبل الآن والمشهد النّفيسي وما يلي ذلك في سنة ست وخمسين ومائتين، وكان له عدّة أبواب: بعضها عند المشهد النفيسيّ، وبعضها «3» عند جامعه الآتي ذكره، واختطّ الناس حوله واقتطع كل أحد قطيعة ابتنى بها، فكان يقال: قطيعة هارون بن خمارويه، وقطيعة السّودان، وقطيعة الفرّاشين، فعرف ذلك المكان بالقطائع، وتزايدت العمارة حتّى اتّصلت بالفسطاط، وصار الكلّ بلدا واحدا، ونزل أحمد بن طولون بقصره المذكور، وكذلك بنوه بعده، وأهملت
دار الإمارة التي ابتناها عليّ بن صالح بالفسطاط، واستقرّ الأمر على ذلك بعده أيام ابنه خمارويه «1» وولديه جيش وهارون، وزادت العمارة بالقطائع في أيامهما، وكثرت الناس فيها حتّى قتل هارون بن خمارويه بعد قتل أبيه وأخيه، وسار محمد بن سليمان «2» الكاتب بالعساكر من العراق من قبل المستكفي بالله، ووصل إلى مصر في سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وقد ولّى الطّولونيّة عليهم ربيعة بن أحمد بن طولون، فتسلم البلد منه وخرّب القطائع وهدم القصر وقلع أساسه، وخرب موضعه حتّى لم يبق له أثر.
وكان بدر الخفيفي غلام أحمد بن طولون قد بنى دارا عظيمة بالفسطاط عند المصلّى القديمة، وقيل اشتراها له أحمد بن طولون، ثم سخط عليه أحمد فنكبه، وسكنها بعده طاهر بن خمارويه ثم سكنها بعده الحمامي غلام أحمد بن طولون.
فلما هدم محمد بن سليمان الكاتب قصر بني طولون بالقطائع، سكن هذه الدار، ثم سكنها عيسى النّوشريّ «3» أمير مصر بعده، واستقرّت منزلة للأمراء إلى أن ولي الإخشيد «4» مصر فزاد فيها وعظّمها، وعمل لها ميدانا وجعل له بابا من حديد، وذلك في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، ولم تزل منزلة للأمراء إلى أن غلبت الخلفاء الفاطميون الإخشيديّة على مصر وبنى القائد جوهر القاهرة والقصر فنقل باب هذه الدار إلى القاهرة، وصار القصر منزلة لهم على ما سيأتي ذكره في الكلام على خطط القاهرة إن شاء الله تعالى.
وصار الفسطاط في كل وقت تتزايد عمارته حتّى صار في غاية العمارة ونهاية الحسن، به الآدر الأنيقة، والمساجد القائمة، والحمامات الباهية، والقياسر الزاهية، والمستنزهات الرائقة، ورحل الناس إليه من سائر الأقطار، وقصدوه من جميع الجهات، وغصّ بسكّانه، وضاق فضاؤه الرحيب عن قطّانه، حتّى حكى صاحب «إيقاظ المتغفّل» «1» عن بعض سكّان الفسطاط أنه دخل حمّاما من بناء الروم في أيام خمارويه بن طولون في سنة سبع وثلاثمائة فلم يجد فيها صانعا يخدمه، وكان فيها سبعون صانعا قلّ منهم من معه ثلاثة نفر يغسلهم، وأنه دخل بعدها حمّاما ثم حمّاما فلم يجد من يخدمه إلا في الحمّام الرابعة «2» ، وكان الذي خدمه معه ثان «3» .
وحكى في موضع آخر عمن يثق به عن أبيه أنه شاهد من مسجد الوكرة «4» بالفسطاط إلى جامع ابن طولون قصبة سوق متصلة، فعدّ ما بها من مقاعد الحمّص المصلوق «5» فكانت ثلاثمائة وتسعين مقعدا غير الحوانيت وما بها.
وحكى أيضا عمن أخبره أنه عدّ الأسطال النّحاس المؤبدة في البكر لاستقاء الماء في الطاقات المطلّة على النيل، فكانت ستة عشر ألف سطل. قال: وبلغ أجرة مقعد يكرى عند البيمارستان الطولونيّ «6» بالفسطاط في كل يوم اثني عشر درهما.
وذكر ابن حوقل «1» أنه كان بالفسطاط في زمانه دار تعرف بدار ابن عبد العزيز بالموقف «2» يصبّ لمن فيها من السكان في كل يوم أربعمائة راوية ماء، وفيها خمسة مساجد وحمّامان وفرنان.
قلت: ولم يزل الفسطاط زاهي البنيان، باهي السّكّان إلى أن كانت دولة الفاطميين بالديار المصرية، وعمرت القاهرة على ما سيأتي ذكره فتقهقر حاله وتناقص، وأخذ الناس في الانتقال عنه إلى القاهرة وما حولها، فخلا من أكثر سكّانه، وتتابع الخراب في بنيانه، إلى أن غلب «3» الفرنج على أطراف الديار المصرية في أيام العاضد، آخر خلفاء الفاطميين، ووزيره يومئذ شاور السعديّ «4» ، فخاف على الفسطاط أن يملكه الفرنج ويتحصنوا به، فأضرم في مساكنه النار فأحرقها فتزايد الخراب فيه وكثر الخلق.
ولم يزل الأمر على ذلك في تقهقر أمره إلى أن كانت دولة الظاهر بيبرس أحد ملوك التّرك بالديار المصرية، فصرف الناس همتهم إلى هدم ما خلا من أخطاطه
والبناء بنقضه بساحل النيل بالفسطاط والقاهرة، وتزايد الهدم فيه واستمرّ إلى الآن، حتّى لم يبق من عمارته إلا ما بساحل النيل، وما جاوره إلى ما يلي الجامع العتيق وما دانى ذلك، ودثرت أكثر الخطط القديمة وعفا رسمها، واضمحلّ ما بقي منها وتغيرت معالمه.
وإذا نظرت إلى خطط الكنديّ والقضاعي والشريف النّسّابة، عرفت ما كان الفسطاط عليه من العمارة وما صار إليه الآن؛ وإنما أجرينا ذكر بعض الخطط المتقدّمة، حفظا لأسمائها وتنبيها على ما كانت عليه، إلا أن في ساحله المطلّ على النيل الآن وما جاور ذلك المباني الحسنة، والدور العظيمة، والقصور العالية، التي تبهج الناظر، وتسرّ الخاطر.
وكان أكثر بنيانه بالآجرّ المحكوك والجبس والجير من أوثق بناء وأمكنه، وآثاره الباقية تشهد له بذلك، وقد صار ما خرب منه ودثر كيمانا كالجبال العظيمة، وهجر غالبها وترك، وسكن في بعضها رعاع الناس ممن لا يعبأ به في جوانب منها لا تعدّ في العامر.
ومن كيمانه المشهورة التي ذكرها القضاعيّ: كوم الجارح، وكوم دينار «1» ، وكوم السمكة «2» ، وكوم الزينة «3» ، وكوم الترمس؛ وزاد صاحب «إيقاظ المتغفل» كوم بني وائل، وكوم ابن غراب، وكوم الشقاق، وكوم المشانيق «4» .
ويقابل الفسطاط من الجهة البحرية جزيرة الصّناعة المعروفة الآن بالرّوضة «5» ، كانت صناعة العمائر «6» أوّلا بها فنسبت إليها.
قال الكندي: وكان بناؤها في سنة أربع وخمسين ثم غلب عليها اسم الروضة لحسنها ونضارتها وإطافة الماء بها، وما بها من البساتين والقصور، وهي جزيرة قديمة كانت موجودة في زمن الروم. وكان بها حصن عليه سور وأبراج، وبين الفسطاط وبينها جسر ممتدّ من المراكب على وجه النيل كما في جسر بغداد على الدجلة ولم يزل قائما إلى أن قدم المأمون مصر فأحدث عليه جسرا من خشب تمر عليه المارة وترجع، وبعد خروج المأمون من مصر هبّت ريح عاصفة في الليل فقطعت الجسر القديم، وصدمت بسفنه الجسر المحدث فذهبا جميعا، ثم أعيد الجسر المحدث وبطل القديم.
وقد ذكر القضاعيّ: أنه كان موجودا إلى زمنه، وكان في الدولة الفاطمية، ثم جدّد الحصن المذكور أحمد بن طولون أمير مصر في خلافة المعتمد في سنة ثلاث ومائتين، ثم استهدم بعد ذلك بتأثير النيل في أبراجه ومرور الزمان عليه، ثم بنى الصالح نجم الدين أيوب قلعة مكانه في سنة ثمان وثلاثين وستمائة «1» ، وبقيت حتّى هدمها المعز أيبك التركماني أوّل ملوك الترك. وعمر من نقضها مدرسته المعزّية برحبة الخروب، واتخذ الناس مكانها أملاكا، وهي على ذلك إلى زماننا، ولم يبق بها إلا بعض أبراج اتخذها الناس أملاكا وعمروا عليها بيوتا. فلما ملك الظاهر بيبرس، همّ بإعادتها فلم يتفق له ذلك وبقيت على حالها.
قلت: وكانت أرفة «2» النيل التي بين جزيرة الصناعة وبين الفسطاط هي أقوى الفرقتين والتي بين الجزيرة والجيزة هي الضعيفة، ثم انعكس الأمر إلى أن صار ما بين الجزيرة والفسطاط يجف ولا يعلوه الماء إلا في زيادة النيل، ويبدو بين آخر الفسطاط وهذه الجزيرة على فوّهة خليج القاهرة. [ويوجد في أوّل
الخليج] «1» حيث السدّ الذي يفتح عند وفاء النيل مكان كالجزيرة، يعرف بمنشأة المهراني كان كوما يحرق فيه الآجرّ يعرف بالكوم الأحمر، عدّه القضاعي في جملة كيمان الفسطاط.
قال صاحب «إيقاظ المتغفل» : وأوّل من ابتدأ فيه العمارة بلبان المهراني «2» في الدولة الظاهرية بيبرس فنسبت المنشأة إليه.
ويلي الفسطاط من غربيّه بركة تعرف ببركة الحبش «3» ، وهي أرض مزدرعة، قال القضاعيّ: كانت تعرف ببركة المعافر وحمير، وكان في شرقيها جنّات تعرف بالحبش فنسبت إليها. وذكر ابن يونس «4» في تاريخه: أن تلك الجنات تعرف بقتادة بن قيس بن حبشي الصدفي، وهو ممن شهد فتح مصر.
قلت: وهي الآن موقوفة على الأشراف من ولد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقفها عليهم الصالح طلائع بن رزيك وزير الفائز والعاضد من الخلفاء الفاطميين.
ويليه من قبليّه حيث القرافة المكان المعروف بالخندق، كان قد احتفره عبد الرحمن بن عيينة خندقا في سنة خمس وستين من الهجرة عند مسير مروان بن الحكم إلى مصر، فعرف بذلك.