الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لبعض ملوكها في بعض الأزمان، ومدن دون ذلك يأتي الكلام على جميعها بعد ذكر الكور القديمة والأعمال المستقرّة إن شاء الله تعالى.
وأما المباني العظيمة الباقية على ممرّ الأزمان
- فاعلم أن ملوك مصر الأقدمين كان لهم من العناية بالبناء ما ليس لغيرهم، وكانوا يتفاخرون بذلك لإخباره على طول الزمن بعظمة ملكهم واقتدارهم على ما لم يبلغه غيرهم. ومن أعظم أبنيتهم (الأهرام)«1» وهي قبور اتخذوها في غاية الوثاقة حفظا لأجسامهم، وكان لهم بها العناية التامة، وابتنوا منها عدة بالجبل الغربي من النيل، بعضها مقابل الفسطاط، وبعضها ببوصير السّدر وسقّارة ودهشور من الأعمال الجيزية، وبعضها بميدوم من البهنساوية؛ وأعظمها خطرا وأجلّها قدرا الهرمان المقابلان للفسطاط «2» ، يقال إن طول عمود كل هرم منهما ثلاثمائة وسبعة عشر ذراعا «3» ، تحيط بها أربعة سطوح متساوية الأضلاع، طول كل ضلع منها أربعمائة وستون ذراعا.
قال أبو الصلت: ليس على وجه الأرض بناء باليد حجر على حجر بهذا المقدار.
ويقال: إن لها أبوابا في أزج «4» في الأرض طول كل درج مائة وخمسون ذراعا. وباب الهرم الشرقي من الجهة البحرية، وباب الهرم الغربي من الناحية الغربية. والصابئة «5» تحجّ هذين الهرمين ويقولون: إن أحدهما قبر إدريس عليه السلام، والآخر قبر ابنه صابىء الذي إليه ينتسبون.
وقد اختلف في بانيها فأكثر المؤرخين على أن بانيها سوريد «1» بن سهلوق أحد ملوك مصر قبل الطوفان، الآتي ذكره في الكلام على ملوكها فيما بعد إن شاء الله تعالى، جعلها قبورا لأجسادهم، وكنوزا لأموالهم، حين أخبره منجّموه وكهنته بما دلهم عليه الرّصد النجوميّ من حدوث حادثة تعمّ الأرض؛ ورجحه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وقال: لو بنيت الأهرام بعد الطوفان، لكان علمها عند الناس.
وذكر ابن عفير عن أشياخه أن بانيها جيّاد بن مياد بن شمر بن شدّاد بن عاد ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. قال: ولم تزل مشايخ مصر يقولون: إن الذي بناها شدّاد بن عاد، وذهب المسعودي وغيره إلى أنه بناها يوسف عليه السلام.
وقال ابن شبرمة: بنتها العمالقة حين ملكوا مصر. وبالجملة فهما من أعظم الآثار وأقدمها وأجلّ المباني وأدومها؛ ولله القائل:
انظر إلى الهرمين واسمع منهما
…
ما يرويان عن الزّمان الغابر
لو ينطقان لخبّرانا بالّذي
…
صنع الزمان بأوّل وبآخر
وكيفما كان فمآلهما إلى الخراب، شأن الدنيا ومبانيها.
وقد كان المأمون، أحد خلفاء بني العباس، حين دخل إلى مصر في سنة ست عشرة ومائتين قصد هدمهما فلم يقدر، فأعمل الحيلة في فتح طاقة في أحدهما يتوصل منها إلى مزلقان «1» ، يصعد في أعلاه إلى قاعة بأعلى الهرم، بها ناووس «2» من حجر، وينزل في أسفله إلى بئر تحت الأرض لم يعلم ما فيها.
ويقال: إنه وجد في أعلاه مالا فاعتبره فإذا هو قدر المال الذي صرفه من غير زيادة ولا نقص «3» ؛ وقد أخذ الآن في قطع حجارتهما الظاهرة لاتخاذ البلاط منها، فإن طال الزمان يوشك أن يخربا كغيرهما من المباني.
ولله المتنبي حيث يقول:
أين الذي الهرمان من بنيانه؟
…
ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلّف الآثار عن أصحابها
…
دهرا، ويدركها الفناء فتتبع
قال إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب «العجائب» : وقد قيل إن هوجيب أحد ملوك مصر قبل الطوفان أيضا بنى الهرم الكبير الذي بدهشور «4» ؛ والثاني بناه قفطريم، بن قفط، بن قبطيم، بن مصر، بن بيصر، بن حام، بن نوح عليه السلام بعد الطّوفان.
قال القضاعيّ: أما الهرم الذي بدير أبي هرميس «5» ، وهو الهرم المدرّج، يعني الذي شماليّ أهرام دهشور؛ فإنه قبر قرياس، وهو فارس أهل مصر، كان يعدّ
فيهم بألف فارس، فلما مات جزع عليه ملكه وبنى له هذا الهرم فدفنه فيه.
قال: وقبر الملك نفسه الهرم الكبير من الأهرام التي غربيّ دير أبي هرميس، وعلى بابه لوح من الحجر الكذّان طوله ذراع في ذراع مكتوب بالخط البرباويّ «1» .
ومن عظيم بنيانهم أيضا ولطيف حكمهم (البرابي)«2» وهي بيوت عبادة كانت لهم، زبروا «3» فيها حكمهم، ورقموا تواريخ ملوكهم، وصوّروا فيها صور الأمم التي حولهم. فمتى قصدتهم أمة من الأمم، أوقعوا بصورهم المصوّرة من النّكال ما أرادوا، فيصيب تلك الأمة على البعد ما أوقعوه بتلك الصور، إلى غير ذلك من الحكم التي أودعوها والطّلّسمات التي وضعوها بجدرانها.
ويقال: إن أوّل من بنى البرابي بمصر دلوكة العجوز، التي ملكت مصر بعد فرعون لعنه الله!.
قال في «مسالك الأبصار» : وقد أخبرني الحكيم شمس الدين محمد بن سعد الدمشقيّ «4» أنه رآها وتأملها، فوجدها مشتملة على جميع أشكال الفلك، وأن الذي ظهر له أنه لم يعملها حكيم واحد بل تولّى عليها قوم بعد قوم حتّى تكاملت في دور، وهو ثلاثون ألف سنة، لأن مثل هذه الأعمال لا تعمل إلا بالأرصاد ولا يكمل رصد المجموع في أقل من هذه المدّة.
قلت: ويجوز أن يكون الرّصد حصل على الوجه المذكور، وزبر ورقم في الكتب، فلما بنى الثاني هذه البرابي، نقل منها ما زبر فى الكتب من ذلك الزمن المتقدّم.
واعلم أن أكثر البرابي بالوجه القبليّ من الديار المصرية، وبالوجه البحري القليل منها، وقد استولى الخراب على جميعها، وذهبت معالمها ولم يبق إلا آثارها، والذي وقفت عليه في التواريخ، ووقفت على آثار غالبه ورسومه سبع براب:
(منها) بربا سمنّود «1» ؛ كانت بظاهر سمنّود من الأعمال الغربية بالوجه البحريّ. قال الكنديّ: رأيتها وقد خزّن فيها بعض عمّالها قرضا «2» فرأيت الجمل إذا دنا من بابها بحمله وأراد أن يدخلها، سقط كل دبيب «3» في القرظ «4» فلا يدخل منها شيء إلى البربا.
قال القضاعي: ثم خربت عند الخمسين وثلاثمائة.
(ومنها) بربا تميّ «5» بالمرتاحية من الوجه البحري على القرب من مدينة تميّ الخراب، وعامة أهل تلك الناحية يقولون بربا عاد، وهي باقية بجدرانها، وسقوفها من أعظم الحجارة العظيمة، إلى الآن باقية، وبأعلى بابها قطعة مبنية بالطوب الآجرّ والجصّ، وداخلها أحواض عظيمة من الصوّان غريبة الشأن.
(ومنها) بربا إخميم «6» ، وهي بربا بظاهر مدينة إخميم من الوجه القبليّ؛ كانت من أعظم البرابي وأحسنها صنعة وأكبرها حكمة، ولم تزل عامرة إلى أوساط
المائة الثامنة، فأخذ في هدمها والعمارة بأحجارها خطيب إخميم، ولم يبق إلا آثارها، وبعض جدرانها قائمة إلى الآن.
(ومنها) بربا دندرة «1» من الأعمال القوصية.
قال القضاعي: وهي بربا عجيبة فيها مائة وثمانون كوّة تدخل الشمس في كل يوم في كوّة منها، ثم تكرّ راجعة إلى الموضع الذي بدأت منه، وهي الآن خراب لم يبق إلا آثارها.
(ومنها) بربا الأقصر «2» : وكانت بربا عظيمة فهدمت أيضا، ولم يبق منها إلا آثارها.
ومن بقايا الآثار بها صنم عظيم من حجر صوّان أملس، قائم على باب ضريح الشيخ أبي الحجاج الأقصريّ «3» على حاله إلى الآن، ومر عليه زمن الشيخ وهو على ذلك، ولعله إنما أراد ببقائه التنبيه على ضعف عقول عبدة الأصنام لكونهم يعبدون حجرا مثل هذا.
(ومنها) بربا أرمنت «4» ، وهي بربا صغيرة قد ذهبت معالمها، ولم يبق بها إلا عمد صوّان قائمة من غير شيء محمول عليها.
(ومنها) بربا إسنا «5» ، وهي متوسطة القدر بين الكبر والصغر، وقد بقي منها