الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الناشر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وعلى له وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فنقدم إلى القراء الكرام نتاجًا جديدًا مما خطّته يراعة شيخنا الإمام الحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله؛ ليفيد منه طلبة العلم بعامة، وطلاب الحديث والتخريج والعلل بخاصة؛ وهو كتاب "صحيح سنن أبي داود" -الكتاب الأم- الذي كان شيخنا الوالد رحمه الله يعزو إليه في كتبه المختلفة عند تخريجاته المختصرة.
وخير ما نعرّف به الكتاب أن نورد ما قاله عنه الشيخ نفسه في نهاية مقدمة الطبعة الجديدة للمجلد الأول لكتابه "مختصر صحيح البخاري"؛ حيث قال:
"
…
سيمرُّ بالقارئ الكريم عزوي كثيرًا لكتابي "صحيح أبي داود"، وربما أحيانًا لقسيمه "ضعيف أبي داود" -بالأرقام طبعًا- لأحاديثهما؛ فليعلم أنني إنما أعني بكل منهما:(الأم) والأصل الذي أخرّج فيهما الأحاديث، وأتكلم على الأسانيد ورجالها؛ تعديلًا وتجريحًا، وتصحيحًا وتضعيفًا؛ وأتتبع فيهما الطرق في مختلف المصادر، حتى المخطوطات أحيانًا؛ على النحو الذي أنهج عليه في "السلسلتين"، وهما المقصودان أيضًا في كل كتبي حين العزو إليهما؛ فاقتضى التنبيه".
وقال رحمه الله في مقدمة "صحيح سنن أبي داود" -كتابه الآخر باختصار السند-، طبعة مكتبة المعارف:
"
…
وذلك لأن أحاديث "أبي داود"
…
؛ مخرجة تخريجًا علميًّا دقيقًا في مشروعي القديم، الذي كنت بدأت فيه من نحو أربعين سنة، وهو "صحيح أبي داود" و "ضعيف أبي داود"، ولا أزال أعمل فيهما على نوبات متفرقة متباطئة، يسر الله لي إتمامها
…
".
وقد بدأ الشيخ مشروعه هذا -كما ذَكَرَ- منذ سنين طويلة، وجعله في دفاتر متعددة، وقد وجدنا على الوجه الداخلي لغلاف دفتره الأول ما يشير إلى تاريخ بداية عمله فيه بعبارة مختصرة:
"سنة حجتي الأولى (1368) أواخر صفر (1369 هـ) ". وكان يسجل تاريخ انتهائه من بعض دفاتره، أو متابعته للعمل في بعضها الآخر، ولم يكمل تخريج الكتاب كله -" قدر الله وما شاء فعل"-؛ ولذلك لم يكن رحمه الله يعزم على نشره -على أهميته- إلا بعد الانتهاء منه كاملًا؛ فقد وصل في هذا "الصحيح" إلى الحديث (2734) من كتاب "الجنائز"، (25 - باب الجلوس عند المصيبة)، ومن "الضعيف" إلى الحديث (561) من كتاب "الجنائز" أيضًا، (29 - باب في النوح).
وهذا الكتاب مما يشهد لشيخنا رحمه الله شهادة تامة ببصره النافذ -الناقد- في علم الحديث ورجاله، ونظرته الفاحصة للأسانيد وعللها، وتبحُّره في معرفة الشواهد -مما لا يستطيعه إلا من كَمَلَت -أو أوشكت- معرفته بعلم الحديث رواية ودراية، مع تضلّع بفهم كلمات الأئمة الجهابذه النقاد في الأسانيد والرجال ومرويّاتهم
…
فهاكَه -أخي القارئ! - غضًّا طريًّا؛ تتنعَّم بالنظر فيه، وتتمتّع باسْتِكْناهِ ظواهره وخوافيه.
واعلم -أخي القارئ! - أن هذا الكتاب من بواكير أعمال الشيخ الحديثية بعد أن اشتدّ عوده -ولا يزال منذ بدأ شديدًا- ولم يبرح الشيخ رحمه الله ينقّح فيه ويصحّح، ويزيد وينقص، ويحوّل من "الصحيح" إلى "الضعيف" -وبالعكس-، كما هي عادته رحمه الله فيما يجدّ له من مصادر ومراجع؛ ليمشي على الخط الذي رسمه لنفسه في الحياة العلمية -وهو مما تلقاه عن أسلافه الأئمة الفحول-؛ ليقول -لسانًا وحالًا-:(العلم لا يقبل الجمود)!
وهذه سكيكة مطروقة، وسبيل معلومة، وجادة مسلوكة؛ تدل على منهجية شيخنا رحمه الله في البحث العلمي النزيه؛ ليحتل بها المكانة المرموقة التي عرفه بها للقاصي والداني، ولله الحمد والمنة.
وعليه؛ كان لا بد لنا في أثناء عملنا لإخراج الكتاب من أمور ضرورية لإتمام العمل في أفضل صورة ممكنة، وهي تنطبق على هذا "الصحيح" وعلى "الضعيف" أيضًا، وتتلخص فيما يلي:
1 -
كان الشيخ رحمه الله قد نسّق كتابه هذا بشكل مختصر؛ يورد فيه نصّ الحديث في المتن -الأعلى- مختصرًا سنده، ثم يضع حكمه الإجمالي بين هلالين:(قلت: . . . . . . . .)، ثم يورد سنده أسفل -في الحاشية-، ثم يتكلم عليه بما تقتضيه الصناعة الحديثية؛ فكان أن جعلنا المتن والحاشيه معًا على نمط "الصحيحة" و "الضعيفة"، وميّزنا -في سبيل تحقيق هذا- نص الحديث في "السنن"، وأقوال أبي داود بالحرف الأسود؛ لأننا
وجدنا هذا النمط بعد التجربة أنفع للقارئ، وأبعد عن تشتيت ذهنه، وأيسر من النواحي الطباعية الفنية.
2 -
ضبط عناوين الأبواب الفقهية وترقيمها تسلسليًّا لكل كتاب فقهي (1)؛ اعتمادًا منا على نسخة الأستاذ عزت عبيد الدعاس؛ لدقّتها -أولًا-، وثانيًا؛ فإنه تبين لنا لاحقًا أن شيخنا المصنف رحمه الله كان قد اعتمد على النسخة (التازية) في قريب من ثلاثة أرباع عمله في الكتاب، ثم عدل إلى طبعة (الدعاس)؛ وذلك لأسباب شرحها فيما يأتي، تحت الحديث (2270).
ثم أدرجنا الأبواب التي كان الشيخ رحمه الله قد حذفها لعدم وجود حديث تحتها على شرطه في هذا الكتاب، وقد كان هذا هو منهجه قديمًا؛ إلا أنه عدل عنه أخيرًا، وفي ذلك فوائد عدة لا تخفى؛ كما فعل في كتابه "صحيح الترغيب والترهيب" و "ضعيفه"، انظر مثلًا (10 - باب الخاتم يكون فيه ذكر الله .. )، و (19 - الاستتار في الخلاء) من "كتاب الطهارة"؛ فهما محذوفان في أصل الشيخ "الصحيح" هذا مع أحاديثهما؛ لأنهما ليسا على شرطه فيه، بل هما من شرطه في "الضعيف".
3 -
اعتمدنا الترقيم الأصلي للشيخ رحمه الله بما فيه من تكرار في الموضع، أو نقص، وضبطنا العزو من الكتاب -وإليه- نفسه، وكذلك بين الكتابين "الصحيح" و "الضعيف".
ومن الضروري هنا أن نشير إلى أن الشيخ نفسه قد عدّل ترقيمه الخاص؛ تبعًا لما حذف أو أضاف من الأحاديث؛ مما أحدث فارقًا بين الترقيم الجديد
(1) بدءًا من (باب 148 / كتاب الصلاة / المجلد الرابع)، ولم يمكن تدارك ما قبله بعد أن تم إعداد المجلدات الثلاثة السابقة.
والقديم يقل أو يزيد، لكنه ظل يعزو غالبًا إلى ترقيمه القديم؛ فليكن القارئ من هذا على ذُكْرٍ حين يعزو الشيخ من كتبه الأخرى إلى هنا، وليتَّبعْ ما يتيسّر له من الوسائل الأَخرى للوصول إلى بغيته إن لم يهتدِ إليه.
4 -
يعزو الشيخ أحيانًا إلى أحاديث في هذا الكتاب لم يَصِلْ بعدُ إلى تخريجها وتحقيقها، فيترك مكان أرقامها فارغًا (
…
)، لإثباتها حين الوصول إليها، فهذه تركناها كما هي مع الإشارة أحيانًا إلى ما يساعد القارئ للاهتداء إلى الأحاديث المقصودة بين معقوفتين []؛ كذكر الباب مثلًا أو ما شابه، انظر مثلًا (ص 62).
5 -
نصوص الأحاديث تركناها كما هي عند الشيخ رحمه الله؛ إلا ما لا بُدَّ منه -من طبيعة البشر- من سبق قلم أو نحوه.
6 -
الأحاديث التي أشار الشيخ رحمه الله إلى نقلها من "الصحيح" إلى "الضعيف" أو العكس، قمنا بنقلها، وأشرنا إلى ذلك في الحاشية، ووضعنا لها رقمًا مكررًا ملحقًا بـ (/ م). مثال الحديث (11 / م).
وأخيرًا؛ نرجو الله تبارك وتعالى أن يتقبّل منا عملنا، ويغفر لنا زلاتِنا، ونسأله -سبحانه- أن يجزي خيرًا كل من أسْهَم معنا في إخراج هذا الكتاب القيم إلى حيّز الوجود؛ بجهد أو فكرة أو دلالة ذيلت باسم (الناشر)، ويجزي والدنا الشيخ رحمه الله تعالى عنا وعن المسلمين جميعًا خير الجزاء، ويرحمه رحمة واسعة، إنه سميع مجيب.
26 شوال 1422 هـ - الموافق 1/ 10 / 2002 م
الناشر
المقدمة
الحمد لله رب العالين، وصلى الله تعالى على رسولنا ونبينا محمد، وعلى له وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد اشتهر بين المشتغلين بعلم السنّة أنّ الأحاديث الواردة في "سنن أبي داود"، وسكت عنها، ولم يتكلم بشيء من الجرح عليها؛ أنها صالحة للاحتجاج بها والاعتماد عليها، والسبب في ذلك هو أبو داود نفسه رحمه الله، حيث وردت عنه جمل وعبارات يستفاد هذا من ظاهرها، بل بعضها نص في ذلك، وقد اجتمع لدي منها أربع عبارات أنا ذاكرها الآن، ثمّ أتكلم عليها بما ظهر لي من الحق فيها، وأدعم ذلك ببعض النقول عن بعض الأئمة الفحول، وهي هذه:
(1)
قال أبو داود في رسالته المشهورة (1) إلى أهل مكة:
"وليس في كتاب "السنن" الذي صنفته رجل متروك الحديث، وإذا كان فيه حديث منكر بينت أنه منكر، وليس على نحوه في الباب غيره"، ثمّ قال:
"وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض".
(2)
وعنه أنه قال:
(1) يوجد منها نسخة خطية في المكتبة الظاهرية تحت رقم (348 - حديث)، وروى قسمًا منها الحافط الحازمي في "شروط الأئمة الخمسة"(ص 53 - 55)، وفي النسخة المشار إليها جملة فيما نقلناه عنها لم يظهر لي المراد منها، وهي: "فقد بينته؛ و [منه ما لا يصح سنده] ما لم أذكر فيه
…
" إلخ! ولم أجد من ذكرها أيضًا فيما نقلوه من الرسالة؛ فتأمل.
"كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث؛ انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب -يعني: كتاب "السنن"- جمعت فيه أربعة آلاف حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه"(1).
(3)
وروي عنه أنه "يذكر في كل باب أصح ما عرفه فيه"(2).
(4)
ويروى عنه أنه قال: "وما سكتُّ عنه؛ فهو حسن"(2).
فالرواية الأخيرة -إن صحت- صريحة فيما اشتهر من الاحتجاج بما سكت عنه، أما الروايتان قبلها؛ فلا تتعرضان لهذه المسألة ببيان، غير أن الثانية قد تشعر بما أفادته هذه الأخيرة؛ لأنّ ما يشبه الصحيح ويقاربه إنما هو الحسن، وما يتكلم عليه ويُعله ليس منه كما لا يخفى.
(1) رواه الخطيب البغدادي في ترجمة أبي داود من "تاريخه"(9/ 57) قال:
"حدثني أبو بكر محمد بن علي بن إبراهيم للقاري الدينوري -بلفظه- قال: سمعت أبا الحسين محمد بن عبد الله بن الحسن الفرضي: سمعت أبا بكر بن داسة يقول: سمعت أبا داود يقول:
…
" فذكره.
وهذا إسناد صحيح: أبو بكر محمد بن علي القاري وأبو الحسين محمد بن عبد الله الفرضي ثقتان ترجمهما الخطيب في "تاريخه"، فقال في الأول منهما (3/ 106):
"كتبت عنه شيئًا يسيرًا، وكان رجلًا صالحًا ورعًا، كتب معنا الحديث، مات سنة (449) ".
وقال في الآخر (5/ 472):
"كان ثقة، وانتهى إليه قسمة الفرائض والمواريث، فلم يكن في وقته أعلم بذلك منه، وصنف فيه كتبًا اشتهرت
…
مات سنة (402) ".
وأما أبو بكر بن داسة؛ فهو أحد رواة "السنن" عن أبي داود رحمه الله.
(2)
أوردهما ابن كثير في "اختصار علوم الحديث"(ص 30) هكذا بصيغة التمريض "ويروى"، والثالث ذكره ابن الصلاح أيضًا.
وأمّا الرواية الأولى فمفهوم قوله: "وهن شديد"؛ أنه لا يبين ما فيه وهن غير شديد، وحينئذ ينبغي التوفيق بين هذا المفهوم إذا كان مرادًا، وبين صريح قوله:"وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح":
فإما أن يقال: إنّ هذا المفهوم لا اعتداد به؛ لمخالفته لهذا المنطوق! وهذا عندنا -هنا- ضعيف مرجوح، وذلك لإمكان التوفيق بينهما، وهو أن يقال: إن الصالح عند أبي داود يشمل الحديث الضعيف الذي لم يشتد ضعفه، وعليه فلا تعارض بين المنطوق والمفهوم، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، وينشرح له الصدر بعد طول تفكر وتدبر، وهو الذي جنح إليه الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله حيث قال (1):"ولفظ (صالح) في كلامه؛ أعم من أن يكون للاحتجاج أو للاعتبار، فما ارتقى إلى الحسن ثم إلى الصحيح؛ فهو بالمعنى الأول (الاحتجاج)، وما عداهما؛ فهو المعنى الثاني (الاعتبار)، وما قصر عن ذلك فهو ما فيه وهن شديد".
(1) نقله الشيخ منصور علي ناصف في "التاج الجامع للأصول"(ص 7) ثم أتبعه بقوله: "وسأتبع ذلك في بيان درجة ما رواه بقولي: بسند صالح".
قلت: وعلى ذلك جرى في كتابه هذا، فكلما ذكر فيه:"رواه أبو داود "؛ علق عليه في التعليق بقوله: "بسند صالح"، وقد سبقه بلى هذا بعض المتقدمين كما قال الحافظ العراقي في "شرح المقدمة" لابن الصلاح ما نصه (ص 39):
"وهكذا رأيت الحافظ أبا عبد الله بن المَوَّاق يفعل في كتابه "بُغية النقاد"؛ يقول في الحديث الذي سكت عليه أبو داود: "هذا حديث صالح"
…
"! !
وهذا عمل منهما غير صالح؛ لما ذكرنا في الأصل. وليت صاحب "التاج" اقتصر على هذا، ولكنه لم يفعل؛ بل هو يسكت عن أحاديث يعزوها إلى أبي داود، وقد صرح هو بتضعيفها في "سننه"! انظر الحديث رقم (، ) وله في هذا للكتاب خطيات كثيرة أخرى قد بينتها في كتابي "نقد التاج" مفصلًا، وأجملتها في مقدمته؛ وعندي منه نقد الأول منه فقط، ولما يَتَسَنّ لي نشره بعد.
وهذا تحقيق بديع من الحافظ رحمه الله؛ والنقد العلمي الحديثي الصحيح يشهد بوجود هذه الأنواع الأربعة في "السنن"، ومنها أحاديث واهية السند ظاهرة الضعف يسكت عليها أبو داود، حتى إن النووي رحمه الله يقول في بعضها (1)؟
"وإنما لم يصرح أبو داود بضعفه لأنه ظاهر".
وقال المنذري في مقدمة كتابه "الترغيب والترهيب"(1/ 8):
"وأنبّه على كثير مما حضرني حال الإملاء مما تساهل أبو داود رحمه الله في السكوت عن تضعيفه"، ثمّ قال:
"وكل حديث عزوته إلى أبي داود وسكتُّ عنه؛ فهو كما ذكر أبو داود، ولا ينزل عن درجة الحسن، وقد يكون على شرط الشيخين أو أحدهما"(2).
وعلى هذا؛ فليس يظهر صوابًا قول الحافظ ابن الصلاح في "المقدمة" -بعد أن ذكر الروايات الثلاث الأُوَلَ- ما نصه: "فعلى هذا؛ ما وجدناه في كتابه مذكورًا مطلقًا وليس في واحد من "الصحيحين" ولا نص على صحته
(1) هو الحديث الأول من أحاديث "أبي داود" الضعيفة، فراجعه في كتابنا.
(2)
نقل الشيخ علي القاري في "المرقاة"(1/ 22) عن المنذري أنه قال:
"ما سكت عليه لا ينزل عن درجة الحسن"، فهذا إن كان من مصدر آخر فلا كلام، وإن كان اختصر كلامه الذي نقلناه عن "الترغيب"؛ فهو اختصار مخل؛ لأنه أطلق، بينما هو في الأصل مقيد.
ثمّ إن في قول المنذري رحمه الله: "على كثير" إشارة إلى أنه لم ينبه على كل ما تساهل فيه أبو داود رحمه الله، وهو كذلك كما بينته في كتابي "التعليق الرغيب على الترغيب والترهيب". ومن الأمثلة في ذلك حديث ابن عمر (ص 31 رقم 3) وحديث علي (ص 91 رقم 2) من الطبعة المنيرية.
أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن؛ عرفناه بأنه من الحسن عند أبي داود، وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره؛ ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به على ما سبق" (1).
وليس لدينا من أقوال أبي داود في هذه المسألة ما يشهد لما ذهب إليه؛ إلا الرواية الأخيرة عنه على جهلنا بصحتها عنه، حتى إن ابن الصلاح -نفسه- أعرض عن ذكرها في كتابه، والظاهر أنه اعتمد على منطوق قوله:"فهو صالح"، ولم يلتفت إلى المفهوم السابق الذكر؛ وهذا منه غير جيد؛ لما أسلفنا، ولما نقله هو -نفسه- عن الحافظ ابن منده أنه قال:
"كان أبو داود يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره؛ لأنه أقوى عنده من رأي الرجال".
ولذلك؛ فقد رد على ابن الصلاح غير ما واحد من العلماء المحققين، فقال ابن كثير الدمشقي في "مختصره" ردًّا عليه:
(1) في هذا الكلام إشارة إلى ما نقله العراقي وغيره عنه -أعني: ابن الصلاح- أنه لا يجوز للمتأخرين الإقدام على الحكم بصحة حديث لم يصححه أحد من المتقدمين؛ لأن هذا اجتهاد؛ وهو -بزعمه- قد انقطع منذ قرون، كما زعموا مثل ذلك في الفقه أيضًا!
وليت شعري لِمَ ألَّف هو وغيره في أصول الحديث؟ ! ولم ألّفوا في أصول الفقه؟ ! للتسلية والفرجة وتضييع الوقت؟ ! أم للعمل بمقتضاها وربط الفروع بأصولها؟ ! وهذا يستلزم الاجتهاد الذي أنكروه؟ ! ونحمد الله تعالى أننا لا نُعْدَمُ في كل عصر من علماء يردون أمثال هذه الزلات من مثل هذا العالم، وقد رد عليه الحافظ ابن حجر، وشيخه العراقي في شرحه عليه وغيرهما، كالسيوطي في "ألفيته".
فقال بعد أن ذكر رأي ابن الصلاح في أحاديث "المستدرك ":
جريًا على امتناع أن يصححا
…
في عصرنا كما إليه جنحا
وغيره جوزه وهو الأبر
…
فاحكم هنا بماله أدّى النظر
"قلت: الروايات عن أبي داود بكتابه "السنن" كثيرة جدًّا، ويوجد في بعضها من الكلام -بل والأحاديث- ما ليس في الأخرى، ولأبي عبيد الآجري عنه أسئلة -في الجرح والتعديل، والتصحيح والتعليل- كتاب مفيد، ومن ذلك أحاديث ورجال قد ذكرها في "سننه" فقوله: "وما سكت عليه فهو حسن"؛ مما ينبغي التنبيه عليه والتيقظ له".
وقال المناوي في "الفيض" -بعد أن نقل عن أبي داود الرواية الأولى-:
"قال الذهبي: قد وفَّى؛ فإنه بيّن الضعيف الظاهر (1) وسكت عن المحتمل، فما سكت عنه لا يكون حسنًا عنده ولا بد -كما زعمه ابن الصلاح وغيره-؛ بل قد يكون فيه ضعف. وهذا قد سبقه إليه ابن منده حيث قال
…
(قلت: فذكر ما نقلناه عنه آنفًا ثمّ قال). قال ابن عبد الهادي: هذا رد على من يقول: إن ما سكت عليه أبو داود يحتح به ومحكوم عليه بأنه حسن عنده، والذي يظهر أن ما سكت عنه -وليس في "الصحيحين"- ينقسم إلى صحيح محتج به، وضعيف غير محتج به بمفرده، ومتوسط بينهما، فما في "سننه" ستة أقسام أو ثمانية:
صحيح لذاته، صحيح لغيره بلا وهن فيهما، ما به وهن شديد، ما به وهن غير شديد، وهذان قسمان: ما له جابر، وما لا جابر له، وما قبلهما قسمان: ما بين وهنه، وما لم يبين وهنه".
قلت: وهذا تقسيم صحيح أيضًا.
(1) كذا! وقد علمت مما سبق أنه سكت عن أشياء ظاهرة الضعف، فلو قال:(الشديد الضعف)؛ لكان أقرب.
فظهر بهذا البيان أنه ليس كل ما سكت عنه أبو داود حسنًا صالحًا للاحتجاج به عنده.
وأما أن الأمر كذلك عند غيره؛ فمما لا مناقشة فيه؛ حتى عند القائلين بالقول المرجوح، وفي كلام ابن الصلاح السابق إشارة إلى ذلك، وعلى هذا جرى عمل المحققين من الأئمة، فضعفوا كثيرًا من الأحاديث التي سكت عليها أبو داود في "سننه"؛ كالحافظ المنذري والنووي والزيلعي والعراقي والعسقلاني وغيرهم، كما ستقف على كلماتهم في ذلك إن شاء الله تعالى في الكتاب المستقل بالأحاديث الضعيفة من "السنن" إن شاء الله (*).
(*) هذا ما كتبه الشيخ رحمه الله في مقدمته لهذا الكتاب، ولو قدر له إتمامها لزاد وأفاد، قدر الله وما شاء فعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله. (الناشر).