الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[عهد الصحابة رضي الله عنهم]
ثم إنهم تفرقوا في البلاد، وصار كل واحد مقتدى ناحية من النواحي، فكثرت الوقائع، ودارت المسائل، فاستفتوا فيها، فأجاب كل واحد حسب ما حفظه أو استنبطه، وإن لم يجد فيما حفظه أو استنبطه ما يصلح للجواب، اجتهد برأيه وعرف العلة التي أدار سول الله صلى الله عليه وسلم عليها الحكم في منصوصاته، فطرد الحكم حيثما وجدها، لا يألو جهدًا في موافقة غرضه صلى الله عليه وسلم.
[أسباب اختلاف الصحابة وصوره]
فعندئذ وقع الاختلاف بينهم على ضروب منها:
1 -
أن يسمع صحابي حكمًا في قضية أو فتوى، ولم يسمعه الآخر، فيجتهد برأيه في ذلك، ويكون هذا على وجوه:
(أ) أن يقع اجتهاده موافقًا للحديث، ومثاله: ما جاء عن ابن مسعود أنه سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها، فقال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضى في ذلك، فاختلفوا عليه شهرًا وألحوا، فاجتهد برأيه، وقضي بأن لها مهر نسائها: لا وَكَسَ ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بمثل ذلك في امرأة منهم، ففرح بذلك ابن مسعود فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام.
(ب) أن يقع بينهما المناظرة، ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع، ومثاله: أن أبا هريرة كان من مذهبه أنه من أصبح جنبًا فلا صوم له، حتى أخبرته بعض أزواج النبى صلى الله عليه وسلم بخلاف مذهبه فرجع.
(جـ) أن يبلغه الحديث لكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن، فلم يترك اجتهاده بل طعن في الحديث، ومثاله: أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها شهدت عند عمر بن الخطاب بأنها كانت مطلقة ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، فردَّ شهادتها وقال: لا نترك كتاب الله بقول امرأة ندري أصدقت أم كذبت.
وقالت عائشة: يا فاطمة اتقي الله! تعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة.
(ر) أن لا يصل إليه الحديث أصلاً، ومثاله: أن ابن عَمْرو وكان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فسمعت عائشة رضي الله عنها بذلك فقالت: يا عجبًا لابن عمرو هذا، يأمر النساء أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟! فقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.
2 -
أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فعلاً، فيحمله بعضهم على القربة وبعضهم على الإباحة:
ومثاله: أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يرمل في الطواف، فذهب جمهورهم إلى أن الرمل في الطواف سنة، وحمله ابن عباس على أنه إنما فعله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاتفاق لعارض عرض- وهو قول المشركين: حطمتهم حمى يثرب- وليس سنة.
3 -
اختلاف الوهم: ومثاله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجَّ فرآه الناس، فذهب بعضهم إلى أنه كان متمتعًا، وبعضهم إلى أنه كان قارنًا، وبعضهم إلى أنه كان مفردًا.
4 -
اختلاف السهو والنسيان: ومثاله ما رُوي: أن ابن عمر كان يقول: أعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة في رجب، فسمعت عائشة بذلك فقضت عليه بالسهو.
5 -
اختلاف الضبط: ومثاله أن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» فقضت عائشة عليه بأنه وهم بأخذ الحديث على وجه: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها أهلها فقال: إنهم يبكون عليها وإنها تعذب في قبرها، فظن أن العذاب معلول للبكاء، وظن الحكم عامًا على كل ميت.
6 -
الاختلاف في علة الحكم: مثاله: القيام للجنازة فقال قائل: لتعظيم الملائكة فيعم المؤمن والكافر، وقال قائل: لهول الموت فيعمهما، وقال قائل: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة يهودي فقام لها كراهة أن تعلو فوق رأسه، فيخص بالكافر.
7 -
الاختلاف في الجمع بين المختلفين: ومثاله: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
استقبال القبلة في قضاء الحاجة فذهب قوم إلى عموم هذا الحكم وأنه غير منسوخ، ورآه جابر يبول قبل أن يتوفى بعام مستقبل القبلة فذهب إلى أنه نسخ للنهى المتقدم، ورآه ابن عمر قضى حاجته مستدبر القبلة فرَّد به قولهم إلى غير ذلك.
[الفقه في عهد التابعين]
وبالجملة فاختلفت مذاهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عنهم التابعون كل واحد ما تيسر له، فحفظ ما سمع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب الصحابة وعقلها، وجمع المختلف على ما تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض، واضمحل في نظرهم بعض الأقوال وإن كان مأثورًا عن كبار الصحابة، كما استفاض عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم على خلافه.
فصار لكل عالم من التابعين مذهب على حياله، فانتصب في كل بلد إمام، مثل: سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر في المدينة، وبعدها: الزهري ويحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن فيها.
وعطاء بن أبى رباح بمكة، وإبراهيم النخعي والشعبي بالكوفة، والحسن بالبصرة، وطاووس بن كيسان باليمن ومكحول بالشام، فأظمأ الله أكبادًا إلى علومهم فرغبوا فيها، وأخذوا عنهم الحيث وفتاوى الصحابة وأقاويلهم، ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم، واستفتى منهم المفتون، ودارت المسائل بينهم ورفعت إليهم الأقضية.
وكان ابن المسيب وإبراهيم النخعي وأمثالهما قد جمعوا أبواب الفقه أجمعها، وكان سعيد بن المسيب وأصحابه يذهبون إلى أن أهم الحرمين أثبت الناس في الفقه، وأصل مذهبهم فتاوى عمر وعثمان وقضاياهما، وابن عمر وعائشة وابن عباس وقضايا قضاة المدينة.
وكاد النخعي وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود وأصحابه أثبت الناس في الفقه، فأصل مذهبهم فتاوى ابن مسعود وقضايا علي رضي الله عنه وفتاواه، وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة.
ونظر كل فريق فيما اجتمع لديه نظر اعتبار وتفتيش، فما كان منها مجتمعًا عليه بين العلماء فإنهم يأخذون عليه بنواجذهم، وما كان فيه أن اختلاف عندهم
فإنهم يأخذون بأقواها وأرجحها، وإذا لم يجدوا فيما حفظوه جواب المسألة خرجوا من كلامهم وتتبعوا الإيماء والاقتضاء، فحصل لهم مسائل كثيرة في كل باب.
[الفقه بعد عهد التابعين]
ثم أنشأ الله تعالى بعد عصر التابعين نشأً من حملة العلم، فأخذوا العلم عنهم، ونسجوا على منوال شيوخهم، فتمسكوا بالمسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدلوا بأقوال الصحابة والتابعين، علمًا منهم أنها إما أحاديث منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختصروها فجعلوها موقوفة، أو يكون استنباطًا منهم من المنصوص واجتهادًا منهم بآرائهم، وهم أحسن صنيعًا في كل ذلك ممن يجيء بعدهم، وأكثر إصابة، وأقدم زمانًا وأوعى علمًا، فتعين العمل بها إلا إذا اختلفوا وكان حديث رسول الله يخالف قولهم مخالفة ظاهرة.
وقد أُلهموا في هذه الطبقة التدوين، فدون مالك، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبى ذئب بالمدينة، وابن جرير وابن عيينة بمكة، والثوري بالكوفة، والربيع بن صبيح بالبصرة.
وكان مالك أثبتهم في حديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقهم إسناداً، وأعلمهم بقضايا عمر، وأقاويل عبد الله في عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة، وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى، ولما وسد إليه الأمر حدَّث وأفتى وأفاد وأجاد.
وكان أبو حنيفة- رحمه الله ألزمهم بمذهب إبراهيم النخعى وأقرانه، لا يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه، دقيق النظر في وجوه التخريجات، مقبلاً على الفروع أتمَّ إقبال.
وكان أشهر أصحابه ذكرًا أبو يوسف- رحمه الله وكان أحسنهم تصنيفًا وألزمهم درسًا محمد بن الحسن، وكان من خبره أنه تفقَّه على أبي حنيفة وأبي يوسف، ثم خرج إلى المدينة فقرأ «الموطأ» على مالك، ثم رجع إلى بلده فطبق مذهب أصحابه على «الموطأ» مسألة مسألة، فإن وافق منها وإلا فإن طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه فكذلك، وإن وجد قياسًا ضعيفًا أو تخريجًا يخالفه حديث صحيح مما عمل به الفقهاء ويخالفه عمل أكثر العلماء تركه
إلى مذهب السلف مما يراه أرجح ما هناك، وهما لا يزالان على محجة النخعي ما أمكن لهما كما كان أبو حنيفة- رحمه الله يفعل، ولذا عُدَّ مذهبًا مع مذهب أبى حنيفة واحدًا- مع أنهما مجتهدان مطلقان مخالفتهما له غير قليلة في الأصول والفروع- لتوافقهم في هذا الأصل.
ونشأ الشافعي- رحمه الله في أوائل ظهور المذهبين وترتيب أصولهما وفروعهما، فنظر في صنيع الأوائل فوجد فيه أموراً كَبَحت عنانه عن الجريان في طريقهم، منها: أنه وجدهم يأخذون بالمرسل والمنقطع فيدخل فيهما الخلل، ومنها أنه لم تكن قواعد الجمع بين المختلفات مضبوطة عندهم فتطرَّق بذلك خلل في مجتهداتهم، فوضع لها أصولاً ودوَّنها في كتاب، وهذا أول تدوين كان في أصول الفقه، ومنها أن أقوال الصحابة جمعت في عصر الشافعي فكثرت واختلفت وتشعبت، ورأى كثيرًا منها يخالف الحديث الصحيح حيث لم يبلغهم، ورأى السلف لم يزالوا يرجعون في مثل ذالك إلى الحديث، فترك التمسك بأقوالهم ما لم يتفقوا، وقال: هم رجال ونحن رجال.
ومنها أنه رأى قومًا من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوغه الشرع بالقياس الذي أثبته، فلا يميزون واحداً منها عن الآخر.
وبالجملة فإنه رحمه الله لما رأى هذه الأمور أخذ الفقه من الرأس فأسس الأصول وفرع الفروع ونف الكتب فأجاد وأفاد، واجتمع عليه الفقهاء، ثم تفرقوا في البلدان فكان هذا مذهب الشافعي.
[أسباب الاختلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي]
واعلم أنه كان من العلماء من عصر التابعين فما بعدهم قوم يكرهون الخوض بالرأي ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بُدًا، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع شيوع تدوين الحديث والأثر في بلدان الإسلام، وكتابة الصحف والنسخ، فطاف من أدرك من عظمائهم ذلك الزمان بلاد الحجاز والشام والعراق ومصر واليمن وخراسان وجمعوا الكتب وتتبعوا النسخ حتى اجتمع لهم من الحديث والآثار ما لم يجتمع لأحد قبلهم، واجتمع عندهم ما كان خافيًا على أهل الفتوى من آثار فقهاء كل بلد من الصحابة والتابعين، بعد أن
كان الرجل فيما قبلهم لا يتمكن إلا من جمع حديث بلده وأصحابه، كما انكشف لهم بهذا التدوين والبحث والمناظرة ما كان خافيًا من حال أسانيد هذه الأحاديث.
فرجع المحققون منهم- بعد إحكام فن الرواية ومعرفة الأحاديث- إلى الفقه، فلم يكن عندهم من الرأي أن يُجمع على تقليد رجل ممن مضى مع ما يروون من الأحاديث والآثار المناهضة لكل مذهب من تلك المذاهب، ولم تكن مسالة من المسائل التي تكلم فيها من قبلهم والتي وقت في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثًا مرفوعًا متصلاً أو مرسلاً أو موقوفًا، أو وجدوا أثرًا من آثار الشيخين أو سائر الخلفاء وقضاة الأمصار وفقهاء البلدان، فيسَّر الله لهم العمل بالسنة على هذا الوجه، وكان أعظمهم شأنًا وأوسعهم رواية، وأعرفهم للحديث مرتبة وأعمقهم فقهًا، أحمد بن حنبل ثم إسحاق ابن راهويه- رحمهما الله تعالى- قال الشافعي لأحمد:«أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمونى حتى أذهب إليه، كوفيًا كان أو بصريًا أو شاميًا» اهـ.
وقد خلف هؤلاء قوم رأوا أن أصحابهم قد كفوهم مؤنة جمع الأحاديث، وتمهيد الفقه على هذا الأصل، فتفرغوا لفنون أخرى، كتمييز الحديث الصحيح المجمع عليه من كبراء أهل الحديث كيزيد بن هارون ويحيى القطان وأحمد وإسحاق وأضرابهم، وكجمع أحاديث الفقه التي بنى عليها فقهاء الأمصار وعلماء البلدان مذاهبهم، وكالحكم على كل حديث بما يستحقه، وكالشاذَّة والفاذَّة من الأحاديث التي لم يرووها، أو طرقها التي لم تخرج من جهتها الأوائل، وغير ذلك، ومن هؤلاء: البخاري ومسلم وأبو داود وعبد بن حميد والدارمي وابن ماجه وأبو يعلى والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي وغيرهم.
وكان بإزاء هؤلاء في عصر مالك وسفيان وبعدهم قوة لا يكرهون المسائل، ولا يهابون الفتيا، وإنما يهابون رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم والرفع إليه، حتى قال الشعبي:«على من دون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا، فإن كان فيه زيادة أو نقصان؛ كان على من دون النبي صلى الله عليه وسلم» .
فوقع تدوين الحديث والفقه والمسائل من حاجتهم بموقع من وجه آخر، وذلك أنه لم يكن عندهم من الأحاديث والآثار ما يقدرون به على استنباط الفقه على الأصول التي اختارها أهل الحديث، ولم تنشرح صدورهم للنظر في أقوال علماء
البلدان وجمعها والبحث عنها، واتهموا أنفسهم في ذلك، وكانوا اعتقدوا في أئمتهم أنهم في الدرجة العليا من التحقيق، وكانت قلوبهم أميل شيء إلى أصحابهم، كما قال أبو حنيفة:«إبراهيم - يعني: النخعي- أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لقلت: علقمة أفقه من ابن عمر!!» .
وكان عندهم من الفطانة والحدس وسرعة انتقال الذهن من شيء إلى شيء ما يقدرون به على تخريج جواب المسألة على أقوال أصحابهم، فمهدوا الفقه على قاعدة التخريج، فوقع التخريج في كل مذهب فكثر، وأي مذهب كان أصحابه مشهورين وسُدِّ إليهم القضاء والإفتاء، فاشتهرت تصانيفهم في الناس، وانتشرت في أقطار الأرض.
ومن هنا نشأت مدرستا الحديث والفقه، وقد صدَّر الإمام الخطابي رحمه الله كتاب «معالم السنن» (1) بالكلام عليهما فقال: رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا أمرين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما نحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة أساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب. ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه، إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر غير متظاهرين.
فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الحديث والأثر فإن الأكثرين إنما كدهم الروايات، وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا يستنبطون سرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون، وأما الطبقة الأخرى -وهم أهل الفقه والنظر- فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبأون بما
(1)«معالم السنن» للخطابي (1/ 75 - 76).
بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير تثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك زلة من الراوي أو عيًّا فيه، وهؤلاء- وفقنا الله وإياهم- لو حكى لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاده من قبل نفسه، طلبوا فيه الثقة، واستبرءوا له العهدة: فنجد أصحاب مالك لا يعتمدون في مذهبه إلا ما كان من رواية ابن القاسم وأشهب وأضرابهما من نبلاء أصحابه، فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحكم وأضرابه لم يكن عندهم طائلاً، وترى أصحاب أبي حنيفة- رحمه الله تعالى- لا يقبلون من الرواية عنه إلا ما حكاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن والعلية من أصحابه والأجلة من تلامذته، فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذوي روايته قول بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه. وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي، فإذا جاءت رواية خزيمة والجرمى وأمثالهما لم يلتفتوا إليها ولم يعتدُّوا بها في أقاويله، وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأساتذتهم.
فإذا كان هذا دأبهم، وكانوا لا يقتنعون في أمر هذه الفروع والرواية عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والتثبت، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم والخطب الأعظم، وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول رب العزة، الواجب حكمه، اللازمة طاعته، الذي يجب علينا التسليم لحكمه والانقياد لأمره من حيث لا نجد في أنفسنا حرجًا مما قضاه، ولا في صدورنا غلاً من شيء أبرمه وأمضاه، أرأيتكم إذا كان الرجل يتساهل في أمر نفسه ويسامح غرماءه في حقه، فأخذ منهم الزيف ويغضي لهم عن العيب، هل يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إذا كان نائبًا عنه، كولي الضعيف ووصى اليتيم ووكيل الغائب؟ وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد وإخفارًا للذمة؟ فهذا هو ذلك إما عيان خمس وإما عيان مثل، ولكن أقوامًا عساهم استوعروا طريق الحق، واسطابوا الدعة في ذلك الحظ، وأحبوا عجالة النيل، فاختصروا طريق العلم، واقتصروا على نتف وحروف منتزعة من معاني أصول الفقه سموها عللاً، وجعلوها شعارًا لأنفسهم في الترسم برسم العلم، وأخذوها جنة عند لقاء