الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل يتشهَّد بعد سَجْدَتَيْ السهو؟
لأهل العلم في هذه المسألة أربعة أقوال (1) أصحُّها أنه لا يتشهد بعد سجدتي السهو لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اعتمد من قال به على ما رُوى من حديث عمران بن حصين:
«أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلَّم» (2) وهو شاذ لا يصح، ولذا قال شيخ الإسلام (23/ 48): «.... فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه سجد بعد السلام غير مرة كما في حديث ابن مسعود لما صلى خمسًا، وفي حديث أبي هريرة -حديث ذي اليدين- وعمران بن حصين
…
وليس في شيء من أقواله أمر بالتشهد بعد السجود، ولا في الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول: أنه يتشهد بعد السجود، بل هذا التشهد بعد السجدتين عمل طويل بقدر السجدتين أو أكثر ومثل هذا مما يُحفظ ويُضبط، وتتوفَّر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان قد تشهد لذكر ذلك من ذكر أنه سجد، وكان الداعي إلى ذكر ذلك أقوى من الداعي إلى ذكر السلام وذكر التكبير عند الخفض والرفع، فإن هذه أقوال خفيفة، والتشهد عمل طويل، فكيف ينقلون هذا ولا ينقلون هذا» اهـ.
الصلاة في السفر
السفر لغةً: قطع المسافة، وخلاف الحضر (أي الإقامة).
والسفر اصطلاحًا: خروج الإنسان من وطنه قاصدًا مكانًا يستغرق المسير إليه مسافة ما، اختلف الفقهاء في تقديرها كما سيأتي.
أولاً: قصر الصلاة:
تعريفه: القصر لغةً: الحبس، وعدم بلوغ الشيء مداه ونهايته.
والقصر شرعًا: أن تصير الصلاة الرباعية ركعتين في السفر، سواء في حالة الخوف أو الأمن.
(1)«الأوسط» لابن المنذر (3/ 314 - 317) وقد حكى القول بإثباته، وبمنعه، وبالتخيير، وبالتفريق بين ما كان بعد السلام فيتشهد وما كان قبله لا يتشهد.
(2)
شاذ: أخرجه أبو داود (1039)، والترمذي (395)، وابن الجارود (247) وغيرهم، وقد ضعَّفه البيهقي وابن عبد البر وابن تيمية وغيرهم، وكذا العلامة الألباني كما في «الإرواء» (403).
مشروعيته: ثبتت مشروعية القصر في السفر بالكتاب والسنة والإجماع، وستأتي الأدلة خلال مباحث هذا الباب، إن شاء الله.
وقد اتفق العلماء على مشروعية القصر للصلاة في السفر، وعلى أن الفجر والمغرب لا تُقصران، واختلفوا في حكم قصر الصلاة: هل هو واجب أو رخصة؟ كما اختلفوا في شروط القصر، وفي غير ذلك، وفيما يلي بيان هذه المسائل:
حُكْمُ قَصْرِ الصلاة في السفر:
اختلف أهل العلم في حكم قصر الصلاة الرباعية في السفر على قولين:
الأول: أن القصر رخصة (جائز) وهو مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة (1)، ثم اختلف هؤلاء في: هل الأفضل القصر أو الإتمام أو هو مخيَّر؟.
الثاني: أن القصر عزيمة (واجب) ولا يجوز الإتمام: وهو مذهب الحنفية وقول عند المالكية، ومذهب الظاهرية (2)، ثم اختلفوا فيما إذا أتم: تبطل صلاته أم لا؟
أدلة الفريقين ومناقشاتها:
[أ] أدلة القائلين بعدم الوجوب:
1 -
قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
…
} (3). قالوا: نفى الجناح يقتضي رفع الإثم، والإباحة لا الوجوب والعزيمة.
وأجاب الموجبون من وجوه ثلاثة: الأول: أنه لا يُسلَّم بأن نفي الجناح خاص بالمباح، بل يستعمل كذلك في الواجب، ومن ذلك قوله تعالى:{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (4). فنفى الجناح في الآية جاء في السعي بين الصفا والمروة في الحج وهو فرض.
(1)«الشرح الكبير في حاشية الدسوقي» (1/ 358)، و «المجموع» (4/ 337)، و «كشاف القناع» (1/ 324)، و «المغنى» (2/ 197)، و «بداية المجتهد» (1/ 241)، و «نيل الأوطار» (3/ 239)، و «الحاوي» للماوردي (2/ 363 - 365).
(2)
«البدائع» (1/ 91)، و «فتح القدير» (1/ 395)، و «بداية المجتهد» (1/ 241)، و «المنتقى» للباجي (1/ 260)، و «المحلى» (4/ 264)، و «معالم السنن» (1/ 48)، و «نيل الأوطار» (3/ 239).
(3)
سورة النساء، الآية:101.
(4)
سورة البقرة، الآية:158.
وأُجيب: بأن الآية نزلت لتبين أن السعي من الشعائر، وذلك لما تحرَّج المسلمون منه لأن العرب كانت تفعله في الجاهلية، ولم تنزل الآية لبيان حكم السعي!!
والوجه الثاني: أن المراد بالقصر في الآية: قصر هيئة الصلاة في الخوف من ترك القيام والركوع، وأُجيب: بأن المراد بالقصر: إنقاص عدد الركعات بحيث تصير الرباعية ثنائية، بدليل حديث يعلى بن أمية الآتي قريبًا وفيه أنه أشكل عليه إنقاص عدد الركعات في السفر في حالة الأمن كما أشكل على عمر فقال صلى الله عليه وسلم:«صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (1).
والوجه الثالث: أن في الآية اشتراط تحقق الخوف، فلماذا لم تقولوا به لجواز القصر وأجزتموه في الأمن؟
وأُجيب: بأن القصر في السفر قد أكدته السنة.
2 -
واستدل الجمهور: بحديث يعلى بن أميَّة قال: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أمن الناس!! فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:«صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» (2) قالوا: والتعبير عن القصر بالصدقة يدل على الجواز، لأن الشأن في الصدقة التطوع لا الإلزام والوجوب.
وأجاب الموجبون: بأن الحديث دليل لنا لا لكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقبول هذه الصدقة والأمر للإيجاب، وكل إحسان إلينا صدقة.
وأجيب: بأنه توجد أكثر من قرينة تصرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب!! ومن ذلك أن لفظ «صدقة» إذا أطلق يراد به الصدقة التطوعية لا الواجبة.
3 -
واستدل الجمهور: بما رُوى عن عائشة أنها قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمتُ، وقصر وأتممتُ، فقلت: بأبي وأمي، أفطرتَ وصمتُ، وقصرتَ وأتممتُ، فقال:«أحسنتِ يا عائشة» (3).
(1) صحيح: وانظر الآتي بعده.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (686)، وأبو داود (1199)، والترمذي (3037)، وابن ماجه (1065).
(3)
ضعيف: أخرجه الدارقطني (2/ 188)، والبيهقي (3/ 142)، ورجَّح الدارقطني في «العلل» إرساله.
وأجاب الموجبون عنه بأجوبة: أحدها: أن الحديث ضعيف لا يحتج به، والثاني: أن في متنه نكارة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات ليس منهن شيء في رمضان، بل في ذي القعدة (1).
والثالث: قال شيخ الإسلام (2): «وهذا حديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون، ثم تتم هي وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة: «فرضت الصلاة ركعتين
…
» فكيف يظن بها أنها تزيد على فرض الله وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟!» اهـ.
4 -
واستدل الجمهور: بما يُروى عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم» (3).
وأجاب الموجبون: بأنه محمول على أنه قصر في الفعل وأتم في الحكم، كقول عمر: «صلاة السفر
ركعتان تمام من غير قصر» وأجيب: بأن التمام في خبر عائشة يدل على جواز صلاة الرباعية أربع ركعات في السفر، أما الإتمام في خبر عمر فيدل على التمام في الأجر، فلا يُحمل خبر عائشة على كلام عمر رضي الله عنهما قلت: الحديث منكر فلا حاجة إلى شيء من التأويل.
5 -
واستدل الجمهور: بحديث عبد الرحمن بن يزيد قال: «صلَّى بنا عثمان بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع، ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبلتان» (4).
قالوا: يعني: ليت عثمان صلى ركعتين بدل أربع كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان في صدر خلافته يفعلون، ومقصوده كراهة مخالفة ما كان عليه
(1) وأجيب عن هذا الوجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين في رمضان: عمرة القضاء، وفي فتح مكة وكلاهما في رمضان.
(2)
نقله في «زاد المعاد» (1/ 472) ط. الرسالة.
(3)
منكر: أخرجه الدارقطني (2/ 242)، (2/ 189)، والشافعي (518)، والبيهقي (3/ 141، 142) وسنده تالف، وقال شيخ الإسلام: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ، وانظر «الإرواء» (3/ 3 - 9).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1084)، ومسلم (695).
النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه، ومع هذا فقد وافق ابن مسعود على جواز الإتمام، وإلا لم يجز أن يُتَّم وراء أحد (1).
وأجاب الموجبون من وجوه:
(أ) أن عثمان أتم بمنى لأنه نوى الإقامة في مكة بعد الحج، وأتم من كان معه من الصحابة لأنهم يقيمون بإقامته، وأجيب: بأن الإقامة بمكة كانت حرامًا على المهاجرين، وكيف يقيم وصح عن عثمان أنه كان يودِّع النساء إلا على ظهر راحلته، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته، وثبت أنه -لما حاصروه- قيل له: اركب رواحلك إلى مكة، قال: لن أفارق دار هجرتي» (2).
(ب) وقيل: إن عثمان أتَّم بمنى لأنه تزوج بمكة، بدليل أنه لما أنكر الناس عليه صلاته بمنى أربعًا، قال:«أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من تأهلَّ في بلد فليصلِّ صلاة المقيم» (3) وأجيب بان الحديث قد أعل بالانقطاع فلا يحتج به.
(جـ) وقيل: إن عثمان أتمَّ لأنه إمام المسلمين، وكل موضع نزل فيه يعتبر مقيمًا فيه ودارًا له!!
وأجيب: بأن الأولى بهذا الحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم والثابت عنه أنه كان يقصر في كل سفر.
6 -
واستدل الجمهور: بأن المسافر إذا دخل في صلاة المقيم صلَّى أربعًا بالاتفاق، ولو كان فرضه
القصر لم يأتم مسافر بمقيم. وأجاب الموجبون: بأن فرض المسافر ركعتان لم يتغير باقتدائه بالمقيم، لكن تكون الركعتان الأخريان نافلة، بدليل أنه إذا لم يقعد بعد الركعتين الأوليين تبطل صلاته لتركه القعود الذي هو فرض في حقِّه.
وأجيب: بأنه لا يسلَّم أن الركعتين الأخيرتين نافلة، ولو كانتا كذلك لما وجب عليه الإتمام خلف الإمام المقيم.
7 -
واستدل الجمهور بالقياس على الصوم للمسافر في نهار رمضان بجامع السفر في كلٍّ، فالإفطار له رخصة وليس بواجب، فكذلك القصر!!
(1)«شرح مسلم» للنووي (5/ 204).
(2)
«فتح الباري» (2/ 665) ط. السلفية.
(3)
ضعيف: أخرجه أحمد (1/ 62) بسند ضعيف وأعلَّه البيهقي بالانقطاع.
وأجاب الموجبون: بأن هذا قياس مع الفارق فلا يصح، لأن الصوم يُقضى فيتركه إلى بدل، بخلاف الركعتين في الرباعية فإن المسافر يتركهما إلى غير بدل.
[ب] أدلة القائلين بالوجوب:
1 -
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأُقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر» (1).
وأجاب الجمهور من وجهين:
(أ) أن المراد: فرضت الصلاة ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم وأُقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار.
أو أنَّ المراد: أن ابتداء فرض الصلاة كان ركعتين ثم أتمت فصارت أربعًا، ولذلك كانت عائشة تتم في السفر.
(ب) أن الحديث موقوف على عائشة فليس بحجة لا سيما وأنها لم تشهد زمن فرض الصلاة!!
وأجيب: بأن الموقوف إذا لم يكن للعقل فيه مجال فله حكم الرفع، وهو هنا كذلك.
2 -
واستدل الموجبون: بحديث ابن عباس قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيِّكم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» (2).
وأجاب الجمهور: بأن الحديث لا يحمل على ظاهره!! وأن المراد: أن صلاة السفر ركعتان في حالة الاقتصار عليهما للمسافر، أما إذا أراد الإتمام فلا حرج جمعًا بين الأدلة!!
3 -
واستدل الموجبون: بحديث عمر بن الخطاب قال: «صلاة السفر ركعتان وصلاة الفطر
ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام من غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم» (3).
وأجاب الجمهور بأن المراد بالتمام أنها تامة في فضلها وأجرها غير ناقصة الفضيلة والأجر، وإنما وجب هذا التأويل لأن ظاهر الحديث يقتضي أن تكون
(1) صحيح: أخرجه البخاري (350)، ومسلم (685).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (687)، وأبو داود (1247)، والنسائي (3/ 169).
(3)
صحيح: أخرجه النسائي (3/ 118)، وابن ماجه (1064)، وأحمد (1/ 37).
صلاة الركعتين في السفر غير مقصورة وهذا مخالف لنص القرآن الكريم في تسميتها بالقصر!!!
4 -
واستدل الموجبون: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (1) وقد تقدم الكلام عليه.
5 -
واستدل الموجبون: بحديث ابن عمر قال: «صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (2)» (3).
وأما ما تقدم من إتمام عثمان الصلاة بمنى، فالذي يظهر أنه ما كان يتم إلا بمنى خاصة، لحديث ابن عمر قال:«صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدرًا من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعدُ أربعًا» (4).
وأجاب الجمهور: بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومداومته لا تدل على الوجوب.
6 -
واستدل الموجبون: بأن الركعتين الأخيرتين يجوز تركهما إلى غير بدل، فلم يجز زيادتهما على الركعتين المفروضتين، كما لو زادهما على صلاة الصبح.
وأجاب الجمهور: بأن القياس على صلاة الصبح قياس مع الفارق، لأن صلاة الصبح ركعتان لا تقبل زيادة بحال، بخلاف صلاة المسافر فإنها تقبل الزيادة بعد الاقتداء بالمقيم.
الراجح في المسألة:
بعد هذا العرض لأدلة الفريقين ومناقشاتهما، فلا يسلم من أدلة الجمهور إلا فعل عثمان وعائشة متأولين في مقابل ظواهر أحاديث عائشة وعمر وابن عباس ومداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه
على القصر في السفر.
(1) صحيح: تقدم قريبًا.
(2)
سورة الأحزاب، الآية:21.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (689).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1082)، ومسلم (694).
فالذي يظهر أن القول بالوجوب قوي ومتجه، ويستثنى من ذلك من صلى خلف المقيم، ولو ذهب أحدٌ إلى القول بأنه سنة مؤكدة لا ينبغي تركه وأن الإتمام مكروه، لم يبعُد كذلك، وهما منقولان عن شيخ الإسلام، والله أعلم.
حدُّ السفر (المسافة التي يقصر فيها):
اختلف أهل العلم في تحديد المسافة التي يجوز فيها قصر الصلاة على ثلاث أقوال:
الأول: مسافة القصر (48) ميلاً بما يساوي (85) كيلو متر: وبه قال ابن عمر وابن عباس والحسن البصري والزهري، وهو مذهب مالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور (1) وحجتهم ما يلي:
1 -
ما رُوى عن ابن عباس مرفوعًا: «يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة بُرُد (2) من مكة إلى عسفان» (3) وهو منكر لا يصح.
2 -
ما ثبت أن «ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما كانا يقصران ويفطران في أربعة برد» (4) وهي ستة عشر فرسخًا.
3 -
أن مسافة أربعة برد تجمع مشقة السفر من الحل والشدة، فجاز القصر فيها كمسافة الثلاث، ولم يجز فيما دونها.
الثاني: مسافة القصر مسيرة ثلاثة أيام بلياليها بمشي الإبل: وبه قال ابن مسعود وسويد بن غفلة والشعبي والنخعي والثوري، وهو مذهب أبي حنيفة (5) وحجتهم ما يلي:
1 -
حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي مَحْرَم» (6).
(1)«القوانين» (100)، و «الدسوقي» (1/ 358)، و «المجموع» (4/ 322)، و «الحاوي» (2/ 361)، و «المغنى» (2/ 90)، و «كشاف القناع» (1/ 504).
(2)
البرد: جمع بريد وهو مسافة أربع فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل حوالي (1. 8) كيلو متر.
(3)
منكر: أخرجه الدارقطني (148)، وعنه البيهقي (3/ 137) وانظر «الإرواء» (565).
(4)
صحيح: علقه البخاري (2/ 659 - فتح)، ووصله البيهقي (3/ 137)، وانظر «الإرواء» (568).
(5)
«ابن عابدين» (2/ 122)، و «الهداية» (1/ 80)، و «نيل الأوطار» (3/ 246)، و «بداية المجتهد» (1/ 243).
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (1086)، ومسلم (1338).
2 -
حديث علي بن أبي طالب -في المسح على الخفين-: «جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام
ولياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمقيم» (1).
قالوا: فتعلق حكم المسافر في الحديثين بمن سافر ثلاثة أيام فلا يتعلق القصر بأقل من ذلك!!
3 -
من المعقول: أن الثلاثة أقل الكثير وأكثر القليل، ولا يجوز القصر في قليل السفر!! فوجب أن يكون أقل الكثير -وهو الثلاث- حدًّا له!!
الثالث: ليس للقصر مسافة محددة، بل يقصر في كل ما يطلق عليه «السفر»: وهو مذهب الظاهرية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (2) وحجتهم ما يلي:
1 -
قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (3). فظاهر الآية يدل على أن القصر يتعلق بكل ضرب في الأرض دون تحديد مسافة معينة.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدَّ القصر بحد زماني أو مكاني، بل علق الشارع الحكم بمسمى «السفر» المطلق، فلا يجوز أن يفرق بين نوع ونوع من غير دلالة شرعية، بل الواجب أن يطلق ما أطلقه الشارع ويقيد ما قيَّده، والتقدير -لمسافة القصر- بابه التوقيف فلا يصار إليه برأي مجرد.
3 -
أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر فيما دون المسافات المحدودة آنفًا:
(أ) فعن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلَّى ركعتين» (4) فهو يدل صراحة على أن القصر يتعلق بمطلق السفر ولو كان ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، قال الحافظ: هو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه. اهـ.
وقد أجاب الجمهور عنه: بأنه محمول على المسافة التي يبتدئ القصر منها لا غاية السفر!! قال الحافظ: «ولا يخفى بُعْد هذا الحمل، مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن زيد -راويه عن أنس- قال: سألت أنسًا عن
(1) صحيح: تقدم في «المسح على الخفين» .
(2)
«المحلى» (5/ 10)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 12 - 35)، و «زاد المعاد» و «فتح الباري» (2/ 660)، و «المغنى» (2/ 44).
(3)
سورة النساء، الآية:101.
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (691).
قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أخرج، فقال أنس: فذكر الحديث، فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يُبتدأ القصر منه» اهـ.
(ب) وعن أنس قال: «صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعًا، والعصر بذي
الحليفة ركعتين» (1) وبينهما ثلاثة أميال:
(أ) أنه قد ثبت عنهما خلاف هذا التحديد بأسانيد صحيحة، وكذا خالفهما غيرهما من الصحابة.
(ب) ولو سلِّم أنه لم يثبت عنهما إلا ما احتج به الجمهور وأنه ليس لهما مخالف، فلا حجة فيه كذلك لمخالفته ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
5 -
وأما حديث (لا تسافر المرأة ثلاثًا
…
) فليس فيه أن السفر لا يطلق إلا على ثلاثة أيام، وإنما فيه أنه لا يجوز أن تسافر المرأة بغير محرم هذا السفر الخاص، وقد صح من حديث أبي هريرة مرفوعًا:«لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم» (2) وليس شيء من هذا حدًّا للسفر.
الراجح: هو القول الثالث بأن يقصر في كل ما يُطلق عليه مسمى «السفر» سواء كان قصيرًا أو طويلاً وليس له حد في اللغة، فرجع إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة لما يطرأ من التطور في وسائل المواصلات، وضابطه: أن يقول القائل: إني مسافر إلى البلد الفلاني، لا إني ذاهب، وأن يكون فيه ما يعد به في العُرف سفرًا، مثل التزود له ونحو ذلك، والله أعلم.
هل يشترط في السفر الذي يقصر فيه أن يكون سفر طاعة؟
ذهب جمهور العلماء: مالك والشافعي وأحمد (3)، إلى أنه لا يشرع القصر إلا في السفر الواجب أو المباح ولا يجوز في سفر المعصية كقطع الطريق ونحوه، وهذا مبناه على قولهم بأن القصر رخصة والمقصود منها التخفيف على المكلف، وهو إنما شرع ليُستعان به على تحصيل المصالح، فلا يكون إلا لمن يبذله في الطاعة، لا أن يتوصل به إلى ما يغضب الله.
(1) صحيح: أخرجه البخاري (189)، ومسلم (690)، وزيادة (العصر) له.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (1088)، ومسلم (1939).
(3)
«بداية المجتهد» (1/ 244)، و «المجموع» (4/ 201)، و «المغنى» (2/ 101)، و «كشاف القناع» (1/ 324).
بينما ذهب القائلون بوجوب القصر: (أبو حنيفة وابن حزم وابن تيمية، وغيرهم) إلى أنه يقصر في كل سفر ولو في معصية، لأن فرضه ركعتان لا أربع، وإن كان عاصيًا بسفره، وهذا قول عند المالكية (1).
قلت: فمن ترجَّح عنده أن القصر رخصة منع القصر في سفر المعصية، ومن أوجب القصر لم يفرِّق بين سفر الطاعة والمعصية، وهو الأرجح، والله أعلم.
الموضع الذي يبدأ منه المسافر قصر الصلاة:
أجمع أهل العلم على أن المسافر يجوز له أن يبدأ قصر الصلاة بعد مفارقة عمران بلدته (2).
ثم اختلفوا في جواز القصر قبل ذلك على قولين، أصحُّهما أنه لا يجوز أن يقصر قبل مغادرة العمران، وهو مذهب الجمهور (3)، ويدل عليه: حديث أنس بن مالك قال: «صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين» (4).
وهو ظاهر في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبتدئ القصر بعد خروجه من المدينة.
مدة القصر، إذا أقام في بلد السفر:
المسافر لا يزال يقصر الصلاة ما دام في طريق سفره مهما طالت المدة، فإذا وصل إلى البلد الذي أراده، فما المدة التي يُشرع له القصر فيها؟
هذا أمر مسكوت منه في الشرع، وليس فيه حديث صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقياس على التحديد ضعيف عند أهل العلم، ولذا اختلف العلماء في هذه المسألة على نحو من أحد عشر قولاً، أشهرها أربعة أقوال رام أصحابها أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام فيها مُقصرًا، أو أنه جعل لها حكم المسافر (5)، وأشهر هذه الأقوال ما يلي:
(1)«فتح القدير» (1/ 47) النبي صلى الله عليه وسلم و «الخرشي» (1/ 57)، و «المحلى» (4/ 267)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 110).
(2)
«الإجماع» لابن المنذر (39)، و «المغنى» (2/ 260).
(3)
«ابن عابدين» (2/ 121)، و «الذخيرة» (2/ 365)، و «المجموع» (4/ 202)، و «كشاف القناع» (1/ 325).
(4)
صحيح: تقدم قريبًا.
(5)
«بداية المجتهد» (1/ 245) ط. العلمية.
[أ] إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام لم يقصر: وهو مذهب الجمهور: (المالكية والشافعية والحنابلة) إلا أن المالكية والشافعية قالوا: أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج، والحنابلة حدودها بإحدى وعشرين صلاة (1). واستدلوا بما يلي:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلَّى الصبح في اليوم الثاني، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد عزم على إقامتها (2).
وأجيب عنه: بأنه ليس فيه أن هذه المدة هي أدنى مدة للإقامة، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه أقام أكثر من تلك المدة يقصر الصلاة كما سيأتي.
2 -
حديث العلاء بن الحضرمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا» (3) قالوا: فدلَّ على أن من أقام ثلاثة أيام ليس في حكم المقيم، بل هو في حكم المسافر.
وأجيب عنه: بأن معنى الحديث أن من هاجر من مكة قبل الفتح يحرم عليه الاستيطان بمكة إلا أن يقيم بعد فراغه من نسكه ثلاثة أيام لا يزيد، وأما المسافر فلا يكره له الزيادة على ثلاثة أيام في مكة فكيف يقاس عليه!! ثم ليس فيه إشارة على المدة التي إذا أقامها المسافر أتمَّ؟!
ثم إن في الحديث أن ما زاد على ثلاثة أيام للمهاجر يكون داخلاً تحت المسافر لا المقيم، وعندهم أن ما زاد على الثلاثة للمسافر فإقامة صحيحة، ولو قيس أحدهما على الآخر لوجب أن يقصر المسافر فيما زاد على الثلاث لا أن يتم بخلاف قولهم (4).
3 -
أثر عمر بن الخطاب: «أنه ضرب لليهود والنصارى والمجوس بالمدينة
(1)«الدسوقي» (1/ 364)، و «المجموع» (4/ 361)، و «الحاوي» (2/ 372)، و «المغنى» (2/ 132)، و «كشاف القناع» (1/ 330).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري معناه (1564)، ومسلم (1240)، من حديث ابن عباس، ومسلم (1218) من حديث جابر.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1352).
(4)
«المحلى» (5/ 24).
ثلاث ليال يتسوَّقون بها، ويقضون حوائجهم، ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث ليال» (1) قالوا: دلَّ الأثر على أن الثلاث حدُّ السفر وما فوقها حد الإقامة، فأجيب: بأنه لا يدل على حدِّ السفر بثلاث، كما بينَّا في الذي قبله.
4 -
أن ضيافة المسافر ثلاثة أيام، فإذا زاد اعتبر مقيمًا!! وأجيب: بأنه لا يدلُّ على أقل مدة للإقامة كما هو واضح.
[ب] إذا نوى الإقامة خمسة عشر يومًا لم يقصر: وهو مذهب أبي حنيفة والثور والمزني (2) واستدلوا بما يأتي:
1 -
حديث أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة» قيل له: أقمتم بمكة شيئًا؟ قال: «أقمنا بها عشرًا» (3).
وفي لفظ «أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أيام نقصر الصلاة» ويجاب عنه: بمثل ما تقدم في حديث جابر وابن عباس.
2 -
وعن ابن عباس قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة» (4).
3 -
ما جاء عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يومًا أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها» (5).
قالوا: هذا التحديد لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع!! وأجيب: بأنه قول صحابي قد خالفه غيره فلا يكون حجة، ثم إن الثابت عن ابن عباس وابن عمر خلافه:
(1) إسناده ثقات: أخرجه البيهقي (3/ 147 - 9/ 209) بسند رجاله ثقات إلا أنهم تكلموا في سماع يحيى بن بكير من مالك.
(2)
«البدائع» (1/ 97، 98)، و «الهداية» (1/ 81)، و «المجموع» (4/ 364).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (1081)، ومسلم (693)، واللفظ الآخر له.
(4)
ضعيف بهذا اللفظ: أخرجه أبو داود (1231)، وابن ماجه (1076) وقد صح بلفظ «تسعة عشر» وسيأتي قريبًا.
(5)
ذكره الترمذي عن ابن عمر عقب الحديث (548) بغير إسناد.
فقال ابن عباس: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا» (1).
[جـ] أن المسافر يقصر أبدًا ما لم ينو إقامة دائمة: وهو مذهب الحسن وقتادة وإسحاق واختاره ابن تيمية (2)، واستدلوا بما يلي:
1 -
حديث ابن عباس قال: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذ سافرنا فأقمنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا» (3).
2 -
حديث جابر قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة» (4).
3 -
ما رُوى عن عمران بن حصين قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول:«يا أهل البلد: صلوا أربعًا فإنا سَفْر» (5).
قالوا: دلت هذه الأحاديث على أن حقيقة المسافر لا تتعلق بمدة معينة وإنما قصر النبي صلى الله عليه وسلم في ثمانية عشر وتسعة عشر وعشرين، لأنه كان مسافرًا.
فائدة:
عند أصحاب المذاهب الثلاثة المتقدمة أن المسافر إذا أقام ببلد، ولم ينو الإقامة، ولم يَدْرِ متى يخرج ومتى تقضي حاجته فيه فإن يقضي أبدًا، ومستندهم أن على هذا فعل السلف:
(أ) فعن ابن عمر أنه «أقام بأذربيجان ستة أشهر أرتج (6) عليهم الثلج فكان يصلي ركعتين» (7).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1080).
(2)
«المجموع» (4/ 365)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 18)، و «المحلى» (5/ 23).
(3)
صحيح: تقدم قريبًا.
(4)
صححه الألباني: أخرجه أحمد (3/ 295)، وأبو داود (1236)، وقد أُعِلَّ، وانظر «الإرواء» (574).
(5)
ضعيف: تقدم تخريجه.
(6)
أي: دام عليهم الثلج وأطبق.
(7)
إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 152)، وأحمد (2/ 83)، 154) بنحوه مطولاًا بسند حسن وانظر «الإرواء» (577).
(ب) وعن أبي المنهال العنزي قال: قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير؟ قال: «صلِّ ركعتين» (1).
(جـ) وعن الحسن أن «أنس بن مالك أقام بنيسابور سنة أو سنتين، وكان يصلي ركعتين ثم يسلِّم، ثم يصلي ركعتين، ولا يُجَمِّع» (2).
(د) وعنه أن عبد الرحمن بن سمرة «شتا بكابل شتوة أو شتوتين، لا يُجمِّع، ويصلي ركعتين» (3).
(هـ) وعن أنس قال: «أقام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم برام هرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة» (4).
(و) وعن أبي وائل قال: «كنا مع مسروق بالسلسلة سنتين وهو عامل عليها فصلى بنا ركعتين حتى انصرف» (5).
ومجموع هذه الآثار يثبت هذا الأصل.
[د] أن المسافر يقصر عشرين يومًا بلياليها ثم يُتمُّ بعد ذلك، نوى الإقامة أو لم ينو: وهو مذهب أبي محمد ابن حزم، وتبعه الشوكاني إلا أنه فرَّق بين من نوى الإقامة فقال: لا يقصر فوق أربعة أيام، وبين من لم ينو ولم يعرف متى يخرج فإنه يقصر عشرين ثم يُّتم، وهذا قول عند الشافعية (6).
واستدلوا بأدلة المذهب الثالث، إلا أنهم نظروا إلى أمرين:
الأول: أنه لا اعتبار لنية الإقامة هنا، لأن النيات لا دخل لها في الأعمال التي لم يأمر الله تعالى بها، كالسفر والإقامة، وإنما تجب النيات في الأعمال التي أمر الله بها، فلا يجوز أن تؤدى بغير نية (7).
الثاني: مراعاة الأصل وهو الإتمام، قالوا: «والحق أن الأصل في المقيم الإتمام، لأن القصر لم يشرعه
الشارع إلا للمسافر، والمقيم غير المسافر، فلولا ما ثبت عنه
(1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 207).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (5099)، وعنه ابن المنذر (ت/ 1736).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 13).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 152)، وانظر «الإرواء» (576).
(5)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 208)، وعبد الرزاق (4357).
(6)
«مغنى المحتاج» (1/ 262).
(7)
وقد وافقهم على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر:«المحلى» (5/ 29)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 41).
صلى الله عليه وسلم من قصره بمكة وتبوك مع الإقامة لكان المتعيِّن هوالإتمام، فلا ينتقل عن ذلك الأصل إلا بدليل، وقد دلَّ الدليل على القصر مع التردد على عشرين يومًا كما في حديث جابر، ولم يصحَّ أنه صلى الله عليه وسلم قصر في الإقامة أكثر من ذلك، فيقصر على هذا المقدار، ولا شك أن قصره صلى الله عليه وسلم في تلك المدة لا ينفي القصر فيما زاد عليها، ولكن ملاحظة الأصل المذكور هي القاضية بذلك
…
» اهـ (1).
الراجح في المسألة:
ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا مقيم ومسافر، وأما المستوطن في غير بلده فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون حطَّ رحله فيه واتخذ مسكنًا خاصًّا به وأثثه وأقام فيه مطمئنًا فهذا مقيم لا يُشرع له القصر، لا أربعة أيام ولا أكثر منها، ولا يعكر على هذا قصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بمكة أربعة أيام وهو يعلم أنه سيمكث فيها هذه المدة، لما تقدم من أن العبرة في السفر والإقامة بطبيعة السكن والاستقرار به، لا بالمدة وأما أن ينزل بمكان لا يشعر فيه بالاستقلال والاستقرار -كما هو الحال في دار الإقامة- فهذا مسافر يقصر ما دام كذلك ولو فوق العشرين يومًا.
فقد يسافر رجل من المنصورة -مثلًا- إلى القاهرة لحاجة يعلم أنها تقضي في شهر، لكن يبيت أسبوعًا عند قريب وأسبوعًا عند صديق وهكذا، فهذا لا يكون مقيمًا، بل هو مسافر، فله القصر ما شاء حتى يرجع أو يكون له مكان يستقر فيه بحيث يكون له دار إقامة.
هذا هو الذي يترجَّح لدي في المسألة وهو الذي تجتمع عليه الأدلة المتقدمة كلها، وهو قريب من المذهب الثالث، ويليه في القوة المذهب الرابع، والله أعلم.
فائدة: السكنى بالمدينة الجامعية: إقامة وليست سفرًا، لما تقدم من اعتبار طبيعة السكنى، وعليه فلا يشرع للطالب أن يقصر بالمدينة الجامعية إذا استقر بها على النحو المتقدم والله أعلم.
القصر لا يشترط فيه النية: وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقصر بأصحابه، ولا يعلمهم قبل دخول الصلاة أنه يقصر، ولا يأمرهم بنيَّة القصر، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد القولين في مذهب أحمد (2) وقد تقدم تحرير هذا في «اختلاف نية الإمام والمأموم» .
(1)«نيل الأوطار» (3/ 251).
(2)
«مجموع الفتاوى» (24/ 16 - 21)، و «الهداية» (1/ 81)، و «الشرح الصغير» (1/ 174 - مع بغية السالك)، و «المغنى» (2/ 105).
صلاة المسافر خلف المقيم:
إذا دخل المسافر في صلاة رباعية خلف إمام مقيم، فلو يخلو من ثلاث حالات:
الأول: أن يدرك مع الإمام ثلاث أو أربع ركعات: فيلزمه الائتمام به وإتمام الصلاة أربعًا خلف إمامه عند الجمهور خلافًا لابن حزم (1) واستدل الجمهور بما يلي:
1 -
عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه
…
» (2).
2 -
حديث موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلِّ مع الإمام؟ فقال: «ركعتين، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم» (3).
وفي لفظ: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعًا، فإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين؟ قال: تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم» (4).
3 -
وعن ابن عمر أنه «كان يقيم بمكة عشرًا فيقصر الصلاة، إلا أن يشهد الصلاة مع الناس فيصلي بصلاتهم» (5) وفي لفظ: «كان إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا، وإذا صلاها وحده صلَّى ركعتين» (6).
الثانية: أن يدرك مع الإمام ركعة أو ركعتين: فللعلماء فيه قولان:
الأول: أنه يتمُّ أربعًا ولابد، وهو مذهب الجمهور من الأئمة الأربعة وغيرهم وهو قول ابن عمر وابن عباس، وجماعة من التابعين، واستدلوا بالأدلة المتقدمة، وبحديث أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم [يعني: المقيمين] أتجزيه الركعتان أو يصلي بصلاتهم؟ قال: فضحك، وقال:«يصلي بصلاتهم» (7).
الثاني: أنه تجزئه ركعتان فقط: وهو قول إسحاق وطاووس والشعبي وتميم بن حذلم (صاحب ابن مسعود) وأبي محمد ابن حزم.
قلت: ولعلَّ الإتمام أصحُّ لأنه قول ابن عمر وابن عباس ولا يُعلم لهما مخالف من الصحابة، ولأنه أدرك الجماعة مع إمام مقيم فيلزمه إتمامها، لكن قد
(1)«المغنى» (2/ 151)، و «المحلى» (5/ 31)، و «فتح المالك بترتيب التمهيد» (3/ 132).
(2)
صحيح: تقدم تخريجه.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (688)، والنسائي (3/ 119)، وابن خزيمة (951).
(4)
صحيح: أخرجه أحمد (1/ 216)، وابن خزيمة (952)، والبيهقي (3/ 153) من طرق.
(5)
إسناد صحيح: أخرجه مالك (196)، وعبد الرزاق (4381).
(6)
صحيح: أخرجه مسلم (694).
(7)
صححه الألباني: أخرجه البيهقي (3/ 157)، وانظر «الإرواء» (3/ 22).
يقال: لو نوى القصر خلف المتم فأدرك معه الركعتين -ولا يشترط اتفاق نية الإمام والمأموم كما تقدم- فيجزئان؟ قلت: هذا موضع اجتهاد، ومذهب
الصحابيين أولى بالاتباع والله أعلم.
الثالثة: أن يدرك معه أقل من ركعة: فذهب الحسن والنخعي والزهري وقتادة ومالك رحمهم الله إلى أنه يقصر، خلافًا للجمهور، وحجتهم:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة» (1) فهذا لم يدرك حكم الجماعة.
2 -
أن من أدرك من الجمعة ركعة أتمها، ومن أدرك أقل من ذلك لا يلزمه فرضها، بل يصلي أربعًا، كما سيأتي في «الجمعة» .
قلت: وهذا متجه وقوي، والله أعلم.
صلاة المقيم خلف المسافر:
إذا صلى المقيم الرباعية خلف مسافر فأجمع العلماء على أنه يلزمه أن يتم صلاته أربعًا بعد تسليم الإمام (2)، ويستحب للإمام بعد تسليمه أن يقول لهم:«أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْر» .
1 -
فعن ابن عمر «أن عمر رضي الله عنهما كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سَفر» (3).
وقد ورد نحوه مرفوعًا من حديث عمران بن حصين في قصة «الفتح» ولا يصح (4)، لكن فعل عمر رضي الله عنه كان في جمع العلماء من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، ولا يعلم له مخالف فيه، فكان العمل عليه.
2 -
ولأن الصلاة واجبة عليه أربعًا فلم يكن له ترك شيء من ركعاتها كما لو لم يأتم بمسافر.
فائدة: إذا أَمَّ مسافر قومًا -فيهم مسافرون ومقيمون- ثم أحدث بعد ركعة، فاستخلف مقيمًا (5):
(1) صحيح: تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
«المغنى» (2/ 152).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه مالك (195)، وابن أبي شيبة (1/ 419)، وعبد الرزاق (4369)، والبغوي (1024).
(4)
ضعيف: أبو داود (1229)، والترمذي (545)، وأحمد (4/ 430).
(5)
«فتح المالك» بتبويب التمهيد على موطأ مالك (3/ 133).
(أ) فقيل: يصلي المقيم تمام صلاة الأول، ثم يشير إلى من خلفه بالجلوس، ثم يقوم وحده فيتم صلاته أربعًا ثم يقعد للتشهد ويسلم من خلفه من المسافرين، ويقوم من خلفه من المقيمين فيتموا لأنفسهم، وهو قول مالك.
(ب) وقيل: يتم المستخلف صلاة الأول، ثم يتأخر ويقدم مسافرًا يسلم بهم، فيسلم معه المسافرون ويقوم المقيمون، فيقضون وحدانًا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري.
(جـ) وقيل: يتمون كلهم صلاة مقيم، وبه قال الشافعي والأوزاعي والليث.
هل تُصلَّى النوافل في السفر؟
اختلف العلماء في هذه المسألة، لاختلاف ظواهر الآثار الواردة في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، على خمسة أقوال (1):
1 -
المنع من صلاة النافلة في السفر مطلقًا: ويستدل له بحديث ابن عمر قال: «صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يُسبِّح في السفر، وقال الله -جل ذكره- {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}» (2).
ويقول ابن عمر لما رأى الناس يتنفلون في السفر: «لو كنتُ مسبَّحًا لأتممت» (3).
2 -
الجواز مطلقًا: وبه قال الجمهور، واستدلوا بالأحاديث العامة في ندب مطلق النوافل والرواتب، وبصلاة النبي صلى الله عليه وسلم الضحى يوم الفتح، وركعتي الفجر حين ناموا حتى طلعت الشمس.
3 -
جواز مطلق التطوع والمنع من الرواتب: وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وهو مذهب ابن عمر، فحملوا نفيه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم النافلة في السفر على الرواتب دون غيرها، عدا ركعتي الفجر، لما ثبت عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبِّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، ويومئ برأسه، وكان ابن عمر يفعله» (4).
(1)«فتح الباري» (2/ 674)، و «نيل الأوطار» (3/ 261)، و «زاد المعاد» (4738)، و «الفروع» لابن مفلح (2/ 59).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (1101)، ومسلم (689).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (689)، والترمذي (544).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1105)، ومسلم (700) بنحوه.
4 -
منع التطوع بالنهار دون الليل: واستدل له بحديث عبد الله بن عامر أن أباه أخبره «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى السُّبحة بالليل من السفر على ظهر راحلته حيث توجهت به» (1).
وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على الوتر في الحضر والسفر، قلت: لكن يعكر على هذا القول صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ضحَّى!!
5 -
منع التطوع بعد الفريضة، وجوازه قبلها وفي النوافل المطلقة: وهو مذهب البخاري في «صحيحه» واستظهره الحافظ، وقال:«والفرق بين ما قبلها وما بعدها أن التطوع قبلها لا يُظن أنه منها لأنه منفصل عنها بالإقامة وانتظار الإمام غالبًا ونحو ذلك، بخلاف ما بعدها فإنه في الغالب يتصل بها، فقد ظن أنه منها» اهـ.
قلت: والأصل في هذا ثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للركعتين قبل الفجر في السفر.
ثانيًا الجمع بين الصَّلاتَيْن:
تعريفه:
الجمع بين الصَّلاتين: هو أن يصلي الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء في وقت إحداهما، جمع تقديم أو جمع تأخير.
مشروعيته: والجمع بين الصلاتين جائز بإجماع العلماء، إلا أنهم اختلفوا في مُسوَّغات الجمع وصفته، على ما سيأتي تفصيله:
[1]
الجمع في السفر:
اختلف أهل العلم في حكم الجمع بين الصلاتين في السفر على قولين:
القول الأول: لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة بعرفة، وليلة المزدلفة بها: وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن مالك، وبه قال الحسن وابن سيرين (2)، واستدلوا بما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (3). وأن المواقيت ثبتت بالتواتر، فلا يجوز تركها لخبر الآحاد!!
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1104)، ومسلم (689) بنحوه.
(2)
«المبسوط» (1/ 235)، و «شرح المعاني» (1/ 162)، و «المدونة» (1/ 116)، و «المغنى» (2/ 200).
(3)
سورة النساء، الآية:103.
2 -
حديث ابن مسعود قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها» (1).
3 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس في نوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة» (2) قالوا: فجعل مناط التفريط وعدمه اليقظة والنوم، ولا دخل فيهما للإقامة والسفر، فاستوى المسافر والمقيم.
القول الثاني: يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء: وهو مذهب مالك [وقيَّده
باشتداد السير به] والشافعي وأحمد والثوري وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وهو مروي عن طائفة من الصحابة منهم معاذ وأبو موسى وابن عباس وابن عمر (3)، واستدلوا بما يلي:
1 -
حديث أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخرَّ الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب» (4).
2 -
حديث ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدَّ به السَّيْر» (5).
3 -
حديث ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر، إذا كان على ظهر سَيْرٍ، ويجمع بين المغرب والعشاء» (6).
4 -
حديث معاذ بن جبل «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء [فأخَّر الصلاة يومًا ثم خرج فصلَّى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج فصلَّى المغرب والعشاء جميعًا]» (7).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1682)، ومسلم (1289). صحيح: تقدم تخريجه.
(2)
صحيح: تقدم تخريجه.
(3)
«المدونة» (1/ 116)، و «بداية المجتهد» (1/ 248)، و «المجموع» (4/ 225)، و «المغنى» (2/ 200)، و «نيل الأوطار» (3/ 253).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1111)، ومسلم (704).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (1106)، ومسلم (45).
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (1107).
(7)
حسن: أخرجه مسلم (706)، وابن ماجه (1070)، بدون الزيادة، وأبو داود (1201)، والنسائي (1/ 285).
فهذه الأحاديث -وغيرها- تدل بظاهرها وعمومها على جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، سواء كان الجمع جمع تقديم أو تأخير.
وقد حملها أصحاب القول الأول على «الجمع الصوري» وهو أن يؤخر المغرب مثلًا إلى آخر وقتها ويُعجِّل العشاء أوَّل وقتها!! وتُعُقِّب: بأن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة، وأيضًا فإن الأخبار جاءت صريحة في وقت إحدى الصلاتين، وذلك هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع» (1).
وأما قولهم: لا نترك الأخبار المتواترة لهذه الأحاديث، فنقول: لا نتركها وإنما نخصصها بها،
وتخصيص المتواتر بالخبر الصحيح جائز بالإجماع (2).
وأما حديث ابن مسعود، فإن ظاهره غير مراد بالإجماع من وجهين: أنه صلى الله عليه وسلم قد جمع بين الظهر والعصر بعرفة، فلم يصح هذا الحصر، وأن أحدًا لم يقل بظاهره من إيقاع الصبح قبل وقتها، بل المراد: بالغ في تعجيلها.
ثم إن غير ابن مسعود قد حفظ جمعه صلى الله عليه وسلم في السفر بغير عرفة والمزدلفة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وهو قد نفى وغيره أثبت، والمثبت مقدَّم على النافي على أنه جاء عن ابن مسعود قوله:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر» (3).
[2]
الجمع في الحَضَر: لا يختص الجمع بين الصلاتين بحال السفر، بل يجوز الجمع في الحضر للأسباب الآتية:
(أ) الجمع في المطر:
يجوز جمع الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، في الحضر بسبب المطر عند الجمهور، إلا أن مالكًا خصَّ جوازه بالليل دون النهار!! لما يأتي:
1 -
حديث ابن عباس قال: «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، بالمدينة في غير خوف ولا مطر» (4) وهو يُشعر أن الجمع للمطر
(1)«فتح الباري» (2/ 675) ط. السلفية.
(2)
«المغنى» (2/ 201).
(3)
إسناده ضعيف: أخرجه أبو يعلى (5413)، والطبراني في «الكبير» (10/ 39)، و «الطحاوي» في «شرح المعاني» (1/ 160).
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (705)، وانظر «الإرواء» (579).
كان معروفًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن كذلك لما كان ثمة فائدة من نفي المطر كسبب مبرر للجمع (1).
2 -
عن نافع «أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم» (2).
3 -
عن هشام بن عروة «أن أباه عروة وسعيد بن المسيب وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين ولا ينكرون ذلك» (3).
4 -
عن موسى بن عقبة: «أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان
المطر
…
» (4).
(ب) الجمع للحاجة العارضة:
فعن ابن عباس قال: «صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قال [أبو كريب أو سعيد]: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرج أمته» (5).
وفي هذا رخصة لأهل الأعذار فيما يرفع عنهم الحرج دون غير أرباب الأعذار وهذا مذهب ابن سيرين، وأشهب من أصحابه مالك، وحكام الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن إسحاق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر وابن تيمية (6).
قال شيخ الإسلام: «
…
والصُّنَّاع والفلَاّحون، إذا كان في الوقت الخاص مشقة عليهم: مثل أن يكون الماء بعيدًا في فعل الصلاة، وإذا ذهبوا إليه وتطهروا تعطَّل العمل الذي يحتاجون إليه، فلهم أن يصلُّوا في الوقت المشترك فيجمعوا بين الصلاتين» اهـ (7).
(1)«إرواء الغليل» (3/ 40).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه مالك (333)، وعنه البيهقي (3/ 168).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 168)، وانظر «الإرواء» (3/ 40).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 168)، وانظر «الإرواء» (3/ 40).
(5)
صحيح: أخرجه مسلم (705)، وأحمد (1/ 223).
(6)
«مجموع الفتاوى» (24/ 25)، و «شرح مسلم» للنووي (2/ 3509)، و «القوانين» (75)، و «معالم السنن» (2/ 55).
(7)
«مجموع الفتاوى» (21/ 458).
ويجمع المريض: الذي يجد المشقة في الإتيان بكل صلاة في وقتها لحديث ابن عباس المتقدم، وقياسًا على المستحاضة، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حمنة بنت جحش وكانت تستحاض حيضة كثيرة شديدة بقوله: «فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتُعجِّلي العصر، ثم تغتسلين حين تطهرين، وتُصلِّين الظهر والعصر جميعًا، ثم تؤخرين المغرب، وتُعجلِّين العشاء، ثم تغتسلين، وتجمعين بين الصلاتين فافعلي
…
» (1).
وقد أجاز الجمع للمريض مالك وأحمد واختاره شيخ الإسلام، ومنعه الشافعي (2) والقول بالجواز ظاهر، والله أعلم.
هل تشترط الموالاة بين الصلاتين المجموعتين؟ (3).
1 -
إذا صلَاّهما في وقت الثانية (جمع التأخير): فإنه لا يشترط أن يوالي بين الصلاتين المجموعتين، بل له أن يفصل بينهما، فيصلي الظهر مثلًا في أول وقت العصر ثم يؤخر العصر قليلاً فيصليه قبل خروج وقته، وهذا مذهب الجمهور خلافًا لبعض الحنابلة.
2 -
إذا صلَاّهما في وقت الأولى (جمع تقديم): فذهب الجمهور إلى أنه يُشترط أن يصليهما من غير فصل، وخالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية: فقال: لا يشترط كذلك، وهو رواية عن أحمد وقول عند الشافعية، وهو الأقرب.
قال شيخ الإسلام: لا تشترط الموالاة بين المجموعتين بحال، لا في وقت الأولى، ولا في وقت الثانية، فإنه ليس لذلك حد في الشرع، ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة
…
والسنة جاءت بأوسع من هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم جمع في أول الوقت كما جمع بعرفة، وتارة جمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة، وفي بعض أسفاره، وتارة جمع بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولى، وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية.
(1) حسَّنه الألباني: أخرجه أبو داود (287)، والترمذي (128)، وابن ماجه (627)، وانظر «الإرواء» (188) والظاهر أن في تحسينه نظرًا.
(2)
«القوانين» (75)، و «المغنى» (2/ 112)، و «المجموع» (4/ 370).
(3)
«الخرشي» (2/ 70)، و «المجموع» (3/ 375)، و «الإنصاف» (2/ 342)، و «المغنى» (2/ 123)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 54 - 56).
وقد تقع هذه في هذا، وهذه في هذا، وكل هذا جائز، لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك، والتقديم والتوسط بسبب المصلحة.
الجمع بأذان وإقامتين:
السنة في الجمع بين الصلاتين الاقتصار على أذان واحد، والإقامة لكل واحد من الصلاتين، ففي حديث جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى الصلاتين بعرفة بأذان واحد وإقامتين، وأتى المزدلفة فصلَّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما، ثم اضطجع حتى طلع الفجر
…
» (1).
وعن ابن مسعود: «
…
فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريبًا من ذلك، فأمر رجلاً فأذَّن وأقام ثم صلَّى المغرب ..» وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتغشَّى ثم أمر أُرى فأذن وأقام ثم صلى العشاء ركعتين
…
» الحديث (2).
وإلى هذا ذهب الشافعي في القديم، وهو رواية عن أحمد، وابن حزم. بينما ذهب الشافعي في الجديد والثوري وأحمد في رواية إلى أنه يجمع بين الصلاتين بإقامتين فقط، وتمسكوا بحديث أسامة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبع الوضوء، ثم أقيمت الصلاة
فصلَّى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصلِّ بينهما شيئًا» (3).
والحق ما قاله الأوَّلون لأن حديث جابر مشتمل على زيادة الأذان وهي زيادة غير نافية فيتعيَّن قبولها (4) والله أعلم.
الترتيب بين الصلاتين المجموعتين:
يشترط الترتيب بين الصلاتين المجموعتين، لأن الشرع جاء بترتيب الأوقات في الصلوات فوجب أن تكون كل صلاة في المحل الذي رتبها الشارع فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي» .
لكن
…
لو نسي إنسان أو جهل، أو حضر قومًا يصلون العشاء -وقد نوى جمع التأخير- فصلى معهم العشاء ثم صلى المغرب، فهل تجزئه؟ قال الفقهاء: لا، ولا تصح منه العشاء، فيصلي العشاء ثانية بعد المغرب (5).
(1) صحيح: سيأتي بتمامه وتخريجه في «الحج» إن شاء الله.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (1675)، ومسلم (1289) بنحوه.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (1672)، ومسلم (1280)، وأحمد (5/ 263).
(4)
«نيل الأوطار» (3/ 263) ط. الحديث.
(5)
«الشرح الممتع» (4/ 572) بنحوه.