المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[أحوال الناس في المائة الأولى والثانية] - صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة - جـ ١

[كمال ابن السيد سالم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة فضيلة الشيخ/ فؤاد سراج عبد الغفار - حفظه الله

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌[المسلك في هذا الكتاب]

- ‌تمهيدنشأة علم الفقه

- ‌[الفقه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[عهد الصحابة رضي الله عنهم]

- ‌[أحوال الناس في المائة الأولى والثانية]

- ‌1 - كتاب الطهارة

- ‌تعريف الطهارة وأهميتها

- ‌أنواع الطهارة

- ‌أولاً الطهارة الحقيقية

- ‌هل يُعَدُّ المني طاهرًا أم نجسًا

- ‌هل تُعَدُّ الخمر من النجاسات

- ‌هل يعتبر الدم من النجاسات

- ‌هل «قيء الآدمي» نجس

- ‌الاستنجاء

- ‌بم يكون الاستنجاء

- ‌بعض الآداب في الاستنجاء

- ‌هل يجوز للرجل أن يبول قائمًا

- ‌سنن الفطرة

- ‌ الختان

- ‌السواك

- ‌إعفاء اللِّحية

- ‌ثانيًا الطهارة الحكمية:

- ‌الوضوء

- ‌أركان الوضوء

- ‌نواقض الوضوء

- ‌المسح على الحوائل

- ‌أولاً: المسح على الخفين:

- ‌ثانيًا: المسح على الجوربين والنعلين

- ‌ثالثًا: المسح على غطاء الرأس:

- ‌رابعًا: المسح على الجَبيرَة

- ‌مسائل تتعلق بالغسل

- ‌التيمُّم

- ‌نواقض التيمم

- ‌الحيض والنفاس

- ‌دم النفاس

- ‌دم الاستحاضة

- ‌2 - كتاب الصلاة

- ‌تعريف الصلاة

- ‌منزلتها من الدين:

- ‌الصلوات الخمس

- ‌الأحكام الدنيوية لتارك الصلاة:

- ‌عدد الفرائض:

- ‌عدد الركعات:

- ‌مواقيت الصلاة

- ‌مسائل تتعلق بمواقيت الصلاة

- ‌قضاء الصلوات الفائتة

- ‌الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

- ‌الأذان والإقامة

- ‌شروط صحة الصلاة

- ‌أركان الصلاة

- ‌واجبات الصلاة

- ‌سنن الصلاة

- ‌السنن الفعلية في الصلاة

- ‌أمور تباح في الصلاة

- ‌(أ) الأفعال المباحة في الصلاة:

- ‌(ب) الأقوال وما في معناها المباحة في الصلاة:

- ‌المنهيات في الصلاة

- ‌مبطلات الصلاة

- ‌القنوت في الفرائض

- ‌صلاة التطوُّع

- ‌صلاة الوتر

- ‌قيام الليل

- ‌صلاة الضُّحىَ

- ‌صلاة الاستخارة

- ‌صلاة التسبيح

- ‌صلاة تحية المسجد

- ‌صلاة التوبة

- ‌صلاة الكسوف

- ‌صلاة الاستسقاء

- ‌سجود التلاوة

- ‌سجود الشكر

- ‌سجود السَّهْو

- ‌الصلاة في السفر

- ‌صلاة الخَوْف

- ‌صلاة الجماعة

- ‌صلاة الجماعة في الفرائض

- ‌الإمامة وأحكامها

- ‌موقف الإمام والمأموم

- ‌الصفوف وأحكامها

- ‌مسائل تتعلق بصفة صلاة الجماعة

- ‌أحكام المَسْبُوق

- ‌ما يُفْعَل بعد انقضاء الصلاة

- ‌طرق من أحكام المساجد

- ‌صلاة الجمعة

- ‌أفعال المأمومين حال الخُطبة

- ‌أذان الجمعة

- ‌خطبة الجمعة وأحكام الخطيب

- ‌أفعال المأمومين حال الخُطبة

- ‌أفعال في صلاة الجمعة

- ‌مسائل متفرقة

- ‌صلاة العيدين

- ‌3 - كتاب الجنائز

- ‌ما يفعله الحاضرون للمُحْتَضَر:

- ‌غسل الميت:

- ‌من أولى الناس بغسل الميت

- ‌صفة المُغَسِّل

- ‌صفة غُسل الميت:

- ‌تكفين الميِّت

- ‌صفة الكفن:

- ‌حمل الجنازة واتبَّاعها

- ‌من آداب اتباع الجنائز:

- ‌صلاة الجنازة

- ‌أين يصلى على الجنازة

- ‌صلاة الجنازة على القبر:

- ‌أفعال صلاة الجنازة:

- ‌دفن الميت، وما يتبعه

- ‌صفة القبر:

- ‌من الذي يقوم بالدَّفن

- ‌تعزية أهل الميت

- ‌ما ينتفع به الميت بعد موته

- ‌زيارة القبور وما يتعلق بها

- ‌هل تشرع زيارة النساء للقبور

- ‌من الأذكار الثابتة عند زيارة القبور:

الفصل: ‌[أحوال الناس في المائة الأولى والثانية]

خصومهم، ونصبوها ذريعة للخوض والجدال يتناظرون بها، ويتلاطمون عليها، وعند التصادر عنها قد حكم الغالب بالحذق والتبريز فهو الفقيه المذكور في عصره، والرئيس المعظم في بلده ومصره. هذا وقد وسوس لهم الشيطان حيلة لطيفة، وبلغ منهم مكيدة بليغة فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير وبضاعة مزجاة فإن تفي بمبلغ الحاجة والكفاية، فاستعينوا عليه بالكلام، وصلوه بمقطعات منه، واستظهروا بأصول المتكلمين يتسع للمرء مذهب الخوض ومجال النظر، فصدق عليهم إبليس ظنه، وأطاعه كثير منهم واتبعوه، إلا فريقًا من المؤمنين، فيا للرجال والعقول أين يذهب بهم، وأنى يخدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم، والله المستعان، انتهى كلام الخطابي.

[أحوال الناس في المائة الأولى والثانية]

اعلم أن الناس كانوا في المائة الأولى والثانية غير مجمعين على التقليد لمذهب واحد بعينه، قال أبو طالب المكي في «قوت القلوب»:«إن الكتب والمجموعات محدثة، والقول بمقالات الناس والفتيا بمذهب الواحد من الناس، واتخاذ قوله، والحكاية له في كل شيء، والتفقه على مذهبه، لم يكن الناس على ذلك في القرنين الأول والثاني» اهـ.

وقال ابن الهمام في «التحرير» : «وكانوا يستفتون مرة واحدًا، ومرة غيره، غير ملتزمين بفتيا واحد» اهـ.

وأما العلماء فكانوا على مرتبتين: منهم من أمعن في تتبع الكتاب والسنة والآثار حتى حصل له ملكة إفتاء الناس وإجابتهم في غالب الوقائع بحيث يكون جوابه أكثر مما يتوقف فيه، ويُخص باسم «المجتهد» .

ومنهم من حصل له من معرفة القرآن والسنن ما يتمكن به من معرفة رءوس الفقه وأمهات مسائله بأدلتها التفصيلية، وحصل له غالب الرأي ببعض المسائل الأخرى من أدلتها، وتوقف في بعضها، واحتاج في ذلك إلى مشاورة العلماء لأنه لم تتكامل له الأدوات كما تتكامل للمجتهد المطلق، فهو مجتهد في العبض غير متجهد في البعض، وقد تواتر عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا إذا بلغهم الحديث يعلمون به من غير أن يلاحظوا شرطًا.

ص: 27

[ظهور التمذهب للمجتهدين بعد المائة الثانية]

وبعد المائتين ظهر فيهم التمذهب للمجتهدين بأعيانهم، وقلَّ من كان لا يعتمد على مذهب مجتهد بعينه، وقد كان المشتغل بالفقه لا يخلو عن حالتين:

1 -

إما أن يكون أكبر همه معرفة المسائل التي أجاب فيها المجتهدون من قبل من أدلتها التفصيلية ونقدها وتنقيحها وترجيح بعضها على بعض، ولابد له من أن يستحسن شيئًا مما سبق إليه إمامه ويستدرك عليه شيئًا، فإن كان استدراكه أقل من موافقته عُدَّ من أصحاب الوجوه في المذهب، وإن كان أكثر لم يُعدَّ تفرُّده وجهًا في المذهب، وكان مع ذلك منتسبًا إلى صاحب المذهب في الجملة، ممتازًا عمن يأسى بإمام آخر في كثير من أصول مذهبه وفروعه، ويوجد لمثل هذا بعض مجتهدات لم يسبق بالجواب فيها، إذ الوقائع متتالية، والباب مفتوح، فيأخذها من الكتاب والسنة وآثار السلف من غير اعتماد على إمامه، ولكنها قليلة بالنسبة إلى ما سبق بالجواب فيه، وهذا هو المجتهد المطلق المنتسب.

2 -

وإما أن يكون أكبر همه معرفة المسائل التي يستفته فيها المستفتون مما لم يتكلم فيه المتقدمون، وهذا حاجته إلى إمام يتأسى به في الأصول الممهدة في كل باب أشد من حاجة الأول، لأن مسائل الفقه متعانقة متشابكة، فروعها تتعلق بإمامتها، فلو ابتدأ هذا بنقد مذاهبهم وتنقيح أقوالهم لكان ملتزمًا لما لا يطيقه، ولا يتفرغ منه طول عمره، فلا سبيل إلا أن يحمل النظر فيما سبق فيه ويتفرغ للتفاريع، وقد يوجد لمثل هذا استدراكات على إمامه بالكتاب والسنة وآثار السلف والقياس لكنها قليلة بالنسبة إلى موافقاته، وهذا هو «المجتهد في المذهب» .

[ما حدث في الناس بعد المائة الرابعة]

ثم بعد هذه القرون كان ناس آخرون ذهبوا يمينًا وشمالاً، وحدث فيهم أمور منها:

- الجدل والخلاف في علم الفقه وتفصيله على ما ذكره الغزالي: أنه لما انقرض عهد الخُلفاء الراشدين المهديين أفضت الخلافة إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطر إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم، وقد كان بقي من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صف الدين، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى

ص: 28

أهل تلك الأعصار غير العلماء وإقبال الأئمة عليهم مع إعراضهم، فانبروا لطلب العلم توصلاً إلى نيل العز ودرك الجاه.

وقد كان من قبلهم قد صنَّف ناس في علم الكلام وأكثر القيل والقال، والإيراد والجواب، وتمهيد طريق الجدال، ووقع منهم ذلك بموقع.

- ومنها أنهم اطمأنوا بالتقليد، ودب في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون، وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم، فقد كان كل من أفتى بشيء نوقض في فتواه ورد عليه، فلم ينقطع الكلام إلا بالمصير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة، وأيضًا فإنه لما جاء أكثر القضاة ولم يكونوا أُمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يرتب العامة فيه، ويكون شيئًا قد قيل من قبل.

وقد اختصر هؤلاء كلام أئمتهم في الدعوة إلى نبذ التقليد والعمل بالكتاب والسنة وتأوَّلوا الخلاف، وثبتوا على مختار أئمتهم، فنشأ بعدهم قرون على التقليد الصرف لا يميزون الحق من الباطل ولا الجدل من الاستنباط، وشاع فيهم التعصُّب للمذاهب والتي نشأ عنها افتراق الكلمة، وتضليل بعضهم البعض حتى كان بعضهم ليرى خروج الإنسان من مذهب من قلَّده- ولو في مسألة- كالخروج من الملة، كأنه نبي بُعث إليه، وافترضت طاعته عليه!!، فظهر من يُفتي بعدم جواز اقتداء الحنفي بإمام شافعي!! بل وبعدم تزوُّج الحنفي من الشافعية!! ويجوز ذلك آخرون قياسًا على الكتابية!!.

فحدثت من هذه البدع هذه المقامات الأربعة في المسجد الحرام (1)، فتعددت الجماعة وانتصر كل متمذهب لجماعة مذهبه، فبأمثال هذه البدع حصل إبليس مقصدًا من مقاصده، ألا وهو تقرير المسلمين وتشتيت شملهم، نعوذ بالله من ذلك.

ولم يأت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتنة وأوفر تقليدًا وأشد انتزاعًا للأمانة من صدور الناس، حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين، وبأ، يقولوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (2) وإلى الله المشتكى وهو المستعان، وبه الثقة وعليه التكلان.

(1) هذا ذكره المعصومي في «هدية السلطان» ص (48).

(2)

سورة الزخرف، الآية:23.

ص: 29

ومع ذلك فإن لله طائفة من عباده لا يضرهم من خذلهم، وهم حجة الله في أرضه وإن قلُّوا، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

وبعد هذا العرض لنشأة المذاهب الفقهية واختلافها، أُنَبِّه تنبيهات لعله أن ينفع الله بها من شاء من عباده.

[الأول: وجوب العمل بالكتاب والسنة](1)

اعلم أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى قد تضافرت بإلزام جميع المكلفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (2) والمراد بما أنزل إليكم هو القرآن والسنة المبينة له لا آراء الرجال.

وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} (3).

فدلت هذه الآية الكريمة أن من دُعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصد عن ذلك، أنه من جملة المنافقين، لأن العبرة بعموم الألفاظ فإن بخصوص الأسباب.

وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (4) الآية، والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى سنته

وتعليقه الإيمان في قوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (5) على رد التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله، يفهم منه أن من يرد التنازع إلى غيرهما لم يكن يؤمن بالله.

وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (6).

(1)«أضواء البيان» (7/ 479 - 485).

(2)

سورة الأعراف، الآية:3.

(3)

سورة النساء، الآية:61.

(4)

سورة النساء، الآية:59.

(5)

سورة النساء، الآية:59.

(6)

سورة الزمر، الآية:55.

ص: 30

ولا شك أن القرآن أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، والسنة مبينة له، وقد هدد من لم يتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا بقوله:{مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (1).

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (2) ولا شك أن كتاب الله وسنة رسوله أحسن من آراء الرجال.

وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) فيه تهديد شديد لمن لم يعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما إن كان يظن أن أقوال الرجال تكفي عنها.

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (5)، والأسوة: الاقتداء.

فيلزم المسلم أن يجعل قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك باتباع سنته.

وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (6)، وقد أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما اختلفوا فيه.

وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (7).

والاستجابة له صلى الله عليه وسلم بعد وفاته هي الرجوع إلى سنته صلى الله عليه وسلم، وهي مبينة لكتاب الله.

وقد جاء في القرآن العظيم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتبع شيئًا إلا الوحي.

وأن من أطاعه صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله.

(1) سورة الزمر، الآية:55.

(2)

سورة الزمر، الآية:18.

(3)

سورة الحشر، الآية:7.

(4)

سورة الحشر، الآية:7.

(5)

سورة الأحزاب، الآية:21.

(6)

سورة النساء، الآية:65.

(7)

سورة القصص، الآية:50.

ص: 31

قال تعالى في سورة يونس: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (1).

وقال تعالى في الأنعام: {قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (2).

وقال تعالى في الأحقاف: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (3).

وقال تعالى في الأنبياء: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ} (4) الآية، فحصر الإنذار في الوحي دون غيره.

وقال تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} (5) فبين أن الاهتداء إنما هو بالوحي، والآيات بمثل هذا كثيرة.

وإذا علمت منها أن طريقه صلى الله عليه وسلم هي اتباع الوحي، فاعلم أن القرآن دل على أن من أطاعه صلى الله عليه وسلم فهو مطيع لله.

كما قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6) وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (7) الآية.

ولم يضمن الله لأحد ألا يكون ضالاً في الدنيا ولا شقيًّا في الآخرة إلا لمتبعي الوحي وحده.

قال تعالى في طه: {فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (8)، وقد دلت آية طه هذه على انتفاء الضلال والشقاوة عن متبعي الوحي.

ودلت آية البقرة على انتفاء الخوف والحزن عنه، وذلك في قوله تعالى:{فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (9).

(1) سورة يونس، الآية:15.

(2)

سورة الأنعام، الآية:50.

(3)

سورة الأحقاف، الآية:9.

(4)

سورة الأنبياء، الآية:45.

(5)

سورة سبأ، الآية:50.

(6)

سورة النساء، الآية:80.

(7)

سورة آل عمران، الآية:31.

(8)

سورة طه، الآية:123.

(9)

سورة البقرة، الآية:38.

ص: 32

ولا شك أن انتفاء الضلال والشقاوة والخوف والحزن عن متبعي الوحي، المصرح به في القرآن، لا يتحقق فيمن يقلد عالمًا ليس بمعصوم، لا يدري أصواب ما قلده فيه أم خطأ، في حال كونه معرضًا عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولا سيما إن كان يظن أن آراء العالم الذي قلده كافية مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والآيات القرآنية الدالة على لزوم اتباع الوحي والعمل به، لا تكاد تحصى، وكذلك الأحاديث النبوية الدالة على لزوم العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا تكاد تحصى، لأن طاعة الرسول طاعة لله.

وقد قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)، وقال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2).

وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (3).

وقال: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} (4) الآية.

وقال تعالى: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (5).

وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (6).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (7) الآية.

وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (8).

(1) سورة الحشر، الآية:7.

(2)

سورة آل عمرن، الآية:132.

(3)

سورة آل عمرن، الآية:132.

(4)

سورة النساء، الآية:69.

(5)

سورة الأحزاب، الآية:71.

(6)

سورة النساء، الآية:80.

(7)

سورة النساء، الآيتان:59.

(8)

سورة النساء، الآية: 13، 14.

ص: 33

وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1).

وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (2).

وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (3).

وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (5).

وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (6).

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (7) الآية.

وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (8) الآية.

ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي، محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فنصوص القرآن والسنة كلها دالة على لزوم تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل به.

فتخصيص تلك النصوص كلها، بدعوى أن تدبر الوحي وتفهمه والعمل به

(1) سورة المائدة، الآية:92.

(2)

سورة الأنفال، الآية:1.

(3)

سورة النور، الآية:54.

(4)

سورة النور، الآية:56.

(5)

سورة محمد، الآية:33.

(6)

سورة النور، الآيتان: 51، 52.

(7)

سورة الأحزاب، الآية:21.

(8)

سورة التوبة، الآية:71.

ص: 34

لا يصح شيء منه لخصوص المجتهدين، الجامعين لشروط الاجتهاد المعروفة عند متأخري الأصوليين يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه.

ولا دليل على ذلك البتة.

بل أدلة الكتاب والسنة دالة على وجوب تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل بكل ما علم منه، علمًا صحيحًا قليلاً كان أو كثيرًا. اهـ.

وكذلك كان الصحابة رضي الله عنه لا يدعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد كائنًا من كان، وكان ابن عباس يقول:«يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!» .

وكان الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إذا لم يكن لهما علم في المسألة يسألان الناس عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بكر رضي الله عنه: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها شيئًا- يعنى الجدة-وسأل الناس، فلما صلى الظهر قال: أيكم سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة شيئًا؟ فقال المغيرة بن شعبة: أنا، قال: ماذا قال؟ قال: أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسًا، قال: أيعلم ذلك أحد غيرك؟ فقال محمد بن مسلمة: صدق، فأعطاها أبو بكر السدس، وقصة سؤال عمر الناس في الغُرة ثم رجوعه إلى خبر المغيرة، وسؤاله إياهم في الوباء، ورجوعه إلى خبر عبد الرحمن ابن عوف، وغير ذلك ما هو كثير معلوم مروى في كتب السنة.

[التنبيه الثاني: الموقف من الأئمة المتبوعين]

أعلم أن مواقفنا من الأئمة- رحمهم الله الأربعة وغيرهم، هو موقف سائر المسلمين المنصفين منهم، وهو موالاتهم ومحبتهم وتعظيمهم وإجلالهم والثناء عليهم بما هم عليه من العلم والتقوى، واتباعهم في العمل بالكتاب والسنة، وتقديمها على رأيهم، وتعلم أقوالهم للاستعانة بها على الحق وترك ما خالف الكتاب والسنة منها، وأما المسائل التي لا نص فيها، فالصواب النظر في اجتهادهم فيها، وقد يكون اتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا، لأنهم أكثر علمًا وتقوى منا، ولكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضا الله وأحوطها وأبعدها من الاشتباه (1).

(1)«أضواء البيان» (7/ 555).

ص: 35

ولتقريب هذا الموقف أحب أن ألقى الضوء على بعض الأمور:

(1)

اعلم أن الأئمة- رحمهم الله ليسوا معصومين وكل من الأئمة أُخذت عليه مسائل، قال العلماء: إنه خالف فيها السنة.

فهذا أبو حنيفة- رحمه الله وهو أكثرهم في ذلك لأنه أكثرهم رأيًا- يترك العمل بحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأموال، وبحديث تغريب الزاني البكر وغير ذلك.

وأخذ على مالك إنكاره صيام الست من شوال، واستحسانه صيام الجمعة ولو مفردًا، لأنه لم يبلغه السنة فيهما، وترك مالك العمل بحديث خيار المجلس، وهو متفق عليه!! إلى غير ذلك.

وأخذ علي الشافعي قوله بنقض الوضوء من مجرد لمس المرأة بدون حائل، مع ورود ما يخالفه في السنة، على أن له أجوبة عليها.

وأخذ على أحمد: صوم يوم الشك احتياطًا لرمضان مع ورود النص بالنهى عن صومه، وغير ذلك.

وليس المقصود هنا انتقاص الأئمة وعيبهم فيما أخذ عليهم، لأنهم- رحمهم الله بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اجتهدوا بحسب طاقتهم، فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته، والمخطئ منهم مأجور في اجتهاده معذور في خطأه، وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجب تقديمها على أقوالهم، لأنهم غير معصومين من الخطأ (1).

(2)

ليُعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًّا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول جاء حديث صحيح بخلافه فلابد له من عذر في تركه (2).

(1) انظر «أضواء البيان» (7/ 556 - 576).

(2)

«رفع الملام عن الأئمة الأعلام» من «مجموع الفتاوى» (20/ 232).

ص: 36

(3)

أن أعذار الأئمة- رحمهم الله في مخالفة السنة، ثلاثة أصناف (1):

الأول: عدم اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله: وهذا له أسباب:

1 -

أن لا يكون الحديث قد بلغه أصلاً، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالمًا بموجبه، وإذا لم يكن بلغه وقال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو استصحاب، فقد يوافق ذلك الحديث تارة ويخالفه أخرى، وهذا هو السبب الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفًا لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الأمة (2).

2 -

أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده.

3 -

أن يعتقد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر، سواء كان الصواب معه أو مع غيره.

4 -

أن يشترط في خبر الواحد العدل الضابط شروطًا يخالفه فيها غيره، كاشتراط أن يكون فقيهًا إذا خالف قياس الأصول وغير ذلك.

5 -

أن يكون الحديث قد بلغه، وثبت عنده، لكن نسيه.

الصنف الثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول، ولهذا أسباب منها:

1 -

عدم معرفة بدلالة الحديث: تارة لكون اللفظ في الحديث غريبًا عنده ومما يختلف العلماء في تفسيره، وتارة لكون معناه في لغته وعرفه غير معناه في لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة لكون اللفظ مشتركًا مجملاً، أو متردداً بين حقيقة ومجاز، فيحمله على الأقرب عنده، وإن كان المراد هو الآخر، كما حمل جماعة من الصحابة في أول الأمر: الخيط الأبيض والخيط الأسود على الحبل وغير ذلك.

وتارة لكون الدلالة من النص خفية، فإن دلالات الأقوال متسعة جدًّا، وإدراك وفهم وجوه الكلام متفاوت.

2 -

اعتقاده أنه لا دلالة في الحديث أصلاً، والفرق ببن هذا وبين الذي قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة، وهذا عرفها لكنه لم يعتقد أنها دلالة صحيحة.

(1) انظر «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» مع «مجموع الفتاوى» (20/ 231 - 290).

(2)

انظر أمثلة وقوع ذلك في الصحابة وغيرهم في المصدر السابق (20/ 234 - 238).

ص: 37

3 -

اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دلَّ على أنها ليست مرادة: مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفى الوجوب، أو غير ذلك عن المعارضات.

الصنف الثالث: اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على نسخه أو تأويله مما لا يعتقده غيره، أو لا يكون في الحقيقة معارضًا راجحًا.

فهذه الأسباب وغيرها أكثر ما قد يُعذر الإمام مخالفته الحديث من أجله، وهي في الحقيقة أسباب اختلافهم، رحمهم الله.

(4)

وإذا تقرر هذا، فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم؛ إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة وإن كان أعلم، إذ تطرُّق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية، فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده بخلاف رأي العالم، والدليل الشرعي يمتنع أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر، ورأى العالم ليس كذلك، والغرض أن العالم قد يكون في نفسه معذورًا في تركه للحديث، ونحن معذورون في تركنا لهذا الترك، وقد قال سبحانه:{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقال سبحانه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2).

وإذا كان الترك يكون لبعض هذه الأسباب (المتقدمة) فإذا جاء حديث صحيح فيه تحليل أو تحريم أو حكم، فلا يجور أن نعتقد أن التارك له من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم- يُعاقب، لكونه حلل الحرام أو حرَّم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله، وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل من لعنة أو غضب أو عذاب ونحو ذلك، فلا يجوز أن يقال: إن ذلك العالم الذي أباح هذا أو فعله داخل في هذا الوعيد، وهذا مما لا نعلم بين الأمة فيه خلافًا إلا شيئًا يحكى عن بعض معتزلة بغداد

فمن لم يبلغه الحديث المحرِّم واستند في الإباحة إلى دليل شرعي أولى أن يكون معذورًا، ولهذا كان هذا مأجورًا محمودًا لأجل اجتهاده،

(1) سورة البقرة، الآية:134.

(2)

سورة النساء، الآية:59.

ص: 38

قال الله سبحانه: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ....} (1){فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (2) فاختص سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعلم.

وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (3) فتبَّين أن المجتهد مع خطئه له أجر، وذلك لأجل اجتهاده، وخطؤه مغفور له، لأن درك الصواب في جميع أعيان الأحكام إما متعذر أو متعسر، وقد قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4) وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (5).

5 -

الأئمة متفقون على منع تقليدهم، التقليد الأعمى الذي يتعصب له من يدَّعون أنهم أتباعهم، ويتمسكون بمذاهبهم وأقوالهم كما لو كانت نزلت من السماء، والله عز وجل يقول:{اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (6)(7).

وإليك بعض ما وقفنا عليه من أقوالهم رحمهم الله في ذلك (8):

1 -

أبو حنيفة رحمه الله:

فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله وقد روى عنه أصحابه أقوالاً شتى وعبارات متنوعة؛ كلها تؤدى إلى شيء واحد وهو: وجوب الأخذ بالحديث، وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة له:

1 -

«إذا صح الحديث فهو مذهبي» .

2 -

«لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه» .

وفى رواية: «حرام على مَن لم يعرف دليلي أن يفتى بكلامي» .

(1) سورة الأنبياء، الآية:78.

(2)

سورة الأنبياء، الآية:79.

(3)

صحيح. أخرجه البخاري، ومسلم.

(4)

سورة الحج، الآية:78.

(5)

سورة البقرة، الآية:185.

(6)

سورة الأعراف، الآية:3.

(7)

«رفع الملام» من «الفتاوى» (20/ 250 - 252) بتصرف يسير.

(8)

من مقدمة «صفة صلاة النبي» للعلامة الألباني رحمه الله (ص 46 - 57).

ص: 39

زاد في رواية: «فإننا بشر، نقول القول اليوم ونرجع عنه غدًا» .

وفى أخرى: «ويحك يا يعقوب! (هو أبو يوسف)، لا تكتب كل ما تسمع منى، فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدًا، وأرى الرأي غدًا وأتركه بعد غد» .

3 -

«إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فاتركوا قولي» .

2 -

مالك بن أنس رحمه الله:

وأما الإمام مالك بن أنس- رحمه الله فقال:

1 -

«إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه» .

2 -

«ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم» .

3 -

قال ابن وهب: سمعت مالكًا سئل تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خفَّ الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبى عبد الرحمن الحبلى عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلُك بخنصره ما بين أصابع رجليه- فقال: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة. ثم سمعته بعد ذلك يُسأل، فيأمر بتخليل الأصابع».

3 -

الشافعي، رحمه الله:

وأما الإمام الشافعي رحمه الله فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب، وأتباعه أكثر عملاً بها وأسعد، فمنها:

1 -

«ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلتُ من قول، أو أصلَّتُ من أصل في عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت؛ فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي» .

2 -

«أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد» .

ص: 40

3 -

«إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا ما قلت» . وفى رواية: «فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى قول أحد» .

4 -

«إذا صح الحديث فهو مذهبي» .

5 -

«أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث الصحيح؛ فأعلموني به أي شيء يكون: كوفيًّا أو بصريًّا أو شاميًّا؛ حتى أذهب إليه إذا كان صحيحًا» .

6 -

«كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت؛ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي» .

7 -

«إذا رأيتموني أقول قولاً، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه؛ فاعلموا أن عقلي قد ذهب» .

8 -

«كل ما قلت؛ فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي أولى، فلا تقلدوني» .

9 -

«كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي، وإن لم تسمعوه منى» .

4 -

أحمد بن حنبل، رحمه الله:

وأما الإمام أحمد؛ فهو أكثر الأئمة جمعًا للسنة وتمسكًا بها، حتى «كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي» ، ولذلك قال:

1 -

«لا تقلدني، ولا تقليد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا» .

وفى رواية: «لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعدُ الرجلُ فيه مخير» . وقال مرة: «الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعد التابعين مخير» .

2 -

«رأى الأوزاعي، ورأى مالك، ورأى أبى حنيفة كله رأى، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار» .

3 -

«من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو على شفا هلكة» .

تلك هي أقوال الأئمة- رضي الله تعالى عنهم- في الأمر بالتمسك بالحديث، والنهى عن تقليدهم دون بصيرة، وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلاً ولا تأويلاً، وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال

ص: 41

الأئمة؛ لا يكون مباينًا لمذهبهم، ولا خارجًا عن طريقتهم، بل هو متاع لهم جميعًا، ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالفتها لقولهم، بل هو بذلك عاصٍ لهم، ومخالف لأقوالهم المتقدمة، والله تعالى يقول:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (1) وقال {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2).

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:

«فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة، وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأى عظيم من الأمة؛ فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدي به من رأى أي معظَّم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ، ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد، لا بغضًا له؛ بل هو محبوب عندهم معظَّم في نفوسهم، لكن رسول الله أحب إليهم، وأمره فوق أمر كل مخلوق، فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره؛ فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورًا له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه» .

قلت: كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر، وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة؟ بل أن الشافعي- رحمه الله أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ بها، أو أخذ بخلافها، ولذلك لما جمع المحقق ابن دقيق العيد- رحمه الله المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث الصحيح فيها انفرادًا واجتماعًا في مجلد ضخم؛ قال في أوله:

«إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام، وإنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها؛ لئلا يعزوها إليهم فيكذبوا عليهم» .

(1) سورة النساء، الآية:65.

(2)

سورة النساء، الآية:63.

ص: 42

ترك الأتباع بعض أقوال أئمتهم اتباعًا للسنة

ولذلك كله كان أتباع الأئمة {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (1) لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها، بل قد تركوا كثيرًا منها لمَّا ظهر لهم مخالفتها للسنة حتى أن الإمامين: محمد بن الحسن وأبا يوسف- رحمهما الله- قد خالفا شيخهما أبا حنيفة في نحو ثلث المذهب، وكتب الفروع كفيلة ببيان ذلك، ونحو هذا يقال في الإمام المزني وغيره من أتباع الشافعي وغيره، ولو ذهبنا نضرب على ذلك الأمثلة لطال بنا الكلام، ولخرجنا به عما قصدنا إله في هذا البحث من الإيجاز، فلنقتصر على مثالين اثنين:

1 -

قال الإمام محمد في «موطئه» (ص 158): «قال محمد: أما أبو حنيفة رحمه الله فكان يرى في الاستسقاء صلاة، وأما في قولنا، فإن الإمام يصلى بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه» إلخ.

2 -

وهذا عصام بن يوسف البلخي من أصحاب الإمام محمد ومن الملازمين للإمام أبى يوسف «كان يفتى بخلاف قول الإمام أبى حنيفة كثيرًا، لأنه لم يعلم الدليل، وكان يظهر له دليل غيره فيفتى به» ، ولذلك «كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه» ؛ كما هو في السنة المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم، فلم يمنعه من العمل بها أن أئمته الأربعة وغيرهم كما تقدم.

(6)

هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين؟

لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ألزم الناس أن يلتزموا مذهب واحد من الأئمة بعينه، وإنما أوجب اتباعه صلى الله عليه وسلم، فإن الحق محصور فيما جاء به فإذا تأمل المنصف يظهر له أن التقليد لمذهب إمام معين من غير نظر إلى دليل جهل عظيم وبلاء جسيم، بل إنه مجرد هوى وعصبية، والأئمة المجتهدون قاطبة على خلافه، كما رأيت كلامهم، فمن اتبع الدليل فقد اتبع إمامه وسائر الأئمة ويكون متبعًا لكتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون خارجًا عن مذهبهم إذا صمم وجمد على التقليد على خلاف الدليل، لأن إمامه لو بلغه الحديث السالم عن المعارض، لترك

(1) سورة الواقعة، الآيتان: 13، 14.

ص: 43

رأيه واتبع الحديث، فالمصمم على التقليد في هذه الحالة عاصٍ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم متبع لهواه (1) {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (2) وقال تعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً} (3).

قال ابن حزم رحمه الله (4).

«التقليد حرام ولا يحل لأحد أن يأخذ بقول أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا برهان لقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (5)، وقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} . (6)

وقال مادحًا لمن لم يقلد: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (7) وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (8) فلم يبح الله تعالى رد التنازع إلى أحد دون القرآن والسنة، وقد صح إجماع الصحابة كلهم أولهم عن آخرهم وإجماع التابعين أولهم عن آخرهم وإجماع تابعي التابعين أولهم عن آخره - على الامتناع والمنع من أن يقصد منهم أحد إلى قول إنسان منهم أو ممن قبلهم فيأخده كله.

فليعلم من أخذ بجميع أقوال أبى حنيفة أو جميع أقوال مالك أو جميع أقوال الشافعي أو جميع أقوال أحمد رضي الله عنهم ولم يترك قول من اتبع منهم أو من غيرهم إلى قول غيره، ولم يعتمد على ما جاء في القرآن والسنة وغير صارف ذلك إلى قول إنسان بعينه - أنه قد خالف إجماع الأمة كلها أولها عن آخرها بيقين لا إشكال فيه، وأنه لا يجد لنفسه سلفًا ولا إنسانًا في جميع الأعصار المحمودة

(1)«هدية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان» للمعصومي، تحقيق سليم الهلالي (ص 76).

(2)

سورة الجاثية، الآية:23.

(3)

سورة النساء، الآية:59.

(4)

نقله عنه الدهلوي في «حجة الله البالغة» (1/ 154 - 155) ولم أظفر به عاليًا في مظانه من «المحلى» أو «الإحكام» !!.

(5)

سورة الأعراف، الآية:3.

(6)

سورة البقرة، الآية:170.

(7)

سورة الزمر، الآيتان: 17، 18.

(8)

سورة النساء، الآية:59.

ص: 44

الثلاثة، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين من هذه المنزلة، وأيضًا فإن هؤلاء الفقهاء كلهم قد نهوا عن تقليد غيرهم فقد خالفهم من قلدهم» اهـ.

قال المعصومي (1): والعجب من هؤلاء المقلدين لهذه المذاهب المبتدعة الشائعة والمتعصبين لها، فإن أحدهم يتبع ما نُسب إلى مذهبه مع بُعده عن الدليل، ويعتقده كأنه نبي مرسل، وهذا ناى عن الحق، وبُعد عن الصواب، وقد شاهدنا وجربنا أن هؤلاء المقلدين يعتقدون أن إمامهم يمتنع على مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب البتة، وأضمر في قلبه أنه لا يترك تقليده وإن ظهر الدليل على خلافه، وهذا هو طبق ما رواه الترمذي وغيره عن عدى بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (2)، فقلت: يا رسول الله، إنهم ما كانوا يعبدونهم، فقال صلى الله عليه وسلم:«إنهم إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه، فذلك عبادتهم» (3) اهـ.

ونقل عن الشافعي قوله (4): «من قلَّد معيَّنًا في تحريم شيء أو تحليله، وقد ثبت الحديث على خلافه، ومنعه التقليد عن العمل بالسنة؛ فقد اتخذ من قلَّده ربًّا من دون الله تعالى يحل له ما حرم الله، ويحرم عليه ما أحل الله» اهـ.

ونقل المرداوى (5) عن شيخ الإسلام قوله: «من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب وإلا قُتل، لأن هذا الإيجاب إشراك بالله في التشريع الذي هو من خصائص الربوبية» اهـ.

وقد ذكر الكمال بن الهمام الحنفي: أن التزام مذهب معين غير لازم على الصحيح، لأن التزامه غير ملزم، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة

(1)«هدية السلطان» (ص: 52 - 53).

(2)

سورة التوبة، الآية:31.

(3)

حسنه الألباني. أخرجه الترمذي والبيهقي (10/ 116) بسند ضعيف وله شاهد موقوف على حذيفة وآخر مرسل، وبهما حسنه الألباني في تخريجه للمصطلحات الأربعة ص (18 - 20).

(4)

«هدية السلطان» (ص 69).

(5)

«الإنصاف» للمرداوي (11/ 170).

ص: 45

فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بلزوم التمذهب بمذهب معين. اهـ (1).

وقال القرافي- رحمه الله: «وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكل وعمر، وقلدهما، فله أن يستفتى آبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما، ويعمل بقولهم بغير نكير» اهـ (2).

«فلم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع أقواله فلم يُسقط منها شيئًا، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئًا.

ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين، ولا تابعي التابعين، فليُكذِّبنا المقلِّدون برجل واحد، سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه صلى الله عليه وسلم اهـ (3).

ورحم الله الإمام مالك إمام دار الهجرة المجمع على علمه وفضله وجلاله، لما أراد المنصور أن يحمل الناس على العمل بما جمع في «الموطأ» لم يقبل ذلك منه، ورده عليه!!

(7)

قضيتان اغترَّ بهما المقلِّدون (4):

اعلم أن المقلدين، اغتروا بقضيتين ظنوهما صادقتين، وهما بعيدتان من الصدق. وظن صدقهما يدخل أوليًّا في عموم قوله تعالى:{إَنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} (5)، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» .

أما الأولى منهما فهي ظنهم أن الإمام الذي قلدوه لابد أن يكون قد اطلع على جميع معاني كتاب الله، ولم يفته منها شيء وعلى جميع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفته منها شيء.

(1)«هدية السلطان» (ص 56).

(2)

«أضواء البيان» (7/ 488).

(3)

«أضواء البيان» (7/ 509).

(4)

«أضواء البيان» للشنقيطي (7/ 533 - 539).

(5)

سورة يونس، الآية:36.

ص: 46

ولذلك فإن كل آية وكل حديث قد خالفا قوله فلا شك عندهم أن ذلك الإمام اطلع على تلك الآية وعلم معناها، وعلى ذلك الحديث وعلم معناه. وأنه ما ترك العمل بهما إلا لأنه اطلع على ما هو أقوى منهما وأرجح.

ولذلك يجب تقديم ذلك الأرجح الذي تخيلوه شيئًا من الوحي الموجود بين أيديهم.

وهذا الظن كذلك باطل بلا شك.

والأئمة كلهم معترفون بأنهم ما أحاطوا بجميع نصوص الوحي، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله.

ومِن أصرح ذلك أن الإمام مالكًا- رحمه الله إمام دار الهجرة المجمع على علمه وفضله وجلالته، لما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما جمعه في موطئه لم يقبل ذلك من أبى جعفر ورده عليه. وأخبره أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في أقطار الدنيا، كلهم عنده علم ليس عند الآخر.

ولم يُجمع الحديث جمعًا تامًا بحيث أمكن جمع جميع السنة إلا بعد الأئمة الأربعة.

لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تفرقوا في أقطار الدنيا روى عنهم كثير من ألأحاديث لم يكن عند غيرهم، ولم يتيسر الاطلاع عليه إلا بعد أزمان.

وكثرة علم العالم لا تستلزم اطلاعه على جميع النصوص.

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو عجز عن أن يفهم معنى الكلالة حتى مات رضي الله عنه.

وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها كثيرًا فبينها له ولم يفهم.

فقد ثبت عنه رضي الله عنه أنه قال: ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال:«يكفيك آية الصيف في آخر سورة النساء» .

فهذا من أوضح البيان، لأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بآية الصيف {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ

ص: 47

يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} (1)، والآية تبين معنى الكلالة بيانًا شافيًا، لأنها أوضحت أنها: ما دون الولد والوالد.

فبينت نفى الولد بدلالة المطابقة في قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} (2) وبينت نفى الوالد بدلالة الالتزام في قوله تعالى: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (3)، لأن ميراث الأخت يستلزم نفى الولد.

ومع هذا البيان النبوي الواضح لهذه الآية الكريمة، فإن عمر رضي الله عنه لم يفهم.

وقد صح عنه أن الكلالة لم تزل مشكلة عليه.

وقد خفي معنى هذا أيضًا على أبى بكر الصديق رضي الله عنه فقال في الكلالة: أقول فيها برأيي. فإن كان صوابًا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، هو ما دون الولد والوالد.

فوافق رأيه معنى الآية.

والظاهر أنه لو كان فاهمًا للآية لكفته عن الرأي.

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «تكفيك آية الصيف» .

وهو تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن في الآية كفاية عن كل ما سواها في الحكم المسئول عنه.

ومما يوضح ذلك أن عمر طلب من النبي صلى الله عليه وسلم بيان الآية. وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم. فما أحال عمر على الآية إلا لأن فيها من البيان ما يشفى ويكفى.

وقد خفي على أبى بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «أعطى الجدة السدس حتى أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس» فرجع إلى قولهما.

ولم يعلم عمر صلى الله عليه وسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في دية الجنين بغرة عبد أو وليدة حتى أخبره المذكوران قبل.

(1) سورة النساء، الآية:176.

(2)

سورة النساء، الآية:176.

(3)

سورة النساء، الآية:176.

ص: 48

ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن المرأة ترث من دية زوجها. حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه: أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.

ولم يعلم أيضًا بأخذ الجزية من المجوسي حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر.

ولم يعلم بحكم الاستئذان ثلاثًا حتى أخبره أبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما.

ولم يعلم عثمان رضي الله عنه بوجوب السكنى للمتوفى عنها حتى أخبرته قريعة بنت مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: ألزمها بالسكنى في المحل الذي مات عنها زوجها في حتى تنقضي عدتها.

وأمثال هذا أكثر من أن تحصر.

فهؤلاء الخلفاء الراشدون- وهم هم، خفي عليهم قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاديثه مع ملازمتهم له، وشدة حرصهم على الأخذ منه. فتعلموه ممن هو دونهم في الفضل والعلم.

فما ظنك بغيرهم من الأئمة الذين نشأوا وتعلموا بعد تفوق الصحابة في أقطار الدنيا؟ وروى عنهم الأحاديث عدول من الأقطار التي ذهبوا إليها؟

والحاصل أن ظن إحاطة الإمام بجميع نصوص الشرع ومعانيها ظن لا يغنى من الحق شيئًا، وليس بصحيح قطعًا.

لأنه لا شك أنه يفوته بعض الأحاديث فلم يطلع عليها، ويرويه بعض العدول عن الصحابة فيثبت عند غيره.

وهو معذور في ترك العمل به، بعدم اطلاعه عليه مع أنه بذل المجهود في البحث.

ولذا كان له أجر الاجتهاد والعذر في الخطأ.

وقد يكون الإمام اطلع على الحديث، ولكن السند الذي بلغه به ضعيف فيتركه لضعف السند. ويكون غيره اطلع على رواية أخرى صحيحة يثبت بها الحديث فهو معذور في تركه، لأنه لم يطلع إلا على السند الضعيف ولم تبلغه الطريق الصحيحة الأخرى.

ص: 49

وقد يترك الحديث لشيء يظنه أرجح منه، ويكون الواقع أن الحديث أرجح من ذلك الشيء الذي ظنه؛ لقيام أدلة أخرى على ذلك لم يطلع عليها. إلى أسباب أخر كثيرة، كترك الأئمة للعمل ببعض النصوص.

وبهذا كله تعلم أن ظن اطلاع الإمام على كل شيء من أحكام الشرع وإصابته في معانيها كلها ظن باطل.

وكل واحد من الأئمة يصرح ببطلان هذا الظن كما سترى إيضاحه إن شاء الله.

فاللازم هو ما قاله الأئمة أنفسهم- رحمهم الله من أنهم قد يخطئون ونهوا عن اتباعهم في كل شيء يخالف نصًا من كتاب أو سنة.

فالمتبع لهم حقيقة، هو من لا يقدم على كتاب الله وسنة رسوله شيئًا.

أما الذي يقدم أقوال الرجال على الكتاب وصحيح السنة، فهو مخالف لهم لا متبع لهم. وذعواه اتباعهم كذب محض.

وأما القضية الثانية: فهي ظن المقلدين أن لهم مثل ما للإمام من العذر في الخطأ.

وإيضاحه: أنهم يظنون أن الإمام لو أخطأ في بض الأحكام وقلدوه في ذلك الخطأ يكون لهم من العذر في الخطأ والأجر مثل ما لدلك الإمام الذي قلدوه. لأنهم متبعون له فيجرى عليهم ما جرى عليه.

وهذا ظن كاذب باطل بلا شك. لأن الإمام الذي قلدوه بذل جهده في تعلم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وفتاويهم.

فقد شمر وما قصر فيما يلزم من تعلم الوحي والعمل به وطاعة الله على ضوء الوحي المنزل.

ومن كان هذا شأنه فهو جدير بالعذر في خطئه والأجر في اجتهاده.

وأما مقلدوه فقد تركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله وأعرضوا عن تعليمهما إعراضًا كليًا مع يسره وسهولته ونزلوا أقوال الرجال الذين يخطئون ويصيبون منزلو الوحي المنزل من الله.

ص: 50

فأين هؤلاء من الأئمة الذين قلدوهم؟

وهذا الفرق العظيم بينهم وبينهم، يدل دلالة واضحة على أنهم ليسوا مأجورين في الخطأ في تقليد أعمى إذ لا اقتداء ولا أسوة في غير الحق.

وليسوا معذورين لأنهم تركوا ما يلزمهم تعلمه من أمر الله ونهيه على ضوء وحيه المنزل.

والذي يجب عليهم من تعلم ذلك، هو ما تدعوهم الحاجة للعمل به، كأحكام عباداتهم ومعاملاتهم.

وأغلب ذلك تدل عليه نصوص واضحة، سهلة التناول من الكتاب والسنة.

والحاصل أن المعرض عن كتاب الله، وسنة رسوله المفرط في تعلم دينه، مما أنزل الله، وما سنه رسوله، المقدم كلام الناس على كتاب الله وسنة رسوله - لا يكون له البتة ما للإمام الذي لم يعرض عن كتاب الله وسنة رسوله، ولم يقدم عليهما شيئًا ولم يفرط في تعلم الأمر والنهي من الكتاب والسنة.

فأين هذا من هذا؟

سارت مشرقة وسرت مغربًا

شتان بين مشرق ومغرب

(8)

شبهة: منع العمل بالكتاب والسنة مطلقًا إلا للمجتهد (1):

اعلم أن المتأخرين من أهل الأصول الذين يقولون بمنع العمل بالكتاب والسنة مطلقًا إلا للمجتهدين، يقولون: إن شروط الاجتهاد هي: كون المجتهد بالغًا عاقلاً شديد الفهم طبعًا، عارفًا بالدليل العقلي، الذي هو استصحاب العدم الأصلي حتى يرد نقل صارف عنه.

عارفًا باللغة العربية وبالنحو من صرف وبلاغة مع معرفة الحقائق الشرعية والعرفية.

وبعضهم يزيد المحتاج إليه من فن المنطق كشرائط الحدود، والرسول، وشرائط البرهان.

عارفًا بالأصول، عارفًا بأدلة الأحكام من الكتاب والسنة.

(1)«أضواء البيان» (7/ 477 - 479).

ص: 51

ولا يشترط عندهم حفظ النصوص، بل يكفي عندهم علمه بمداركها في المصحف وكتب الحديث.

عارفًا بمواقع الإجماع والخلاف.

عارفًا بشروط المتواتر والآحاد والصحيح والضعيف.

عارفًا بالناسخ والمنسوخ.

عارفًا بأسباب النزول.

عارفًا بأحوال الصحابة وأحوال رواة الحديث، اختلفوا في شرط عدم إنكاره للقياس. اهـ.

ولا يخفى أن مستندهم في اشتراطهم لهذه الشروط ليس نصًا من كتاب ولا سنة يصرح بأن هذه الشروط كلها لا يصح دونها عمل بكتاب ولا سنة، ولا إجماعًا دالاً على ذلك.

وإنما مستندهم فيذلك هو تحقيق المناط في ظنهم.

وإيضاح ذلك هو أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين كلها دال على أن العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يشترط له إلا شرط واحد، وهو العلم بحكم ما يعمل به منهما.

ولا يشترط في العمل بالوحي شرط زائد على العلم بحكمه البتة.

وهذا مما لا يكاد ينازع فيه أحد.

ومراد متأخري الأصوليين بجميع الشروط التي اشترطوها في تحقيق المناط.

لأن العلم بالوحي لما كان هو مناط العمل به أرادوا أن يحققوا هذا المناط، أي بينوا الطرق التي يتحقق بها حصول العلم الذي هو مناط العمل.

فاشترطوا جميع الشروط المذكورة، ظنًّا منهم أنه لا يمكن تحقيق حصول العلم بالوحي دونها.

وهذا الظن فيه نظر.

لأن كل إنسان له فهم إذا أراد العمل بنص من كتاب أو سنة فلا يمتنع عليه، ولا يستحيل أن يتعلم معناه ويبحث عنه هل هو منسوخ أو مخصص أو مقيد حتى يعلم ذلك فيعمل به.

ص: 52

وسؤال أهل العلم: هل لهذا النص ناسخ أو مخصص أو مقيد مثلًا. وإخبارهم بذلك ليس من نوع التقليد، بل هو من نوع الاتباع.

وسنبين إن شاء الله الفرق بين التقليد والاتباع في مسألة التقليد الآتية.

والحاصل أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى واردة بإلزام جميع المكلفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وليس في شيء منها التخصيص بمن حصل شروط الاجتهاد المذكورة.

(9)

شبهة: الامتثال لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} :

اعلم أن من حجج المقلدين ادعاءهم الامتثال لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) قالوا: فأمر سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه، وهذا نصُّ قولنا!!.

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى سؤال من يعلم، فقال- في حد صاحب الشجة-:«ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العيى السؤال» (2).

قال الشنقيطي رحمه الله (3):

أما استدلالهم بآية: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فهو استدلال في غير محله.

فإن الآية لا تدل على هذا النوع من التقليد الأعمى الذي هم عليه من التزام جميع أقوال رجل واحد وترك جميع ما سواها.

ولاشك أن المراد بأهل الذكر أهل الوحي الذي يعلمون ما جاء من عند الله كعلماء الكتاب والسنة.

فقد أُمروا أن يسألوا أهل الذكر ليُفتوهم بمقتضى ذلك الذكر الذي هو الوحي.

ومن سأل عن الوحي وأعلم به وبُين له كان عمله به اتباعًا للوحي لا تقليدًا، واتباع الوحي لا نزاع في صحته.

(1) سورة النحل، الآية:43.

(2)

سيأتي الحديث في «المسح على الجبيرة» من هذا الكتاب إن شاء الله.

(3)

«أضوان البيان» (7/ 510، 511).

ص: 53

وإن كانت الآية تدل على نوع تقليد في الجملة، فهي لا تدل على التقليد الذي قدمنا أنه لا خلاف فيه بين المسلمين، وهو تقليد العامي الذي تنزل به النازلة عالمًا من العلماء، وعمله بما أفتاه به من غير التزام منه لجميع ما يقوله ذلك العالم، ولا تركه لجميع ما يقوله غيره.

وأما استدلالهم بالحديث الوارد في الرجل الذي أصابته شجة في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه: هل يعلمون له رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نرى لك رخصة وأنت قادر على أداء، فاغتسل فمات.

فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «قتلتوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيى السؤال» .

فهو استدلال أيضًا في غير محله، وهو حجة أيضًا على المقلدين لا لهم.

قال في إعلام الموقعين في بيان وجه ذلك ما نصه:

إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرشد المستفتين كصاحب الشجة بالسؤال عق حُكمه، وسنته فقال: قتلوه قتلهم الله، فدعا عليهم حين أفتوا بغير علم.

وفى هذا تحريم الإفتاء. فإنه ليس علمًا باتفاق الناس.

فإنما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله، فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم.

فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم. اهـ.

(10)

مناظرة مقلد:

ذكر الإمام ابن عبد البر- رحمه الله في كلامه في ذم التقليد ومنعه، بعد ما بين ذلك بالآثار، أن جماعة من الفقهاء وأهل النظر احتجوا على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية، فقال (1):

«فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني- رحمه الله: يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حكمت به؟ فأن قال: نعم، أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد.

وإن قال: حكمت به بغير حجة.

ص: 54

قيل له: فلم أرقت الدماء، وأبحث الفروج، وأتلفت الأموال، قد حرم الله ذلك إلا بحجة؟

قال الله عز وجل: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} (1) أي من حجة بهذا؟

فإن قال: أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة، لأني قلدت كبيرًا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت على.

قيل له: إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك، فتقليد معلم معلمك أولى. لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك: كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك.

فإن قال: نعم، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه.

وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له: كيف تجوز تقليد من هو أصغر وأقل علمًا؟ ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علمًا، وهذا تناقض؟

فإن قال: لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك.

قيل له: كذلك من تعلم من معلمك، فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه، فلزمك تقليده وترك تقليد معلمك.

وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك. لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك.

فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء، أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع، والتابع من دونه في قياس قوله والأعلى للأدنى أبدًا.

وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضًا وفسادًا. اهـ.

ثم قال أبو عمر رحمه الله بعد هذا ما نصه:

يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به، وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟

(1) سورة يونس، الآية:68.

ص: 55

فإن قال: قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم أُحصها، والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم منى.

قيل له: أما العلماء، إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه. ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض. فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض؟.

وكلهم عالم، والعالم الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه.

فإن قال: قلدته لأني أعلم أنه صواب.

قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سنة أو إجماع؟

فإن قال: نعم. أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل.

وإن قال: قلدته لأنه أعلم مني.

قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك. فإنك تجد من ذلك خلقًا كثيرًا ولا تخُصَّ من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك.

فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس.

قيل له: فإنه إذًا أعلم من الصحابة، وكفى بقول مثل هذا قبحًا.

فإن قيل: أنا أقلد بعض الصحابة.

قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم، ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله؟

على أن القول لا يصح لفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه.

وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار، عن ابن القاسم عن مالك، قال: ليس كل ما قال رجل قولاً وإن كان له فضل يتبع عليه؛ لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (1). فإن قال: قصري وقلة علمي يحملني على التقليد.

قيل له: أما من قلد فيما ينزل من أحكام شريعته عالمًا يتفق له على علمه،

(1) سورة الزمر، الآية:18.

ص: 56

فيصدر في ذلك عما يخبره - فمعذور لأنه قد أدى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولابد له من تقليد عالم، فيما جهله، لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك.

ولكن من كانت هذه حاله هل تجوز له الفتيا في شرائع دين الله؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك ويصيرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ولا قام له الدليل عليه؟.

وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب، فيما خالفه فيه.

فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى، لحفظه الفروع، لزمه أن يجيزه للعامة.

وكفى بهذا جهلاً وردًّا للقرآن، قال الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1). وقال: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2).

وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ويتيقن فليس بعلم، وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا. اهـ. كله من جامع ابن عبد البر، رحمه الله.

(11)

التقليد والاتباع:

قال الشنقيطي، رحمه الله (3):

اعلم أن مما لا بد منه معرفة الفرق بين الاتباع والتقليد، وأن محل الاتباع لا يجوز التقليد فيه بحال.

وإيضاح ذلك: أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، لا يجوز فيه التقليد بحال.

لأن كل اجتهاد يخالف النص فهو اجتهاد باطل، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد.

لأن نصوص الكتاب والسنة حاكمة على كل المجتهدين، فليس لأحد منهم مخالفتها كائنًا من كان.

(1) سورة الإسراء، الآية:36.

(2)

سورة البقرة، الآية:80.

(3)

«أضواء البيان» (7/ 547 - 550).

ص: 57

ولا يجوز التقليد فيما خالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا إذ لا أسوة في غير الحق. فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الاتباع فقط.

ولا اجتهاد، ولا تقليد فيما دل عليه نص من كتاب أو سنة، سالم من المعارض.

والفرق بين التقليد والاتباع أمر معروف عند أهل العلم، لا يكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم.

وقد قدمنا كلام ابن خويز منداد الذي نقله عنه ابن عبد البر في جامعه.

وهو قوله: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجة.

وقال في موضع آخر من كتابه:

كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح.

وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه، والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع. اهـ.

وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين:

وقد فرق الإمام أحمد رحمه الله بين التقليد والاتباع.

فقال أبو داود: سمعته يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعد في التابعين مخير. انتهى محل الغرض منه.

قال مقيده -عفا الله عنه، وغفر له-: أما كون العمل بالوحي اتباعًا لا تقليدًا فهو أمر قطعي.

والآيات الدالة على تسميته اتباعًا كثيرة جدًّا:

كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1).

وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (2) الآية.

(1) سورة الأعراف، الآية:203.

(2)

سورة الأعراف، الآية:3.

ص: 58

وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} (1).

وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (2).

وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3).

وقوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (4).

وقوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (5).

والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.

فالعمل بالوحي هو الاتباع كما دلت عليه الآيات.

ومن المعلوم الذي لا شك فيه، أن اتباع الوحي المأمور به في الآيات لا يصح اجتهاد يخالفه بوجه من الوجوه، ولا يجوز التقليد في شيء يخالفه.

فاتضح من هذا الفرق بين الاتباع والتقليد، وأن مواضع الاتباع ليست محلاًّ أصلاً للاجتهاد ولا للتقليد.

فنصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة السالمة من المعارض لا اجتهاد ولا تقليد معها البتة.

لأن اتباعها والإذعان لها فرض على كل أحد كائنًا من كان كما لا يخفى.

وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد. وموضع الاتباع ليس محل اجتهاد.

فجعل شرط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والاتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط، كما ترى.

(1) سورة الزمر، الآية:55.

(2)

سورة يونس، الآية:15.

(3)

سورة الأنعام، الآية:155.

(4)

سورة الأنعام، الآية:106.

(5)

سورة الأحقاف، الآية:9.

ص: 59

والتحقيق أن اتباع الوحي لا يشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه.

وأنه يصح علم حديث والعمل به، وعلم آية والعمل بها.

ولا يتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد.

فيلزم المكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة، ويعمل بكل ما علم من ذلك، كما كان عليه أول هذه الأمة من القرون المشهود لها بالخير.

(12)

تنبيه لمقلَّدي الأمة:

اعلم أن كل من يرى أنه لابد له من تقليد الإمام في كل شيء بدعوى أنه لا يقدر على الاستدلال بكتاب ولا سنة، ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أحد غير ذلك الإمام:

يجب عليه أن بتنبَّه تنبُّهًا تامًّا للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقًّا، وبين ما أُلحق بعده على قواعد مذهبه، وما زاده المتأخرون وقتًا بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه لتبرأ منها وأنكر على ملحقها، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح. ويزيده بطلانًا نسبته إلى الله ورسوله، بدعوى أنه شرع ذلك على لسان رسوله، ونحو هذا كثير في المختصرات في المذاهب وكتب المتأخرين منهم (1).

(13)

اتباع الدليل لا يعني هجر أقوال الأئمة:

يزعم بعض مقلدة المذاهب أن الدعوة إلى اتباع الدليل من الكتاب والسنة وعدم الأخذ بأقوال الأئمة المخالفة لها؛ ترك للأخذ بأقوالهم مطلقًا والاستفادة من اجتهاداتهم!!.

قال العلامة الألباني رحمه الله (2):

إن هذا الزعم أبعد ما يكون عن الصواب، بل هو باطل ظاهر البطلان، كما

(1)«أضواء البيان» للشنقيطي (7/ 576) وما بعدها، وهناك أمثلة على ذلك فراجعها إن شئت.

(2)

مقدمة «صفة صلاة النبي» (ص 69 - 70).

ص: 60

يبدو ذلك جليًّا من الكلمات السابقات، فإنها كلها تدل على خلافه، وأن كل الذي ندعو إليه إنما هو ترك اتخاذ المذاهب دينًا، ونصبها مكان الكتاب والسنة؛ بحيث يكون الرجوع إليها عند التنازع، أو عند إرادة استنباط أحكام جديدة لحوادث طارئة؛ كما يفعل متفقهة هذا الزمان، وعليه وضعوا الأحكام الجديدة للأحوال الشخصية، والنكاح والطلاق، وغيرها دون أن يرجعوا فيها إلى الكتاب والسنة ليعرفوا الصواب منها من الخطأ، والحق من الباطل، وإنما على طريقة «اختلافهم رحمة» ! وتتبع الرخص والتيسير أو المصلحة- زعموا- وما أحسن قول سليمان التيمى، رحمه الله تعالى:

«إن أخذت برخصة كل عالم؛ اجتمع فيك الشر كله» .

رواه ابن عبد البر (2/ 91 - 92) وقال عقبه:

«هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا» .

فهذا الذي ننكره، هو الإجماع كما ترى.

وأما الرجوع إلى أقوالهم والاستفادة منها، والاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس عليه نص في الكتاب والسنة، أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح- فأمر لا ننكره، بل نأمر به ونحض عليه؛ لأن الفائدة منه مرجوة لمن سلك سبيل الاهتداء بالكتاب والسنة.

قال العلامة ابن عبد البر - رحمه الله تعالى- (2/ 172):

«فعليك يا أخي! بحفظ الأصول والعناية بها، واعلم أن من عنى بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن، ونظر في أقاويل الفقهاء- فجعلها عونًا له على اجتهاده، ومفتاحًا لطرائق النظر، وتفسيرًا لجمل السنن المحتملة للمعاني- ولم يقلد أحدًا منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها، واقتدى بهم في البحث والتفهم والنظر، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه، وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم، ولم يبرئهم من الزلل كما لم يبرءوا أنفسهم منه؛ فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح، وهو المصيب لحظه، والمعاين لرشده والمتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته رضي الله عنهم.

ص: 61

ومن أعفَّ نفسه من النظر، وأضرب عما ذكرنا، وعارض السنن برأيه، ورام أن يردها إلى مبلغ نظره؛ فهو ضال مضل، ومن جهل ذلك كله أيضًا وتقحم في الفتوى بلا علم، فهو أشد عمى، وأضل سبيلاً».

فهذا هو الحق ما به خفاء

فدعني عن بنيات الطريق ا. هـ.

أقول: في هذه التنبيهات ما يكفي المنصف في رجوعه إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ونبذ ما يخالفهما، وفي ردِّه عن التقليد على غير هدى، فإن أبى أحدهم إلا التقليد، فنقول: قد نقل ابن عبد البر وغيره من العلماء «الإجماع على أن المقلِّد ليس معدودًا من أهل العلم» ولا يجوز للمقلِّد الاعتراض على المجتهد، فإن قال: لست بمجتهد، قلنا: إن الاجتهاد يتجزأ كما ذكر أهل العلم، وليس من شرط المجتهد أن يجتهد في كل مسألة، فلا يُقبل اعتراضك، «فما للأعمى ونقد الدراهم» !!.

(14)

وأخيرًا: هل في الاختلاف توسعة ورحمة؟ وهل الحق يتعدد؟

كثير ممن ينتسبون إلى المذاهب الفقهية - خصوصًا هذه الأيام- هم على النقيض من أولئك المتشبثين بمذهب بعينه لا يحيدون عنه؛ فهم يرون صحة الأخذ بأي مذهب كان مهما كان مستنده، فأجازوا اختيار ما راق لهم ووافق هواهم وحقق مصالحهم من هذه المذاهب، ولو كان الدليل على خلافه، بحجة أنه قال به بعض العلماء، وأن هذا من التوسعة على الأمة مستدلين بحديث «اختلاف أمتي رحمة» !!.

وقد أجاب عن هذه الشبهة العلامة الألباني رحمه الله فقال (1):

والجواب من وجهين:

الأول: أن الحديث لا يصح، بل هو باطل لا أصل له؛ قال العلامة السبكي:

«لم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع» .

قلت: وإنما روى بلفظ:

«

اختلاف أصحابي لكم رحمة».

(1)«صفة الصلاة» (ص: 59 - 66).

ص: 62

و «أصحابي كالنجوم؛ فبأيهم اقتديتم اهتديتم» .

وكلاهما لا يصح: الأول واه جدًّا، والآخر موضوع، وقد حققت القول في ذلك كله في «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» (رقم 58 و59 و61).

الثاني: أن الحديث -مع ضعفه- مخالف للقرآن الكريم، فإن الآيات الواردة فيه -في النهي عن الاختلاف في الدين، والأمر بالاتفاق فيه- أشهر من أن تذكر، ولكن لا بأس من أن نسوق بعضها على سبيل المثال، قال الله تعالى:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (1). وقال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (2). وقال: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (3)، فإذا كان من رحم ربك لا يختلفون، وإنما يختلف أهل الباطل؛ فكيف يعقل أن يكون الاختلاف رحمة؟!

فثبت أن هذا الحديث لا يصح، لا سندًا ولا متنًا، وحينئذ يتبين بوضوح أنه لا يجوز اتخاذه شبهة للتوقف عن العمل بالكتاب والسنة الذي أمر به الأئمة.

2 -

وقال آخرون: إذا كان الاختلاف في الدين منهيًّا عنه؛ فماذا تقولون في اختلاف الصحابة والأئمة من بعدهم؟ وهل ثمة فرق بين اختلافهم واختلاف غيرهم من المتأخرين؟

فالجواب: نعم؛ هناك فرق كبير بين الاختلافين، ويظهر ذلك من شيئين:

الأول: سببه.

والآخر: أثره.

فأما اختلاف الصحابة؛ فإنما كان عن ضرورة واختلاف طبيعي منهم في الفهم؛ لا اختيارًا منهم للخلاف، يضاف إلى ذلك أمور أخرى كانت في زمنهم، استلزمت اختلافهم ثم زالت من بعدهم، ومثل هذا الاختلاف لا يمكن الخلاص منه كليًّا، ولا يلحق أهله الذم الوارد في الآيات السابقة وما في معناها؛ لعدم تحقق شرط المؤاخذة، وهو القصد أو الإصرار عليه.

(1) سورة الأنفال، الآية:46.

(2)

سورة الروم، الآيتان: 31، 32.

(3)

سورة هود، الآيتان: 118، 119.

ص: 63

وأما الاختلاف القائم بين المقلدة؛ فلا عذر لهم فيه غالبًا، فإن بعضهم قد تتبين له الحجة من الكتاب والسنة، وأنها تؤيد المذهب الآخر الذي لا يتمذهب به عادة، فيدعها لا لشيء إلا لأنها خلاف مذهبه، فكأن المذهب عنده هو الأصل، أو هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والمذهب الآخر هو دين آخر منسوخ!.

وآخرون منهم على النقيض من ذلك، فإنهم يرون هذه المذاهب - على ما بينها من اختلاف واسع- كشرائع متعددة، كما صرح بذلك بعض متأخريهم: لا حرج على المسلم أن يأخذ من أيها ما شاء، ويدع ما شاء، إذ الكل شرع! وقد يحتج هؤلاء وهؤلاء على بقائهم في الاختلاف بذلك الحديث الباطل:«اختلاف أمتي رحمة» ، وكثيرًا ما سمعناهم يستدلون به على ذلك!.

ويعلل بعضهم هذا الحديث ويوجهونه بقولهم: إن الاختلاف إنما كان رحمة؛ لأن فيه توسعة على الأمة! ومع أن هذا التعليل مخالف لصريح الآيات المتقدمة، وفحوى كلمات الأئمة السابقة؛ فقد جاء النص عن بعضهم برده.

قال ابن القاسم:

«سمعت مالكًا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما قال ناس: «فيه توسعة» ؛ ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب».

وقال أشهب:

«سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أتراه من ذلك في سعة؟.

فقال: لا والله حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صوابًا جميعًا؟! ما الحق والصواب إلا واحد».

وقال المزني صاحب الإمام الشافعي:

«وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطَّأ بعضهم بعضًا، ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقبها، ولو كان قولهم كله صوابًا عندهم؛ لما فعلوا ذلك، وغضب عمر بن الخطاب من اختلاف أُبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في الثوب الواحد؛ إذ قال أُبي: إن الصلاة في الثوب الواحد حسن جميل وقال ابن

ص: 64

مسعود: إنما كان ذلك والثياب قليلة. فخرج عمر مغضبًا، فقال: اختلف رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن ينظر إليه ويؤخذ عنه! وقد صدق أُبي، ولم يأل ابن مسعود، ولكني لا أسمع أحدًا يختلف فيه بعد مقامي هذا إلا فعلت به كذا وكذا».

وقال الإمام المزني أيضًا:

«يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة، فقال أحدهما: حلال، والآخر: حرام؛ أن كل واحد منهما في اجتهاده مصيب الحق: أبأصل قلت هذا أم بقياس؟ فإن قال: بأصل؛ قيل له: كيف يكون أصلاً والكتاب ينفي الاختلاف؟! وإن قلت: بقياس؛ قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف، ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟ هذا ما لا يجوزه عاقل، فضلاً عن عالم» .

فإن قال قائل: يخالف ما ذكرته عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد ما جاء في كتاب «المدخل الفقهي» للأستاذ الزرقا (1/ 89):

«ولقد همَّ أبو جعفر المنصور ثم الرشيد من بعده أن يختارا مذهب الإمام مالك وكتابه «الموطأ» قانونًا قضائيًّا للدولة العباسية، فنهاهما مالك عن ذلك وقال:

إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب».

وأقول: إن هذه القصة معروفة مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله لكن قوله في آخرها: «وكل مصيب» مما لا أعلم له أصلاً في شيء من الروايات والمصادر التي وقفت عليها، اللهم! إلا رواية واحدة أخرجها أبو نُعيم في «الحلية» (6/ 332) بإسناد فيه المقدام بن داود، وهو ممن أوردهم الذهبي في «الضعفاء» ، ومع ذلك فإن لفظها:«وكل عند نفسه مصيب» ، فقوله:«عند نفسه» يدل على أن رواية «المدخل» مدخولة، وكيف لا تكون كذلك وهي مخالفة لما رواه الثقات عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد كما سبق بيانه؟! وعلى هذا كل الأئمة من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة المجتهدين وغيرهم.

قال ابن عبد البر (2/ 88).

ص: 65

«ولو كان الصواب في وجهين متدافعين؛ ما خطَّأ السلف بعضهم بعضًا في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صوابًا كله، ولقد أحسن من قال:

إثبات ضدين معًا في حال

أقبح ما يأتي من المحال

فإن قيل: إذا ثبت أن هذه الرواية باطلة عن الإمام؛ فلماذا أبى الإمام على المنصور أن يجمع الناس على كتابه «الموطأ» ولم يجبه إلى ذلك؟

فأقول: أحسن ما وقفت عليه من الرواية ما ذكره الحافظ ابن كثير في «شرح اختصار علوم الحديث» (ص 31) وهو أن الإمام مالك قال: «إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها» .

وذلك من تمام علمه وإنصافه، كما قال ابن كثير، رحمه الله تعالى.

فثبت أن الخلاف شرٌّ كلُّه، وليس رحمة، ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان؛ كخلاف المتعصبة للمذاهب، ومنه ما لا يؤاخذ عليه؛ كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة؛ حشرنا الله في زمرتهم، ووفقنا لاتباعهم.

فظهر أن اختلاف الصحابة هو غير اختلاف المقلدة.

وخلاصته:

أن الصحابة اختلفوا اضطرارًا، ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف، ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

وأما المقلدة - فمع إمكانهم الخلاص منه ولو في قسم كبير منه- فلا يتفقون ولا يسعون إليه؛ بل يقرونه، فشتان إذن بين الاختلافين.

ذلك هو الفرق من جهة السبب.

وأما الفرق من جهة الأثر فهو أوضح؛ وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم -مع اختلافهم المعروف في الفروع - كانوا محافظين أشد المحافظة على مظهر الوحدة، بعيدين كل البعد عما يفرق الكلمة، ويصدع الصفوف، فقد كان فيهم مثلًا من يرى مشروعية الجهر بالبسملة، ومن يرى عدم مشروعيته، وكان فيهم من يرى استحباب رفع اليدين، ومن لا يراه، وفيهم من يرى نقض الوضوء بمس المرأة، ومن لا يراه،

ص: 66

ومع ذلك فقد كانوا يصلون جميعًا وراء إمام واحد، ولا يستنكف أحد منهم عن الصلاة وراء الإمام لخلاف مذهبي.

وأما المقلدون فاختلافهم على النقيض من ذلك تمامًا؛ فقد كان من آثاره أن تفرق المسلمون في أعظم ركن بعد الشهادتين؛ ألا وهو الصلاة، فهم يأبون أن يصلوا جميعًا وراء إمام واحد؛ بحجة أن صلاة الإمام باطلة أو مكروهة على الأقل بالنسبة إلى المخالف له في مذهبه، وقد سمعنا ذلك، ورأيناه كما رآه غيرنا، كيف لا وقد نصت كتب بعض المذاهب المشهورة اليوم على الكراهة أو البطلان؟! وكان من نتيجة ذلك أن تجد أربعة محاريب في المسجد الجامع، يصلى فيها أئمة أربعة متعاقبين، وتجد أناسًا ينتظرون إمامهم بينما الإمام الآخر قائم يصلي!

بل لقد وصل الخلاف إلى ما هو أشد من ذلك عند بعض المقلدين؛ مثاله منع التزاوج بين الحنفي والشافعية، ثم صدرت فتوى من بعض المشهورين عند الحنفية -وهو الملقب بـ «مفتي الثقلين» - فأجاز تزوج الحنفي بالشافعية، وعلل ذلك بقوله:«تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب» ! ومفهوم ذلك -ومفاهيم الكتب معتبرة عندهم- أنه لا يجوز العكس، وهو تزوج الشافعي بالحنفية، كما لا يجوز تزوج الكتابي بالمسلمة؟!

هذان مثالان من أمثلة كثيرة توضح للعاقل الأثر السيء الذي كان نتيجة اختلاف المتأخرين وإصرارهم عليه؛ بخلاف اختلاف السلف، فلم يكن له أي أثر سيء في الأمة، ولذلك فهم في منجاة من أن تشملهم آيات النهي عن التفرق في الدين -بخلاف المتأخرين- هدانا الله جميعًا إلى صراطه المستقيم.

ص: 67