الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كافرٌ بالكواكب، وأما من قال: مُطِرنا بِنَوْء (1) كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» (2).
فإذا اعتقد أن للنواء تأثيرًا في إنزال المطر فهذا كفر، لأنه أشرك في الربوبية، وإن لم يعتقد ذلك -بل قاله على سبيل المجاز مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده، ولكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط النجم- فهو من الشرك الأصغر، لأنه نسب نعمة الله إلى غيره، ولأن الله لم يجعل النوء سببًا لإنزال المطر فيه، وإنما هو من فضل الله ورحمته، يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء (3).
[3]
يستحب أن يدعو عند المطر، فإنه مظنة الإجابة (إن صح الحديث):
لما رُوى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اطلبوا استجابة الدعاء عند: التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث» (4).
[4]
ويستحب أن يتعرض ببعض بدنه للمطر:
فعن أنس قال: أصابنا -ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطرٌ، فَحَسَر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال:«لأنه حديثُ عهد بربِّه تعالى» (5).
[5]
وإذا كثر المطر وخيف الضرر منه: فيستحب أن يدعو رافعًا يديه -بما في حديث أنس المتقدم في الاستسقاء على المنبر يوم الجمعة-: «اللهم حوالَيْنا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» (6).
والآكام: دون الجبل وأعلى من الرابية، والظِّراب: الجبال المنبسطة غير العالية.
سجود التلاوة
(*)
تعريفه:
سجود التلاوة: هو السجود الذي سببه تلاوة أو سماع آية من آيات السجود في القرآن الكريم.
(1) سقوط نجم من المنازل، وكانت العرب تنسب الأمطار والريح إلى النجم الساقط.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (846)، ومسلم (71).
(3)
«فتح المجيد» (ص: 455 - 459) بتصرف واختصار.
(4)
صححه الألباني: وانظر «السلسلة الصحيحة» (1469)، و «صحيح الجامع» (1026).
(5)
أخرجه مسلم (898)، وأبو داود (5100).
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (1014)، ومسلم (897).
(*) لشيخنا أبي عمير مجدي بن عرفات -رفع الله قدره- «فتح الرحمن بأحكام ومواضع سجود القرآن» وقد استفدت منه.
فضله:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا وَيلَه (1)، أُمِر بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمِرتُ بالسجود فعصيتُ فلي النار» (2).
وقد ثبت في فضل السجود عمومًا أحاديث كثيرة، منها:
حديث أبي هريرة في البعث والشفاعة وفيه: «حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار، أمر الله الملائكة أن يُخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيَخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود» (3).
وحديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الله به الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم:«عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحَطَّ عنك بها خطيئة» (4).
وحديث ربيعة بن كعب الأسلمي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة، فقال:«أعنِّي على نفسك بكثرة السجود» (5).
حُكْمه: أجمع العلماء على مشروعية سجود التلاوة، للآيات والأحاديث الواردة فيه كحديث ابن عمر:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا موضعًا لجبهته» (6) ثم اختلفوا في الوجوب على قولين:
الأول: أنه واجب، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة ورواية عن أحمد واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (7).
(1) هذا دعاء على نفسه بالويل وهو الهلاك.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (81)، وابن ماجه (1052)، وأحمد (9336).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182).
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (488)، والترمذي (388)، والنسائي (2/ 238)، وابن ماجه (1423).
(5)
صحيح: أخرجه مسلم (489)، وأبو داود (1320)، والنسائي (2/ 227)، وأحمد (4/ 59).
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (1075)، ومسلم (575).
(7)
«فتح القدير» (1/ 382)، و «ابن عابدين» (2/ 103)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 139 - 155)، و «الإنصاف» (2/ 193).
الثاني: أنه مستحب وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور: مالك والشافعي والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وابن حزم، وبه قال عمر بن الخطاب وسلمان وابن عباس وعمران بن حصين من الصحابة (1).
واحتج الموجبون بما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} (2).
قالوا: والذم لا يتعلق إلا بترك واجب.
2 -
قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (3).
3 -
قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (4).
4 -
ما في حديث أبي هريرة المتقدم: «أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة» (5).
5 -
قول عثمان: «إنما السجود على من استمع» (6).
وأجاب الجمهور بما يأتي:
1 -
أن الذم في آية الانشقاق متعلق بترك السجود إباءً واستكبارًا فيتناوله مَن تركه غير معتقد فضله ولا مشروعيته.
2 -
أن الاستدلال بالآيتين الأخريين موقوف على أن يكون الأمر فيهما للوجوب، وعلى أن يكون المراد بالسجود سجدة التلاوة وهما ممنوعان (7).
قلت: فعن زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم {وَالنَّجْمِ} يسجد فيها» وفي رواية: «فلم يسجد منا أحد» (8).
(1)«المجموع» (4/ 61)، و «كشاف القناع» (1/ 445)، و «المواهب» (2/ 60)، و «التمهيد» (19/ 133)، و «المحلى» (5/ 105).
(2)
سورة الانشقاق، الآية:21.
(3)
سورة النجم، الآية:62.
(4)
سورة العلق، الآية:19.
(5)
صحيح: تقدم قريبًا.
(6)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4220)، وعبد الرزاق (5906)، والبيهقي (2/ 324).
(7)
«تحفة الأحوذي» (3/ 172).
(8)
صحيح: أخرجه البخاري (1072)، ومسلم (577).
3 -
عن عمر بن الخطاب أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة فنزل فسجد، فسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة، قرأ بها حتى إذا جاء السجدة، قال:«يا أيها الناس، إنما نمرُّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه» (2). وقال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم فكان إجماعًا منهم.
قلت: ولشيخ الإسلام مناقشات على أدلة الجمهور، فليراجعها من شاء، والأصح قول الجمهور، والله أعلم.
هيئة سجود التلاوة:
1 -
اتفق الفقهاء على أن سجود التلاوة يحصل بسجدة واحدة.
2 -
يكون السجود على هيئة السجود في الصلاة تمامًا، من وضع اليدين والركبتين والقدمين والأنف والجبهة، ومجافاة المرفقين عن الجنبين والبطن عن الفخذين وتوجيه الأصابع للقبلة وغير ذلك مما تقدم.
3 -
ولا يشرع فيه -على الأصح- تحريم (تكبيرة إحرام) ولا تسليم، قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (23/ 165): .. هذا هو السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه عامة السلف، وهو المنصوص عن الأئمة المشهورين .. اهـ.
قلت: وقد نقل ابن عبد البر في التمهيد (19/ 134) عدم التسليم عن مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة.
ثم قال (23/ 166): والمروي فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم تكبيرة واحدة، فإنه لا ينتقل من عبادة إلا عبادة. اهـ.
قلت: يشير إلى حديث ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجد كبَّر، وسجد وسجدنا» (3) وهو حديث ضعيف.
(1)«فتح الباري» (2/ 648) بنحوه.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (1077).
(3)
ضعيف: أخرجه أبو داود (1413)، والبيهقي (2/ 325)، وعبد الرزاق (5911)، وانظر «الإرواء» (472).
لكن يمكن أن يُستدل لمشروعية التكبير عند السجود والرفع منه، بحديث وائل ابن حُجْر:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير، ويكبِّر كلما خفض وكلما رفع» (1).
وقد استحب الجمهور التكبير عند السجود والرفع منه، قلت: ويشرع رفع اليدين مع التكبير كذلك إن شاء، والله أعلم.
4 -
الأفضل أن يقوم من أراد السجود للتلاوة في غير الصلاة، ثم يهوى لسجود التلاوة، وهو مذهب الحنابلة وبعض متأخري الحنفية ووجه عند الشافعية واختاره شيخ الإسلام (2).
قالوا: لأن الخرور: سقوط من قيام وقد قال تعالى: {
…
إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} (3).
وإن لم يفعل وسجد من قعود فلا بأس، ومذهب الشافعي وجمهور أصحابه: أنه لا يثبت في هذا القيام شيء يعتمد عليه، قالوا: فالاختيار تركه (4).
هل تشترط الطهارة واستقبال القبلة لسجود التلاوة؟
ذهب جماهير العلماء إلى أن سجود التلاوة يشترط فيه ما يشترط للصلاة، فاشترطوا له الطهارة، واستقبال القبلة وسائر الشروط (5).
بينما ذهب ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية إلى عدم اشتراط شيء من ذلك لأن السجود ليس بصلاة، بل هو عبادة، ومعلوم أن جنس العبادة لا تشترط له الطهارة، وهو مذهب ابن عمر والشعبي والبخاري، وهو الصحيح.
ومما يدل على ذلك حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس» (6).
(1) حسن: أخرجه أحمد (4/ 316)، والدارمي (1252)، والطيالسي (1021)، وانظر «الإرواء» (2/ 36).
(2)
«البدائع» (1/ 192)، و «مطالب أولي النهى» (1/ 586)، و «مجموع الفتاوى» (23/ 173).
(3)
سورة الإسراء، الآية:107.
(4)
«المجموع» (4/ 65).
(5)
«ابن عابدين (2/ 106)، و «الدسوقي» (1/ 307)، و «المجموع» (4/ 63) النبي صلى الله عليه وسلم و «المغنى» (1/ 650).
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (1071)، والترمذي (575).
قال البخاري (2/ 644 - فتح): والمشرك نجس ليس له وضوء. اهـ.
وقال الشوكاني: «ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدلُّ على اعتبار أن يكون الساجد متوضئًا، وقد كان يسجد معه صلى الله عليه وسلم من حضر تلاوته، ولم ينقل أنه أمر أحدًا منهم بالوضوء، ويبعد أن يكونوا جميعًا متوضئين، وأيضًا قد كان يسجد معه المشركون كما تقدم وهم أنجاس لا يصح وضوؤهم
…
وأما ستر العورة والاستقبال مع الإمكان، فقيل: إنه معتبر اتفاقًا» (1) اهـ.
قلت: ما دام السجود ليس بصلاة فلا يشترط فيه استقبال القبلة كذلك كما تقدم عن ابن حزم وابن تيمية، لكن لا شك في أن السجود على طهارة مستقبلاً القبلة هو الأفضل والأكمل، ولا ينبغي ترك ذلك لغير عذر، أما الاشتراط فلا، والله أعلم.
كيف يسجد الماشي والراكب؟
من قرأ أو سمع آية سجدة وكان ماشيًا أو راكبًا، وأراد السجود، فإنه يومئ برأسه على أي اتجاه كان، فعن ابن عمر أنه سئل عن السجود على الدابة؟ فقال:«اسجد وأَوْمِ» رواه ابن أبي شيبة (4210) بسند صحيح، وصحَّ الإيماء للماشي عن طائفة من السلف من أصحاب ابن مسعود وغيره.
ما يقال في سجود التلاوة:
1 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل، يقول في السجدة مرارًا:«سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره وشقَّ سمعَه وبصرَه بحوله وقوَّته» (2).
2 -
وعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة، فسجدتُ، فسجدتْ الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول:«اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا، وضَعْ عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها منيِّ كما تقبلتها من عبدك داود»
…
قال
(1)«نيل الأوطار» (3/ 125) ط. الحديث.
(2)
ضعيف: أخرجه أبو داود (1414)، والترمذي (580)، والنسائي (2/ 222)، وفي سنده اختلاف وهو على كل الأحوال ضعيف، وانظر «فتح الرحمن» لشيخنا أبي عمير (ص/ 99). قلت: وقد صح نحوه عن عليِّ مرفوعًا في سجود الصلاة رواه مسلم.
ابن عباس: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة، ثم سجد، فسمعته وهو يقول مثلما أخبره، الرجل عن قول الشجرة (1).
قلت: وهذان الحديثان ضعيفان على الأرجح -وقد صُحِّحا، والأوَّل قد صح نحوه في سجود الصلاة. وقد أشار الإمام أحمد رحمه الله إلى عدم ثبوت ذلك حينما قال:«أما أنا فأقول: سبحان ربي الأعلى» فإذا كان كذلك فإن المشروع في سجود التلاوة، الأذكار التي تقدمت في سجود الصلاة، ومنها بمثل حديث عائشة المتقدم، والله أعلم.
إلى مَنْ يتوجَّه حكم سجود التلاوة؟
أجمع العلماء على أن حكم سجود التلاوة يتوجَّه إلى القارئ لآية السجدة، سواء كان في الصلاة أو خارجها.
ثم اختلفوا في السامع: هل عليه سجود أم لا؟ على قولين (2):
الأول: يسجد السامع مطلقًا وإن لم يسجد القارئ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن مالك.
الثاني: لا يسجد إلا إذا قصد الاستماع، وإذا سجد القارئ، وكان ممن تصح إمامته، وهو مذهب أحمد ورواية عن مالك، وحجتهم:
1 -
حديث ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد، حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته» (3).
2 -
ما رُوى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: قرأ فلان عندك السجدة فسجدت، وقرأتُ عندك السجدة فلم تسجد؟ فقال:«كنتَ إمامًا فلو سجدتَ سجدنا» (4) وهو ضعيف.
(1) ضعيف: أخرجه الترمذي (5790)، وابن ماجه (1053) وغيرهما وله شاهد لا يزيده إلا ضعفًا ومع هذا فقد صححه الشيخ أبو الأشبال رحمه الله وانظر «فتح الرحمن» (ص/ 100).
(2)
«البدائع» (1/ 192)، و «الدسوقي» (1/ 307)، و «بداية المجتهد» (1/ 329)، و «المجموع» (4/ 72)، و «مطالب أولي النهى» (1/ 582).
(3)
صحيح: تقدم في «حكم سجود التلاوة» .
(4)
ضعيف: أخرجه الشافعي في «مسنده» (359)، وعنه البيهقي (2/ 324)، وانظر «الإرواء» (473).
3 -
وقال ابن مسعود لتميم بن حذلم -وهو غلام- لما قرأ سجدة: «اسجد فأنت إمامنا فيها» (1).
فدلَّ كل هذا على أن السنة للمستمع أن يسجد بسجود القارئ، فإن لم يسجد فلا يتأكد في حقه، وإن كان الأَوْلى أن يسجد، والله أعلم.
سجود التلاوة في أوقات النهي عن الصلاة:
يجوز سجود التلاوة في أوقات النهي عن الصلاة من غير كراهة -في أظهر قولي العلماء- لما تقدم من أن السجود ليس بصلاة، والأحاديث الواردة بالنهي مختصة بالصلاة، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، وبه قال ابن حزم (2).
وقد رُوى عن ابن عمر كراهته وسنده ضعيف، والله أعلم.
تكرار تلاوة أو سماع آية السجدة:
إذا قرأ أو استمع آية السجود أكثر من مرة، فله أن يؤخر السجود فيسجد مرة واحدة، فإن سجد ثم قرأ آية السجود، فالأولى أن يسجد مرة أخرى وهو مذهب الجمهور خلافًا لأبي حنيفة (3).
فوات سجود التلاوة:
يستحب للقارئ والمستمع له السجود عقب آية السجدة، ولو تأخَّر قليلاً، فإن طال الفصل بين السجود وسببه لم يسجد لفوات محله، وهو مذهب الشافعية والحنابلة (4).
سجود التلاوة في الصلاة:
عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} فسجد، فقلت له: ما هذا؟ قال: «سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه» (5).
(1) حسن بطرقه: علَّقه البخاري (2/ 647 - فتح)، ووصله سعيد بن منصور والبخاري في «التاريخ الكبير» كما في «التغليق» (2/ 210) وله شاهد عنه البيهقي وعبد الرزاق وبه حسَّنه شيخنا في «فتح الرحمن» (ص/ 114).
(2)
«المغنى» (1/ 623)، و «المحلى» (5/ 105)، و «بداية المجتهد» (1/ 328).
(3)
«فتح القدير» (2/ 22)، و «الدسوقي» (1/ 311)، و «مغنى المحتاج» (1/ 446)، و «الإنصاف» (2/ 196).
(4)
«المجموع» (4/ 71 - 72)، و «كشاف القناع» (1/ 445).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (766)، ومسلم (578) نحوه.
وعن أبي هريرة: «أن عمر سجد في «النجم» وقام فوصل إليها سورة» (1).
وفيهما أنه يستحب لمن قرأ آية السجدة في صلاته من غير فرق بين الفريضة والنافلة، وهو مذهب الجمهور، وسواء كان منفردًا أو في جماعة، في سرية أو جهرية.
لكن يُكره أن يقرأ بها الإمام في الصلاة السِّرِّيَّة لما يُخشى من التخليط على المأمومين، وبه قال الجمهور: الحنفية والمالكية والحنابلة (2)، وقال الشافعية: لا يكره، لكن يستحب تأخير السجود إلى الفراغ من اصلاة لئلا يشوِّش عى المأمومين، ومحلُّه إذا لم يطل الفصل (3).
هل يجوز مجاوزة آية السجدة في الصلاة؟
يُكره للمصلي أن يقرأ الآيات ويَدَع آية السجدة ويجاوزها حتى لا يسجد، وهذا منقول عن طائفة من السلف كالشعبي وابن المسيب وابن سيرين والنخعي وإسحاق، وكرهه جمهور العلماء (4). وهذا يسمى:«اختصار السجود» .
فائدة: وكذلك يكره جمع آيات السجود فيقرأ بها ويسجد (5).
إذا كانت السجدة آخر السورة، ماذا يفعل؟
إذا قرأ السجدة في الصلاة وكانت آخر السورة، فهو مخيَّر بين ثلاثة أمور:
1 -
أن يسجد ثم يقوم فيصل بها سورة أخرى ثم يركع: وقد فعله عمر رضي الله عنه، فقد «قرأ في الفجر بيوسف فركع، ثم قرأ في الثانية بالنجم، فسجد، ثم قرأ {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (6) (7)» وهذا هو الأَوْلى.
2 -
أن يركع ويجزئه عن السجود:
(أ) فعن نافع «أن ابن عمر كان إذا قرأ النجم يسجد فيها، وهو في الصلاة، فإن لم يسجد ركع» (8).
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5880)، والطحاوي (1/ 355).
(2)
«البدائع» (1/ 192)، و «كشاف القناع» (1/ 449)، و «مواهب الجليل» (2/ 65).
(3)
«المجموع» (4/ 72)، و «نهاية المحتاج» (2/ 95).
(4)
«البدائع» (1/ 192)، و «كشاف القناع» (1/ 449)، و «الدسوقي» (1/ 309).
(5)
«الكافي» لابن قدامة (1/ 160)، و «المدونة» (1/ 111 - 112)، و «روضة الطالبين» (1/ 323).
(6)
سورة الانشقاق، الآية:1.
(7)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (2882)، والطحاوي (1/ 355).
(8)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5893).
(ب) وسئل ابن مسعود عن السورة تكون في آخرها سجدة: أيركعه أو يسجد؟
قال: «إذا لم يكن بينك وبين السجدة إلا الركوع فهو قريب» (1).
قلت: ومحلُّ هذا إذا كان منفردًا، أو كان إمامًا وعلم أن هذا لا يخلط على المأمومين، فإن خشي التخليط على المأمومين بحيث يسجد بعضهم ويركع الآخرون، فلا ينبغي فعله، والله أعلم.
3 -
أن يسجد ثم يكبِّر فيقوم، ثم يركع من غير زيادة قراءة.
إذا قرأ آية سجدة على المنبر (2):
فإن شاء نزل ليسجد، ويسجد معه الناس، وإن ترك السجود فلا حرج لما تقدم من فعل عمر رضي الله عنه (3).
ولو أمكنه السجود على المنبر سجد عليه كذلك، ويسجد الناس لسجوده فإن لم يسجد الخطيب، لم يشرع للمأمومين السجود.
مواضع السجود (آيات السجدات):
مواضع (آيات) السجود في القرآن الكريم خمسة عشر موضعًا، وقد ورد هذا في حديث مرفوع لكنه ضعيف، عن عمرو بن العاص «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصَّل، وفي سورة الحج سجدتان» (4).
وهذه المواضع منها عشرة مُجْمعٌ عليها: وأربعة مختلف فيها إلا أنه قد صحت الأحاديث بها وموضعٌ واحد لم يصح فيه حديث مرفوع إلا أنَّ عمل بعض الصحابة على السجود فيه مما يستأنس به على مشروعيته.
[أ] المواضع المتفق على السجود فيها (5):
1 -
(الأعراف): عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (6).
(1) إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4371).
(2)
«ابن عابدين» (1/ 525)، و «جواهر الإكليل» (1/ 72)، و «روضة الطالبين» (1/ 324)، و «كشاف القناع» (2/ 37).
(3)
صحيح: تقدم في «حكم السجود» .
(4)
ضعيف: أخرجه أبو داود (1401)، وابن ماجه (1057)، و «الحاكم» (1/ 223)، والبيهقي (2/ 314).
(5)
«شرح المعاني» للطحاوي (1/ 359)، و «التمهيد» (19/ 131)، و «المحلى» (5/ 105 وما بعدها).
(6)
سورة الأعراف، الآية:206.
2 -
(الرعد) عند قوله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} (1).
3 -
(النحل) عند قوله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2).
وقد ثبت أن عمر قرأها على المنبر يوم الجمعة ثم نزل فسجد (3) وقد تقدم الحديث فيه.
4 -
(الإسراء) عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (4).
5 -
(مريم) عند قوله تعالى: {
…
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (5).
6 -
(الحج) عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ
…
إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (6).
7 -
(الفرقان) عند قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَامُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} (7).
8 -
(النمل) عند قوله تعالى: {أَلَاّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (8).
9 -
(السجدة) عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (9).
(1) سورة الرعد، الآية:15.
(2)
سورة النحل، الآيتان: 49، 50.
(3)
صحيح: تقدم في «حكم السجود» .
(4)
سورة الإسراء، الآيات: 107 - 109.
(5)
سورة مريم، الآية:58.
(6)
سورة الحج، الآية:18.
(7)
سورة الفرقان، الآية:60.
(8)
سورة النمل، الآيتان: 25، 26.
(9)
سورة السجدة، الآية:15.
10 -
(فصلت) عند قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
…
وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} (1) والجمهور على السجود عند {لا يَسْأَمُونَ} ، والمشهور عند المالكية عند {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .
[ب] المواضع المختلف فيها، وصحَّ دليلها:
11 -
(ص): عند قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (2).
وهي موضع سجود عند أبي حنيفة والثوري وأحمد -في رواية- وإسحاق وأبي ثور (3)، ويدلُّ لقولهم:
1 -
حديث ابن عباس قال: «ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها» (4).
2 -
وعن مجاهد - في سجدة ص- قال: سألت ابن عباس: من أين سُجدة؟ فقال: «أو ما تقرأ {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (5). فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم» (6).
3 -
وعن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي «ص» سجود؟ قال: نعم، ثم تلا:{وَوَهَبْنَا} حتى بلغ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} قال: قال: هو منهم، وقال ابن عباس:«ورأيت عمر قرأ «ص» على المنبر، فنزل فسجد فيها، ثم رقى على المنبر» (7).
4 -
وعن السائب بن يزيد قال: «رأيت عثمان سجد في ص» (8).
(1) سورة فصلت، الآيتان: 37، 38.
(2)
سورة ص، الآية:24.
(3)
«التمهيد» (19/ 131)، و «البدائع» (1/ 193)، و «الدسوقي» (1/ 308)، و «المجموع» (4/ 60)، و «المغنى» (1/ 618).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1069)، وأبو داود (1409)، والترمذي (577).
(5)
سورة الأنعام، الآيات: 84 - 90.
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (4807)، وأحمد (3215)، والبيهقي (2/ 319).
(7)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4267)، وعبد الرزاق (5862)، والبيهقي (2/ 319).
(8)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (4257)، وعبد الرزاق (5864)، والبيهقي (2/ 319).
سجدات المُفَصَّل الثلاث:
وهي مواضع سجود عند أبي حنيفة والثوري والشافعي وأحمد (1).
12 -
(النجم): عند قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (2). ويدل لثبوتها:
1 -
حديث ابن مسعود: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد
…
» (3) وقد تقدم نحوه عن ابن عباس.
2 -
تقدم سجود عمر فيها، وسنده صحيح.
فائدة: وقد ثبت كذلك ترك السجود فيها، فعن زيد بن ثابت أنه «قرأ النبي صلى الله عليه وسلم (والنجم) فلم يسجد فيها» (4).
13 -
(الانشقاق): عند قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} (5).
1 -
ما تقدم من سجود أبي هريرة فيها وقوله: «سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه» (6).
2 -
وعنه قال: «سجد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} و {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ومن هو خير منهما» (7).
3 -
وصح عن ابن عمر وابن مسعود وعمار (8).
14 -
(العلق): عند قوله تعالى: {كَلَاّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (9). وقد تقدم قبله حديث أبي هريرة في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.
(1)«التمهيد» (19/ 131)، و «البدائع» (1/ 193)، و «المجموع» (4/ 62)، و «المغنى» (1/ 617).
(2)
سورة النجم، الآية:62.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (1070)، ومسلم (576).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1072)، ومسلم (577).
(5)
سورة الانشقاق، الآيتان: 20، 21.
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (766)، ومسلم (578).
(7)
صحيح: أخرجه النسائي في «الكبرى» (1037)، والطيالسي (2499)، وعبد الرزاق (5886).
(8)
انظر الآثار عنهم في «فتح الرحمن بأحكام ومواضع سجود القرآن» لشيخنا أبي عمير - حفظه الله (69، 70).
(9)
سورة العلق، الآية:19.