الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مكَّةَ، قَتَلَتْ هُذَيْل رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ في الجَاهِلِيهِّ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"إِنَّ اللهَ عز وجل قدَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمنينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلُّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإنَّها سَاعَتِي هَذِهِ، حَرَامٌ لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُقْتَلَ، وَإمَّا أَنْ يُفْدَى"، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شَاهٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! اكتبوا لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ"، ثُمَّ قَامَ العَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إلَّا الإِذْخِرَ، فَإنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِلَّا الِإذْخِرَ"(1).
(1) * في تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (112)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، و (2302)، كتاب: اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة، و (6486)، كتاب: الديات، باب: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، ومسلم (1355/ 447 - 448)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، وأبو داود (4505)، كتاب: الديات، ولي العمد يرضى بالدية، والنسائي (4785 - 4786)، كتاب: القسامة، باب: هل يؤخذ من قاتل العمد الدية إذا ولي المقتول عن القود، والترمذي (1405)، =
(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمنِ بنِ صخرٍ (رضي الله عنه قال: لما فتح الله) سبحانه وتعالى (على رسوله) محمدٍ (صلى الله عليه وسلم مكة) المشرفة، وكان ذلك في شهر رمضان في الثامنة (قتلت هذيل) كذا قال المصنف -رحمه الله تعالى-، وهو سبق قلم، أو وهم، والصواب:(قتلت هذيل رجلًا من بني ليث) كما في "الصحيحين" وغيرهما (بقتيل كلان لهم)؛ أي: لخزاعة (في الجاهلية) قبل الإسلام.
قال البرماوي: يؤخذ تعيين القاتل والمقتول به مما روى ابن إسحاق: أن خِراشًا -بكسر الخاء المعجمة وآخره شين معجمة- بن أميةَ من خزاعة قتل ابنَ الأدلع الهذلي وهو مشرك بقتيل قتل في الجاهلية يقال له أحمر بأسًا، انتهى (1).
واسم ابن الأدلع: جُنْدُب -بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة فموحدة-، فقد روى الشيخان، والترمذي عن أبي شريح
= كتاب: الديات، باب: ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص والعفو، وابن ماجه (2624)، كتاب: الديات، باب: من قتل له قتيل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (4/ 5)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 468)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 129)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 95)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1424)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 304)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 205، 12/ 206)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 163)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 50)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 196)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 148).
(1)
انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (5/ 76 - 77). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 206).
خويلد بن عمرو العدوي (1)، والشيخان عن ابن عباس (2)، والإمامُ أحمد، وابنُ منيع بسندٍ صحيح، والبيهقي عن ابن عمر (3)، وابنُ أبي شيبة، والشيخان عن أبي هريرة (4) رضي الله عنهم، قالوا: لما كان الغد من يوم الفتح، عدت خزاعةُ على رجل من هذيل، فقتلوه وهو مشرك، (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الناس خطيبًا بعد الظهر، فأسند ظهره إلى الكعبة.
وعند ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم ركب راحلته، فحمد الله، وأثنى عليه (5)، وقال:"يا أيها الناس! إن الله -تعالى- حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ويوم خلق الشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، ولم يحرمهما الناس، فهي حرام إلى يوم القيامة".
قال في "الهدي" وغيره: وكان صلى الله عليه وسلم قد حكم لخزاعة أن يبذلوا سيوفهم في بني بكر إلى صلاة العصر من يوم الفتح (6)(فقال) عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل قد حبس عن مكة) المشرفة (الفيلَ) الذي كان مع أبرهة عامل النجاشي على اليمن؛ لأن أبرهة لما رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله، بنى كنيسة عظيمة بصنعاء، وكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يُبن لملك مثلُها، ولست منتهيًا حتى أصرف إليها حجَّ العرب، فسمع به رجل من بني
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 238)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 52)، لكن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه ابن أبي شبية في "المصنف"(7/ 326). وتقدم تخريجه عند الشيخين.
(5)
تقدم تخريجه آنفًا.
(6)
انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 68).
مالك بنِ النضر بنِ كنانة، فخرج إليها، فدخلها ليلًا، فصعد فيها ولطخ بالعذرة قِبلتَها، فبلغ ذلك أبرهةَ، فقال: من اجترأ عليّ؟ فقيل: صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت لما سمع الذي قلت، فحلف أبرهةُ عند ذلك ليسيرنَّ إلى الكعبة حتى يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له: محمود، وكان فيلًا لم يُر مثلُه، جسيمًا عظيمًا ذا قوة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة في الحبشة سائرًا إلى مكة ومعه الفيل، فسمعت العرب بذلك، فأعظموه، ورأوا جهاده حقًا عليهم، فقاتلهم ملك من ملوك اليمن يقال له: ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فهزمهم أبرهة، وأُخذ ذو نفر، فقال له: أيها الملك! لا تقتلني، فإن استبقائي خير لك من قتلي، فاستحياه، وأوثقه، وكان أبرهة رجلًا حليمًا، ثم سار حتى دنا من بلاد خثعم، فخرج نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم، ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن، فقاتلوه، فهزمهم، وأُخذ نفيل، فقال نفيل: أيها الملك! إني دليل بأرض العرب، فهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقاه، وخرج معه يديه، حتى إذا مر بالطائف، خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف، فقال: أيها الملك! نحن عبيدك، ليس لك عندي خلاف، إنما تريد البيت بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبا رغال مولَى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمغمس، مات أبو رغال، وهو الذي يُرجم قبره، وبعث أبرهة من المغمس رجلًا من الحبشة يقال له: الأسود بن المقصور على مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نَعَم الناس، فجمع الأسود إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مئتي بعير، ثم إن أبرهة بعث حباطة العميري إلى أهل مكة، فقال: سل عن شريفها، ثم أبلغه أني لم آتِ لقتال، إنما جئت لأهدمَ هذا البيت، فأنطلق
حتى دخل مكة، [فلقي](1) عبد المطلب بن هاشم، فقال: إن الملك أرسلني إليك لأخبرك بأنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت، ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، ولا لنا به يَدان، سنُخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام وبيتُ خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإن منعه، فهو بيته وحرمه، وإن يُخَلِّ بينه وبين ذلك، فو الله! ما لنا به قوة، قال: فانطلقْ معي إلى الملك.
قال بعض أهل العلم: إنه أردفه على بغلة كان عليها، وركب معه بعضُ بنيه حتى قدم المعسكر، وكان ذو نفر صديقًا لعبد المطلب، فأتاه فقال: يا ذا نفر! هل عندك من غَناءٍ بما نزل بنا؟ فقال: ما غَناءُ رجل أسيرٍ لا يأمن أن يُقتل بكرة أو عشيًا؟ ولكن سأبعث لك إلى أنيس سائس الفيل، فإنه في صديق، فاسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أنيس، فأتاه، فقال له: إن هذا سيد قريش، وصاحب عير مكة الذي يُطعم الناس في السهل، والوحوشَ في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مئتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه عنده، فانفعه؛ فإنه صديق لي، أحب ما وصل إليه من الخير.
فدخل أنيس على أبرهة، فقال له: أيها الملك! هذا سيد قريش، وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال، يستأذن عليك، وأنا أحبُّ أن تأذن له فيكلّمك، وقد جاء غيرَ ناصبٍ لك، ولا مخالف عليك، فأذن له.
وكان عبد المطلب رجلًا جسيمًا وسيمًا، فلما رآه أبرهة، أعظمه، وأكرمه، وكره أن يجلس معه على سريره، أو أن يجلس تحته، فهبط إلى
(1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".
البساط، فجلس عليه، ثم دعاه وأجلسه معه، ثم قال لترجمانه: ما حاجتُك إلى الملك، فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يردّ إليَّ مئتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنتَ أعجبتني حين رأيتُك، ولقد زهدتُ فيك، قال: لِمَ؟ قال: جئتُ لبيت هو دينك ودين آبائك، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمَه، لمْ تكلمْني فيه، وتكلمُني في مئتي بعير أصبتُها؟! قال عبد المطلب: أنا ربُّ هذه الإبل، ولهذا البيت ربّ سيمنعه [منك](1)، قال: ما كان ليمنعه مني، قال: فأنت وذاك، فأمر بإبله فردّت إليه، فلما ردّت الإبل إلى عبد المطلب، خرج فأخبر قريشًا الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، ويتحرزوا في رؤوس الجبال تخوفًا عليهم من معرّة الجيش، ففعلوا، وأتى عبدُ المطلب الكعبةَ، فأخذ بحلقة الباب، وجعل يقول:[من الرجز]
يَا رَبِّ لَا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا
…
يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا
إِنَّ عَدُوَّ البَيْتِ مَنْ عَادَاكَا
…
امْنَعْهُمُ أَنْ يُخْرِبُوا حِمَاكَا
ثم إن عبد المطلب توجه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول، وعبأ جيشه، وهيأ فيله، وكان فيلًا لم يُر مثلُه في العظم والقوة، ويقال: كان معه اثنا عشر فيلًا، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم، فأخذ بأذنه وقال: ابرك محمود وارجع راشدًا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق، ففعل مثل ذلك، وصرفوه إلى الحرم، فبرك وأبى أن يقوم،
(1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".
وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل، فأرسل الله عز وجل طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجرانِ في رجليه، وحجرٌ في منقاره أمثال الحِمِّص والعدس، فلما غشين القوم، أرسلتها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدًا إلا هلك، وليست كلَّ القوم أصابت، وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي منه جاؤوا، يتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، ونفيل ينظر إليهم من بعض تلك الجبال، وصرخ القوم، وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق، ويهلكون كل مهلك، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعل تتساقط أنامله، كما سقطت أنملة، أتبعها مِدَّة من قيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، ثم هلك.
قال الواقدي: فأما محمود فيلُ النجاشي، فربض، ولم يجسر على الحرم، فنجا، والفيل الآخر شَجُع؛ أي: جَسُرَ، فحُصب، أي: رُمي بالحصباء، رواه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، عن سعيد بن جبير، وعكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو المشار إليه بقوله -تعالى-:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] السورة، وكان ذلك قبل مولد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والمشهور أنه كان في العام الذي ولد وفيه صلى الله عليه وسلم.
قال مقاتل: كان معهم فيل واحد، وقال الضحاك: كانت ثمانية، وقيل: اثنا عشر سوى الفيل الأعظم (1)، (وسلط عليها)؛ أي: على مكة
(1) انظر: "السيرة النبوية" لابن إسحاق (1/ 38)، وما بعدها، و"تفسير الطبري"(30/ 299) وما بعدها، وعنه نقل الشارح رحمه الله، و"الثقات" لابن حبان (1/ 16)، وما بعدها.
المشرفة (رسولَه) محمدًا صلى الله عليه وسلم (و) أصحابه (المؤمنين)، فلم يحبسهم عنها كما حبس الفيل وأصحابه؛ لأن مقصود أصحاب الفيل الفساد والإفساد، فهم محاربون لله ولبيته وأهله، ومقصود الرسول والمؤمنين استنقاذ بيته المعظّم من أيدي عبدة الأوثان والأصنام، وما كانوا يصنعون فيه وعليه من الأنصاب والأزلام، فالله سبحانه وتعالى أذن لرسوله، ولم يأذن
لغيره.
(وإنها) أي: مكة -زادها الله تشريفًا وتعظيمًا- (لم تحلَّ لأحد) من الخلق كان (قبلي ولا تحل لأحد) من الخلق يأتي من (بعدي، وإنما أحلت) مكة المشرفة (لي ساعة من نهار)، وكانت تلك المدةُ التي أُحلت له المعبر عنها بالسّاعة من صبيحة يوم الفتح إلى العصر كما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (1) - كما تقدم عن صاحب "الهدي" -أيضًا-، وتقدم في كتاب: الحج مفصلًا.
(وإنها ساعتي هذه) التي أُحلت في ولمن أطلقْتُ سيفَه فيها بعد مقامي هذا (حرام)، أي: عادت حرامًا كما كانت، (لا يعُضد) -بضم أوله وفتح ما قبل آخره- مبنيًا لما لم يسمَّ فاعله، (شجرُها) -بالرفع-: نائب الفاعل؛ أي: لا يُقطع، يقال: عضدت الشجر أعضده عَضْدًا، فالعَضَد -بالتحريك-: المعضود، ومنه الحديث:"لوددتُ أني شجرةٌ تُعضد"(2)،
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه الترمذي (2312)، كتاب: الزهد، باب: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا"، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (4190)، كتاب: الزهد، باب الحزن والبكاء، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
وفي حديث طهفة: ونستعضد البرير (1)، يعني: ثمر الأراك؛ أي: نقطعه ونجنيه من شجره للأكل (2).
(ولا يُخْتلى) أي: يُقطع، ويُحش (شوكها) أي: مكة، يعني: حرمها.
قال في "الفروع": يحرم قلع الشجر إجماعًا، ونباته، حتى الشوك، خلافًا للشافعي، إلا اليابس، فإنه كالميت (3).
(ولا تُلتقط ساقطتُها)؛ أي: مكة، يعني: حرمها، (إلا لمُنْشِد) عنها لأجل التعريف، فإذا عرفها التعريفَ الشرعيَّ، ملكها كسائر اللقط، هذا معتمد مذهبنا، كالحنفية والمالكية، فلا خصوصية للقطة الحرم.
وقال الشافعية: لا يملكها، وعليه أن يعرِّفها أبدًا، فلا تُلتقط القطة الحرم إلا لمجرد التعريف، واستدلوا بهذا الحديث ونحوه، قالوا: لأن الكلام ورد مورد الفضائل المختصة بها، كتحريم صيدها، وقطع شجرها، فإذا سوينا بين لُقطة الحرم وغيره من البلاد، بقي ذكر اللقطة في هذا الحديث خالٍ عن الفائدة، وهذه رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة من متأخري علمائنا (4).
(ومن قُتل لَهُ) -بضم القاف وكسر المثناة تحت- مبنيًا للمفعول، (قتيل) نائب الفاعل، (فهو)؛ أي: وليُّ المقتول، (بخير النظرين) أراد بالنظر هنا:
(1) رواه ابن الأعرابي في "معجمه"، وأبو نعيم، من طريق العوام بن حوشب، عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن طهفة بن أبي زهير، به. كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة"(3/ 546).
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 251 - 252).
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 351).
(4)
انظر: "المبدع" لأبي إسحاق ابن مفلح (5/ 284).
الرأي، فهو مخير (إما أن يقتل) الذي قتل موليه قصاصًا حيث كان كُفئًا له، (وإما أن يُفدى) -بضم الياء المثناة تحت- من أفدى، يقال: أفدى الأسير: قبل منه فديته، ويقال: فاداه يفاديه مفاداة: إذا أعطى فداءه وأنقذه (1).
وفي رواية في "الصحيحين": "فهو بخير النظرين، إما أن يعطي الدية، وإما أن يقاد أهل القتيل"(2).
وفي "السنن" عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصيب بدمٍ أو خبل"، والخبل: الجراح، "فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد الرابعة، فخذوا علي يديه: أن يقتل، أو يعفو، أو يأخذ الدية، فمن فعل شيئًا من ذلك، فعاد، فله نارُ جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا" رواه الإمام أحمد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (3).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فقال الله -تعالى- لهذه الأمة:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] الآية، {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]، قال: العفو: أن يقبل في العمد الدية، والاتباع بالمعروف: أن يتبع الطالب بمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1702)، (مادة: فدى).
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1355/ 448).
(3)
رواه أبو داود (4496)، كتاب: الديات، باب: الإمام يأمر بالعفو في الدم، وابن ماجه (2623)، كتاب: الديات، باب: من قتل له قتيل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، والإمام أحمد في "مسنده"(4/ 31).
وقد ذكره الترمذي في "سننه"(4/ 21) عقب حديث (1406) دون إسناد، وإنما قال: وروي عن أبي شريح الخزاعي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره.
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] فيما كتب على من كان قبلكم. رواه البخاري، والنسائي، والدارقطني (1).
والحاصل: أن القتل ثلاثة أنواع:
أحدها: العمد المحض، وهو أن يقصد من يعلمه معصومًا بما يقتل غالبًا، سواء كان يقتل بحده، كالسيف ونحوه، أو بثقله، كالسندان والحجر الكبير، أو بغير ذلك، كالتحريق، والتغريق، والإلقاء من مكان شاهق، والخنق، وإمساك الخصيتين حتى تخرج الروح، وسقيِ السموم، ونحو ذلك من الأفعال، فهذا إذا فعله، وجب فيه القَوَد، وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل، فإن أحبوا، قتلوا، وإن أحبوا، عفوا، وإن أحبوا، أخذوا الدية، وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله، قال الله -تعالى-:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} [الإسراء: 33]، قيل في التفسير: لا يقتل غير قاتله (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في [كتابه](3)"السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية": من قتل بعد العفو، أو بعد أخذ الدية، فهو أعظم جرمًا ممن قتل ابتداء، حتى قال بعض العلماء: إنه يجب قتلُه حدًا، ولا يكون أمره لأولياء المقتول.
(1) رواه البخاري (4228)، كتاب: التفسير، باب:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، والنسائي (4781)، كتاب: القسامة، باب: تأويل قوله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} ، والدارقطني في "سننه"(3/ 86).
(2)
انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 122).
(3)
ما بين معكوفين ساقطة من "ب".
وقال: في قوله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] إلى قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه، وربما لم يرضوا بقتل القاتل، بل يقتلون كثيرًا من أصحاب القاتل، كسيد القبيلة، ومقدَّم الطائفة، فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء، ويعتدي هؤلاء في الاستيفاء كما كان يفعله أهل الجاهلية، وكما يفعله الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات من الأعراب والحاضرة وغيرهم، وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيمًا أشرفَ من المقتول، فيفضي ذلك إلى أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل، وربما حالف هؤلاء قومًا، واستعانوا بهم، وهؤلاء قومًا، فيفضي إلى الفتن والعداوات العظيمة، وسبب ذلك كله خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى، فكتب سبحانه وتعالى علينا القصاص، وهو المساواة والمعادلة في القتلى، وأخبر أن فيه حياةً، فإنه يحقن دمَ غيرِ القاتل من أولياء الرجلين، وأيضًا إذا عَلم من يريد القتل أنه يُقتل، كفَّ عن القتل.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، وغيرهما من حديث علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم وأموالهم، وهم يدٌ على مَنْ سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يُقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده"(1)، فقضى عليه الصلاة والسلام أن المسلمين تتكافأ
دماؤهم؛ أي: تتساوى وتتعادل، فلا يفصّل عربي على عجمي، ولا قرشي أو هاشمي على غيره من المسلمين، ولا حر أصلي على مولى عتيق،
(1) تقدم تخريجه.
ولا عالم أو أمير على أميّ أو مأمور، وهذا متفق عليه بين المسلمين، بخلاف ما كان عليه الجاهلية وحكام اليهود، فإن بني النضير كانت تتفضل على قريظة في الدماء، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وفي حد الزنا، فأنزل الله -تعالى-:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] الآيات (1).
(فقام رجل) لما سمع خطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم (من أهل اليمن يقال له)؛ أي: لذلك الرجل الذي قام: (أبو شاه) -بالهاء- في الوقف والدرج، ولا يقال -بالتاء-، خلافًا لما قاله ابن دحية، ونقل عن الحافظ الدمياطي أنه -بالتاء مفتوحة-.
قال النووي: لاخلاف أنه بالهاء في آخره (2)، فلا يغتر بكثرة من يُصَحِّفه ممن لا يأخذ العلم على وجهه ومن مَظانِّه (3)، ومثله شاه الكرماني الصوفي الزاهد، هو -بالهاء- في الوقف والدرج.
قال البرماوي: وأبو شاه هذا لا يعرف اسمُه، ولا يعرف له غيرُ هذه القصة (4).
(فقال) أبو شاه للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسولَ الله! اكتبوا لي)؛ أي: ما قُلْتَه في هذه الخطبة من الحكم في حرمة مكة والحرم، ومن حكم الدماء، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه) ما طلبه، (ثم قام العباس) رضي الله عنه
(1) انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 123 - 124).
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 129).
(3)
انظر: "عمدة القاري" للعينى (2/ 166).
(4)
وانظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1687)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 202).
(فقال: يا رسول الله! إلا الإذخِرَ)، فإنا لا غنى لنا عنه، (فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا) ليلقَى التراب، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر)، فهو مستثنى من نبات الحرم -كما تقدم في الحج-، والله أعلم.
تنبيهان:
الأول: يعتبر للقصاص شروط:
منها: كون الجاني مكلفًا، وكون المقتول معصومًا، فلا قصاص ولا دية ولا كفارة في قتل حربي ولا مرتد قبل توبته، ولا زانٍ محصن ولو قبل ثبوته عند حاكم، ولا محارب تحتَّمَ قتلُه.
ومنها: أن يكون المجني عليه مكافِئًا للجاني، وهو أن يساويه في الدين والحرية والرق، فلا يقتل المسلم بالكافر، ولو ذميًا (1).
وفي "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح البخاري"، وفي "سنن أبي داود"، والترمذي، والنسائي من حديث أبي جُحيفة، قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقلُ، وفكاكُ الأسير، وأَلَّا يقتل مسلم بكافر (2).
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 101 - 102).
(2)
رواه البخاري (2882)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فكاك الأسير، وأبو داود (2034)، كتاب: المناسك، باب: في تحريم المدينة، والنسائي (4744)، كتاب: القسامة، باب: سقوط القود من المسلم للكافر، والترمذي (1412)، كتاب: الديات، باب: ما جاء لا يقتل مسلم بكافر، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 79).
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا:"ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده"(1).
وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى ألَّا يقتل مسلم بكافر (2)، وتقدم، وكذا لا يقتل الحر بالرقيق كما تقدم الكلام على ذلك.
ومنها: ألَّا يكون القاتل أبًا -كما تقدم-.
فمتى ورث ولدُ القاتل القصاص، أو شيئًا منه، أو ورث القاتل شيئًا من دمه، سقط القصاص، فلو قتل أحد الزوجين صاحبه، ولهما ولد، لم يجب القصاص؛ لأنه لو وجب، لوجب لولده، ولا يجب للولد قصاصٌ على أبيه؛ لأنه إذا لم يجب بالجناية عليه، فلأن لا يجب بالجناية على غيره أولى، وسواء كان له من يشاركه في الميراث، أو لم يكن؛ لأنه لو ثبت القصاص، لوجب له جزء منه، ولا يمكن وجوبه، وإذا لم يثبت بعضه، سقط كله؛ لأنه لا يتبعض، وصار كما لو عفا بعضُ مستحقي القصاص عن نصيبه منه، فإن لم يكن للمقتول ولد منها، وجب القصاص في قول أكثر أهل العلم، منهم: عمر بن عبد العزيز، والنخعي، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، وقال الزهريّ؟: لا يقتل الزوج بامرأته؛ لأنه ملكها بعقد النكاح أشبه الأمة (3).
والمعتمد: وجوب القصاص، لوجود المكافأة، وقوله: إنه ملكها غيرُ صحيح، وإنما ملك الانتفاع بالبضع، والانتفاع بها من أنواع التمتع.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 228).
الثاني: أجمع أهل العلم على أن الحر المسلم يقاد به قاتله، وإن كأن مجدَّعَ الأطراف معدومَ الحواس، والقاتلُ صحيح سويُّ الخلق، أو كان بالعكس، وكذلك إن تفاوتا في العلم والشرف، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والقوة والضعف، والكبر والصغر.
ويجري القصاص بين الولاة والعمالك وبين رعيتهم (1)، لعموم الآيات والأخبار، وليس في هذا خلاف بين أئمة المسلمين، والله -تعالى- الموفق.
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 111 - 112).