الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الخَمْرَ، فَجَلَدَ بِجَرِيدٍ نَحْوَ أَرْبَعِينَ.
قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفُّ الحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (6391)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في ضرب شارب الخمر، و (6394)، باب: الضرب بالجريد والنعال، ومسلم (1706/ 35)، واللفظ له، إلا أنه قال:"بجريدتين"، و (1706/ 36 - 37)، كتاب: الحدود، باب: حد الخمر، وأبو داود (4479)، كتاب: الحدود، باب: الحد في الخمر، والترمذي (1443)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في حد السكران، وابن ماجه (2570)، كتاب: الحدود، باب: حد السكران.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (3/ 338)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 221)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 540)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 127)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 215)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 135)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1487)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 322)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 63)، و"عمدة القاري" للعيني (23/ 268)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 448)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 28)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 314).
(عن) أبي حمزة (أنسِ بنِ مالك) الأنصاريِّ ثم النجَّاريِّ (رضي الله عنه) خادمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي) -بضم الهمزة مبنيًا للمجهول، ونائب الفاعل الضمير في أتي يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (برجل)، يحتمل أن يفسر هذا الرجل المبهم بالنعيمان، أو بابن النعيمان.
قال في "مختصر الاستيعاب"(1) في ترجمة نعيمان بن عمرو: وقال أبو عمر: كان نعيمان رجلًا صالحًا على ما كان فيه من الدعابة، وكان له ابن قد انهمك في شرب الخمر، فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أربع مرات، وقال صلى الله عليه وسلم للذي لعنه:"لا تلعنْه؛ فإنه يحبُّ الله ورسوله"، قال: وقد روي ذلك في النعيمان نفسه (2).
ويحتمل أن يفسر بعبد الله الملقب بحمار، ففي البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا، فأمر به فجُلد، فقال رجلٌ من القوم: اللهم العَنْه، ما أكثرَ ما يُؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تلعنوه، فوالله! -ما علمتُ- أنه يحبُّ الله ورسوله" أخرجه البخاري في باب: ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج عن الملة (3).
وأخرج عن أبي هريرة، قال: أُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمر بضربه، فمنا
(1) هو كتاب: "روضة الأحباب في مختصر الاستيعاب" لأبي العباس أحمد بن حمدان الأذرعي الشافعي، المتوفى سنة (783 هـ). انظر:"هدية العارفين" للبغدادي (1/ 61).
(2)
انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1529 - 1530).
(3)
رواه البخاري (6398)، كتاب: الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة.
من يضربه بيده، ومنا من يضربه بنعله، ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف، قال رجل من القوم: ما له؟! أخزاه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تكونوا أعوانَ الشيطان على أخيكم"(1).
قال القاضي جلال الدين بن البلقيني في كتابه "الإفهام فيما في البخاري من الإبهام": الذي قال: اللهم العنه هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2).
(قد شرب الخمر، فجلده) صلى الله عليه وسلم (بجريد) من جرائد النخل (نحوَ أربعين) جلدةً، (قال) أنس رضي الله عنه:(وفَعَلَه) يعني: كان يجلد الشاربَ بجريد النخل أربعين جلدة خليفةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبو بكر) الصديق -رضوان الله عليه-، (فلما كان عمر) بن الخطاب؛ يعني: وَلِيَ الخلافة بعد الصديق -رضوان الله عليهما- (استشار) عمرُ رضي الله عنه (الناسَ) من وجوه الصحابة المكرمين من أعيان الأنصار والمهاجرين -رضوان الله عليهم أجمعين-، (فقال عبد الرحمن) بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم:(أخفُّ الحدود ثمانون) جلدة؛ يعني: حد القذف، ولأن السكران قل أن يسلم من الفرية على المسلمين، فلما كان في مظنة ذلك، نقل إلى حده، (فأمر به) بأن يجلد الشاربُ للخمر ثمانين جلدة سيدُنا (عمر) بن الخطاب، وذلك لما تمادى الناسُ في شرب المسكر، فاستقر حدُّ المسكر على ثمانين جلدة.
وبهذا قال الإمام أحمد في أصح الروايتين عنه، وهو مذهب مالك،
(1) رواه البخاري (6399)، كتاب: الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة.
(2)
وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 67).
والثوري، وأبي حنيفة، ومن تبعهم؛ لإجماع الصحابة، فإن عمر رضي الله عنه لمّا استشار الصحابة، وقال له عبد الرحمن ما قال، ضرب عمر السكرانَ ثمانين، وكتب به إلى خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بالشام.
وروي أن عليًا رضي الله عنه قال في المشورة: إنه إذا سكر، هذى، وإذا هذى، افترى، فحدوه حدَّ المفتري.
وروى ذلك الجوزجاني، والدارقطني، وغيرهما (1).
وفي رواية عن الإمام أحمد: أن حده أربعون، اختاره أبو بكر، وهو مذهب الشافعي؛ لأن عليًا رضي الله عنه جلد الوليدَ بنَ عقبة أربعين، ثم قال: جلد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحبُّ إليّ، رواه مسلم، ولفظ "صحيح مسلم" عن حصين: أن المنذر بن المنذر قال: شهدتُ عثمان بن عفان أُتي بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان -أحدهما حمران-: أنه شرب الخمر، وشهد آخر: أنه رآه يتقاياها، فقال عثمان: إنه لم يتقاياها حتى شربها.
فقال: يا علي! قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسنُ فاجلدهُ، فقال الحسن: ولّ حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبدَ الله بنَ جعفر قم فاجلده، فجلده، وعليٌّ يعدُّ حتى بلغ أربعين، ثم قال: أمسك، ثم قال: جلد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحبُّ إلي (2).
(1) رواه الدارقطني في "سننه"(3/ 157)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 320)، من حديث عبد الرحمن بن أزهر رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (1707/ 38)، كتاب: الحدود، باب: حد الخمر. وانظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 137).
قال الحافظ عبد الحق: لم يخرج البخاري هذا الحديث، لكن ذكر أن عثمان جلد الوليدَ أربعين، وفي رواية: ثمانين، قال: والأول أصح، ذكره في هجرة الحبشة في مناقب عثمان، وقال: ثم دعا عليًا رضي الله عنه، فأمره أن يجلده، فجلده ثمانين (1).
تنبيهات:
الأول: لا يخفى أن صنيع الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- أن هذا الحديث من متفق الشيخين، وليس كذلك، بل خرجه الإمام أحمد (2)، ومسلم في "صحيحه"، وأبو داود، والترمذي، وصححه (3)، ولم يخرجه البخاري، بل وافق مسلمًا (4) في إخراج حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين.
قال الحافظ عبد الحق في "جمعه بين الصحيحين": لم يذكر البخاري مشورةَ عمر، ولا فتوى عبد الرحمن بن عوف، وحديثه عن أنس، قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، ولم يقل عن النبي صلى الله عليه وسلم: أربعين (5).
وأخرج الإمام أحمد، والبخاري عن عقبة بن الحارث: أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) رواه البخاري (3493)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عثمان بن عفان.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 176).
(3)
وتقدم تخريجه عندهم.
(4)
في "ب": "مسلم".
(5)
انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (2/ 640)، حديث رقم (2932، 293).
أُتي بالنعيمان، أو ابن النعيمان وهو سكران، فشق عليه، وأمر مَنْ في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال، فكنت فيمن ضربه (1).
وأخرج الإمام أحمد، والبخاري أيضًا، عن السائب بن زيد، قال: كنّا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إمارة أبي بكر، وصدرٍ من إمارة عمر، فنقوم إليه فنضربه به بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان صدرًا من إمارة عمر، فجلد فيها أربعين، حتى إذا عتوا فيها، وفسقوا، جلد ثمانين (2).
الثاني: كلُّ شراب أسكرَ كثيرُ، فقليلُه حرام، من أي شيء كان، ويسمى: خمرًا، ولا يجوز شربه للذة، ولا لتداوٍ، ولا عطش؛ بخلاف ماءٍ نجس.
والحاصل: أنه لا يجوز شرب المسكر بحال إلا لمكرَه، أو مضطر إليه لدفع لقمة غَصَّ بها، وليس عنده ما يُسغيها به، ويقدم عليه بول، ويقدم عليهما نجس (3).
وفي "المغني"(4) وغيره: إن شربها لعطشٍ، فإن كانت ممزوجة بما يروي من العطش، أبيحت لدفعه عند الضرورة، وإن شربها صرفًا، أو ممزوجة بشيء يسير لا يروي، لم تبح، وعليه الحد، انتهى (5).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 8)، والبخاري (6392)، كتاب: الحدود، باب: من أمر بضرب الحد في البيت.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 449)، والبخاري (6397)، كتاب: الحدود، باب: الضرب بالجريد والنعال.
(3)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 239).
(4)
انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 137).
(5)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 239).
الثالث: متى شرب المسلمُ المكلف شيئًا من المسكرات مختارًا عالمًا أن كثيره يُسكر، سواء كان من عصير العنب أو غيره من المسكرات، قليلًا كان أو كثيرًا، ولو لم يسكر الشارب، فعليه الحد ثمانون جلدة إن كان حرًا، وعلى الرقيق أربعون، ولا حدَّ ولا إثمَ على مكرَه على شربها، سواء أُكره بالوعيد، أو بالضرب، أو ألجىء إلى شربها بأن يُفتح فوه ويُصبَّ فيه، وصبرُه على الأذى أولى من شربها (1).
وقالت طائفة: لا يُحد إلا إن سكر، منهم: أبو وائل، والنخعي، وكثير من أهل الكوفة، وأصحاب الرأي.
وقال أبو ثور: من شربه معتقدًا تحريمه، حُدَّ، ومن شربه متأولًا، فلا حد عليه؛ لأنه مختلف فيه، فأشبه النكاح بلا ولي.
ومعتمد المذهب: يُحد بكل حال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر، فاجلدوه" رواه أبو داود (2)، وغيره، وقد ثبت أن كل مسكر خمر كما يأتي بيان ذلك في كتاب الأشربة مستوفى، فيتناول الحديث قليله وكثيره، ولأنه شراب فيه شدة مطرِبة، فوجب الحدُّ بقليله كالخمر، والاختلاف فيها لا يمنع وجوبَ الحد فيها؛ بدليل ما لو اعتقدَ تحريمها، وبهذا فارق النكاحَ بلا ولي وغيرَه من المختلَف فيه، وقد حَدَّ عمر رضي الله عنه قدامة بن مظعون وأصحابه مع اعتقادهم حِلَّ ما شربوه، والفرقُ بين هذا وبين سائر المختلَف فيه من وجهين:
أحدهما: إن فعلَ المختلَف فيه هنا داعية إلى فعل ما أُجمع على
(1) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(2)
تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4485)، من حديث قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه.
تحريمه، وفعل سائر المختلف فيه يصرف عن جنسه من المجمَع على تحريمه.
الثاني: أن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قد استفاضت بتحريم المختلَف فيه، فلم يبق فيه لأحد عذر في اعتقاد إباحته، بخلاف غيره من المجتهدات.
قال أحمد بن قاسم: سمعت أبا عبد الله؛ يعني: الإمام أحمد رضي الله عنه يقول: في تحريم المسكر عشرون وجهًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، في بعضها:"كل مسكر خمر"، وبعضها "كل مسكر حرام"(1)، والله تعالى الموفق.
(1) تقدم تخريجهما. وانظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 136 - 137).