المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الرابع عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ جَارِيةً - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٦

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب القصاص

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌كتاب الحدود

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب حد السرقة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب حد الخمر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌كتاب الأيمان والنذور

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب النذر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب القضاء

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب الصيد

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

الفصل: ‌ ‌الحديث الرابع عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ جَارِيةً

‌الحديث الرابع

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ جَارِيةً وُجِدَ رَأْسُهَا مَرْضُوضًا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ؟ فُلَانٌ، فُلَانٌ، حتَّى ذُكرَ يَهُودِي، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخذَ اليَهُودِيُّ، فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ [يُرَضَحَ](1) رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ (2).

(1) كذا ذكره الشارح رحمه الله في "شرحه" هذا، والذي في "الصحيحين":"يُرَضّ".

(2)

* تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (2282)، كتاب: الخصومات، باب: ما يذكر في الإشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم والذمي، و (2595)، كتاب: الوصايا، باب: إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة جازت، و (4989)، كتاب: الطلاق، باب: الإشارة في الطلاق والأمور، و (6482)، كتاب: الديات، باب: سؤال القاتل حتى يقر، والإقرار في الحدود، و (6483)، باب: إذا قتل بحجر أو بعصا، و (6485)، باب: من أقاد بالحجر، و (6490)، باب: إذا أقر بالقتل مرة فتل به، ومسلم (1672/ 16 - 17)، كتاب: القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلات، وقتل الرجل بالمرأة، وأبو داود (4527 - 4529)، كتاب: الديات، باب: يقاد من القاتل، و (4535)، باب: القود بغير حديد، والنسائي (4741 - 4742)، كتاب: القسامة، باب: القود من الرجل للمرأة، وابن ماجه (2665)، كتاب: الديات، باب: يقتاد من القاتل كما قتل.

ص: 120

وَلَمُسْلِم والنَّسَائي عَنْ أَنَس بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ، فَأَقَادَهُ بِهَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم (1).

* * *

(عن) أبي حمزة (أنسِ بنِ مالك رضي الله عنه: أن جارية)؛ أي: من الأنصار، ولم يسمِّها البرماوي، ولا في "الفتح"(وجد) -بضم الواو وكسر الجيم- مبنيًا للمفعول، (رأسُها) -بالرفع- نائب الفاعل، (مرضوخًا)، منصوب على أنه مفعول ثان لوجد- وفي لفظ عند البخاري، وغيره: أن يهوديًا رضَّ رأسَ جارية (2)(بينَ حَجَرين).

قال في "المطالع": رضخ رأسه: شدخه (3)، وفي "شرح البخاري"

(1) رواه مسلم (1672/ 15)، كتاب: القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلات، وقتل الرجل للمرأة، والنسائي (4740)، كتاب: القسامة، باب: القود من الرجل للمرأة، واللفظ له، وكذا رواه البخاري أيضًا (6491)، كتاب: الديات، باب: قتل الرجل بالمرأة، والترمذي (1394)، كتاب: الديات، باب: ما جاء فيمن رضخ رأسه بصخرة، وابن ماجه (2666)، كتاب: الديات، باب: يقتاد من القاتل كما قتل.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"معالم السنن" للخطابي (4/ 14)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 169)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 467)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 24)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 157)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 93)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1421)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 198)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 252)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 48)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 236)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 160).

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2282، 2595، 6482، 6490).

(3)

وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 293).

ص: 121

للعيني: يقال: رَضَضت الشيءَ رَضًّا، فهو رَضيض ومرضوض (1)، وقال ابن الأثير: الرضُّ: الدق الجريش (2). قال العيني في رواية لمسلم: فرضخ رأسها بين حجرين (3)، وفي رواية أبي داود: رضخ رأسها بالحجارة (4)، وفي رواية الترمذي: فرضخ رأسها، وأخذ ما عليها من الحلي (5)، وقال: هذا الاختلاف في الألفاظ، لا في المعاني، فإن الرضخ والرض والرجم كله عبارة ها هنا عن الضرب بالحجارة، والرضخ -بالضاد والخاء المعجمتين- هو الدق والكسر، وهو المراد هنا، ويجيء بمعنى الشدخ (6).

قال الترمذي في روايته: فأدركت وبها رمق (7)، (فقيل) لها:(من فعل هذا بك)؟ أي: قال لها أهلُها ذلك، (فلان؟ فلان؟) بتقدير همزة الاستفهام كما هو في رواية البخاري (8)، فهو استفهام على سبيل الاستخبار (9)، فلم يزالوا يقولون لها مثل ذلك وهي غير موحية لأحد (حتى ذكر) لها (يهودي) لم يسمَّ، (فأومأت) لجارية (برأسها).

وقال ابن التين: صوابه فأومأت، وثلاثيه: ومأ (10)، وفي "المطالع"

(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 253).

(2)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 229).

(3)

تقدم تخريجه عند مسلم برقم (16/ 1672)، لكن بلفظ:"ورضخ رأسها بالحجارة".

(4)

تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4528).

(5)

تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1394).

(6)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 253).

(7)

تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1394).

(8)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2282، 2595، 6490).

(9)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 253).

(10)

المرجع السابق، الموضع نفسه.

ص: 122

يقال منه: وَمَأَ، وأَوْمَأَ (1)، وفي "الصحاح": أومأت إليه: أشرف إليه، ولا تقل: أومـ[ـيـ]ـت (2)، وفي "القاموس": ومأ إليه؛ كرضع: أشار؛ كأومأ، ووَمَأَ (3).

(فأُخذ اليهودي) الذي أومأت إليه، فسئل عما فعل بالجارية من رضخ رأسها، (فاعترف) بأنه هو الذي فعل بها ذلك، (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرضخ رأسُه)؛ أي: اليهودي الذي رضخ رأس الجارية (بين حجرين) كما فعل بها ذلك جزاءً وفاقًا.

احتج به عمر بن عبد العزيز، وقتادة، والحسن، وابن سيرين، وقال به جمهور الفقهاء: أحمد، والشافعي، ومالك، وأبو ثور، وإسحاق، وابن المنذر، وجماعة من الظاهرية، على أن القاتل يقتل بما قتل به.

وقال ابن حزم: قال مالك: إن قتله بحجر أو بِعصًا أو بالنار أو بالتغريق، قتل بمثل ذلك، يكرر عليه أبدًا حتى يموت.

وقال الشافعي: إن ضربه بحجر أو بِعصًا حتى مات، ضرب بحجر أو بِعصًا أبدًا حتى يموت، فإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات، حُبس مثلَ المدة حتى يموت، فإن لم يمت، قتل بالسيف، وهكذا إن غَرَّقه، وهكذا إن ألقاه من مَهْواة عالية، فإن قطع يديه ورجليه، فإن قطع يديه ورجليه، قطعت يدا القاتل ورجلاه، فإن مات، وإلا قتله بالسيف.

وقال أبو محمَّد: إن لم يمت، ترك كما هو حي حتى يموت، لا يُطعم

(1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 51).

(2)

انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 82)، (مادة: ومأ).

(3)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 71)، (مادة: ومأ).

ص: 123

ولا يسقى، وكذلك إن قتله جوعًا أو عطشًا، جُوِّع أو عُطِّش حتى يموت، ولا يراعى المدة أصلًا (1).

قلت: وما ذكره عن الإمام أحمد إنما هو على إحدى الروايتين عنه.

قال في "شرح المقنع": وإن قتله بغير السيف، مثل إن قتله بحجر أو هدم أو تغريق أو خنق، فهل يستوفي القصاص بمثل ما فعله؟ على روايتين:

إحداهما: له ذلك، وهو قول مالك، والشافعي.

والثانية: لا يستوفى إلا بالسيف في العنق، وبه قال أبو حنيفة فيما إذا قتله بمثل الحديد على إحدى الروايتين عنده، أو جرحه فمات (2).

وقال الإمام الموفق في "متن المقنع ": ولا يستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف في إحدى الروايتين، والأخرى: يفعل به كفعله، فلو قطع يديه، ثم قتله، فُعل به كذلك، وإن قتله بحجر، أو غرَّقه، أو غير ذلك، فعل به مثل فعله، وإن قطع يده من مفصلٍ أو غيره، أو أوضحه فمات، فعل به كفعله، فإن مات، وإلا ضربت عنقه (3).

وقال القاضي: يقتل، ولا يزاد على ذلك، رواية واحدة.

قال في "شرحه": اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في كيفية الاستيفاء، فروي عنه: لا يستوفى إلا بالسيف في العنق، وبه قال عطاء، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد؛ لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قود إلا

(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 253).

(2)

انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 404).

(3)

انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 242).

ص: 124

بالسيف" رواه ابن ماجه (1)؛ لأن القصاص أحد بدلي النفس، فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية، فإنه لو صار الأمر إليها، لم يجب إلا دية النفس، ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل الكل، وإتلاف الجملة، وقد أمكن هذا بضرب العنق، فلا يجوز تعذيبه بإتلاف أطرافه، كما لو قتله بسيف كل، فإنه لا يقتل بمثله.

والرواية الثانية عن الإمام أحمد قال: لأهل المقتول أن يفعلوا بالقاتل كما فعل، وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعي؛ لقوله -تعالى-:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، ولهذا الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل باليهودي مثل ما فعله، ويروى عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "من حرق حرقناه، ومن غرَّق غرَّقناه"(2)، ولأن موضوع القصاص على المماثلة، ولفظه مشعر به، فوجب أن يستوفى منه مثل ما فعل، كما لو ضرب العنق واحد آخر غيره.

وأما حديث: "فلا قود إلا بالسيف"، فقال الإمام أحمد: ليس إسناده بجيد (3).

(1) رواه ابن ماجه (2667)، كتاب: الديات، باب: لا قود إلا بالسيف، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. ورواه - أيضًا (2668)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وهو حديث ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(12/ 200).

(2)

رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 43)، من حديث عمران بن يزيد بن البراء، عن أبيه، عن جده، به. قال ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 317): وهذا لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قاله زياد في خطبته.

(3)

انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 400 - 401).

ص: 125

وفي "شرح البخاري" للبدر العيني: قال عامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: لا يقتل القاتل في جميع الصور إلا بالسيف (1)، واحتجوا بحديث النعمان بن بشير مرفوعًا:"لا قود إلا بحديدة" رواه أبو داود الطيالسي (2)، والطحاوي، ولفظه عنده:"لا قود إلا بالسيف"(3)، وأخرجه الدارقطني (4).

قلت: وفي إسناده جابر الجعفي مطعون فيه، لكن حديث ابن ماجه رواه عن أبي بكرة مرفوعًا سنده جيد (5)، وأخرجه البيهقي في "سننه" من حديث أبي هريرة مرفوعًا (6).

والحاصل: أن هذا الحديث روي عن عدة من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، والنعمان بن بشير، وأبو بكرة، وعبد الله بن مسعود، فقد تعددت طرقه، وتباينت مخارجه، فلا جرم لا أقلَّ من أن يكون حسنًا، وحينئذٍ يصح الاحتجاج به، ويسوغ الاعتماد على مفهومه، والتعويل على مضمونه.

(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 253).

(2)

رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(802).

(3)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 184).

(4)

رواه الدارقطني في "سننه"(3/ 106).

(5)

تقدم تخريجه عند ابن ماجه برقم (2668). قلت: والعجب من الشارح رحمه الله كيف جوَّد إسناد حديث أبي بكرة رضي الله عنه، والأئمة -كالبزار وابن عدي والبيهقي وغيرهم- قد نصُّوا على تضعيفه، كما ساق ذلك الحافظ ابن حجر في "الدراية"(2/ 265)، وفي "التلخيص الحبير"(4/ 19).

(6)

رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 63).

ص: 126

(و) في رواية (لمسلم) في "صحيحه" والإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني مصنف كتاب "السنن الكبرى" و"الصغرى"، و"الكبرى" أحد الكتب الستة، (والنسائي)، ويقال فيه: النَّسَوي نسبة إلى نَسا: كورة من كور نيسابور.

وقال المسعودي: نسا: من أرض فارس.

وقال الحافظ عبد الغني بن سعيد: نسا: موضع بخراسان.

قال الحاكم أبو عبد الله: كان النسائي إمامَ أهل الحديث، وكان يصوم الدهر، ويختم القرآن في كل يوم وليلة، فإذا كان رمضان، ختم في كل يوم مرتين، وكان يجاهد ويرابط، ولما امتُحن بدمشق، قال: احملوني إلى مكة، فحُمل إليها، ودفن بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة، وكانت وفاته في شعبان، قال ابن عساكر: في سنة ثلاث وثلاث مئة، كذا في البرماوي.

قلت: والذي قدمه ابن خلكان: أنه لما قدم دمشق، سئل عن معاوية وما روي له من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأس برأس حتى يفضل؟ وفي رواية قال: ما أعرف له فضيلة، ألا لا أشبع الله بطنك، قال: وكان يتشبع، فما زالوا يدفعون في حضنه حتى أخرجوه من المسجد، ثم حمل إلى الرملة، فمات بها.

وقال الدارقطني: لما امتحن النسائي بدمشق، قال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها كما ذكر البرماوي.

قال ابن خلكان: وكانت وفاته سنة ثلاث وثلاث مئة.

قال الحافظ أبو نعيم: مات النسائي بسبب ما داسه أهل دمشق، وكان

ص: 127

صنف الكتاب "الخصائص في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل البيت"، وأكثر رواياته فيه عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فقيل له: ألا تصنف كتابًا في فضائل الصحابة رضي الله عنهم؟ فقال: دخلت دمشق، والمنحرفُ عن علي رضي الله عنه كثير، فأردت أن يهديهم الله -تعالى- بهذا الكتاب.

قال ابن خلكان: وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا.

وقال الدارقطني: امتُحن بدمشق، فأدرك الشهادة.

قال: وتوفي يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاث مئة بمكة -حرسها الله تعالى-، وقيل: بالرملة من أرض فلسطين، وكان إمامًا في الحديث، ثقة ثبتًا حافظًا.

قال ابن خلكان: ومولده بنسا في سنة خمسر عشرة، [وقيل: أربع عشرة] (1) ومئتين، قال: ونَسَأ -بفتح النون وفتح السين المهملة وبعدها همزة-، وهي مدينة بخراسان، خرج منها جماعة من الأعيان (2)، والله أعلم.

(عن أنس بن مالك) أيضًا (رضي الله عنه: أن يهوديًا) من يهود المدينة (قتل جاريةً) من الأنصار (على أوضاحٍ)، جمع وضح -بالضاد المعجمة والحاء المهملة- وهو نوع من الحلي يُعمل من الفضة، سميت بها، لبياضها (3).

(1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

(2)

انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 77 - 78)، وعنه نقل الشارح رحمه الله ترجمته هذه. وانظر:"تهذيب الكمال" للمزي (1/ 328)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (14/ 125).

(3)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 195).

ص: 128

وفي رواية: أن رجلًا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في القليب، ورضخ رأسها بالحجارة (1)، (فأقاده)؛ أي: اقتص منه (بها)؛ أي: الجارية (النّبيُّ صلى الله عليه وسلم).

قال في "المطلع": القَوَدُ: القصاص، [وقتل القاتل](2) بدلَ القتيل، وقد أَقدتُه به أُقيده إقادةً، انتهى (3).

وفي "النهاية" في قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل عمدًا، فهو قود"(4) القود: القصاص، وقتلُ القاتلِ بدلَ القتيل، وقد أَقدته به أُقيده إقادة، واستقدت الحاكم: سألته أن يُقيدني، واقتدت منه، أَقتاد، فأما قال البعير، واقتاده، فبمعنى: جره خلفه (5).

وهذه اللفظة التي انفرد بها مسلم عن البخاري (6)، فإن ألفاظ "الصحيحين" غير ما تقدم: فأشارت، يعني: الجارية برأسها، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين حجرين (7).

(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1672/ 16).

(2)

في الأصل: "وقبل القائد"، والصواب ما أثبت.

(3)

انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 357).

(4)

رواه أبو داود (4540)، كتاب: الديات، باب: من قتل في عمياء بين قوم، والنسائي (4790)، كتاب: القسامة، باب: من قتل بحجر أو سوط، وابن ماجه (2635)، كتاب: الديات، باب: من حال بين ولي المقتول وبين القود أو الدية، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 119).

(6)

قلت: بل هي في البخاري -أيضًا- كما تقدم تخريجه عنده، ونبَّه على ذلك الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 303).

(7)

تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1672/ 15).

ص: 129

وفي لفظ آخر: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به أن يرجم حتى يموت، فرُجم حتى مات (1).

وفي آخر: فأمر به أن يُرَضَّ رأسُه بالحجارة، خرّجه البخاري في باب: الإشارة في الطلاق (2).

وفي لفظ آخر عن أنس قال: عدا يهودي على جارية، فأخذ أوضاحًا كانت عليها، ورضخ رأسها، فأتى بها أهلُها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أصمتت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قتلك فلان؟ " لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها: أَنْ لا (3).

وفي لفظ: فرفعت رأسها، قال:"فلان؟ " لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت برأسها: أَنْ لا، فقال:"فلان؟ " لقاتِلها، فأشارت: نعم، وفي لفظ: فقال لها في الثالثة: "فلان قتلك؟ "، فخفضت رأسها، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضخ رأسه بين حجرين (4).

والحاصل: أن الحديث دل على عدة أشياء:

منها: اعتبار الإشارة، وقد اختلف العلماء في العمل بمضمونها إذا كانت من مريض، فقال علماؤنا في كتاب: الوصايا: ولا تصح الوصية ممن اعتقل لسانه بإشارة، ولو فُهمت، إذا لم يكن ميئوسًا من نطقه كقادر،

(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1672/ 16).

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4989)، وهذا اللفظ ليس له، وإنما هو لمسلم برقم (1672/ 17)، ولفظ البخاري ما ذكره الشارح رحمه الله بعد هذا، فلعله سبق قلم منه رحمه الله.

(3)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4989).

(4)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6483).

ص: 130

ولا من أخرس لا تفهم إشارته، فإن فهمت، صحَّت (1).

وقالوا في كتاب: الطلاق: ويقع؛ أي: الطلاق بإشارة مفهومة من أخرس فقط، فلو لم يفهمها إلا البعض، فكناية (2).

وذهب الليث، ومالك، والشافعي إلى أن المريض إذا ثبتت إشارته على ما يعرف من حضره، جازت وصيته.

وقال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري: إذا سئل المريض عن الشيء، فأومأ برأسه أو بيده، فليس بشيء حتى يتكلم.

[قال أبو حنيفة: إنما تجوز إشارة الأخرس أو من لحقته سكتة لا يتكلم، (3)، وأما من اعتقل لسانه، فلا تجوز إشارته.

فإن قيل: هذا مصادمة للحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالجواب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقتل اليهودي لمجرد إشارة الجارية، ولكن أمر بذلك بعد اعترافه وإقراره أنه قتلها، فلا حجة فيه على الحنفية من هذا الوجه.

وقال الإسماعيلي: من أطاق الإبانة عن نفسه، لم تكن إشارته فيما له أو عليه واقعة موقع الكلام، لكن تقع موقع الدلالة والأمارة على ما يراد، إلا فيما يؤدي إلى الحكم على إنسان بإشارة غيره، ولو كان كذلك، لقبلت شهادة الشاهدين بالإشارة والإيماء (4).

ومنها: القتل بالمُثَقَّل عمدًا، هل يوجب القصاص؟

(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 127).

(2)

المرجع السابق، (3/ 458).

(3)

ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

(4)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 254).

ص: 131

قال الجمهور: يوجبه، وخالفهم أبو حنيفة، فأوجب عليه دية مغلظة، والحديث حجة عليه.

وأجاب العيني عن ذلك بأنه إنما أمر عليه السلام بقتل اليهودي؛ لأنه كان ساعيًا في الأرض بالفساد، فقُتل سياسة، فأورد عليه بأنه لو قتل لسعيه في الأرض بالفساد، لما قتل مماثلة برض رأسه بين الحجرين، وكان يجب أن يكون بالسيف في العنق، وأجاب: بأنه إنما قتل كذلك؛ لأنه كان قبل تحريم المثلة، فلما حرمت، نسخت، فكان القتل بعد ذلك بالسيف (1). ولا يخفى أنها دعوى بلا برهان.

ثم إن لنا عليه هذه الرواية التي في مسلم، والنسائي من حديث أنس حيث قال: فأقاده بها، فهذا خبر صحيح، وهذا بمدعانا صريح، والله أعلم.

ومن أوجب كونَ القود بالسيف، أجاب عن الحديث المذكور أنه صلى الله عليه وسلم رأى أن ذلك القاتل يجب قتله لله -تعالى- وللقود إذا كان إنما قتل على مال، كما يجب دم قاطع الطريق لله -تعالى-، فكان له أن يقتله كيف شاء بسيف أو بغيره، وقد ذكرنا أنه روي أنه أمر به عليه السلام أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات، فدلّ أن قتل القاتل لا يتعين فيه التماثل (2).

والذي أجاب به علماؤنا: أن ذلك كان حين كانت المثلة مباحة كما فعل عليه السلام بالعرنيين (3)، ثم نسخت بعد ذلك، ونهى عنها عليه السلام.

(1) المرجع السابق، (12/ 254 - 255).

(2)

المرجع السابق، (12/ 254).

(3)

سيأتي تخريجه.

ص: 132

وأما إن قتله بمحرَّم في نفسه كتجريع الخمر واللواط ونحوه، قتل بالسيف، رواية واحدة، وهو متفق عليه بين الأئمة، فلا يفعل به كفعله (1).

نعم حكي عن بعض الشافعية فيمن قتله باللواط: أنه يُدخل في دبره خشبة يقتله بها، وفيمن قتله بتجريع الخمر يجرعه الماء حتى يموت (2).

ولا ريب أن هذا -ولاسيما إدخال الخشبة في دبره- أمر مستبشَع، فلا تكاد تأتي الشريعة بمثله، والله -تعالى- أعلم.

(1) انظر: "الكافي" لابن قدامة (4/ 43).

(2)

قاله أبو إسحاق والإصطخري، كما ذكر النووي في "روضة الطالبين"(9/ 229)، وانظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 242)، وعنه نقل الشارح رحمه الله.

ص: 133