الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بكْرٍ رضي الله عنهما، قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا، فَأَكَلْنَاهُ (1).
وَفِي رِوَايَةٍ: وَنَحْنُ بِالمَدِينَةِ (2).
* * *
(عن) أم عبد الله (أسماءَ بنتِ أبي بكر) الصدّيق (رضي الله عنهما)
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (5191، 5193)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: النحر والذبح، و (5200)، باب: لحوم الخيل، ومسلم (1942)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: في أكل لحوم الخيل، والنسائي (4406)، كتاب: الضحايا، باب: الرخصة في نحر ما يذبح، وذبح ما ينحر، و (4420)، باب: نحر ما يذبح، وابن ماجه (3190)، كتاب: الذبائح، باب: لحوم الخيل.
(2)
رواه البخاري (5192)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: النحر والذبح، والنسائي (4421)، كتاب: الضحايا، باب: نحر ما يذبح.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 383)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 228)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 95)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 185)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1590)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 640)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 128)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 283)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 78)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 20).
تُدعى أسماءُ: ذاتَ النطاقين؛ لأنها شقت نطاقها ليلة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلته نطاقين، شدّت بأحدهما سُفْرَتَهُ صلى الله عليه وسلم، وجعلت الثاني عِصامًا لقِرْبته؛ كما نقله ابنُ عبد البر عن ابن إسحاق وغيره، قالت: وقال الزبير رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "بدَّلكِ الله بنِطاقك هذا نِطاقين في الجنة"(1)، فسميت: ذاتَ النطاقين، وقيل: إنها جعلت الثاني نطاقًا لها.
تزوجها الزبيرُ بن العوام بمكة، فولدت له عبد الله بن الزبير، وهو أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، وولدت له أيضًا عُروةَ، والمنذرَ، والمهاجرَ، وعاصمًا، وخديجةَ، وأم حسن، وعائشة.
وأسلمت أسماء رضي الله عنها بمكة قديمًا.
قال ابن إسحاق: بعد سبعة عشر إنسانًا، وبايعته صلى الله عليه وسلم، وكانت إذا مرضت تُعتق كلَّ مملوك لها، نقله ابن سعد في "طبقاته" عن فاطمةَ بنتِ المنذر بسند صحيح (2).
ونقل الواقدي: أن ابن المسيب كان من أعبر الناس للرؤيا، وأنه أخذ ذلك عن أسماء بنت الصديق، وهي أخذته عن أبيها الصديق الأعظم -رضوان الله عليهما-.
ثم طلقها الزبير بالمدينة. قيل: إن عبد الله رضي الله عنه منع أباه الزبير أن يدخل البيت حتى يطلق أمه، وقال: مثلي لا تكون له أم توطأ، أو كما قال، فطلقها، وبقيت عند ابنها إلى أن قُتل.
وهي أكبر من أختها عائشة أم المؤمنين بعشر سنين، وكانت أختَها من أبيها؛ لأن أمَّ أسماء قَتْلَة -بفتح القاف وسكون المثناة فوق-، قاله ابن
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(69/ 6).
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(8/ 251 - 252).
ماكولا وغيره. وقيل: قُتيلة -بالتصغير- ابنةُ عبد العزى بنِ عبد أسد (1)، وهي شقيقة عبد الله بن الصديق، وأمُّ عائشةَ أمُّ رومان بنةُ عامر بنِ عويمر بنِ عبد شمس من بني مالك بنِ كنانة.
واختُلف في إسلام أم أسماء، والأرجح أنَّها لم تسلم.
وماتت أسماء رضي الله عنها بعد ابنها رضي الله عنه بعشرة أيام، وقيل: بعشرين، وقيل: ببضعة وعشرين، بعد إنزال ابنها عن الخشبة التي صُلب عليها، وذلك سنة ثلاث وسبعين بمكة، وكان عمرها يومئذ مئة سنة، ولم يُنكر من عقلها شيء، ولم يسقط لها سن، غير أنَّها قد ذهب بصرها.
روى عنها: ابناها: عبدُ الله، وعروةُ، وابنُ عباس، وغيرهم.
روي لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وخمسون حديثًا، اتفقا على أربعة عشر، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بأربعة (2).
(قالت) أسماء رضي الله عنها: (نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسًا)، وفي لفظ عند البخاري وغيره عنه: ذبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)، (فأكلناه).
(1) انظر: "الإكمال" لابن ماكولا (7/ 102).
(2)
وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 249)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 55)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1481)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (69/ 9)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 58)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 7)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 597)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 123)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 287)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 486)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 426).
(3)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5192).
(وفي رواية) عند البخاري: (ونحن) ساكنون (في المدينة)؛ أي: بعد الهجرة، والجملة حالية.
وفي رواية الدارقطني: فأكلناه نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم (1).
واختلف شراح الحديث في توجيه قولها: نحرنا، وذبحنا، فقيل: يُحمل النحر على الذبح مجازًا، وقيل: وقع ذلك مرتين، وإليه جنح النووي (2)، ونظر فيه في "الفتح" بأن الأصل فيه عدم التعدد، والمخرج متحد، والاختلاف فيه على هشام، فبعض الرواة قال عنه: نحرنا، وبعضهم قال: ذبحنا، والمستفاد من ذلك جوازُ الأمرين، وقيامُ أحدِهما في التذكية مقامَ الآخر، وإلا لما ساغ الإتيان بهذا موضع هذا (3).
قال في "الفتح" كغيره: النحر في الإبل خاصة، وأما غير الإبل، فيذبح.
وقد جاءت أحاديث في ذبح الإبل، وفي نحر غيرها.
قال ابن التين: الأصل في الإبل النحر، وفي الشاة ونحوها الذبح، وجاء في القرآن ذكر ذبحها (4).
قال علماؤنا: والسنة نحر إبل، وذبحُ غيرها (5).
(1) رواه الدارقطني في "سننه"(4/ 290)، والطبراني في "المعجم الكبير"(24/ 87).
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 96).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 649).
(4)
المرجع السابق، (9/ 640).
(5)
انظر: "المحرر" للمجد بن تيمية (2/ 191).
قال في "الفتح": واختلف في ذبح ما يُنحر، ونحر ما يُذبح، فأجازه الجمهور، ومنعه ابن القاسم (1).
وقال ابن هبيرة في "اختلاف الأئمة": اتفقوا على نحر الإبل، وذبحِ ما عداها، فإن ذبح ما ينحر، أو نحر ما يذبح، فقال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد: يُبَاح، إلا أن أبا حنيفة مع الإباحة كرهه.
وقال مالك: إن نحر شاة، أو ذبح بعيرًا من غير ضرورة، لم يؤكل لحمها.
وقد حمله بعضُ أصحابه على الكراهة، وهو عبد العزيز بن أبي سلمة (2).
وقد روي عن مالك: أنه قال: من نحر البقر، فبئس ما صنع، وتلا قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67].
وفي "الفتح" عن أشهب: إن ذبح بعيرًا من غير ضرورة، لم يؤكل (3).
والنحر: طعنُ إبل ونحوها بمحدّد في لبتها، وهي الوَهْدة بين أصل الصدر والعنق (4).
قال في "الفتح": اللَّبَّةُ -بفتح اللام وتشديد الموحدة-: هي موضع القِلادة من الصدر، وهي المنحر (5).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 640).
(2)
انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 312).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 641).
(4)
انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 316).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 641).
ولابد من قطع حلقوم، وهو مجرى النفَس، وقطعُ مريء -بالمد-، وهو مجرى الطعام والشراب.
ومعتمد مذهبنا: إباحة الذبيحة بذلك من غير فرق بين القطع فوق الغلصمة، وهي الموضع الناتىء، أو دونها، وأنه لا يعتبر قطع شيء غيرها؛ لأنه قطع في محل الذبح ما لا يعيش به الحيوان مع قطعه، أشبه قطعهما مع الوَدَجَين، وهما: العرقان المحيطان بالحلقوم، ولا يشترط -على معتمد المذهب- إبانةُ الحلقوم والمريء بالقطع، والأكملُ: إبانتهما، وقطع الودجين (1).
وقال أبو حنيفة: يجب قطعُ الحلقوم والمريء وأحد الودجين لا بعينه، فمتى قطع هذه الثلاثة، حل أكله.
وعنه رواية أخرى: إن قطع كل أوداجه إلا عرقًا من الأربعة، حل أكله، وإن قطع النصف فما دونه من الأربعة، لم يحل.
وقال مالك: لابد من استيفاء قطع الحلقوم والودجين في قطع واحد.
وقال الشافعي: إذا قطع الحلقوم والمريء، أجزأه، ويسن قطع الودجين (2).
تنبيه:
ساق المصنف رحمه الله ورضي عنه- الحديث دليلًا على إباحة أكل لحوم الخيل.
ويستفاد من قول أسماء رضي الله عنها: ونحن بالمدينة بكون ذلك
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 316 - 317).
(2)
انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 311 - 312).
بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع أكلها بعلة أنها من آلات الجهاد. ومن قولها في الرواية التي عند الدارقطني: نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الردّ على من زعم أنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد، لم يظن بآل أبي بكر أنهم قدموا على فعل شيء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وعندهم العلمُ بجوازه؛ لشدة اختلاطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله عن الأحكام.
ومن ثم كان الراجح أن قول الصحابي: كنا نفعل كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في حكم المرفوع؛ لأن الظاهر اطلاعُه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتقريرُه، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابة، فكيف بالصديق الأعظم (1)؟!
قال أبو المظفر بن هبيرة في "اختلاف الأئمة": اختلفوا في لحوم الخيل:
فقال أبو حنيفة: يحرم أكلها.
وقال مالك: هي مكروهة، إلا أن كراهتها عنده دون كراهة السباع.
وقال الشافعي، وأحمد: هي مباحة، انتهى (2).
وفي "الفتح": ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل.
قال أبو جعفر الطحاوي: وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها، ولو كان ذلك مأخوذًا من طريق النظر، لما كان بين الخيل والحُمُر الأهلية فرق.
ولكن الآثار إذا صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يقال بها مما يوجبه
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 649).
(2)
انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 314).
النظر، ولاسيّما وقد أخبر جابر: أنه صلى الله عليه وسلم أباح لهم لحومَ الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر كما يأتي، فدلّ ذلك على اختلاف الحكم.
قال في "الفتح": وقد نقل الحلَّ بعضُ التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد.
أخرج ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح على شرط الشيخين، عن عطاء، قال: لم يزل سلفك يأكلونه.
قال ابن جريج: قلت له: أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم (1).
وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من كراهتها، فأخرجه ابن أبي شيبة (2)، وعبد الرزاق بسندين ضعيفين، والصحيح عنه خلافه.
قال في "الفتح": وصحّ القول بالكراهة عن الحكم بن عتبة، وبعض الحنفية، وعن بعض المالكية والحنفية التحريم.
قال الفاكهي: مشهورٌ عند المالكية الكراهةُ، والصحيح عند المحققين منهم التحريم.
وقال أبو حنيفة في "الجامع الصغير" له: أكرهُ لحم الخيل، فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه، وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلي.
وصحح أصحاب "المحيط"، و"الهداية"، و"الذخيرة" عنه التحريمَ،
(1) ورواه عبد الرزاق في "المصنف"(8733)، ولم أقف عليه عند ابن أبي شيبة في "مصنفه".
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(24318)، ولم أقف عليه عند عبد الرازق، والله أعلم.
وهو قول أكثرهم، وعن بعضهم: يأثم آكله، ولا يسمى حرامًا.
وقال أبو محمد بن أبي حمزة: الدليل على الجواز مطلقًا واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها؛ لكونها تُستعمل غالبًا في الجهاد، فلو انتفت الكراهة، لكثر استعماله، ولو كثر، لأدى إلى قتلها، فيفضي إلى فنائها، فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى:{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].
قال في "الفتح": فعلى هذا، فالكراهة لسببٍ خارج، وليس البحث فيه؛ فإن الحيوان المتفق على إباحته، لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح، لأفضى إلى ارتكاب محذور، لامتنع، ولا يلزم من ذلك القولُ بتحريمه (1)، والله تعالى الموفق.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 650).