الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنِّي زَنَيْتُ، فَأَعرَضَ عَنْهُ، فَتنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي زَنَيْتُ، فَأعرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَربَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَربَعَ شَهادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَبكَ جُنُون؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"فَهلْ أَحصَنْتَ؟ "، قَالَ: نَعَم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اذْهبُوا بِهِ فَارجُمُوهُ".
قالَ ابنُ شهابٍ: فَأَخبرَنَي أَبُو سَلَمَة بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أنَّه سَمعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمنَاهُ بالمُصلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ، هرَبَ، فَأَدرَكنَاهُ بِالحَرَّةِ، فَرَجمنَاهُ (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (4970)، كتاب: الطلاق، باب: الطلاق في الإغلاق والكره، وما لا يجوز من إقرار الموسوس، و (6430)، كتاب: المحاربين، باب: لا يرجم المجنون والمجنونة، و (6439)، باب: سؤال الإمام المقر: هل أحصنت؟، و (6747)، كتاب: الأحكام، باب: من حكم في المسجد، ومسلم (1691/ 15 - 16)، كتاب: الحدود، باب: رجم الثيب في الزنى، وأبو داود (4428)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، والترمذي (1428)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء عن المعترف إذا رجع، وابن ماجه (2554) كتاب: الحدود، باب: الرجم. =
الرجُلُ هُوَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ.
ورَوَى قِصَّتَهُ جَابِرُ بْنُ سَمُرَة (1)، وعَبْدُ الله بْنُ عبَّاسٍ (2)، وأبو سعيدٍ الخُدرِيُّ (3)، وبُرَيْدَةُ بنُ الحُصَيبِ الأَسْلَمِيُّ (4).
* * *
(عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه)؛ أي: أبا هريرة (قال: أتى رجلٌ) هو ماعِزُ بنُ مالكٍ الأسلميُّ -كما يأتي في كلام المصنف رحمه الله،- وهو -بكسر العين المهملة وبالزاي-، وقال بعض العلماء: ماعزٌ لقبٌ له، واسمُه: عَرِيب -بفتح العين المهملة وكسر الراء-، وهو معدود في
= * مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (3/ 317)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 510)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 100)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 191)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 117)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1459)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 394)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 259)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 10)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 6)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 259).
(1)
رواه مسلم (1692/ 17 - 18)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، وأبو داود (4422)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك.
(2)
رواه البخاري (6438)، كتاب: المحاربين، باب: هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت؟، ومسلم (1693)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، وأبو داود (4421، 4425 - 4427)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، والترمذي (1427)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في التلقين في الحد.
(3)
رواه مسلم (1694/ 20 - 21)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، وأبو داود (4431)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك.
(4)
رواه مسلم (1695)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا.
المدنيين، كتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام قومه كتابًا، روى عنه ابنه عبد الله حديثًا واحدًا، وجاء وصفُه والثناءُ عليه في طرق من حديث حدِّه في الزنا (1).
ففي مسلم من حديث بريدة: أن ماعزًا لما رُجِم، كان الناس فيه فرقتين، فقائل يقول: لقد هلك، قد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبةٌ أفضلُ من توبة ماعز، إنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا في ذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس، فسلم، ثم جلس، فقال:"استغفروا لماعز بنِ مالك"، فقالوا: غفرَ اللهُ لماعز بن مالك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد تابَ توبةً لو قُسمت بين أمة، لوسعتهم" الحديث (2).
وفي "أبي داود" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: لما أمر به صلى الله عليه وسلم، فرُجم، سمع رجلين من أصحابه يقول أحدُهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي سترَ الله عليه، فلم تدَعه نفسه حتى رُجم رجمَ الكلب، فسكت عنهما، وسار ساعةً حتى مَرَّ بجيفة حمار شائلًا رجله، فقال:"أين فلان وفلان؟ "، فقالا: نحن ذا يا رسول الله! قال: "كُلا من جيفة هذا الحمار"، فقالا: يا نبي الله! من يأكل من هذا؟ قال: "فما نِلْتُما من عِرض أخيكما آنِفًا أشدُّ من أكله، والذي نفسي بيده! إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها"(3).
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 324)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1345)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 6)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 383)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 705)، و"تعجيل المنفعة" له أيضًا (ص: 384).
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1695).
(3)
تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4428).
وفي "أبي داود" أيضًا، من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: أنا رأيت ماعزًا حين جيء به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قصيرا أعضلَ عليه رداء، الحديث (1).
والأعضل -بالضاد المعجمة- قال في "النهاية": الأعضل والعَضِل: المكتنز باللحم، والعَضَلَةُ في البدن: كلُّ لحمة صلبة مكتنزة، ومنه: عَضَلَة الساق، قال: ويجوز أن يكون أراد: أن عضلة ساقيه كبيرة (2).
وفي رواية: أتى رجل قصيرٌ أشعثُ ذو عضلات (3).
(من المسلمين)، بيان الواقع؛ لأن ماعزًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) بالنصب مفعولًا لأتى، (وهو)؛ أي: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (في المسجد) النبوي، جملة حالية، (فناداه)، أي: نادى ذلك الرجل الذي هو ماعز بنُ مالك الأسلميُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، (فقال) في ندائه:(يا رسول الله! إني زنيت)، وهذا أصح وأثبت من كل حديث في صفة إقرار ماعز.
وفي "مسلم": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز: "حقٌّ ما بلغني عنك؟ "، قال: وما بلغك عني؟ قال: "بلغني عنك أنك وقعتَ بجارية آل فلان"، قال: نعم (4).
وجاء في رواية لغير مسلم: أن قومه أرسلوه، فقال صلى الله عليه وسلم للذي أرسله:
(1) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4422)، وكذا عند مسلم برقم (1692).
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 253).
(3)
رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 142)، من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
(4)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1693)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
"لو سترتَه بثوبك يا هزَّالُ، لكان خيرًا لك"(1)، وهزَّال -بفتح الهاء وتشديد الزاي- كان ماعز تربَّى يتيما في حَجْره، والمشهور ما فى الروايات: أنه هو أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ويمكن أنه جاء أولًا من غير استدعاء، فذكر قومُه ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"أحقٌّ ما بلغني عنك؟ "، ثم جاء هو بنفسه، فقال ذلك، هذا معنى كلام الإمام النووي (2)، (فأعرضَ) رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (عنه)؛ أي: عن ماعز لما قال له: إني زنيتُ، (فتنحى) ماعز من مقامه الذي كان فيه إلى مكان (تلقاءَ)؛ أي: مقابلًا لـ (وجهه) الكريم، (فقال له) ثانيًا:(يا رسول الله! إني زنيت، فأعرضَ) صلى الله عليه وسلم (عنه) ثانيًا، ولم يزل ماعزٌ يقول ذلك ويصرِّحُ به معترفًا، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يُعرض عنه (حتى ثنى)؛ أي: إلى أن قال (ذلك)؛ أي: يصرح يقول: إني زنيت، (أربع مرات).
وفي حديث ابن عباس عند الإمام أحمد، ومسلم، وأبي داود، والترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز بن مالك: "أحقٌّ ما بلغني عنك؟ "، قال: وما بلغك عني؟ قال: "بلغني أنك وقعت بجارية لبني فلان"، قال: نعم، فشهد أربع شهادات، فأمر به فرجم (3).
قال البرماوي: التي زنى بها ماعز هي فاطمةُ مولاة هَزَّال -بفتح الهاء وتشديد الزاي- بن ذياب بنِ بريدٍ الأسلميِّ، وهو والد نُعَيم -بضم النون وفتح العين- بنِ هزَّال، قيل: له صحبه، وقيل: الصحبة لأبيه فقط، روى
(1) رواه أبو داود (4377)، كتاب: الحدود، باب: في الستر على أهل الحدود، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 217)، عن يزيد بن نعيم، عن أبيه.
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 197).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 328). وتقدم تخريجه عند مسلم وأبي داود والترمذي.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة ماعز، وأخرج له النسائي كما قاله [المزي](1).
قال أبو عمر بن عبد البر: ما كان له غير قول النبي صلى الله عليه وسلم.: "يا هَزَّالُ! لو سترته بردائك"(2).
وقيل: اسمها منيرة، وفي "طبقات ابن سعد" أن اسمها مهيرة (3).
وفي رواية عند أبي داود، قال: جاء ماعزُ بنُ مالكٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاعترف بالزنا مرتين، فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين، فقال:"شهدتَ على نفسك أربعَ مرات، اذهبوا به فارجموه"(4).
وفي حديث الصديق -رضوان الله عليه-، قال: كنتُ عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا، فجاء ماعزُ بنُ مالك، فاعترف عنده مرة، فردَّه، ثم جاء فاعترف عنده الثانية، فردَّه، ثم جاء فاعترف عنده الثالثة فردَّه، فقلت له: إنك إن اعترفت الرابعة، رجمَك، قال: فاعترف الرابعةَ، فحبسَه، ثم سأل عنه، فقالوا: ما نعلم إلا خيرًا، قال: فأمر برجمه، رواه الإمام أحمد (5).
وروي أيضًا من حديث بريدة، قال: كنا نتحدث -أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ماعز بن مالك لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات، لم يرجمه، وإنما رجمه عند الرابعة (6).
(1) في الأصل: "المزني"، والصواب ما أثبت. وانظر:"تهذيب الكمال" للمزي (30/ 171).
(2)
تقدم تخريجه قريبًا. وانظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1538).
(3)
انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 323).
(4)
تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4426)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 8).
(6)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 347)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 143).
(فلما شهد) ماعزُ بنُ مالك (على نفسه) أنه زنى (أربعَ شهادات) يصرِّح في كل مرة من الشهادات الأربِع بأنه زنى، (دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال) له: (أبك جنون؟ قال: لا) جنون بي، (قال) له صلى الله عليه وسلم:(فهل أحصنتَ؟ قال: نعم)، أي: قد أحصنتُ، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به)، أي: بماعز (فارجموه).
فيه دليل على أن الإحصان يثبُت بالإقرار مرة، وأن الجواب بنعم إقرار (1).
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الإمام أحمد، والبخاري، وأبي داود، قال: لما أتى ماعز بن مالك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال له:"لعلك قبلتَ، أو غمزتَ، أو نظرت"، قال: لا يا رسول الله، قال:"أنكتها"، لا يكني، قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه (2).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود، والدارقطني، قال: جاء الأسلمي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حرامًا أربعَ مرات، كل ذلك يُعرض عنه، فأقبل عليه في الخامسة، فقال:"أنكتها؟ "، قال: نعم، [قال] (3):"كما يغيب المِروَدُ في المكحلة؟ " أو "الرشاء في البئر؟ "، قال: نعم، قال:" [فهل] (4) تدري ما الزنا؟ "، قال: نعم، أتيتُ منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا، قال: "فما تريد بهذا
(1) انظر: "المنتقى" للمجد بن تيمية (3/ 49)، عقب حديث (3089).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 270)، وتقدم تخريجه عند البخاري وأبي داود.
(3)
[قال] ساقطة من "ب".
(4)
في الأصل: "ويك"، والصواب ما أثبت.
القول؟ "، قال: أريد أن تطهرني، فأمر به فرُجم (1).
فظهر أنه لابد من التصريح، فإن أقر بأنه أصاب حدًا، لم يقم عليه الحد.
ففي "الصحيحين" من حديث أنس رضي الله عنه، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله! إني أصبت حدًا، فأقمه عليَّ، ولم يسأله، قال: وحَضرَت الصلاةُ، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه الرجل، فقال: يا رسول الله! إني أصبت حدًا، فأقم فيَّ كتاب الله، قال:"أليس قد صليت معنا؟ "، قال: نعم، قال:"فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو حَدَّك"(2).
وروى الإمام أحمد ومسلم نحوه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
تنبيهات:
الأول: عُلم من هذا الحديث، ومن حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في قصة العَسيف: أن حد المحصَن الرجمُ حتى يموت، سواء كان الزاني المحصَن رجلًا أو امرأة، هذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولم يخالف فيه إلا الخوارج، فإنهم زعموا أن الجلد للبكر والثيب؛ لمفهوم عموم قوله
(1) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4428). ورواه الدارقطني في "سننه"(3/ 196).
(2)
رواه البخاري (6437)، كتاب: المحاربين، باب: إذا أقر بالحد، ولم يبين، هل للإمام أن يستر عليه؟ ومسلم (2764)، كتاب: التوبة، باب: قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، ولا ريب أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الرجمُ بقوله في أخبار كثيرة تشبه التواتر، وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم أنه كان قد نزل به كتاب يتلى، ثم نُسخ لفظه دون حكمِه.
قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله تعالى بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتُها وعَقَلْتُها ووعيتُها، رجم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان يقول قائل: ما نجد الرجمَ في كتاب الله تعالى، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجمُ حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت به البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، وقد قرأ لنا:(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، نكالًا من الله، والله عزيز حكيم) رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما (1).
ومع ثبوت هذه النصوص القولية والفعلية، والإجماع السابق، واتفاق الأئمة، فلا التفات لما زعم الخوارج، ولا ينبغي أن يشغل البال في الرد عليهم (2).
الثاني: اختلف العلماء في المحصَن هل يُجلد ثم يُرجم، أو يُقتصر على الرجم فقط؟
الذي استقرت عليه المذاهب الأربعة: الاقتصار على الرجم، وهو مروي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود رضي الله عنهم، قال ابن
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 39).
مسعود: إذا اجتمع حدان -فيهما القتل-، أحاط القتل بذلك (1)، وبه قال النخعي، والأوزاعي، والزهري، وأبو ثور، واحتجوا بقصة ماعز؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجمه، ولم يجلده، ورجم صلى الله عليه وسلم الغامديةَ، ولم يجلدها، ورجم الأسلميةَ في قصة العَسيف، ولم يجلدها، فكان هذا آخرَ الأمرين عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب تقديمه، وعمر رضي الله عنه رَجَمَ ولم يجلِدْ.
وعن الإمام أحمد رضي الله عنه رواية ثانية: أنه يجلَد، ثم يرجَم؛ لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعله، وبه قال ابن عباس، وأبيّ بن كعب، وأبو ذر رضي الله عنهم، وبه قال الحسن، وداود، وابن المنذر.
قال علي رضي الله عنه لما جلد شراحةَ، ثم رجمها: جلدتُها بكتاب الله، ثم رجمتُها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وروي أن عليًا رضي الله عنه جلدَ شراحةَ يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة (3).
الثالث: لابد لحدّ الزنا من ثبوته، ولا يثبت الزنا إلا بأحد (4) شيئين:
أحدهما: أن يقرّ أربع مرات في مجلس أو مجالس، وهو بالغ عاقل، ويصرح بذكر حقيقة الوطء، ولا ينزع عن إقراره حتى يتم الحد، وبهذا قال الحكم، وابن أبي ليلى، وأصحاب الرأي.
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(28126).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 141)، والحاكم في "المستدرك"(8086)، وغيرهما.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 140)، والدارقطني في "سننه"(3/ 123)، والحاكم في "المستدرك "(8087)، وغيرهم.
(4)
في "ب": "بإحدى".
وقال الحسن، وحماد، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر: يُحدّ بإقراره مرةً، لقصة العسيف؛ فإنه قال:"واغدُ يا أُنيسُ إلى امرأة هذا، فإن اعترفتْ، فارجمها"، واعترافُ مرة اعتراف، وقد أوجب عليها الرجم به، ورجم الجهينية، وإنما اعترفت مرة.
وقال عمر رضي الله عنه: إن الرجم حقٌّ واجب على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف (1).
قالوا: ولأنه حق، فيثبت باعتراف مرة؛ كالإقرار بالقتل.
ولنا قصةُ ماعز بن مالك، وإعراضُ النبي صلى الله عليه وسلم مرة بعد أخرى إلى ما بعد الرابعة، ولو وجب الحد بمرة، لم يعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز ترك حدٍّ وجبَ لله، وقد روى نُعيم بنُ هَزَّال حديثه، وفيه: حتى قالها أربع مرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنك قد قلتها أربع مرات فبمن؟ "، قال: بفلانة. رواه أبو داود (2)، هذا تعليم منه يدل على أن إقرار الأربع هي الموجبة، وتقدم أن الصديق رضي الله عنه قال له عند النبي صلى الله عليه وسلم: إن أقررتَ أربعًا، رجمَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (3)، وفي هذا دلالة من وجهين: كونه أقره على هذا ولم ينكره، فكان بمنزلة قوله؛ لأنه لا يقر على الخطأ، وكونه معلومًا من حكمه صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك ما تجاسر الصديق على قوله بين يديه.
قال الإمام أحمد -وقد سُئل عن الزاني يردد أربع مرات-: نعم، على حديث ماعز هو أحوط، قال الأثرم: قلت له: في مجلس واحد، أو
(1) رواه البخاري (6442)، كتاب: المحاربين، باب: رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت، ومسلم (1691)، كتاب: الحدود، باب: رجم الثيب في الزنا.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
مجالس متفرقة؟ قال: أما الأحاديث، فليست تدل إلا على مجلس واحد، إلا عن ذلك الشيخ بشير بن مهاجر، عن عبد الله بن بريد، عن أبيه، وذلك عندي منكر الحديث.
وقال أبو حنيفة: لا يثبت إلا بأربع إقرارات في أربعة مجالس؛ لأن ماعزًا أقرّ في أربعة مجالس، فلو أقرّ عن يمين الحاكم، ويسارِه، وأمامِه، وورائه، كانت أربعة مجالس.
ولنا: أن الحديث الثابت الصحيح إنما يدل على أنه أَقَرَّ أربعًا في مجلس واحد.
الثاني: أن يشهد عليه أربعةُ رجال عدولٍ يصفون الزنا، ويجيئون في مجلس واحد، سواء جاؤوا مجتمعين، أو متفرقين، ويشترط فيهم سبعة شروط:
* كونهم أربعة، وهذا بالإجماع.
* وكونهم رجالًا كلهم، فلا تقبل في الزنا شهادة النساء بحال، من غير خلاف بين الأئمة الأربعة.
* وكونهم أحرارًا، فلا تقبل فيه شهادة العبيد، من غير خلاف، إلا رواية عن الإمام أحمد، وهي معتمد مذهبه على متأخري علمائنا، وإن استثنى جماعة عدَم قبول شهادة العبيد في الحدود والقصاص، لكن الذي استقر عليه المذهب: قبولُ شهادتهم في كل ما تقبل فيه شهادة الحر، وهو قول أبي ثور.
* وكونهم عدولًا اتفاقًا.
* وكونهم مسلمين.
* وأن يصفوا الزنا؛ بأن يقولوا: رأينا ذَكَرَه في فرجها كالمِرْوَدِ في المكحلة، والرشاء في البئر، وهذا قول معاوية بن أبي سفيان، والزهري، والشافعي، وأبي ثور، وابن المنذر، وأصحاب الرأي؛ لما ذكرنا في قصة ماعز؛ فإنه لما أقر عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا، فقال:"أنكتها؟ "، فقال: نعم، فقال:"حتى غابَ ذلكَ منكَ في ذاكَ منها كما يغيب المرودُ في المكحلة، والرشاء في البئر؟ "، قال: نعم (1).
وإذا اعتبر التصريح في الإقرار، فاعتباره في الشهادة أولى، ولأنهم إذا لم يصفوا الزنا، احتمل أن يكون المشهودُ به لا يوجب الحد، فاعتبر كشفُه.
قال بعض أهل العلم: يجوز للشهود أن ينظروا إلى ذاك منها؛ لإقامة الشهادة عليها؛ ليحصل الردع بالحد، فإن شهدوا بأنهم رأوا ذكره قد غيبه في فرجها، كفى.
ولا يعتبر ذِكْرُ مكانِ الزنا، ولا زمانِه، ولا ذكرُ المَزْنِيِّ بها إن كانت الشهادةُ على رجل، ولا ذكرُ الزاني إن كانت الشهادة على امرأة؛ خلافًا للقاضي أبي يعلى من أعلام علمائنا.
* الشرط السابع: مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد، فإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم، كانوا قذفة، وعليهم الحدُّ، وهذا مذهب الإمام أحمد، ومالك، وأبي حنيفة.
وقال الشافعي، والبَتِّي، وابن المنذر: لا يشترط ذلك.
ولنا: أن أبا بكرةَ ونافعًا وشبلَ بنَ معبد شهدوا عند عمرَ على المغيرة بن شعبةَ بالزنا، ولم يشهد زيادٌ، فحدَّ الثلاثةَ، ولو كان اتحادُ
(1) تقدم تخريجه.
المجلس غيرَ مشترَط، لم يجز أن يحدَّهم؛ لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ولأنه لو شهد ثلاثة، فحدهم، ثم جاء رابع، لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط اتحاد المجلس، لكملت شهادتهم، وبهذا يفارق سائر الشهادات، فإن جاؤوا متفرقين واحدًا بعد واحد في مجلس واحد، قُبلت شهادتهم.
وقال مالك، وأبو حنيفة: إن جاؤوا متفرقين، فهم قذفة؛ لعدم اجتماعهم في مجيئهم، فلم تُقبل شهادتهم؛ كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد.
ولنا قصة المغيرة بن شعبة؛ فإن الشهود جاؤوا واحدًا بعد واحد، وإنما حُدُّوا؛ لعدم كمالها في المجلس، وفي حديثه: أن أبا بكرة قال لعمر رضي الله عنه: أرأيتَ لو جاء آخر شهد، أكنت ترجمه؟ قال عمر: إي والذي نفسي بيده.
وقد روى صالحٌ بإسناده عن أبي عثمانَ النهديِّ، قال: جاء رجل إلى عمر، فشهد على المغيرة بن شعبة، فتغير لونُ عمرَ، ثم جاء آخرُ فشهدَ، فتغير لون عمر، ثم جاء آخرُ فشهد، فاستنكر ذلك عمرُ، ثم جاء شابٌّ يخطر بيديه، فقال عمر: ما عندك سلحَ العقاب؟! وصاح به عمر صيحة، فقال أبو عثمان: والله! لقد كدتُ يُغشى عليَّ، فقال: يا أمير المؤمنين! رأيت أمرًا قبيحًا، فقال: الحمد لله الذي لم يتشبث الشيطان بأصحاب محمد، قال: فأمر بأولئك النفر فجلدوا.
وفي رواية ابن عمر: لما شهد عنده على المغيرة، شهد ثلاثة، وبقي زياد، فقال عمر: أرى شابًا، وأرجو أَلَّا يفضح الله على لسانه رجلًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أمير المؤمنين! رأيت استًا تنبر، ونفسًا
تعلو، ورأيت رجليها فوق عنقه كأنهما أذنا حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فقال عمر: الله أكبر، وأمر بالثلاثة فضُربوا.
وقول عمر: يا سلح العقاب! معناه أنه يشبه سلحَ العُقاب الذي يحرق كل شيء أصابه، كذلك هو يوقع العقوبة بأحد (1) الفريقين لا محالة، إن كملت شهادته، حُدّ المشهود عليه، وإن لم تكمل، حُدّ أصحابه، والله الموفق (2).
تتمة:
محصل قصة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أنه كان أميرًا بالبصرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاتهمه أبو بكرةَ، وشِبْل -بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة- بنُ مَعبَد -بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الموحدة- بنِ عبيد بنِ الحارث، ونافعُ بنُ الحارث أخو أبي بكرة لأمه.
قال الكرماني: الثلاثة -يعني: أبا بكرة، وشبل بن معبد، ونافعًا- إخوة صحابيون، شهدوا مع أخ لأبي بكرة اسمُه زياد، وليست لزياد صحبة ولا رواية.
وكان زياد من دهاة العرب وفصحائهم، مات سنة ثلاث وخمسين، وهو زياد الذي يقال له زياد بن أبي سفيان، والأربعة إخوة من أم، وهي سمية، فرأوا المغيرة مستبطِنَ المرأة، وكان يقال لها: الرقطاء أم جميل بنت عمرو بن الأفقم الهلالية، وزوجُها الحجاجُ بن عَتيك بنِ الحارث بن عوف الجشمي، فرحلوا إلى عمر رضي الله عنه، فشكوه، فعزله عمر، وولى
(1) في "ب": "بإحدى".
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 64 - 67).
أبا موسى الأشعري، وأحضر المغيرةَ، فشهد عليه الثلاثةُ بالزنا، وأما زياد، فلم يثبت الشهادة (1).
وروى الحاكم في "المستدرك": أن زيادًا قال: رأيتهما في لحاف، وسمعت نفسًا عاليًا، ولا أدري ما وراء ذلك (2).
وقد رويت هذه القصة من وجوه كثيرة، وطرق متعددة، ومحصلها يرجع إلى ما ذكرنا، والله تعالى أعلم.
(قال) الإمام التابعي الجليل أبو بكر محمد (ابنُ شهاب) الزهريُّ: (فأخبرني) الإمام (أبو سلمةَ) عبد الله، على الأرجح، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته (بنُ عبدِ الرحمن) بنِ عوف الزهريُّ القرشيُّ المدنيُّ، وهو أحدُ الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، من مشاهير التابعين وأعلامهم، ثقة، كثير الحديث، واسع الرواية، سمع ابنَ عباس، وأبا هريرة، وابن عمر، وعائشةَ، وغيرَهم، روى عنه الزهري، ويحيى بن أبي كثير، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والشعبي، ومحمد بن إبراهيم، وغيرهم، مات سنة أربع وتسعين، وقيل: أربع ومئة، وله اثنتان وسبعون سنة (3).
(أنه)؛ أي: أبا سلمةَ بنَ عبد الرحمن (سمع جابرَ بنَ عبد الله)
(1) انظر: "تاريخ الطبري"(2/ 492)، وما بعدها.
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(5892).
(3)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 155)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (29/ 290)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 521)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 370)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 287)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (12/ 127).
الأنصاريَّ الخزرجيَّ رضي الله عنهما (يقول: كنت فيمَنْ)؛ أي: في الجمع الذي (رجمَهُ)؛ أي: رجمَ ماعز بن مالك، (فرجمناه بالمصلَّى).
فيه دليل على أن الحدود إنما تقام خارج المساجد.
وروى حكيمُ بنُ حِزام رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُستقاد في المسجد، وأن تُنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود (1)؛ لأنه لا يؤمَن أن يحدث من المحدود شيء يتلوث به المسجد، فإن أقيم فيه، سقط الفرض عنه؛ لحصول المقصود، وهو الزجر؛ لأن المرتكب للنهي غيرُ المحدود، فلم يمنع ذلك سقوطَ الفرض عنه؛ كما لو اقتصّ في المسجد (2).
(فلما أَذْلَقَتْه)؛ أي: لما أصابت (الحجارةُ) ماعزًا بحدِّها، ومنه: سنان مذلق؛ أي: حادّ، قال في "القاموس": ذلقَ السكينَ: حَدَّدَهُ؛ كذَلَّقَه، وأَذْلَقَه، والسَّمُومُ أو الصومُ فلانًا: أضعفه، وذَلِق اللسانُ؛ كفَرِحَ: ذَرِبَ، وقال -أيضًا- ذَلِقَ اللسانُ؛ كفرح ونصر وكرم، فهو ذليق، والذَلَقٌ -بالفتح-، وكصُرَد، وعُنُق؛ أي: حديد بليغ بيّنُ الذلاقة، ويقال: أذلقه؛ أي: أقلقه وأضعفه (3)، وهذا الذي ينبغي أن يُحمل عليه ما في هذا الحديث.
(هرب، فأدركناه بالحَرَّة)، وهو موضع معروف بالمدينة، وأصلُها كلُّ أرض ذاتِ أحجار سودٍ، وذلك لشدة حرها، ووهج الشمس فيها، وجمعُها
(1) رواه أبو داود (4490)، كتاب: الحدود، باب: في إقامة الحد في المسجد، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 434)، وغيرهما.
(2)
انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 127).
(3)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1143)، (مادة: ذلق).
حِرار، وحِراء، وأحرين، وأحرون في الرفع كما في "المطالع"(1).
وفي "القاموس": الحرة: موضع بين المدينة والبقيع وقبلي المدينة (2)، انتهى.
وهذه -أعني: التي قبلي المدينة- المرادةُ هنا، وهي التي تُرك فيها العرنيون بعد قطعهم وسَمْلِهم.
(فرجمناه)؛ أي: ماعزًا، يعني: في الحرة حتى مات هناك.
قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: (الرجل) المذكور في حديث أبي هريرة في قوله: أتى رجل من المسلمين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله! إني زنيت، الحديث (هو: ماعزُ بنُ مالك) الأسلمي.
قال المصنف رحمه الله: (وروى قصته جابرُ بن سمرة)، رواه مسلم، وهو أبو عبد الله، وقيل: أبو خالد بن سمرةَ بنِ جُنادة -بضم الجيم وتخفيف النون والدال المهملة- من ولد قيس عيلان -بالعين المهملة- بنِ مضر بنِ نزار بنِ معدِّ بنِ عدنان، السُّوائيُّ -بضم السين وتخفيف الواو والمد- نسبة إلى سُواءَةَ بنِ عامر بنِ صعصعة من قيس عيلان، وجابرٌ هذا هو وأبوه صحابيان، وهو ابنُ أختِ سعدِ بنِ أبي وقاص رضي الله عنه، واسمها: خالدةُ بنتُ أبي وقاص، نزل الكوفة، مات بها سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة ست وستين أيامَ المختار، وصلى عليه عمرُو بنُ الحارث المخزوميُّ.
(1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 187).
(2)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 478)، (مادة: حرر).
وجزم الذهبي: أنه توفي سنة ثلاث وسبعين.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة وستة وأربعون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين حديثًا.
روى عنه: سماكُ بنُ حَرب، وعامرٌ الشعبيُّ، وحصينُ بنُ عبد الرحمن، وغيرهم (1).
(و) روى قصة ماعز أيضًا (عبدُ الله بن عباس)، رواه البخاري، ومسلم (2)، (وأبو سعيد الخدري)، رواه مسلم (3)، (وبُريدة بنُ الحُصَيْب الأسلمي)، رواه مسلم أيضًا (4).
وبُرَيْدَة هذا -بضم الموحدة وفتح الراء وسكون المثناة تحت- يقال: إن هذا لقبه، وإن اسمه عامر، والحُصَيب -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وسكون المثناة تحت- ابنُ عبد الله بنِ الحارثِ بنِ الأعرجِ الأسلمي، من ولد أسلم بن أَفْصَى -بفتح الهمزة وسكون الفاء وبالصاد المهملة- بنِ حارثة.
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 24)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 205)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 186)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 224)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (11/ 199)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 488)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 149)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 437)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 186)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 431).
(2)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6438)، وعند مسلم برقم (1693).
(3)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1694).
(4)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1695).
وفي كتاب "الأنساب"(1) للرشاطي: أنه سَهْمِي من سهمِ خزاعةَ، كنيته: أبو عبد الله، على المشهور، أسلم قبل بدر، ولم يشهدها، وشهد الحديبية، وبايع بيعة الرضوان، سكن المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو، ثم انتقل إلى خراسان، فمات بها سنة اثنتين وستين، وقيل: ثلاث وستين.
وفي "جامع الأصول" لابن الأثير: أنه تحول من المدينة إلى البصرة، ثم خرج من البصرة إلى خراسان غازيًا، فمات بمرو زمن يزيدَ بنِ معاوية سنة اثنتين، أو ثلاث وستين، وله بها عقب، وهو آخر من مات من الصحابة بخراسان.
روى له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة حديث، وأربعة وستون حديثًا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأحد عشر (2).
وفي "البخاري"، في باب: الجريدة على القبر: أن بريدةَ بن الحُصيب أوصى أن يُجعل على قبره جريدتان (3)، والله الموفق.
(1) هو كتاب "اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار" للرشاطي، وقد طبع.
(2)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 8)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 29)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 185)، و"جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 209 - قسم التراجم)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 141)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 53)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 469)، و"الإصابة في تمييز الصحابة"(1/ 286). و"تهذيب التهذيب"، كلاهما لابن حجر (1/ 378).
(3)
ذكره البخاري في "صحيحه"(1/ 457) معلقًا، وقد تقدم في كتاب: الجنائز.
تنبيهات:
الأول: متى رجع المقرّ عن إقراره، قُبل منه، وإن رجع في أثناء الحد، لم يتمم؛ لأن من شرط إقامة الحد بالإقرار البقاءَ عليه إلى تمام الحد، وبهذا قال عطاء، ويحيى بن يعمر، والزهري، وحماد، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو حنيفة، وأبو يوسف.
وقال الحسن، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى: يُقام عليه الحد، ولا يُترك؛ لأن ماعزًا هرب، فقتلوه، وروي أنه قال: رُدُّوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن قومي هم غَرُّوني من نفسي، وأخبروني أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم غيرُ قاتلي، فلم ينزعوا عنه حتى قتلوه، رواه أبو داود (1)، ولو قُبل رجوعه، للزمتهم ديتُه، ولأنه حقٌّ وجب بإقراره، فلم يقبل رجوعُه؛ كسائر الحقوق.
وحكي عن الأوزاعي: أنه إن رجع، حُدَّ للفرية على نفسه، وإن رجع عن السرقة والشرب، ضُرِب دونَ الحَدّ (2).
وفي "الإفصاح" للإمام عون الدين بن هبيرة: أن الإمام مالكًا فَصَّل في رجوعه عن إقراره بأنه إن رجع عن الإقرار بشبهة يُعذر بها؛ مثل أن يقول: إني وطئت في نكاح فاسد، أو ظننت أنها جارية مشتركة، أو نحو ذلك، قُبل رجوعه؛ كمذهب الجمهور، وأما إن رجع عن الإقرار بالزنا بغير شبهة، ففيه عنه روايتان:
إحداهما: يُقبل رجوعه؛ كمذهب الجماعة.
(1) رواه أبو داود (4420)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2)
انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 138 - 139).
والأخرى: لا يقبل رجوعه بوجه (1).
واستدل لقول الجمهور: أن ماعزًا لما هرب، ذُكر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"هلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه" رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن (2).
وفي حديث جابر في قصة ماعز: أنه لما وجد مَسَّ الحجارة، صرخ بنا: يا قوم! ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، الحديث، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه، قال:"فهلا تركتموه وجئتموني به"(3)، ففي هذا أوضح الدلائل على أنه يُقبل رجوعه.
وعن بريدة رضي الله عنه، قال: كنا -أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم- نتحدث أن الغامديةَ وماعزَ بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال: لو لم يرجعا بعد اعترافهما، لم يطلبهما، وإنما رجمهما عند الرابعة، رواه أبو داود (4).
ولأن رجوعه شبهة، والحدود تُدرأ بالشبهات، ولأن الإقرار أحدُ بينتي الحد، فسقط بالرجوع عنه؛ كالبينة إذا رجعت قبل إقامة الحد، وفارق سائرَ الحقوق؛ فإنها لا تدرأ بالشبهات.
(1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 237).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 216)، وتقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4419)، من حديث يزيد بن نعيم بن هزال، عن أبيه.
وتقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1428)، وعند ابن ماجه برقم (2554)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4420).
(4)
رواه أبو داود (4434)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك.
وإنما لم يجب ضمان ماعز على الذين قتلوه بعد هربه؛ لأنه ليس بصريح في الرجوع. وأما إن رجم ببينة، فهرب، لم يترك، بخلاف الرجوع عن الإقرار.
فإن قال من رجم بإقراره: ردوني إلى الحاكم، أو هرب، وجب تركُه وردُّه، ولم يجز إتمامُ الحد، فإن أُتم، فلا ضمان على من أتمه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضمن ماعزًا من قتله، ولأن هربه ليس بصريح في رجوعه.
وأما إن قال: كذبتُ في إقراري، أو: رجعتُ عنه، أو: لم أفعلْ ما أقررتُ به، وجب تركُه، فإن قتله قاتل بعد ذلك، فعليه ضمانُه؛ لأنه قد زال إقراره بالرجوع عنه، فصار كمن لم يقرَّ، ولا قصاص على قاتله؛ لاختلاف العلماء في صحة رجوعه، فكان اختلافهم شبهة دارئة للقصاص، ولأن صحة الرجوع مما يخفى، فيكون ذلك عذرًا مانعًا من وجوب القصاص، بخلاف ما إذا رُجم ببينة، فهرب؛ فإنه لا يترك؛ لأن زناه ثبت على وجه لا يبطل برجوعه، فلم يؤثر فيه هربُه كسائر الأحكام، والله أعلم (1).
الثاني: الذي استقر عليه المذهبُ: أن المرجوم يُرجم بحجارة متوسطة كالكف، فلا ينبغي أن يثخن بصخرة كبيرة، ولا أن يطول عليه بحصاة خفيفة، ويتقى الوجه، ولا يزال يرجم حتى يموت من غير أن يُحفر له حفيرة، رجلًا كان المرجوم أم امرأة، ثبت ببينة أو إقرار، وتُشد ثيابُ المرأة؛ لئلا تنكشف، والسنة أن يدور الناس حوله من كل جانب كالدائرة إن كان زناه ثبت ببينة، وأما إن كان ثبت بإقراره، لم يدر حوله؛ لاحتمال أن يهرب فَيُترك.
(1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 139 - 140).
ويُسن حضورُ شهود الزنا، وبدأتُهم بالرجم، وإن ثبت بإقرار، بدأ بالرجم الإمامُ أو الحاكم، ثم يرجم الناسُ، ويجب حضور الإمام أو نائبه في كل حد (1).
قال في "شرح المقنع": أما إذا كان الزاني رجلًا، لم يوثق بشيء، ولم يُحفر له، سواء ثبت زناه ببينة أو إقرار، لا نعلم فيه خلافًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز، قال أبو سعيد: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز، خرجنا به إلى البقيع، فوالله! ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكنه قام لنا. رواه أبو داود (2).
ولأن الحفرَ له ودفنَ بعضه عقوبةٌ لم يرد بها الشرع في حقه، فوجب أَلَّا تثبت.
قال: وأما المرأة، فإن كان ثبت زناها بإقرارها، لم يُحفر لها، وإن ثبت ببينة، حُفر لها إلى الصدر.
وظاهر كلام أحمد: لا يحفر لها أيضًا، وهو معتمد مذهبه، وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلى في "الخلاف"، وفصَّل في "المجرد" بأنه إن ثبت زناها بالبينة، حُفر لها إلى الصدر.
قال أبو الخطاب: وهذا أصح عندي، وهو قول الشافعية؛ لما روى أبو بكرة، وبريدة رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة، فحفر لها إلى الثندوة. رواه أبو داود (3)، ولا حاجة إلى تمكينها من الهرب؛ لكون
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 211 - 212).
(2)
تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4431).
(3)
رواه أبو داود (4443)، كتاب: الحدود، باب: المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
الحد ثبت بالبينة، فلا يسقط بفعل من جهتها؛ بخلاف الثابت بالإقرار؛ فإنها تترك على حال لو أرادت الهربَ، تمكنت منه؛ لأن رجوعها عن إقرارها مقبول.
ولنا -على معتمد المذهب-: أن أكثر الأحاديث على ترك الحفر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية، ولا لليهوديين، ففي "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، قال: لما أمرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نرجم ماعز بن مالك، خرجنا به إلى البقيع، فوالله! ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكن قام لنا، فرميناه بالعظام والخزف، فاشتكى، فخرج يشتدُّ حتى انتصب لنا في عرض الحرة، فرميناه بجلاميد الجندل حتى سكت (1).
وأما ما احتجوا به من قصة الغامدية، وهو ما رواه الإمام أحمد، ومسلم عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: جاءت الغامدية، فقالت: يا رسول الله! إني قد زنيتُ، فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله! لمَ تُرَدِّدني؟ لعلك ترددني كما رَدَّدْت ماعزًا، فوالله! إني لحبلى، الحديث، وفيه: فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه، فرمى رأسها، فنضح الدم على وجه خالد، فسبها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال:"مهلًا يا خالد، فوالذي نفسي بيده! لقد تابت توبة لو تابها صاحبُ مكس، لغفر له"، ثم أمر بها، فصلَّى عليها، ودُفنت (2)، فمتروك العمل به؛ فإنهم
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 61). وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (1694).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 348). وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (1695).
لا يقولون به؛ فإنها إنما ثبت حدها بإقرارها، ومن كان كذلك، لا يُحفر له باتفاقٍ مِنّا ومنهم (1).
الثالث: يؤخر إقامة الحد عن الحبلى حتى تضع؛ لما في "صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود"، والدارقطني، وقال: هذا حديث صحيح عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله! طهرني، فقال:"ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه"، فقالت: أراك تريد أن تُرددني كما رددت ماعزَ بن مالك، قال:"وما ذاك؟ "، قالت: إنها حبلى من الزنا، قال:"أنت؟ "، قالت: نعم، فقال لها:"حتى تضعي ما في بطنك"، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامديةُ، قال:"إذًا لا نرجُمها وندعُ ولدها صغيرًا ليس له من يُرضعه"، فقام رجل من الأنصار، فقال: إليّ إرضاعُهُ يا نبي الله، قال: فرجمَها (2).
وفي حديث عمرانَ بنِ حُصين عند الإمام أحمد، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي: أن امرأة من جُهينة أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله! أصبتُ حدًا، فأقمه عليّ، فدعا نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال:"أحسنْ إليها، فإذا وضعتْ، فائتني"، ففعل، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشُدَّت عليها ثيابُها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟! قال: "لقد
(1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 137 - 138).
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1695)، وعند أبي داود برقم (4442). ورواه الدارقطني في "سننه"(3/ 91).
تابت توبة لو قُسمت بين سبعين من أهل المدينة، لوسعتهم، وهل وجدت أفضلَ من أَنْ جادت بنفسها لله؟ " (1).
وروي أن امرأة زنت في أيام عمر رضي الله عنه، فهمّ برجمها وهي حامل، فقال له معاذ: إن كان لك سبيل عليها، فليس لك سبيل على حملها، فقال: عجز النساء أن يلدن مثلك، ولم يرجمها (2).
وعن عليّ رضي الله عنه مثلُه (3).
وسواء كان الحد رجمًا أو غيره؛ لأنه لا يؤمن تلف الولد من سراية الضرب، وربما سرى إلى نفس المضروب، فيفوت الولد بفواته، فإذا وضعت الولدَ، فإن كان الحدُّ رجمًا، لم ترجم حتى تسقيه اللِّبَأ؛ لأن الولد لا يكاد يعيش إلا به، ثم إن كان له من يرضعه، أو تكفل أحد برضاعه، رُجمت، وإلا، تركت حتى تفطمه (4).
الرابع: معتمد المذهب: أن إقامة الحدود لا تؤخر للمرض، فإن كان جلدًا، أو خشي عليه من السوط، أقيم بأطراف الثياب والعثكول.
قال في "شرح المقنع": ويُحتمل أن يؤخَّر للمرض المرجوِّ زوالُه، وأما
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 429)، ومسلم (1696)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، وأبو داود (4440)، كتاب: الحدود، باب: المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة، والترمذي (1435)، كتاب: الحدود، باب: تربص الرجم بالحبلى حتى تضع.
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(13454)، وسعيد بن منصور في "سننه"(2/ 94)، وغيرهما.
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(12288)، وسعيد بن منصور في "سننه"(2/ 94)، والدارقطني في "سننه"(3/ 138).
(4)
انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 133).
إذا كان الحد رجمًا، لم يؤخر؛ لأنه لا فائدة فيه إذا كان قتله متحتمًا، وبمعتمد المذهب قال إسحاق، وأبو ثور؛ لأن عمر رضي الله عنه أقام الحد على قُدامة بنِ مظعون في مرضه (1)، ولم يؤخره، وانتشر ذلك في الصحابة، ولم ينكروه، فكان إجماعًا، ولأن الحد واجب على الفور، فلا يؤخر ما أوجبه الله تعالى بغير حجة.
وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا يقام عليه في مرضه، لحديث عليّ رضي الله عنه في الأَمَة التي كانت في نفاسها، رواه الإمام أحمد، ومسلم، وتقدَّم (2).
وهو قول الخرقي من علمائنا.
وأجابوا عن إقامة عمرَ الحدَّ على قدامة باحتمال أنه كان مرضًا خفيفًا لا يمنع من إقامة الحد، ولهذا لم يُنقل عنه أنه خفف عنه في السوط، وإنما اختار له سوطًا وسطًا (3) كالذي يضرب به الصحيحُ.
وأما إن كان مريضًا لا يرجى برؤه، فهذا يقام عليه الحد في الحال، ولا يؤخر، بسوط يؤمن معه التلف؛ كالقضيب الصغير، وشمراخ النخل، فإن خيف عليه من ذلك، جمع ضغثًا فيه مئة شمراخ، فضرب به ضربة واحدة، وبهذا قال الشافعي.
وأنكر مالك هذا، وقال: قال الله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وهذا جلدة واحدة.
ولنا: ما روى أبو أمامةَ بنُ سهلِ بنِ حنيف، عن بعض أصحاب
(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(17076).
(2)
وتقدم تخريجه.
(3)
في "ب": "أوسطًا"، وهو خطأ.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا اشتكى حتى ضَنِيَ، فدخلت عليه امرأة، فهشَّ لها، فوقعَ بها، فسئل له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يأخذوا مئة شمراخ فيضربوه ضربة واحدة، رواه أبو داود، والنسائي (1).
قال ابن المنذر: في إسناده مقال، وهذا أولى من ترك الحد بالكلية، أو قتله بما لا يوجب القتل (2)، والله أعلم.
(1) رواه أبو داود (4472)، كتاب: الحدود، باب: في إقامة الحد على المريض.
(2)
انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 131 - 132).