الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ منه، فَهُوَ رَدٌّ"(1).
وَفِي لَفْظٍ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"(2).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (2550)، كتاب: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود، ومسلم (1718/ 17)، كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، وأبو داود (4606)، كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة، وابن ماجه (14)، في مقدمة "سننه".
(2)
رواه مسلم (1718/ 18)، كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، وقد ذكره البخاري في "صحيحه"(2/ 753)، و (6/ 2675) معلقًا بصيغة الجزم.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 576)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 171)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 16)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 162)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1551)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 332)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 301)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 274)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 421)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 69).
(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصدّيقة (رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث)؛ أي: اخترع (في أمرنا هذا)؛ أي: ديننا وشرعنا الذي شرعه الله -تعالى- (ما ليس منه)؛ أي: من جاء في هذا الدين بما لا يشهد له أصل من أصوله، فلا يلتفت إليه.
وفي لفظ: "من أحدث في ديننا ما ليس فيه"(1)، فكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس هو من الدين في شيء (فهو)؛ أي: ذلك المحدَث (ردّ)؛ أي: مردود على صاحبه، من إطلاق المصدر على اسم المفعول؛ مثل الخلق بمعنى المخلوق، فكأنه قال: فهو باطل، وغير معتد به.
(وفي لفظ) لمسلم: (من عمل عملًا) سواء كان ذلك العمل من العبادات أو المعاملات (ليس عليه)؛ أي: على ذلك العمل (أمرُنا) فيه إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، وتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها.
فمن كان عمله جاريًا تحت أحكام الشرع، موافقًا له، فهو مقبول، ومن كان خارجًا عن ذلك، (فهو رد) أي: مردود على عامله.
قال الحافظ ابن رجب: هذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث: "إنما الأعمال
(1) كذا ذكره الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(ص: 59)، وعنه نقل الشارح رحمه الله، ولم أقف عليه بهذا اللفظ إلا ما رأيته في "الأحكام" للحافظ الإشبيلي؛ إذ ذكر في رواية:"من أدخل في ديننا ما ليس منه، فهو رد"، والله أعلم.
بالنيات" (1) ميزان الأعمال في باطنها، وكما أن كل عمل لا يراد به وجهُ الله فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله. فكل فعلة -وإن صغرت- ينشر [الله] لها يوم القيامة ديوانًا لِمَ؟ وكيف؟ فالسؤال الأول: عن الإخلاص والنية، والثاني: عن التأسي والمتابعة لصاحب الشرع، فكل عمل لا يجمعهما فهو مردود على عامله.
قال ابن رجب: وهذا الحديث يدل بمنطوقه على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود؛ أي: سواءٌ كان من العبادات، أو المعاملات. فأما العبادات، فما كان منها خارجًا عن حكم الله ورسوله بالكلية، فهو مردود على عامله، وعاملُه يدخل تحت قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله اللهُ ورسوله قربةً إلى الله، فعملُه باطل مردود عليه؛ كمن تقرب إلى الله بسماع الملاهي، أو بالرقص، أو بكشف الرأس في غير الإحرام، أو ما أشبه ذلك من المحدَثات التي لم يشرع الله ورسوله التقربَ بها بالكلية، وليس كل ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقًا.
فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا قائمًا في الشمس، فسأل عنه، فقيل: إنه نذرَ أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل، وأن يصوم، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يقعد ويستظل، وأن يتم صومه (2). فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة يوفي بنذرهما. وقد روي أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو على
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
المنبر، فنذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل مادام النبي صلى الله عليه وسلم يخطُب إعظامًا لسماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قربة يوفي بنذره، مع أن القيام عبادة في مواضع أخر؛ كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربة للمحرِم، فدل على أنه ليس ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعة في مواضعها، وكذلك من تقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها؛ كمن صام يوم العيد، أو صلى في وقت نهي.
وأما من عمل عملًا أصلُه مشروع وقربة، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، فهو أيضا مخالف للشريعة بقدر إخلاله بما أخلَّ به، أو إدخاله ما أدخل فيه.
وهل يكون عمله من أصله مردودًا عليه أم لا؟ فهذا ينبغي فيه التفصيل: فإن كان ما أخلَّ به من أجزاء العمل أو شروطه، كان موجبًا لبطلانه؛ كمن أخلَّ بالطهارة للصلاة مع القدرة، وكمن أخلَّ بالركوع أو السجود، أو بالطمأنينة فيهما، فهذا عمله مردود، وعليه إعادته إن كان فرضًا.
وإن كان ما أخلَّ به لا يوجب بطلانَ العمل، كمن أخلَّ بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها، ولا يجعلها شرطًا، فهذا لا يقال: إن عمله مردود من أصله، بل هو ناقص.
وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع، فزيادته مردودة عليه، بمعنى: أنَّها لا تكون قربة، ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله فيكون مردودًا، كمن زاد في صلاته ركعة عمدًا، أو تارة لا تبطله من أصله؛ كمن توضأ أربعًا أربعًا، أو صام مع النَّهار اللَّيلَ، وواصل في صيامه.
وقد يبدل بعض ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه؛ كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم، أو توضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بقعة غصب، فهذا مما اختلف العلماء فيه، هل عمله مردود من أصله، أو أنه غير مردود، وتبرأ به الذمة من عهدة الواجب؟
قال الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين": أكثرُ الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله.
وقد حكى عبد الرحمن بن مهدي عن قوم من أصحاب الكلام يقال لهم: الشمريّة أصحاب أبي شمر: أنهم يقولون: إن من صلى في ثوب كان في ثمنه درهمٌ حرام: أن عليه إعادة الصلاة. قال: وما سمعت قولًا أخبثَ من قولهم، نسأل الله العافية.
وعبدُ الرحمن بن مهدي من أكابر فقهاء أهل الحديث المطّلعين على مقالات السلف، وقد استنكر هذا القول، وجعله بدعة، فدل على أنه لم يعلم عن أحد من السلف القول بإعادة الصلاة في مثل هذا، ويشبه هذا الحجُّ بمال حرام، وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه، ولكنه حديث لا يثبت، وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا؟
وقريبٌ من ذلك الذبحُ بآلة محرمة، أو ذبحُ ما لا يجوز له ذبحُه؛ كالسارق، فأكثرُ العلماء قالوا: إنه تباح الذبيحة بذلك، ومنهم من قال: هي محرمة، وكذا الخلافُ في ذبح المحرِم للصيد، لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر؛ لأنه منهي عنه لعينه.
ولهذا فرق من فرق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها، وبين أَلَّا يكون مختصًا فلا يبطلها.
فالصلاة بالنجاسة وبغير طهارة أو ستارة أو إلى غير القبلة يبطلها؛
لاختصاص النهي بالصلاة؛ بخلاف الصلاة في الغصب، ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو جِنْسٌ الأكل والشرب والجماع؛ بخلاف ما نهي عنه الصائم، لا بخصوص الصيام؛ كالكذب والغيبة عند الجمهور، والله أعلم.
وأما المعاملات؛ كالعقود والفسوخ ونحوهما، فما كان منها تغييرًا للأوضاع الشرعية؛ كجعل حدّ الزنا عقوبة مالية، وما أشبه ذلك، فمردود من أصله، لا ينتقل به الملك؛ لأنه غير معهود في أحكام الإسلام، ويدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنى بامرأته، فافتديته منه بمئة شاة وخادم، فقال له عليه الصلاة والسلام:"المئة شاة والخادم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك جلدُ مئة وتغريبُ عام"، وتقدم (1).
وما كان منها عقدًا منهيًا عنه في الشرع، إما لكون المعقود عليه ليس محلًا للعقد، أو لفوات شرط فيه، أو لظلم يجعل به للمعقود معه أو عليه، أو لكون العقد يشغل عن ذكرِ الله عز وجل الواجبِ عند تضايق وقته، أو غير ذلك، فهذا العقد هل هو مردود بالكلية، لا ينتقل به الملك، أم لا؟ فيه اضطراب بين العلماء.
والأقرب في مثل هذا: أنه إن كان النهي لحق الله عز وجل، فإنه لا يفيد الملك بالكلية، ونعني بكون الحق لله: أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه، وإن كان لحق آدمي معين بحيث يسقط برضاه به، فإنه يقف على رضاه، فإن رضي، لزم العقد، واستمر الملك، وإلا، فله الفسخ.
(1) وتقدم تخريجه.
وهذه القاعدة غير مطردة (1).
والمقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب: أن حكم الحاكم يزول به الشيء عن حقيقته في الباطن، فلو حكم لمن يعلم أنه لا حقَّ له فيما حكم له به، لم يجز له تناولُه، ولا شيء منه، ولو حكم له بنكاح من يعلم أنَّها ليست بزوجة له، لم يبح له وطؤها، وهلمَّ جَرًّا.
فحكم الحاكم ظاهرًا لا يغير ما في الباطن مما هو عليه من إباحة وحظر، وهذا مذهب الثلاثة.
قال الإمام أبو المظفر بن هبيرة: قال مالك، والشافعي، وأحمد: الحاكم لا ينفذ حكمه إذا حكم في الشيء مما هو الباطن على خلاف ما حكم في الباطن، ولا يحل حكمه في الشيء المحكوم فيه عما هو عليه، سواء كان ذلك في مال أو نكاح أو طلاق، أو مما يملك الحاكم ابتداءه وإنشاءه، أو مما لا يملكه على الإطلاق.
وقال أبو حنيفة: إن كان المحكوم فيه مما يتيقن الحكم [فيه]، ينفذ فيه ظاهرًا وباطنًا (2)، انتهى.
وفي "الفروع": حكم الحاكم لا يُحيل الشيء عن صفته باطنًا، وعنه: بلى في مختلف فيه قبل الحكم، قطعَ به في "الواضح" وغيره (3).
وقال في موضع آخر: مَنْ حكم له ببينة زور بزوجيّة امرأة، حلت له حكمًا، فإن وطىء مع العلم، فكزِنًا، وإن حكم بطلاقها بزور، فزوجته
(1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 59 - 62).
(2)
انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 354 - 355).
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 425).
باطنًا، ويكره له اجتماعه بها ظاهرًا خوفًا من مكروه يناله، ولا يصح نكاحها غيرَه ممن يعلم الحال.
قال في "الفروع" أيضًا: وإن ردّ حاكم شهادة واحد برمضان، لم يؤثر؛ كملك مطلق وأولى؛ لأنه لا مدخل لحكمه في عبادة ووقت، وإنما هو فتوى، فلا يقال: حكم بكذبه، أو بأنه لم يره، ولو سلم أن له مدخلًا، فهو محكوم به في حقه من رمضان، فلم يغيره حكم؛ لأنه يعتقد خطأه؛ كمنكرة نكاح مدعٍ يتيقنه، فشهد له فاسقان، فردا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: أمور الدين والعبادات المشتركة بين المسلمين لا يحكم فيها إلا اللهُ ورسوله إجماعًا.
وذكره غيره.
قال في "الفروع": فدل أن إثبات سبب الحكم؛ كرؤية الهلال والزوال ليس بحكم (1).
والحاصل: أن حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن حقيقته باطنًا، كما يأتي في الحديث الثالث، والله أعلم.
(1) المرجع السابق، (6/ 426).