المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث العاشر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٦

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب القصاص

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌كتاب الحدود

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب حد السرقة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب حد الخمر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌كتاب الأيمان والنذور

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب النذر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب القضاء

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب الصيد

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

الفصل: ‌ ‌الحديث العاشر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى

‌الحديث العاشر

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَها -أو يُلْعِقَهَا-"(1).

* * *

(عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أكل أحدكم) زاد مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وآخر عن سفيان (طعامًا)(2).

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (5140)، كتاب: الأطعمة، باب: لعق الأصابع ومصِّها قبل أن تمسح بالمنديل، ومسلم (2031/ 129)، واللفظ له، و (2031/ 130)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة، وأبو داود (3847)، كتاب: الأطعمة، باب: في المنديل، وابن ماجه (3269)، كتاب: الأطعمة، باب: لعق الأصابع.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 501)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 299)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 203)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 192)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1604)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 577)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 76)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 245)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 153)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 47).

(2)

تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2031/ 129).

ص: 567

وفي رواية ابن جريج: "إذا أكل أحدكم من الطعام (فلا يمسح يده) "(1).

في حديث كعب بن مالك عند مسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ، لعقها (2)، فيحتمل أن يكون أطلق على الأصابع اليد، ويحتمل -وهو الأولى- أن يكون المراد باليد: الكف كلها، فيشمل الحكم من أكل بكفه، أو بأصابعه فقط، أو ببعضها (3).

وقال ابن العربي في "شرح الترمذي": يدل على الأكل بالكف كلِّها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعرق العظمَ، وينهشُ اللحمَ، ولا يمكن عادةً إلا بالكف كلها (4).

ونظر فيه في "الفتح"؛ لأنه يمكن بالثلاث، سلَّمنا، لكن هو ممسك بكفه كلها، لا آكلٌ بها، سلمنا، لكن محل الضرورة لا يدل على عموم الأحوال.

ويؤخذ من حديث كعب بن مالك: أن السنة الأكلُ بثلاث أصابع، وإن كان الأكل بأكثر منها جائزًا (5).

وقد أخرج سعيد بن منصور عن سفيان، عن عبد الله بن أبي زيد: أنه رأى ابن عباس رضي الله عنهما إذا أكل، لعق أصابعه الثلاث.

قال عياض: والأكلُ بأكثرَ منها من الشَّرَهِ وسوء الأدب، ويكبر اللقم؛

(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2031/ 130).

(2)

رواه مسلم (2032/ 132)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة.

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 578).

(4)

انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 307).

(5)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 578).

ص: 568

لأنه غير مضطر إلى ذلك؛ لجمعه اللقمة وإمساكها من جهاتها الثلاث، فإن اضطر إلى ذلك؛ لخفة الطعام، وعدم تلفيقه بالثلاث، فيدعمه بالرابعة والخامسة (1).

وقد أخرج سعيد بن منصور من مرسَل ابن شهاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل، أكل بخمس (2)، فيجمع بينه وبين حديث كعب باختلاف الحال (3).

وقد صرح علماؤنا باستحباب الأكل بثلاث أصابع (4)، والثلاث هي: الإبهامُ، والتي تليها، والوسطى؛ كما في حديث كعبِ بن عُجْرَةَ عند الطبراني وغيره، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث، فذكرها، وفيه: ثم رأيته يلعق الثلاث حين أراد أن يمسحها قبل أن يمسحها، ويلعق الوسطى، ثم التي تليها، ثم الإبهام (5).

قال في "الفتح": قال شيخنا في "شرح الترمذي": كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلويثًا؛ لأنها أطول، فيبقى فيها من الطعام أكثرُ من غيرها، ولأنها لطولها أولُ ما ينزل في الطعام، ويحتمل أن الذي يلعق يكون بطنُ كفه إلى جهة وجهه، فإذا ابتدأ بالوسطى، انتقل إلى السبابة على جهة يمينه، وكذلك الإبهام، انتهى (6).

(1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 502).

(2)

لم أقف على الأثرين اللذين ساقهما الحافظ ابن حجر في "الفتح"(9/ 578) فيما طبع من "سنن سعيد بن منصور".

(3)

انظر "فتح الباري" لابن حجر (9/ 578).

(4)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 307).

(5)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(1649)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(1/ 381).

(6)

انظر "فتح الباري" لابن حجر (9/ 579).

ص: 569

قال في "الإقناع": ويكره بما دونها وبما فوقها ما لم تكن حاجة (1).

وفي "الآداب الشرعية" للعلامة ابن مفلح: ويسن أن يأكل بثلاث أصابع، ويُكره أن يأكل بإصبع؛ لأنه مقت وبإصبعين؛ لأنه كِبْر، وبأربع وخمس؛ لأنه شَرَه.

وكذا حكاه ابن البنا عن الشافعي، ولأن بإصبعين يطول حتى يشبع، ولا يفرح المعدة والأعضاء بذلك، لقلته؛ كمن يأخذ قليلًا قليلًا، فلا يستلذ به، ولا يمريه، وبأربع أصابع قد يغص به لكثرته.

قال: ولعل المراد: ما لا يُتناول عادةً وعرفًا بإصبع أو بإصبعين؛ فإن العرف يقتضيه، ودليل الكراهة منتفٍ فيه (2).

(حتى يلعقها) بفتح أوله من الثلاثي، أي: يلعقها هو، (أو يُلعقها) -بضم أوله من الرباعي-؛ أي: يُلعقها غيرَه (3).

قال النووي: المراد: إلعاقُ غيره ممن لا يتقذَّر ذلك؛ من زوجة، وجارية، وخادم، وولد، وكذا مَنْ كان في معناهم، كتلميذ يعتقد البركة بلعقها، وكذا لو ألعقَها نحوَ شاة (4).

وقال البيهقي: إن قوله: "أو" شكٌّ من الراوي، ثم قال: فإن كانا جميعًا محفوظين، فإنما أراد أن يُلعقها صغيرًا، أو من يعلم أنه لا يتقذر بها، ويحتمل أن يكون أراد أن يُلعق إصبعه فمَه، فيكون بمعنى يَلْعقها؛ يعني: فتكون "أو" للشك (5).

(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 408).

(2)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 307).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 578).

(4)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 206).

(5)

انظر: "شعب الإيمان" للبيهقي (5/ 81)، عقب حديث (5856).

ص: 570

قال ابن دقيق العيد: جاءت علة هذا مبيَّنة في بعض الروايات: "إنه لا يدري في أي طعامه البركة"(1)، وقد يعلل بأن مسحَها قبل ذلك فيه زيادةُ تلويث لما يمسح به، مع الاستغناء عنه بالريق، لكن إذا صح الحديث بالتعليل، لم يعدل عنه (2).

قال في "الفتح": الحديث صحيح، أخرجه مسلم في آخر حديث جابر، ولفظه من حديث جابر:"إذا سقطت لقمةُ أحدكِم، فليُمِطْ ما أصابها من أَذًى، وليأكُلْها، ولا يمسحْ يدَه حتى يَلْعقها أو يُلْعقها"(3).

وللإمام أحمد نحوُه بسند صحيح (4).

وللطبراني من حديث أبي سعيد نحوه بلفظ: "فإنه لا يدري في أي طعامه يبارك له فيه"(5).

ولمسلم نحوه من حديث أنس (6)، ومن حديث أبي هريرة أيضًا (7).

وقد أبدى عياض علةً أخرى، فقال: إنما أمر بذلك لئلا يتهاون بقليل الطعام (8).

قال النووي: معنى قوله: "في أي طعامه البركة": أن الطعام الذي

(1) سيأتي تخريجه قريبًا عند مسلم.

(2)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 192).

(3)

رواه مسلم (2033/ 134)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة.

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 301).

(5)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(5434)، وفي "المعجم الأوسط"(5380).

(6)

رواه مسلم (2034)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة.

(7)

رواه مسلم (2035)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة.

(8)

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 501).

ص: 571

يحضر الإنسان فيه بركة لا يدري أن تلك البركة فيما أكل، أو فيما بقي على أصابعه، أو فيما بقي في أسفل القصعة، أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله؛ لتحصل البركة، انتهى (1).

وقد وقع لمسلم من حديث جابر: "إن الشيطان يحضرُ أحدَكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمةُ، فلْيُمِطْ ما كان بها من أذى، ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان"(2).

وله نحوه في حديث أنس، وزاد: وأمر بأن تُسْلَت القصعةُ (3).

قال الخطابي: السَّلْت: تَتَبُّعُ ما بقي فيها من الطعام (4).

قال النووي: والمراد بالبركة: ما يحصل به التغذية، وتسلم عاقبته من الأذى، ويقوي على الطاعة، والعلم عند الله (5).

وفي الحديث: ردٌّ على من كره لعقَ الأصابع استقذارًا، نعم يحصل ذلك لو فعله في أثناء أكله؛ لأنه يعيد أصابعه في الطعام وعليها أثرُ ريقه (6).

قال الخطابي: عاب قومٌ أفسدَ عقلَهم الترفُّهُ، فزعموا أن لعق الأصابع مستقبَحٌ، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي لُعِق بالأصابع أو الصحفة جزءٌ من أجزاء ما أكلوه، وإذا لم يكن سائرُ أجزائه مستقذرًا، لم يكن الجزء

(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 206). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 578).

(2)

رواه مسلم (2033/ 135)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة.

(3)

تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2034)، وعنده:"وأمرنا أن نسلت القصعة".

(4)

انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 260).

(5)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 206).

(6)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 578).

ص: 572

اليسير منه مستقذَرًا، وليس في ذلك أكثرُ من مصِّه أصابعَه بباطن شفتيه، ولا يشكُّ عاقل في أنْ لا بأسَ في ذلك، فقد يمضمض الإنسان فيُدخل أصابعه في فيه، فيدلك أسنانه وباطنَ فمه، ثم لم يقل أحد: إن ذلك قذارة أو سوء أدب (1).

وفي الحديث: دليل على استحباب مسح اليد بعد الطعام.

قال عياض: محلُّه فيما لم يحتج فيه إلى الغسل مما ليس فيه غَمَرٌ ولُزوجة مما لا يُذهبه إلا الغَسْل؛ لما جاء في الحديث من الترغيب في غسله، والحذر من تركه، كذا قال (2).

والحديث يقتضي منع الغسل والمسح بغير لعق؛ لأنه صريح في الأمر باللعق دونَهما تحصيلًا للبركة، نعم قد يتبين الندبُ إلى الغسل بعد اللعق لإزالة الرائحة، وعليه يُحمل الحديث الذي أشار إليه عياض، وهو ما أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة، رفعه:"من باتَ وفي يده غَمَر، ولم يغسله، [فأصابه شيء، فلا يلومن إلا نفسه"(3)، وأخرجه الترمذي دون قوله:"لم يغسله"] (4).

تتمة: في "صحيح مسلم" من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا وقعتْ لُقمةُ أحدكم، فَلْيُمِطْ ما كان بها من أَذًى، ولا يَدَعْها للشيطان،

(1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 260).

(2)

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 502).

(3)

رواه أبو داود (3852)، كتاب: الأطعمة، باب: في غسل اليد من الطعام.

(4)

ما بين معكوفين ساقط من "ب". والحديث رواه الترمذي (1859 - 1860)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في كراهية البيتوتة وفي يده ريح غمر.

ص: 573

ولا يمسحْ يدَه بالمِنْديل حتى يَلْعَقَ أصابعَه، أو يُلْعِقَها؛ فإنه لا يدري في أيِّ طعامِه البركةُ" (1).

المنديل -بكسر الميم- مأخوذ من الندل، وهو النقل؛ لأنه يُنقل، وقيل: لأن الوسخ يُندل به، يقال: تندَّلْت بالمنديل، ويقال أيضًا: تمندلت، وأنكرها الكسائي (2)، وفي "القاموس": المِنديل -بكسر الميم وفتحها-، وكمنبر: الذي يُتمسح به، وتندَّل به، وتمندل: تمسَّح (3).

قال الإمام ابن القيم في كتابه "الهدي": كان صلى الله عليه وسلم لا يَرُدُّ موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، وما قرِّبَ إليه شئٌ من الطعام إلا أكل منه، إلا أن تعافَه نفسُه الشريفة، فيتركه من غير تحريم، وما عابَ طعامًا قَطَّ، إن اشتهاه أكل منه، وإلا تركَه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من طعامه، لعقَ أصابعه.

قال: ولم تكن لهم مناديل يمسحون بها أيديهم، ولم تكن عادتهم غسلَ أيديهم كلما أكلوا، انتهى (4).

ودليل ما قاله -رحمه الله تعالى- في "صحيح البخاري" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سأله سعيدُ بنُ الحارث عن الوضوء مما مَسَّتِ النارُ، فقال: لا، قد كنا زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نجدُ مثلَ ذلك من الطعام إلا قليلًا، فإذا نحن وجدناه، لم تكن لنا مناديل إلا أكفُّنا وسواعدُنا وأقدامنا، ثم نصلي ولا نتوضأ (5).

(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2033/ 134).

(2)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 232).

(3)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1372)، (مادة: ندل).

(4)

انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 147، 149).

(5)

رواه البخاري (5141)، كتاب: الأطعمة، باب: المنديل.

ص: 574

قال في "الفتح": وهذا صريح بأنهم لم تكن لهم مناديل.

ومفهومه يدل على أنه لو كانت لهم مناديل، لمسحوا بها، فيُحمل حديثُ النهي على من وجد، ولا مفهوم له، بل الحكمُ كذلك لو مسح بغير المنديل.

وذكر القفال في "محاسن الشريعة": أن المراد بالمنديل هنا: المنديلُ المعدُّ لإزالة الزهومة، لا المنديلُ المعَدُّ للمسح بعد الغسل (1).

تكملة في ذكر طرف من آداب الأكل:

* يكره النفخ في الغِذاء من طعام وشراب، والتنفسُ في الإناء قبل إبانته عن الفم؛ لما روى الترمذي، وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُتنفس في الإناء، أو يُنفخ فيه (2).

وروى عن أبي سعيد الخدري، وصححه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب (3).

وأخرج أبو داود، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي سعيد أيضًا، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثُلْمَةِ القَدَح، وأن يُنفخ في الشراب (4).

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 577).

(2)

رواه الترمذي (1888)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهية النفخ في الشراب.

(3)

رواه الترمذي (1887)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهية النفخ في الشراب.

(4)

رواه أبو داود (3722)، كتاب: الأشربة، باب: في الشرب من ثلمة القدح، وابن حبان في "صحيحه"(5315).

ص: 575

وفي "الصحيحين"، والترمذي، والنسائي: النهيُ عن التنفس في الإناء من حديث أبي قتادة (1).

وقد علم أن الكراهة تزول للحاجة.

قال الآمدي، ونقله ابن مفلح في "الآداب الكبرى" وغيره: لا بأس بنفخ الطعام إذا كان حارًا، ويكره أكله حارًا (2).

وفي "الإقناع": يكره نفخُ الطعام والشراب، والتنفُّس في إنائهما، وأكلُه حارًا، إن لم يكن حاجة، ويكره جولانُ اليد في الطعام إذا كان نوعًا واحدًا (3).

وعبارة "الآداب": ويكره أكلُه مما يلي غيره، والطعامُ نوعٌ واحد (4).

قال الآمدي: ولا بأس أن يأكل من غير ما يليه وهو وحده (5).

ودليلُ كراهة جولان اليد في الطعام: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمرَ بنِ أبي سلمة: "كُلْ مِمَّا يليك" متفق عليه (6)، فإذا كان الطعام أنواعًا، فلا بأس.

وفي حديث عِكْراشٍ عند ابن ماجه، والترمذي، وقال: غريب،

(1) رواه البخاري (5307)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن التنفس في الإناء، ومسلم (267)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاستنجاء باليمين، والنسائي (48)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاستنجاء باليمين، والترمذي (1889)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهية التنفس في الإناء.

(2)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 298).

(3)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 407).

(4)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 298).

(5)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 407).

(6)

تقدم تخريجه.

ص: 576

وأبي بكر الشافعي في "الغيلانيات"، وفيه: ثم أُتينا بطبق فيه ألوانٌ من رطب أو تمر، قال عكراشٌ: فجعلتُ آكل من بين يديَّ، وجالت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق، ثم قال:"يا عِكْراشُ! كُلْ من حيثُ شئتَ؛ فإنه من غير لونٍ واحدٍ" الحديث (1).

* ويُكره الأكل من ذِروة الطعام، ومن وسطه، بل يأكل من أسفله، وكذلك الكيل؛ لما روى الترمذي، وقال: حسن صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافَتَيْه، ولا تأكلوا من وَسَطِه" رواه النسائي، وابن ماجه (2)، ورواه أبو داود بلفظ:"إذا أكل أحدُكم طعامًا، فلا يأكل من أعلى الصحفة، ولكن ليأكلْ من أسفلها؛ فإن البركةَ تنزل من أعلاها"(3).

وفي حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه مرفوعًا: "كلوا من جوانبها، وذَروا ذُرْوتها، يبارَكْ فيها" رواه أبو داود، وابن ماجه (4).

* ويكره أكل وشرب، وكذا أخذٌ وإعطاءٌ باليد اليسرى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا

(1) رواه الترمذي (1848)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في التسمية في الطعام، وابن ماجه (3274)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل مما يليك، وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات"(894).

(2)

رواه الترمذي (1805)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في كراهية الأكل من وسط الطعام، والنسائي في "السنن الكبرى"(6762)، وابن ماجه (3277)، كتاب: الأطعمة، باب: النهي عن الأكل من ذروة الثريد.

(3)

رواه أبو داود (3772)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الأكل من أعلى الصحفة.

(4)

رواه أبو داود (3773)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الأكل من أعلى الصحفة، وابن ماجه (3275)، كتاب: الأطعمة، باب: النهي عن الأكل من ذروة الثريد.

ص: 577

يأكلن أحدُكم بشماله، ولا يشربن بها؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها" رواه مسلم، والترمذي من حديث ابن عمر مرفوعًا (1)، وكان نافع يزيد فيه: "ولا يأخذْ بها، ولا يُعطِ بها" رواه مالك، وأبو داود (2).

وفي حديث أبي سعيد الخدري عند ابن ماجه بإسنادٍ صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليأكلْ أحدُكم بيمينه، ويشربْ بيمينه، وليأخذْ بيمينه، ولْيعطِ بيمينه؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويعطي بشماله، [ويأخذ بشماله] (3) ".

وأخرج الإمام أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل بشماله، أكلَ معه الشيطان، ومن شرب بشماله، شربَ معه الشيطان"(4).

قال في "الآداب": وحرمه ابن عبد البر، وابنُ حزم؛ لظاهر الأخبار (5).

وقال القاضي، وابن عقيل، وسيدنا الشيخُ عبدُ القادر -قدس الله روحه-: تناولُ الشيء من غيره باليد اليمنى مستحبٌّ، قالوا: وإذا أراد أن يُناول إنسانًا كتابًا أو توقيعًا، فليقصد بيمينه (6).

(1) رواه مسلم (2020)، كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، والترمذي (1799)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في النهي عن الأكل والشرب بالشمال.

(2)

رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 922)، وأبو داود (3776)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل باليمين.

(3)

ما بين معكوفين ساقط من "ب"، والحديث رواه ابن ماجه (3266)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل باليمين.

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 77)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 299).

(6)

انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 106).

ص: 578

* ويكره الأكلُ والشربُ متكئًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا، فلا آكلُ متكئًا" رواه البخاري (1)، وغيره.

قال الإمام أحمد: يكره الأكل متكئًا.

وفي "الغنية" لسيدي عبد القادر: وعلى طريق (2).

وفي "الآداب" لابن مفلح: يكره الأكل متكئًا، أو مضطجعًا (3).

زاد في "الإقناع" كـ "الآداب": أو منبطحًا (4).

قال ابن هبيرة: أكلُ الرجل متكئًا يدل على استخفافه بنعمة الله فيما قدم بين يديه من رزقه فيما يراه الله على تناوله، ويخالف عوائدَ الناس عند أكلهم الطعام من الجلوس إلى أن يتكىء عنه، فهذا يجمع بين سوء الأدب، والجهل، واحتقار النعمة، وأيضًا: إذا كان متكئًا، لا يصل الغذاء إلى قعر المعدة الذي هو محل الهضم، فلذلك لم يفعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ونبه على كراهته (5).

وفي "سنن أبي داود": عن أبي هريرة: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على مائدةٍ شُرب عليها الخمرُ، وأن يأكل وهو منبطحٌ على بطنه (6).

(1) رواه البخاري (5083)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل متكئًا، من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.

(2)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 409).

(3)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 299).

(4)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 409).

(5)

نقله ابن مفلح في "الآداب الشرعية"(3/ 318).

(6)

رواه أبو داود (3774)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الجلوس على مائدة عليها بعض ما يكره.

ص: 579

وذكر بعض مشايخ الحنفية: أنه لا بأس بالأكل متكئًا، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل يوم خيبر متكئًا، كذا قالوا (1)، والحديث الذي استدلوا به رواه الطبراني من طريق بقية، وهو ثقة، إلا أنه مدلس، وفي إسناده أيضًا عمر الشامي مجهول، ولفظه: عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنهما، قال: لما افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خيبر، جعلت له مائدة، فأكل متكئًا، وأصابته الشمس، فلبس الظلة (2).

قلت: وعلى فرض ثبوت هذا الحديث وصحته، فإنه منسوخ، يدل على ذلك ما روي عن واثلة نفسه رضي الله عنه، قال: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا وقتًا يسيرًا، ثم تركه.

ذكره أصحاب السير، منهم الشيخ محمد الشامي في "سيرته".

هذا مع ما روى أبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: ما رئي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئًا (3)، نعم، روى مسلم، وأبو داود عن أنس رضي الله عنه، قال: أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتمر، فرأيته يأكل متكئًا (4)، وكأن هذا كان أولًا، ثم نُسخ، يدل له -مع ما قدمنا- حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: لما خُيِّرَ بين أن يكون عبدًا نبيًا، وبين أن يكون ملكًا، فأشار إليه جبريل: أن تواضَعْ، فاختار أن يكون عبدًا نبيًا، قال: فما أكل

(1) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 319).

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 62).

(3)

رواه أبو داود (3770)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الأكل متكئًا.

(4)

رواه مسلم (2044)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب تواضع الآكل وصفة قعوده، وأبو داود (3771)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الأكل متكئًا، بلفظ: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم فرجعت إليه، فوجدته يأكل تمرًا وهو مُقْعٍ.

ص: 580

بعد تلك الكلمة طعامًا متكئًا، رواه النسائي (1).

* ويُكره القِرانُ في التمرِ ونحوِه، وقيل: مع مشاركةٍ؛ لحديث "الصحيحين" عن ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القِران، إلا أن تستأذن أصحابَك (2).

* ويُسن الأكل جالسًا فوقَ اليسار من رجليه، ناصبًا الرجلَ اليمنى منهما؛ ليسندَ بطنه إلى فخذه اليمنى، فلا يحصل له الامتلاءُ المنهيُّ عنه لعدم افتراش البطن.

وفي "الرعاية": أو يتربع (3).

وفي "الفتح" للحافظ ابن حجر في صفة الجلوس للأكل: المستحبُّ أن يكون جاثيًا على ركبتيه، وظهورِ قدميه، أو يجلس وينصب الرجل اليمنى، ويجلس على اليسرى (4).

وقال ابن القيم في "الهدي": ويُذكر عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يجلس مُتَوَرِّكًا على ركبتيه، ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر اليمنى؛ تواضعًا لله، وأدبًا بين يديه.

قال: وهذه الهيئة أنفعُ هيئات الأكل وأفضلُها؛ لأن الأعضاء كلَّها تكون

(1) رواه النسائي في "السنن الكبرى"(6743)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (5131)، كتاب: الأطعمة، باب: القران في التمر، ومسلم (2045)، كتاب: الأشربة، باب: نهي الآكل مع جماعة عن قران تمرتين ونحوهما في لقمة إلا بإذن أصحابه، بلفظ:"نهى عن القران، إلا أن يستأذن الرجل أخاه".

(3)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 305).

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 542).

ص: 581

على وضعها الطبيعي الذي خلقها الله تعالى عليه (1).

* ويسمي اللهَ تعالى عند إرادة الأكل قبل أن يضع يده في الطعام، وفي الشراب قبل أن يضع الإناء على فيه، فيقول: باسم الله، وهي بركة الطعام، فيكفي القليل معها، ولا يكفي الكثير بدونها؛ لما روى أبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل طعامه في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي، فأكله بلقمتين، فقال صلى الله عليه وسلم:"أما إنه لو سَمَّى، كفاكم" رواه ابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، وزاد:"فإذا أكل أحدُكم طعامًا، فليذكرِ اسمَ الله عليه، فإن نسي في أوله، فليقل: باسم الله أوله وآخره"، وهذه الزيادة عند أبي داود وابن ماجه مفردة (2).

قال النووي: والتسميةُ هنا -يعني: في الأكل والشرب- مجمَعٌ على استحبابها، انتهى (3).

* وينبغي أن يجهر بالبسملة؛ لينبه غيره، وليسمع الشيطان ذكر الله، فيهرب.

قال في "الآداب الكبرى": ولم يذكره الأصحاب، وله مناسبة، انتهى (4).

(1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (4/ 221).

(2)

رواه أبو داود (3767)، كتاب: الأطعمة، باب: التسمية على الطعام، والترمذي (1858)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في التسمية على الطعام، وابن ماجه (3264)، كتاب: الأطعمة، باب: التسمية عند الطعام، وابن حبان في "صحيحه"(5214).

(3)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 188 - 189).

(4)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 313).

ص: 582

وأقل ذلك أن يُسمع نفسَه حيث لا مانع.

قال ابن أبي داود في كتابه "تحفة العباد وأدلة الأوراد": اتفق العلماء على أنه لا يُحسب للذاكر شيء من الأذكار الواردة حتى يتلفظ به بحيث يُسمع نفسَه إذا كان صحيحَ السمع.

* فإذا انتهى الآكل من أكله، فيسن له أن يحمد الله؛ لما في حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه مرفوعًا:"من أكل طعامًا، ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام، ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة، غُفر له ما تقدَّمَ من ذنبه" رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه، وابن ماجه (1).

وأخرج مسلم، والترمذي، والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكلَ الأكلةَ فيحمده عليها، ويشربَ الشربة فيحمده عليها"(2).

والأكلة -بفتح الهمزة-: المرةُ الواحدة من الأكل، وقيل: -بضم الهمزة-، وهي اللقمة (3).

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب، قال:"الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وجعلنا مسلمين" رواه الإمام أحمد، وغيره (4).

(1) رواه أبو داود (4023)، كتاب: اللباس، باب:(1)، والترمذي (3458)، كتاب: الدعوات، باب: ما يقول إذا فرغ من الطعام، وابن ماجه (3285)، كتاب: الأطعمة، باب: ما يقال إذا فرغ من الطعام.

(2)

رواه مسلم (2734)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب، والترمذي (1816)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الحمد على الطعام إذا فرغ منه، والنسائي في "السنن الكبرى"(6899).

(3)

انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 107)، عقب حديث (3271).

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 32)، وأبو داود (3850)، كتاب: =

ص: 583

وفي "البخاري" عن أبي أمامة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته، قال:"الحمدُ لله كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيه غيرَ مَكْفِيٍّ ولا مُوَدَّع ولا مُسْتَغْنًى عنه"(1).

وفي رواية: كان إذا فرغ من طعامه قال: "الحمدُ لله الذي كفانا وآوانا غيرَ مَكْفِيٍّ ولا مكفورٍ رَبّنا"(2).

ومكفي -بفتح الميم وتشديد الياء- هذه الرواية الصحيحة الفصيحة.

ورواه أكثر الرواة بالهمز.

وقال النووي: وهو فاسد من جهة العربية، سواء كان من الكفاية، أو كَفَأْتُ الإناءَ، كما لا يقال في مَرْميّ: مرميء -بالهمز-.

قال في "المطالع": المرادُ بهذا المذكور كلِّه: الطعام، وإليه يعود الضمير، ومعنى غير مكفورٍ؛ أي: غير مجحودةٍ نعمُ الله تعالى، بل مشكورة غيرُ مستورٍ الاعترافُ بها، والحمدُ لله عليها (3).

وقال الخطابي: المرادُ بهذا الدعاء كلِّه: الباري سبحانه وتعالى، والضمير يعود إليه، ومعنى قوله:"غير مكفي": أنه يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ، وقوله:"ولا مُوَدَّع": أي: غير متروكٍ الطلبُ منه والرغبةُ إليه (4)، وينتصب

= الأطعمة، باب: ما يقول الرجل إذا طعم، والترمذي (3457)، كتاب: الدعوات، باب: ما يقول إذا فرغ من الطعام، وابن ماجه (3283)، كتاب: الأطعمة، باب: ما يقال إذا فرغ من الطعام.

(1)

رواه البخاري (5142)، كتاب: الأطعمة، باب: ما يقول إذا فرغ من طعامه.

(2)

رواه البخاري (5142)، كتاب: الأطعمة، باب: ما يقول إذا فرغ من طعامه.

(3)

وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 345).

(4)

انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 261).

ص: 584

"رَبَّنا" على هذا بالاختصاص والمدح، أو بالنداء؛ كأنه قال: يا رَبَّنا اسمع حمدنا ودعاءنا"، من رفعه، قطعه، وجعله خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: ذلك هو ربُّنا، أو أنت ربُّنا، ويصح جره على البدل من اسم الجلالة في قوله: "الحمد لله" (1).

وفي "سنن النسائي"، و"كتاب ابن السني" بإسناد حسن، عن عبد الرحمن بن جبير التابعي: أنه حدثه رجل خدمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثماني سنين: أنه كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم إذا قُرِّبَ إليه طعام يقول: "باسم الله"، فإذا فرغ من طعامه، قال:"اللهم أَطعمتَ وسقيتَ وأَغنيتَ وأقنيتَ وهديتَ واجتبيتَ، فلك الحمدُ على ما أعطيت"(2).

* ويندب تصغيرُ اللقم، وإجادة المضغ (3).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما لم يكن ثَمَّ ما هو أهم من الإطالة.

قال ابن تيمية: هذه المسألة لم أجدها مأثورة، ولا عن أبي عبد الله الإمام أحمد رضي الله عنه مذكورة، لكن فيها مناسبة.

قال: ونظير هذا ما ذكره الإمام أحمد من استحباب تصغير الأرغفة، وذكر بعض أصحابنا استحباب تصغير الكبير، وذلك عند الخَبز، وعند الوضع، وعند الأكل (4).

قلت: ويُستدل لتصغير الأرغفة بما رواه البزار بسندٍ ضعيف، والطبراني

(1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 345).

(2)

رواه النسائي في "السنن الكبرى"(6898)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"(465).

(3)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 308).

(4)

المرجع السابق، (3/ 308 - 309).

ص: 585

عن أبي الدرداء رضي الله عنه: "قوتوا طعامكم يباركْ لكم فيه".

قال إبراهيم بنُ عبد الله بنِ الجنيد أحدُ رواته: سمعت بعض أهل العلم يفسر هذا، قال: هذا تصغير الأرغفة (1).

وفي "نهاية ابن الأثير": ويحكى عن الأوزاعي: أنه تصغيرٌ الأرغفة (2).

قال في "السيرة الشامية": قال شيخُنا أبو الفضل أحمدُ بنُ الخطيب رحمه الله: تتبعت هل كانت أقراص خبزه صلى الله عليه وسلم صغارًا أم كبارًا، فلم أجد في ذلك شيئًا بعدَ الفحص، وأما حديث:"صَغِّروا الخبزَ، وَكثِّروا عَدَدَهُ يُبارَكْ لكم فيه"، فرواه الديلمي، وسنده واه (3)، انتهى.

قلت: ذكره الحافظ ابن الجوزي في "الموضوعات"(4)، وقال: تتبعت هل كان خبز النبي صلى الله عليه وسلم صغيرًا أو كبيرًا، فلم أر فيه شيئًا.

قال ابن الجوزي: ولا يمدُّ الآكلُ يدَه إلى اللقمة الأخرى حتى يبتلعَ ما قبلَها، ومثله في "الآداب" لابن مفلح (5).

* ويستحبُّ للآكل أكلُ فُتاتٍ ساقطٍ من الطعام على مَحَلٍّ طاهر أولا، وكانا جافَّين؛ لما روى ابن ماجه، والحكيم الترمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم البيتَ، فرأى كسرةً ملقاةً، فأخذها

(1) رواه البزار في "مسنده"(5/ 35 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والطبراني في "مسند الشاميين"(1472).

(2)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 119).

(3)

ورواه أبو بكر الإسماعيلي في "معجم شيوخه"(2/ 569 - 570)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

رواه ابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 292).

(5)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 309).

ص: 586

فمسحَها، ثم أكلها، وقال:"يا عائشة! أَحْسِني جِوارَ نِعَمِ الله؛ فإنها ما نَفَرَتْ عن قومٍ فعادَتْ إليهم"(1).

وأما حديث أبي سكـ[ـيـ]ـنة، عند الطبراني (2)، وحديثُ عبدِ الله بنِ أم حَرام عند الطبراني أيضًا، والبزارِ مرفوعًا (3):"أكرموا الخبزَ"، زاد أبو سكـ[ـيـ]ـنة:"فإن الله تعالى أكرمَهُ، فمن أكرمَ الخبزَ، أكرمه اللهُ"، زاد عبد الله:"فإن الله أنزله من بركات السماء، وسخّر له بركاتِ الأرض، ومن تتبع ما يسقط من السفرة، غفر له"، فأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" من حديث أبي موسى، وبريدة، وعبد الله بن أم حرام، وأبي هريرة، وحكم عليه بالوضع (4)، وتعقبه السيوطي بأن الحاكم أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه، وأقره الذهبي، والبيهقي في "الشعب"(5)، ومن حديث أبي سكـ[ـيـ]ـنة أخرجه الطبراني في "الكبير"(6).

وقال [ابن الديبع](7) تلميذُ الحافظ السخاوي في كتابه "التمييز": حديث: "أكرموا الخبز" له طرق كلها ضعيفة مضطربة، وبعضُها أشدُّ من بعض في الضعف، قال: وقال شيخنا: لا يتهيأ الحكمُ عليه بالوضع،

(1) رواه ابن ماجه (3353)، كتاب: الأطعمة، باب: النهي عن إلقاء الطعام، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 264).

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 235).

(3)

رواه الطبراني في "مسند الشاميين"(15).

(4)

انظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (2/ 290 - 291).

(5)

رواه الحاكم في "المستدرك"(7145)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(5869).

(6)

تقدم تخريجه قريبًا. وانظر: "اللآلىء المصنوعة" للسيوطي (2/ 213 - 217).

(7)

في الأصل: "الربيع"، والصواب ما أثبت.

ص: 587

ولاسيما في "المستدرك" للحاكم عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكرموا الخبز"، انتهى (1).

* ويُستحَبُّ تخليلُ الأسنان من بقايا الطعام، فيتتبع ذلك بالخلال، ويلقيه.

قال الإمام ابن القيم: الخلالُ نافعٌ لِلِّثَة والأسنان، حافظ لصحتها، نافع من تغيير النكهة.

قال: وأجودُ [هُ]، ما اتخذ من عيدان الأخِلَّة، وخشب الزيتون، والخلات، انتهى (2).

قال الشيخ عبد القادر -قدّس الله روحه-: يكره التخلُّل على الطعام، ولا يخلل بقصبٍ، ولا رمانٍ، ولا ريحان، ولا طرفاء، ونحو ذلك؛ لأنه مضر.

وفي "الآداب" لابن مفلح: ويخلل أسنانه بعد الأكل إن علقَ بها شيء (3).

روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: تركُ الخلال يوهِنُ الأسنان، ورفعه بعضهم (4).

وروى أبو نُعيمٍ الحافظُ وغيرُه من رواية واصلِ بنِ السائب، وهو ضعيف، عن أبي أيوب مرفوعًا: "حَبَّذا المتخلِّلون من الطعام، وتَخَلَّلوا من

(1) انظر: "تمييز الطيب من الخبيث" لابن الديبع (ص: 27).

(2)

انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (4/ 307).

(3)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 316).

(4)

ذكره السَّامري في "المستوعب"، كما نقله ابن مفلح في "الآداب الشرعية"(3/ 316).

ص: 588

الطعام؛ فإنه ليس شيء أشدَّ على المَلَكِ الذي على العبد أن يجدَ من أحدِكم ريحَ الطعام" (1).

وفي "الهدي" للإمام المحقق ابن القيم: ورد في الخلال حديثان لم يصحا، فذكر هذين الحديثين، انتهى (2).

قال علي القاري: حديث "حبذا المتخلِّلون من أمتي". قال الصغاني: وضعُه ظاهرٌ، وفسره بتخليل الأصابع في الوضوء، وبالتخليل بعد الطعام (3).

ويلقي ما يُخرجه الخلال من الخُلالة -كثمامة-.

روى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعًا:"من أكل، فما تخلل، فليلفظْه، ومن لاك بلسانه، فليبتلعْ، من فعلَ، فقد أحسنَ، ومن لا، فلا حرجَ عليه"(4).

فيكره ابتلاع ما يُخرجه الخلال، لا ما يخرجه اللسان.

* ويستحب غسلُ اليدين قبل الطعام وبعده؛ لما في آخر حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "بركةُ الطعام الوضوءُ قبله، والوضوءُ بعده" رواه أبو داود، والترمذي (5).

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(4061)، وكذا ابن أبي شيبة في "مسنده"(2/ 291 - "المطالب العالية" لابن حجر)، وغيرهما.

(2)

انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (4/ 306).

(3)

وانظر: "كشف الخفاء" للعجلوني (1/ 412).

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 371)، وأبو داود (35)، كتاب: الطهارة، باب: الاستتار في الخلاء، وابن ماجه (337)، كتاب: الطهارة، باب: الارتياد للغائط والبول.

(5)

رواه أبو داود (3761)، كتاب: الأطعمة، باب: في غسل اليد قبل الطعام، =

ص: 589

قال الإمام أحمد: ما حدّث بهذا الحديث إلا قيسُ بنُ الربيع، وهو منكَر الحديث، وقد ضعّف قيسًا هذا جماعةٌ، ووثقه آخرون.

قال الحافظ المنذري: ولا يخرج عن حَدِّ الحَسن (1).

وعن أنس بن مالك مرفوعًا: "من أحبَّ أن يكثر الله خيرَ بيته، فليتوضأ إذا حضر غذاؤه، وإذا رفع" رواه ابن ماجه، والبيهقي بإسناد ضعيف (2)، والمراد بالوضوء: غسل اليدين (3).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدّس الله روحه-: لم نعلم أحدًا استحبَّ الوضوء للأكل إلا إذا كان جنبًا (4).

واعلم: أن غسل اليدين بعد الطعام مسنون، رواية واحدة، ومعتمد المذهب: وقبله، لكن يتقدّم ربُّ الطعام به قبل الطعام، ويتأخر به بعده (5)، وقد ذكرنا في ذلك طرفًا صالحًا في كتابنا "غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب"(6)، والله الموفق.

= والترمذي (1846)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الوضوء قبل الطعام وبعده.

(1)

انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 108 - 109)، عقب حديث (3274).

(2)

رواه ابن ماجه (3260)، كتاب: الأطعمة، باب: الوضوء عند الطعام، والبيهقي في "شعب الإيمان"(5806).

(3)

انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 109)، حديث (3275).

(4)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 371).

(5)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 404). وانظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 371).

(6)

انظر: "غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب" للشارح رحمه الله (2/ 67).

ص: 590