المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٦

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب القصاص

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌كتاب الحدود

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب حد السرقة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب حد الخمر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌كتاب الأيمان والنذور

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب النذر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب القضاء

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب الصيد

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

الفصل: ‌ ‌الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ

‌الحديث الثاني

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تُقْطَعُ اليَدُ فِي رُبع دِينَارٍ فَصَاعِدًا"(1).

* * *

(عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصديقة (رضي الله عنها: أنها سمعت

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (6407)، كتاب: الحدود، باب: قوله الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، واللفظ له، ومسلم (1684/ 1)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها، وأبو داود (4384)، كتاب: الحدود، باب: ما يقطع فيه السارق، والنسائي (4917 - 4920، 4922 - 4923)، كتاب: قطع السارق، باب: ذكر الاختلاف على الزهري.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"معالم السنن" للخطابي (3/ 302)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 530)، و"عارضة الحوذي" لابن العربي (6/ 225)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 495)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 70)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 181)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 127)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1479)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 97)، و"عمدة القاري" للعيني (23/ 280)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 459)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 18)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 296).

ص: 293

رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقطع اليد) من السارق (في) سرقة (ربع دينار) من حرزه (فصاعدًا)؛ أي: أكثر، وهذا رواه مع الشيخين: الإمام أحمد (1)، وأبو داود، والترمذي، والنسائي (2).

وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا" رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه (3).

وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارقَ في ربع دينار فصاعدًا (4).

وفي رواية: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه (5).

وقال صلى الله عليه وسلم: "اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك" ذكره الإمام أحمد (6).

وقالت عائشة رضي الله عنها: لم تكن تُقطع يدُ السارق في عهد

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 36).

(2)

كما تقدم تخريجه قريبًا، وليس هو من رواية الترمذي، وسيأتي تخريج رواية الترمذي التي أخرجها في "سننه".

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 104)، ومسلم (1684/ 2)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها، والنسائي (4928)، كتاب: قطع السارق، باب: ذكر اختلاف أبي بكر بن محمد وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة في هذا الحديث، وابن ماجه (2585)، كتاب: الحدود، باب: حد السارق.

(4)

تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1684/ 1).

(5)

رواه مسلم (1684/ 3)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها، والنسائي (4939)، كتاب: قطع السارق، باب: ذكر اختلاف أبي بكر بن محمد وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة في هذا الحديث.

(6)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 80)، وأبو يعلى في "معجمه"(116)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 255).

ص: 294

رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المِجَنِّ ترسٍ أو حجفةٍ، وكان كل منهما ذا ثمن (1).

وقال الإمام مجد الدين في "المنتقى": وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار: اثني عشر درهمًا، رواه الإمام أحمد (2).

وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قال: "لعن اللهُ السارق يسرق البيضةَ فتقطع يدُه، ويسرق الحبلَ فتقطع يدُه" قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيضة الحديد، والحبل، كانوا يرون أنه منها ما يساوي ثلاثة دراهم، متفق عليه (3)، وليس لمسلم فيه زيادة قول الأعمش (4).

قال الإمام ابن القيم في "الهدي": هذا حبل السفينة، وبيضةُ الحديد، وقيل: بل كل حبل وبيضة، وقيل: هو إخبار بالواقع؛ أي: إنه يسرق هذا، فيكون سببًا لقطع يده بتدرجه منه إلى ما هو أكبر منه (5).

قال الإمام النووي: أجمع العلماء على قطع يد السارق، واختلفوا في اشتراط النصاب وقدره، فقال أهل الظاهر لا يشترط نصاب، بل تقطع في

(1) رواه البخاري (6410)، كتاب: الحدود، باب: قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، واللفظ له، ومسلم (1685/ 5)، كتاب: الحدود، باب حد السرقة ونصابها.

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 80)، وانظر:"المنتقى في الأحكام" للمجد بن تيمية (3/ 66)، عقب حديث (3129).

(3)

رواه البخاري (6401)، كتاب: الحدود، باب: لعن السارق إذا لم يُسم، ومسلم (1687)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها.

(4)

انظر: "المنتقى في الأحكام" للمجد بن تيمية (3/ 66)، عقب حديث (3130).

(5)

انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 49).

ص: 295

القليل والكثير، وبه قال ابن بنت الشافعي من أصحابنا، وحكاه عياض عن الحسن البصري (1)، واحتجوا بعموم الآية، وقال الجمهور: لا تقطع إلا في نصاب؛ لما ذكرنا من الأحاديث (2).

واختلفوا في قدره، فقال الإمام أحمد، ومالك، وإسحاق: تقطع في ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، وما قيمته ذلك، قال ابن هبيرة: أي قيمة ثلاثة دراهم من العروض، قال: والتقويم بالدرهم خاصة، قال: والأثمان أصول لا يقوَّم بعضُها ببعض (3).

قلت: معتمد المذهب: كونُ الدينار الذي تقطع اليد في ربعه مثقالًا ذهبًا، وإن العرض يقوَّم بأحدهما، فإن بلغ ربع دينار، أو ثلاثة دراهم فضة صافية، قطعت، وتعتبر القيمة حال إخراجه من الحرز، فإن كان في أحد النقدين غش، لم تقطع حتى يبلغ ما فيه من النقد الخالص نصابًا، وسواء كان النقد مضروبًا، أو تبرًا، أو حليًا، أو مكسرًا، ويضم أحدُ النقدين إلى الآخر بالأجزاء في تكميل النصاب؛ كالزكاة، فلو سرق ثُمْنَ مثقال ودرهمًا ونصفًا، قُطع، وكذا يضم أحد النقدين أو هما إلى قيمة عرض في تكميل النصاب، فلو سرق درهمًا وعرضًا يساوي درهمًا ونصف سدس مثقال، قطع (4).

ومذهب الشافعي: النصاب ربعُ دينار ذهبًا، أو ما قيمته ربع دينار، فلا تُقطع في أقل منه.

(1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 499).

(2)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 181).

(3)

انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 250).

(4)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 252 - 253).

ص: 296

وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تقطع إلا في عشرة دراهم، وما قيمته ذلك (1).

والصحيح ما عليه الإمام مالك، والإمام أحمد، وإسحاق، وغيرهم، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق سرق ترسًا من صُفَّة النساء قيمتُه ثلاثة دراهم، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي (2)، فهذا يدل على أن كل واحد من النقدين أصل؛ لأن ثمن المجن قُوِّمَ تارة بربع دينار؛ كما في حديث عائشة عند النَّسائيُّ (3)، وتارة بثلاثة دراهم؛ كما في حديث ابن عمر هذا، فلو كانت الدراهم هي الأصل، لاختص التقويم بها دون الذهب.

قال في "شرح المحرر": والرواية الثانية: أن الدراهم هي الأصل؛ لقول عائشة رضي الله عنها: كان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهمًا (4)، فيدل على أحد شيئين: إما على أنه لا يريد بربع الدينار الذهب، وإنما يريد الدينار المصطلح عليه، وهو اثنا عشر درهمًا، وإما على أن قيمة الدينار كانت يومئذ كذلك، فعلى هذا تُقوم العروضُ به دون الذهب، ويبقى الذهب على أصله في القيمة بتقويم الشرع، الدينار باثني عشر درهمًا، لأن الدرهم أعم وجودًا، وأسهل في

(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 182).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 145)، وأبو داود (4386)، كتاب: الحدود، باب: ما يقطع فيه السارق، والنسائي (4909)، كتاب: قطع السارق، باب: القدر الذي إذا سرقه السارق قطعت يده.

(3)

رواه النَّسائيُّ (4931)، كتاب: قطع السارق، باب: ذكر اختلاف أبي بكر بن محمد وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة في هذا الحديث.

(4)

تقدم تخريجه قريبًا عند الإمام أحمد والشيخين.

ص: 297

التقويم؛ لأنها يندر دخول الكبير فيها، ولا كذلك الذهب، فيجب أن تكون أصلًا في التقويم.

وفي رواية: أن الأصل الدراهم خاصة، فتقوم العروض، وكذا الذهب بذلك، فمتى بلغ المسروق ثلاثة دراهم فضة، قطعت اليد فيه (1).

قال في "الفتح": قال الداودي في قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق": يحتمل أن يكون خبرًا؛ ليرتدع من سمعه عن السرقة، ويحتمل أن يكون دعاء، قال: ويحتمل أَلَّا يراد به حقيقة اللعن، بل التنفير فقط.

وقال الطيبي: لعل المراد باللعن هنا: الإهانة والخذلان، كأنه قيل: لما استعمل أعزَّ شيء في أحقر شيء، خذله الله حتى قطع.

واعترض الخطابي على تأويل الأعمش من قوله: كانوا يرون أنه بيضة الحديد. . . . إلخ، بأن هذا غير مطابق لمذهب الحديث، ومخرج الكلام فيه، وذلك أنه ليس بالشائع في الكلام أن يقال في مثل ما ورد فيه الحديثُ من اللوم والتثريب: أخزى الله فلانًا، عرض نفسه للتلف في مال له قدر ومزية، وعرض له قيمة، إنما يُضرب المثل في مثله بالشيء الذي لا وزنَ له ولا قيمةَ، هذا حكم العرف الجاري، وإنما وجه الحديث وتأويله: ذمُّ السرقة، وتهجينُ أمرها، وتحذير سوء بغيتها فيما قل وكثر من المال، يقول: إن سرقة الشيء القليل الذي لا قيمة له كالبيضة المذرة، والحبل الخلَق الذي لا قيمة له، إذا تعاطاه، فاستمرت به العادة، ولم يتب، يؤديه ذلك إلى سرقة ما فوقها حتى يبلغ قدرَ ما تقطع فيه اليد، فتقطع يده، يقول: فليحذر هذا الفعل، وليتوقَّه قبل أن تملكه العادة ويمرنَ عليها؛ ليسلم من

(1) وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (10/ 262).

ص: 298

سوء بغيه، ووخيمِ عاقبته، وهذا الذي أشار إليه ابن القيم.

وسبق الخطابي إلى ذلك أبو محمد بن قتيبة فيما حكاه ابن بطال، فقال: واحتج الخوراج بهذا الحديث على أن القطع يجب في أقل الأشياء وكثيرها، ولا حجة لهم في ذلك (1)؛ لأن الآية لما نزلت، قال عليه السلام ذلك على ظاهر ما نزل، ثم أعلمه الله تعالى أن القطع لا يكون إلا في ربع دينار، فكان بيانًا لما أجمل، فوجب المصيرُ إليه، قال: وأما قول الأعمش: إن البيضة في هذا الحديث بيضةُ الحديد الذي يجعل في الرأس في الحرب، وإن الحبل حبال السفن، فهذا التأويل لا يجوز عند من يعرف صحيح كلام العرب؛ لأن كل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة، وهذا تكثير لما يسرقه السارق، وليس من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح الله فلانًا عرّض نفسه للضرب في عقد جوهر، وتعرض للعقوبة بالغلول في جراب مسك، وإنما العادة في مثل هذا أن يقولوا: لعنه الله، تعرَّضَ لقطع اليد في حبل رَثّ، أو في كبة شعر، أو رداء خَلَق، وذكر نحو ما قدمنا عن الخطابي (2).

وأيضًا: فالعار الذي يلحقه بالقطع لا يساوي ما حصل له ولو كان جليلًا، وإلى هذا أشار القاضي عبد الوهاب بقوله:

[من البسيط]

صِيَانَةُ الْعُضْوِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا

صِيَانَةُ الْمَالِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي

وردَّ بذلك على قول المعري:

[من البسيط]

يَدٌ بِخَمْس مِئِين عَسْجدًا وُدِيَتْ

مَا بَالُها قُطِعَتْ فِي رُبع دِينَارِ

تَحَكُّمٌ مَا لَنَا إِلَّا السُّكُوتُ لَهُ

وأَنْ نَعُوذَ بِمَوْلَانَا مِنَ النَّارِ

(1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 149).

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 82).

ص: 299

كما في "الفتح"(1): ما عدا ثاني بيتي المعري.

والذي في الدميري وغيره ما لفظه: ولما نظم أبو العلاء المعري أحمدُ بنُ عبد الله بنِ سليمان بيته الذي شكك به على الشريعة، وهو:

يَدٌ بِخَمْسِ مِئِين عَسْجدًا وُدِيَتْ، البيت، فأجابه القاضي عبد الوهاب:

[من البسيط]

صِيَانَةُ النَّفْسِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا

خِيَانَةُ الْمَالِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي

يعني: لما كانت أمينة، كانت ثمينة، فلما خانت، هانت، انتهى (2).

والمحفوظُ من لفظ بيت عبد الوهاب:

[من البسيط]

عِزُّ الأَمَانَةِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا

ذُلُّ الْخِيَانَةِ فافْهَم حِكْمَةَ الْبَارِي

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وشرح ذلك -يعني: بيت القاضي عبد الوهاب على ما أنشده من قوله: صيانة -بالصاد المهملة في الشقين- ما لفظه: وشرحُ ذلك: أن الدية لو كانت ربع دينار، لكثرت الجناية على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسَ مئة دينار، لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين (3).

تنبيهات:

الأول: يشترط في قطع سارق: أن يكون مكلفًا مختارًا، وأن يكون المسروق مالًا محترمًا، ويكون السارق عالمًا به وبتحريمه، وأن يسرقه من

(1) المرجع السابق، (12/ 98).

(2)

وانظر: "تفسير ابن كثير"(2/ 57).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 98).

ص: 300

مالكه أو نائبه، ولو من غلة وقف، وليس من مستحقيه.

ويشترط للقطع أن تكون السرقة من حرز، فحرزُ المال: ما جرت العادة بحفظه فيه، ويختلف باختلاف الأموال والبلدان، وعدل السلطان وجوره، وقوته وضعفه.

فحرز الأثمان والجواهر والقماش في الدور والدكاكين في العمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة.

والصندوق في السوق حرز، وثَمَّ حارس، وإلا فلا.

فإن لم تكن الأبواب مغلقة، ولا فيها حافظ، فليست حرزًا.

وكذا البيوت التي في البساتين والطرق والصحراء إذا لم يكن فيها أحد، فليست حرزًا، ولو مغلقة.

وإذا كان لابسًا ثوبًا، أو متوسدًا له، نائمًا أو مستيقظًا، أو مفترشًا، أو متكئًا عليه في أي موضع كان من بلد أو برية، أو نائمًا على مجرِّ فرسه، ولم يزل عنه، أو نعله في رجله، فمحرز، وإن تدحرج عن الثوب، زال الحرز.

ومتاع البزازين بين أيديهم بحيث يشاهدونه وينظرون إليه مُحرز، إلا إن نام، أو غاب عن موضع مشاهدته.

وحرز كفن مشروع -خرج غير مشروع من حلي وفراش ونحوهما- في قبر على ميت، ولو بعد عن العمران، بشرط كونِ القبر مطمومًا الطَّمَّ الذي جرت به العادة (1).

الثاني: يشترط للقطع: انتفاءُ الشبهة، فلا تقطع بسرقة مال ولدِه وإن سفل، وسواء في ذلك الأبُ والأم، ولا بسرقة مال والده وإن علا؛ خلافًا

(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 251، 255، 259).

ص: 301

لمالك في سرقة الولد من مال والده، إذ لا شبهة له في مال أبويه، بخلاف سائر الأقارب، فيقطعون بالسرقة من مال أقاربهم؛ كالإخوة والأعمام.

ولا يقطع العبد بسرقة مال سيده، ولا سيدُ المكاتَب بسرقة ماله، ولا مسلم بسرقة من بيت المال -ولو عبدًا- إن كان سيده مسلمًا، ولا يقطع أحد الزوجين بسرقته من مال الآخر، ولو من محرز عنه؛ خلافًا لمالك والشافعي (1).

الثالث: يشترط ثبوتُ السرقة بشهادة عدلين يصفانها، والحرزَ، وجنسَ النصاب وقدرَه، ولا تُسمع البينة قبل الدعوى أو باعتراف مرتين؛ وفاقًا لأبي يوسف، يذكر في الاعتراف شروط السرقة من النصاب والحرز وغير ذلك، والحر والعبد في هذا سواء، ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع، فإن رجع قبلُ، فلا قطعَ؛ بخلاف ما لو ثبت ببينة، وإن شهدت البينة على إقراره بالسرقة، فجحد، وقامت البينة بذلك، لم يقطع، وعند الثلاثة: يثبت حد السرقة بإقراره مرة واحدة (2).

الرابع: إذا وجب القطع، قطعت يده اليمنى من مفصل الكف، وحُسمت وجوبًا، وهو أن يغمس موضع القطع من مفصل الذراع في زيت مغلي، فإن عاد، قُطعت رجلُه اليسرى من مفصل الكعب، وحُسمت وجوبًا، وصفة القطع: أن يجلس السارق ويُضبط لئلا يتحرك، وتُشديده بحبل، وتُجَرُّ حتى يتبين مفصل الكفِّ من مفصل الذراع، ثم توضع بينهما سكين حادة، ويدق فوقها بقوة لتقطع في مرة واحدة، أو توضع السكين على المفصل، وتُمَرُّ مرة واحدة، وإن علم قطعًا أوحى منها، قطع به،

(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 116).

(2)

المرجع السابق، (9/ 118 - 119).

ص: 302

ويُسن تعليق يد المقطوع في عنقه، زاد جماعة: ثلاثة أيام، إن رآه الإمام (1)، ففي "السنن الأربع" عن عبد الرحمن بن مُحيريز، قال: سألنا فضالةَ بنَ عُبيد عن تعليق اليد في عنق السارق، أمن السنة؟ قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق، فقطعت يدُه، ثم أمر بها فعُلقت في عنقه (2).

قال المجد في "المنتقى": وفي إسناده ابن أرطاة ضعيف (3).

قال العلماء -رحمهم الله تعالى-: لا يقطع في شدة حر ولا برد، ولا مريض في مرضه، ولا حامل حال حملها، ولا بعد وضعها حتى ينقضي نفاسها، وإذا قُطعت يده، فسرق قبل اندمالها، لم يقطع حتى يندمل القطع الأول، فإن عاد ثالثًا بعد قطع يده ورجله، حرم قطعه، وحبس حتى يتوب (4)، هذا معتمد الروايتين عن الإمام أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة.

وعن أحمد رواية أخرى: أنه يقطع في الثالثة والرابعة، وهذا مذهب مالك والشافعي، فيقطع في الثالثة يُسرى يديه، وفي الرابعة يُمنى رجليه (5).

قال في "الفروع": والمذهب: يحرم قطعه؛ يعني: بعد الثانية، فيحبس حتى يتوب كالمرة الخامسة.

(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 267).

(2)

رواه أبو داود (4411)، كتاب: الحدود، باب: في تعليق يد السارق في عنقه، والنسائي (4983)، كتاب: قطع السارق، باب: تعليق يد السارق في عنقه، والترمذي (1447)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في تعليق يد السارق، وابن ماجه (2587)، كتاب: الحدود، باب: تعليق اليد في العنق.

(3)

انظر: "المنتقى في الأحكام" للمجد بن تيمية (3/ 72)، حديث رقم (3142).

(4)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 266).

(5)

انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 255).

ص: 303

وفي "الإيضاح": ويعذب، وفي "التبصرة": أو يغرب، وفي "البلغة" يُعزر ويُحبس حتى يتوب.

وأما ما رواه مُصعب بنُ ثابت عن عبد الله بن الزبير، ومحمد بن المنكدر عن جابر، قال: جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"اقتلوه"، فقالوا: إنما سرق، فقال:"اقطعوه"، ثم جيء به ثانية، فأمر بقتله، فقالوا: إنما سرق، فقال:"اقطعوه"، ثم جيء به ثالثة، فأمر بقتله، فقالوا: إنما سرق، فقال:"اقطعوه"، ثم جيء به رابعة، فقال:"اقتلوه"، فقالوا: إنما سرق، فقال:"اقطعوه"، فأتي به في الخامسة، فأمر بقتله، فقتلوه (1). فقال الإمام أحمد، ويحيى بن معين: مصعبٌ ضعيف، زاد الإمام أحمد: لم أَرَ الناسَ يحمدون حديثه، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وروى حديثه أبو داود، والنسائي، وقال: حديث منكر، ومصعب ليس بالقوي.

قال في "الفروع": وقيل: هو -أي: الحديث- حسن، وقتله لمصلحة اقتضته، وقد قال أبو مصعب المالكي: يقتل السارق في الخامسة.

قال صاحب "الفروع": وقياس قول شيخنا ابن تيمية -قدس الله روحه- أنه كالشارب في المرة الرابعة يقتل إذا لم ينته بدونه (2).

الخامس: معتمد المذهب: لا قطع عامَ مجاعة غلاء، نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه إذا لم يجد ما يشتريه، أو يشتري به.

قال الإمام أحمد: ويروى ذلك -يعني: عدم القطع عام المجاعة- عن عمر رضي الله عنه.

(1) تقدم تخريجه.

(2)

انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 132 - 133).

ص: 304

قال في "الفروع": قال جماعة: ما لم يبذل له، ولو بثمن غال.

وفي "الترغيب": ما يحيي به نفسه؛ يعني: لا يقطع به (1).

السادس: اتفق الأئمة على أنه إذا كانت العين المسروقة قائمة، فإنه يجب ردها، واختلفوا هل يجتمع القطعُ والضمانُ مع تلف المسروق؟ فالجمهور: أنه يجتمع عليه القطع والضمان.

وقال أبو حنيفة: لا يجتمعان، فإن اختار المسروق منه الغرمَ، لم يقطع، وإن اختار القطع، فقد استوفى حقه، ولا يغرمه قيمة المسروق.

وقال مالك: إن كان السارق موسرًا، وجب عليه القطع، وإن كان معسرًا، لا يتبع بقيمتها، ويقطع.

ودليل قول الجمهور: أنهما حقان لمستحقين: القطع حق الله تعالى، والضمان حق للآدمي، فجاز اجتماعهما؛ كالجزاء والقيمة في الصيد المملوك إذا أتلفه في الحرم والإحرام، ولأنه إذا كانت العين باقية، وجب ردها مع القطع بالإجماع، فكذلك يجب ردُّ بدلِها إذا كانت تالفة؛ كما لو لم يقطع (2).

السابع: أن يطالِب المسروقُ منه مسألة، أو وكيلُه، فإن أقر بسرقة مال غائب، أو شهدت به بينة، حبس، ولم يقطع حتى يحضر (3)، والله تعالى الموفق.

(1) المرجع السابق، (6/ 133).

(2)

انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 113).

(3)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 265).

ص: 305