الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمَ نَاس مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنة، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُم أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالها وَأَلْبَانها، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوَا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أَوَّلِ النهارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِم، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهارُ، جِيءَ بِهم، فَأَمَرَ بِقَطْعِ أيدِيهِم وَأَرجُلِهِم، وَسُمِرَتْ أَعيُنُهم، وَتُرِكُوا في الحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ.
قَالَ أَبُو قِلابة: فَهؤُلَاءِ سَرَقُوا، وَقَتَلُوا، وَكفَرُوا بَعدَ إِيمَانِهِم، وَحَارَبُوا الله وَرَسُولَهُ.
[أخرجه الجماعة](1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (231)، كتاب: الوضوء،
باب:
أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، واللفظ له، و (1430)، كتاب: الزكاة، باب: استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل، و (2855)، كتاب: الجهاد والسير، باب: إذا حرق المشرك المسلم، هل يحرق؟، و (3956 - 3957)، كتاب: المغازي، باب: قصة عكل وعرينة، و (4334)، كتاب: التفسير، باب:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . . .} [المائدة: 33]، و (5361)، كتاب: الطب، باب: الدواء بألبان الإبل، و (5362)، باب: الدواء بأبوال الإبل، و (5395)، باب: من خرج من أرض لا تلايمه، و (6417)، في أول كتاب: =
(عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالك رضي الله عنه، قال: قدم) على النبي صلى الله عليه وسلم (ناسٌ من عُكْلٍ) -بضم العين المهملة وسكون الكاف- هو في
= المحاربين من أهل الكفر والردة، (6418)، باب: لم يحسم النبي صلى الله عليه وسلم المحاربين من أهل الردة حتى هلكوا، و (6419)، باب: لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا، و (6420)، باب: سمر النبي صلى الله عليه وسلم أعين المحاربين، و (6503)، كتاب: الديات، باب: القسامة.
ومسلم (1671/ 9 - 14)، كتاب: القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين، وأبو داود (4364 - 4368)، كتاب: الحدود، ما جاء في المحاربة، والنسائي (305 - 306)، كتاب: الطهارة، باب: فرث ما يؤكل لحمه يصيب الثوب، و (4024 - 4027)، كتاب: تحريم الدم، باب: تأويل قول الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]، و (4028 - 4034)، باب: ذكر اختلاف الناقلين لخبر حميد عن أنس بن مالك فيه، و (4035)، باب: ذكر اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح على يحيى بن سعيد في هذا الحديث، والترمذي (72 - 73)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في بول ما يؤكل لحمه، و (1845)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في شرب أبوال الإبل، و (2042)، كتاب: الطب، باب: ما جاء في شرب أبوال الإبل، وابن ماجه (2578)، كتاب: الحدود، باب: من حارب وسعى في الأرض فسادًا، و (3503)، كتاب: الطب، باب: أبوال الإبل.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (3/ 297)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 462)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 18)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 153)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 108)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1445)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 309)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 336)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 151)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 2)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 59).
الأصل اسمُ امرأة حصيبٍ ولدِ عوفِ بن أيامين، غلب اسمها على القبيلة من ولدها (1).
(أو) الناس الذين قدموا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من (عُرَيْنة) -بضم العين المهملة وفتح الراء- بطن من بَجيلة (2)، وكان عدة هؤلاء ثمانية كما في "الصحيحين": أربعة كانوا من عكل، وثلاثة من عرينة والرابع كان تابعًا لهم (3).
وفي لفظ [لمسلم](4): أن ناسًا من عرينة (5)، وفي آخر: من عكل وعرينة (6)، وفي رواية للإمام أحمد، والبخاري، وأبي داود، قال قتادة: فحدّثني ابن سيرين: أن ذلك قبل أن تنزل الحدود (7).
(فاجتووا المدينة) النبويةَ؛ أي: استَوْبَلوها واستَوْخَموها (8)، وقد جاء ذلك مفسرًا، ففي لفظ في "الصحيح": فقالوا: يا نبي الله! إنا كنا أهلَ ضرع، ولم نكن أهلَ ريف، خرّجه البخاري في الطب، والمغازي (9)،
(1) انظر: "الأنساب" للسمعاني (4/ 223)، و"الطبقات" لخليفة بن خياط (ص: 40)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 152).
(2)
انظر: "الأنساب" للسمعاني (4/ 182).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 141).
(4)
ما بين معكوفين ساقطة من "ب".
(5)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 9)، وكذا عند البخاري برقم (1430).
(6)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3956، 5395)، وعند مسلم برقم (1671/ 13).
(7)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 290). وتقدم تخريجه عند البخاري برقم (5362)، وعند أبي داود برقم (4371).
(8)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 165).
(9)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3956، 5395).
وقال فيه: قالوا: يا رسول الله! آونا وأطعِمْنا، فلما صحوا، قالوا: إنّ المدينة وخمة (1)، (فأمر لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بلقاح) جمع لقوح؛ كصبور: الناقة القريبة العهد بالنتاج، وناقة لقوح: إذا كانت غزيرة اللبن، ولاقح: إذا كانت حاملًا، ونوقٌ لواقحُ، واللِّقاح: ذواتُ الألبان، الواحدة لَقوح (2).
وفي "الفتح": اللِّقاح -باللام المكسورة فالقاف وآخره مهملة-: النوق ذوات الألبان، واحدها لِقْحَة -بكسر اللام وإسكان القاف-، قال أبو عمرو: يقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر، ثم هي لبون (3).
وعند أبي عوانة من حديث أنس في هذه القصة: فعظمت بطونهم، فأمرهم بلقاح (4)؛ أي: أمرهم أن يلحقوا بها.
وفي رواية عند البخاري وغيره: فأمرهم أن يلحقوا براعيه (5).
وعند أبي عوانة بسند "صحيح مسلم": أنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح، فقالوا: يا رسول الله! قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل (6).
وفي رواية عند البخاري: قالوا: يا رسول الله! ابغنا رِسْلًا؛ أي: اطلب لنا لبنًا، قال:"ما أجدُ لكم إلا أن تلحقوا بالذَّوْد"(7).
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5361).
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 262).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 338).
(4)
رواه أبو عوانة في "مسنده"(6101).
(5)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5362).
(6)
رواه أبو عوانة في "مسنده"(6123).
(7)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2855).
وظاهر الأمر: أن اللقاح كانت للنبي صلى الله عليه وسلم (1)، وصرح بذلك في:"البخاري" في المحاربين، ولفظه: أن تلحقوا بإبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا فيه، وفي "مسلم": أن تخرجوا إلى إبل الصدقة (2)، وطريق الجمع بينهما: أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعثَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلبُ هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء (3)، (وأمرهم) النّبيّ صلى الله عليه وسلم (أن يشربوا من ألبانها)؛ أي: اللقاح، (وأبوالها)، احتج به من قال بطهارة بول مأكول اللحم، أما من الإبل، فبهذا الحديث، وأما بقية مأكول اللحم، فبالقياس عليه، وهو مذهب الإمام أحمد، والإمام مالك، وطائفة من السلف، ووافقهم من الشافعية: ابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان، والإصطخري، والروياني.
وذهب الشافعي، وجمهور من العلماء إلى القول بنجاسة الأبوال والأرواث كلِّها، من مأكول اللحم أو غيره.
واحتج ابن المنذر بأن الأشياء على الطهارة حتى يثبت دليل النجاسة.
قال: ومن زعم أن هذا خاص بأولئك الأقوام، فلم يصب، إذ الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، ولم يزل الناس يبيعون أبعار الغنم في أسواقهم، ويستعملون أبوال الإبل في أدويتهم قديمًا وحديثًا من غير نكير، وهذا يدل على طهارة ذلك.
وقال ابن العربي: تعلق بهذا الحديث من قال بطهارة أبوال الإبل،
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6419).
(2)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6417)، وعند مسلم برقم (1671/ 9).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 338).
وعورضوا بأنه أذن لهم في شربها للتداوي (1).
وتعقب بأن التداوي ليس حال ضرورة؛ بدليل أنه لا يجب، فكيف يُباح الحرام لما لا يجب؟
وأجيب: بمنع أنه ليس حال ضرورة، بل هو حال ضرورة إذا أخبره بذلك من يعتمد على خبره، وما أبيح للضرورة لا يسمى حرامًا وقتَ تناوله؛ لقوله -تعالى-:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2)[الأنعام: 119].
ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يجعل شفاءَ أُمتي فيما حَرَّمَ عليها" رواه أبو داود من حديث أم سلمة (3)، وروي من طريق في البخاري وغيره -أيضًا- (4)، والنجس حرام، فلا ويُتداوى به؛ لأنه غير شفاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم في جواب من مسألة عن التداوي بالخمر:"إنها ليست بدواء، إنها داء" رواه مسلم (5).
وقد جاء في حديث عن ابن عباس مرفوعًا: "إن في أبوال الإبل شفاء للذربة" رواه ابن المنذر (6)، والذربة: فساد المعدة، فلولا أن أبوال الإبل
(1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 97).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 338).
(3)
رواه أبو داود (3874)، كتاب: الطب، باب: الأدوية المكروهة، لكن من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه بلفظ:"إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام".
(4)
رواه البخاري في "صحيحه"(5/ 2129)، عن ابن مسعود رضي الله عنه معلقًا عليه من قوله.
(5)
رواه مسلم (1984)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم التداوي بالخمر، من حديث طارق بن سويد رضي الله عنه.
(6)
ورواه الإمام أحمد في "مسنده"(1/ 293)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12986).
طاهرة، لما ثبت فيها دواء؛ بدليل قوله في الحديث الصحيح:"إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها"(1).
(فلما صحوا)، في السياق حذف تقديره: ففعلوا؛ أي: شربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا، وقد ثبت ذلك في رواية (2).
وفي لفظ لمسلم: ففعلوا، فصحوا (3)، و (قتلوا راعي) لقاح (النّبيّ صلى الله عليه وسلم).
وفي رواية عند مسلم: ثم مالوا على الرعاء فقتلوهم، وارتدوا عن الإسلام، (واستاقوا النعم)، من السوق، وهو السير العنـ[ـيـ]ـف (4).
وفي لفظ لمسلم: وساقوا ذَوْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)، (فجاء الخبر)، وفي لفظ: فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم (6)، وفي رواية: فجاء الصريخ -بالخاء المعجمة (7) -، وهو فعَيل بمعنى فاعل؛ أي: صرخ بالإعلام بما وقع منهم، وهذا الصارخ هو أحد الرعاء كما ثبت في "صحيح أبي عوانة" من حديث أنس، وأخرج مسلم إسناده، ولفظه: فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جزع، فقال: قد قتلوا صاحبي، وذهبوا بالإبل (8).
واسم راعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم المقتول: يَسار -بياء تحتانية فمهملة خفيفة- كما ذكره ابن إسحاق في "المغازي"، والحافظ ابن حجر في "الفتح"، ورواه
(1) تقدم تخريجه قريبًا. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 339).
(2)
انظر "فتح الباري" لابن حجر (1/ 339).
(3)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 9)، وكذا عند البخاري برقم (6417).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 339).
(5)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 9).
(6)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 9).
(7)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2855، 6419).
(8)
تقدم تخريجه عند أبي عوانة برقم (6123).
الطبراني موصولًا من حديث سلمة بن الأكوع بإسناد صالح، قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام يقال له: يسار. زاد ابن إسحاق: أصابه في غزوة بني ثعلبة، قال سلمة: فرآه يحسن الصلاة، فأعتقه، وبعثه في لقاح له بالحَرَّة، فكان بها، فذكر قصة العرنيين، وأنهم قتلوه (1).
قال في "الفتح": ولم أقف على تسمية الراعي الآتي بالخبر، والظاهر أنه راعي إبل الصدقة، ولم تختلف روايات البخاري في أن المقتول راعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي ذكره بالإفراد، وكذا لمسلم، لكنه عنده في رواية ما ذكرناها: ثم مالوا على الرعاء، فقتلوهم -بصيغة الجمع-، ونحوه لابن حبان عن أنس (2)، فيحتمل أن إبل الصدقة كان لها رعاة، فقتل بعضهم مع راعي اللقاح، فاقتصر بعضُ الرواة على ذكر راعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر بعضهم معه غيره.
ورجح في "الفتح" أن بعض الرواة ذكره بالمعنى، فتجوَّزَ بالإتيان بصيغة الجمع، قال: لأن أهل المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار (3).
قال البرماوي: فلما قتلوه، حُمل إلى قباء ميتًا، فدفن بها.
قال: وكانت عدة اللقاح خمسة عشر (في أول النهار) -متعلق بجاء- (فبعث) رسول الله صلى الله عليه وسلم (في آثارهم)، زاد في رواية الأوزاعي: الطلب (4)، وفي حديث سلمة بن الأكوع: خيلًا من المسلمين، أميرهم كُرْز بن جابر
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(6223).
(2)
رواه ابن حبان في "صحيحه"(1386).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 339).
(4)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3956، 5395، 6419، 6420) من طرق ليس فيها الأوزاعي.
الفهري (1)، وكذا ذكره ابن إسحاق والأكثرون، وهو -بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي-، وللنسائي من رواية الأوزاعي: فبعث في طلبهم قافَة (2)؛ أي: جمع قائف، ولمسلم من رواية معاوية بن قرة عن أنس: أنهم شباب من الأنصار قريب من عشرين رجلًا، وبعث معهم قائمًا يقتصُّ آثارهم (3).
قال في "الفتح": ولم أقف على اسم هذا القائف ولا على اسم واحد من العشرين، لكن في "مغازي" الواقدي: أن السرية كانت عشرين رجلًا، ولم يقل من الأنصار، بل سمى منهم جماعة من المهاجرين، منهم: بريدة بن الحصيب، وسلمة بن الأكوع الأسلميان، وجندب ورافع ابنا مكيث جهنيان، وأبو ذر وأبو رهم الغفاريان، وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان، وغيرهم.
وقد قيل: إن أمير هذه السرية سعيد بن زيد، كذا بزيادة الياء بعد العين المهملة، والمعروف: سعد -بسكون العين- بن زيد الأشهلي (4).
وفي البرماوي: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقيل: جرير بن عبد الله البجلي، والمعروف تأخرُ إسلام جرير عن ذلك بمدة، فإن هذه القصة كانت في شوال سنة ست من الهجرة.
(فلما ارتفع النهار) فيه حذف تقديره: فأُدركوا في ذلك اليوم، فأُخذوا، فلما تعالى النهار، (جيء بهم) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسارى، ولفظ جيء مبني
(1) تقدم تخريجه قريبًا عند الطبراني.
(2)
تقدم تخريجه لكن عند أبي داود برقم (4366).
(3)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 13).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 340).
للمفعول، (فأمر) صلى الله عليه وسلم (بقطع أيديهم). وفي لفظ: فقطع أيديهم (وأرجلهم)(1)، قال الداودي: يعني: قطع يدي كل واحد ورجليه، وزاد الترمذي: من خلاف (2)، وهي ترد ما قاله الداودي، ولم يحسمهم؛ أي: لم يكن إذا قطع منهم عضوًا يحسمه بالزيت المغلي لينقطع الدم، بل تركه ينزف حتى ماتوا (3)، (وسُمِّرَتْ) -بتشديد الميم-، وفي رواية -بتخفيفها-، ولم تختلف رواية البخاري أنها بالراء، ووقع لمسلم: وسمل -بالتخفيف واللام (4) - (أعينهم).
قال الخطابي: السمل: فَقْءُ العين بأي شيء كان.
قال أبو ذؤيب الهذلي:
[من الكامل]
وَالْعَيْنُ بَعدَهُمُ كَأَنَّ حِدَاقَهَا
…
سُمِلَتْ بِشَوْكٍ فَهْيَ عُورٌ تَدمَع (5)
قال: والسمر لعلَّه لغة في السمل، ومخرجهما متقارب، قال: وقد يكون من السمر، يريد: أنهم كحلوا بأميال قد أحميت (6)، وقد وقع التصريح بالمراد عند البخاري، ولفظه: ثم أمر بمسامير فأُحميت فكحلهم بها (7)، فهذا يوضح ما تقدم، ولا يخالف ذلك رواية السمل؛ لأنه فقء
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (231، 1430، 2855، 5361، 6417، 6420)، وعند مسلم برقم (1671/ 9).
(2)
تخريجه عند الترمذي برقم (72).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 340).
(4)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 9).
(5)
انظر: "ديوانه"(ص: 148).
(6)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 297).
(7)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2855).
العين بأي شيء كان كما مضى (1)(وتُرِكُوا)، وفي لفظ: وتركهم (2)، وفي آخر: ونبذوا (3)، وفي آخر: وألقوا (4)(في الحَرَّة) -وهي بفتح الحاء المهملة-: أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة، وإنما ألقوا فيها؛ لأنها أقرب إلى المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا (5).
(يستسقون)؛ أي: يطلبون السقيا، يعني: يطلبون الماء ليشربوا، بها (فلا يُسْقَون)، حتى ماتوا.
وفي رواية شعبة عن قتادة: يعضون الحجارة (6)، وفي رواية: قال أنس: فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت (7)، ولأبي عوانة: يعض الأرض ليجد بردها ممّا يجد من الحر والشدة (8)، وفي لفظ: ممّا يجد من الغم والوجع (9).
وعند أبي عوانة عن أنس قال: فصلب اثنين، وقطع اثنين، وسمل اثنين (10)، كذا ذكر ستة فقط.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 340).
(2)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1430)، وعند مسلم برقم (1671/ 9).
(3)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 10).
(4)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (231)، وعند مسلم برقم (1671/ 11).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 340).
(6)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1430).
(7)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5361).
(8)
رواه أبو عوانة في "مسنده"(6111).
(9)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 142).
(10)
أبو عوانة في "مسنده"(6122).
قال في "الفتح": فإن كان محفوظًا، فعقوبتهم كانت موزعة (1).
وقال ابن الجوزي وجماعة من العلماء: إن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص؛ لما وقع عند مسلم من حديث سليمان التيمي عن أنس: إنما سمل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعينَهم، لأنهم سملوا أعين الرعاة (2)، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المُثلة وقعت في حقهم من جهات، وليس في الحديث إلا السمل، فيحتاج إلى ثبوت البقية (3).
قال في "الفتح": كأن من قال: إنه فعل بهم ذلك قصاصًا تمسكَ بما نقله أهلُ المغازي أنهم مثلوا بالراعي، وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ، قال ابن شاهين عقب حديث عمران بن حصين في النهي عن المثلة: هذا الحديث ينسخ كل مثلة.
وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء النسخ يحتاج إلى تاريخ.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": يدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد من حديث أبي هريرة في النهي عن التعذيب بالنار (4)، بعد الإذن فيه، وقصةُ العرنيين قبل إسلام أبو هريرة، وقد ذكر النهي بعد الإذن، وحضر ذلك.
وروى قتادة عن ابن سيرين: أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود (5)، ولموسى بن عقبة في "المغازي" ذكر أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة
(1) انطر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 340).
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 14).
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 109).
(4)
رواه البخاري (2795)، كتاب: الجهاد والسير، باب: التوديع.
(5)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5362).
بالآية في سورة المائدة، وإلى هذا مال البخاري، واستشكل القاضي عياض عدم سقيهم الماء للإجماع على أن من وجب عليه القتل فاستسقى، لا يمنع، وأجاب: بأن ذلك لم يقع عن أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا وقع منه نهي عن سقيه، انتهى (1).
وضعفه في "الفتح"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، وسكوته كافٍ في ثبوت الحكم (2).
وأجاب النووي بأن المحارب المرتد لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره (3)، ويدل عليه أن من ليس معه ماء إلا لطهارته ليس له أن يسقيه المرتدَّ ويتيمم، بل عليه أن يستعمل الماء ولو مات المرتد عطشًا؛ أي: لعدم عصمته.
وقال الخطابي: إنما فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بهم ذلك؛ لأنه أراد بهم الموت بذلك (4)، وقيل: الحكمة في ذلك لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشفاء من الجوع والوخم، ولأنه صلى الله عليه وسلم دعا بالعطش على من عطَّش آل بيته في قصة رواها النسائي (5)، فيحتمل أن يكونوا منعوا إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يُراح به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم من لقاحه في كل
(1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 464).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 341).
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 154).
(4)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 299).
(5)
رواه النسائي (4036)، كتاب: تحريم الدم، باب: ذكر اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح على يحيى بن سعيد في هذا الحديث، من حديث سعيد بن المسيب مرسلًا.
ليلة، كما ذكر ذلك ابن سعد (1)(قال أبو قِلابة) -بكسر القاف وتخفيف اللام وبالباء الموحدة- عبدُ الله بنُ زيد بنِ عمرو الجَزمي نسبة إلى جرم -بفتح الجيم وسكون الراء-، روى عن الثابت بن الضحاك الأنصاري، وأنس بن مالك، والنعمان بن بشير، وتقدمت ترجمته في باب: صفة صلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (فهؤلاء)؛ يعني: العرنيين المتقدم ذكرهم، (سرقوا)؛ أي: لأنهم أخذوا اللقاح من حرز مثلها، وهذا ما قاله أبو قلابة استنباطًا كما في "الفتح"(2).
قال البدر العيني: لم يكن هذا سرقة، إنما كان حرابة، وهذا ظاهر لا يخفى (3)، (وقتلوا)، أي: الراعي -كما تقدم-، (وكفروا بعد إيمانهم)؛ أي: ارتدوا عن دين الإسلام، هكذا هو في رواية سعيد عن قتادة عن أنس في "المغازي"، وكذا في رواية وهب عن أيوب في الجهاد في أصل الحديث (4)، وليس موقوفًا على أبي قلابة كما توهمه بعضهم (5).
كذا قوله: (وحاربوا [الله ورسوله]): ثبت عند الإمام أحمد من رواية حميد عن أنس في أصل الحديث: وهربوا محاربين (6).
وفي هذا الحديث من الفوائد سوى ما تقدم:
قدوم الوفود على الإمام، ونظرُه في مصالحهم.
(1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(1/ 494). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 341).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 341).
(3)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 267).
(4)
وتقدم تخريجهما.
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 341).
(6)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 107).
وفيه: مشروعية الطلب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها.
وفيه: أن كل جسد يطب بما اعتاده.
وفيه: قتل الجماعة بالواحد، سواء قتلوه غيلة، أو حرابة (1)، إن قلنا: إن قتلهم كان قصاصًا، وأما إن كان قتلهم لأجل حرابتهم، فلا ريب أنه ثبت في "الصحيحين" من حديث أنس: ثم مالوا على الرعاء فقتلوهم، وارتدوا على الإسلام، واستاقوا ذَوْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)، وحينئذٍ فيكون قتلهم بردتهم، والتنكيل الذي صار لهم لعظم جرمهم وقبح جريرتهم.
وثبت -أيضًا- أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود.
وفي البخاري: قال سلام بن مسكين: فبلغني أن الحَجاج قال لأنس: حدّثني بأشدِّ عقوبة عاقبه النّبيّ صلى الله عليه وسلم -كذا بالتذكير على إرادة العقاب-، وفي رواية بهز: عاقبها؛ إجراءً على ظاهر اللفظ، فحدّثه بهذا، يعني: حديث العرنيين، فبلغ الحسنَ البصري -رحمه الله تعالى-، فقال: وددت أنه لم يحدّثه بهذا (3)، أو في رواية بهز: فوالله! ما انتهى الحجاج حتى قام بها على المنبر، فقال: حدّثنا أنس، فذكره، وقال: قطع النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأيدي والأرجل، وسمر الأعين في معصية الله، أفلا نفعل نحن ذلك في معصية الله.
وساق الإسماعيلي من وجهٍ آخر عن ثابت: حدّثني أنس، قال: ما ندمت على شيء ما ندمتُ على حديثٍ حدّثت به الحجاجَ، فذكره، وإنما ندم أنس على ذلك؛ لأن الحجاج كان مسرفًا في العقوبة، وكان يتعلق
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 341).
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 9).
(3)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5361).
بأدنى شبهة، ولا حجةَ له في قصة العرنيين، لأنه ورد التصريح في الصحيح بأنهم ارتدوا، و-أيضا- كان ذلك قبل النهي عن المثلة؛ فإن أبا هريرة حضر الأمر بالتعذيب بالنار، ثم حضر نسخَه (1)، والنهيَ عن التعذيب بالنار، وكان إسلام أبي هريرة متأخرًا عن قصة العرنيين، وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن المثلة (2).
وفي مسلم عن قتادة، قال: بلغنا أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحثُّ على الصدقة، وينهى عن المثلة (3).
تنبيه:
حَدُّ المحاربين، وهم قطاعُ الطريق المكلفون الملتزمون، ولو أنثى، الذين يعرضون للناس بسلاحٍ ولو بِعصًا وحجارة، في صحراء أو بنيان أو بحر، فيغصبونهم مالًا محترمًا قهرًا مجاهرة، فإِن أخذوا مختفين، فسرّاق، وإن خطفوه وهربوا، فمنتهبون، لا قطع عليهم، وإن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة، فاستلبوا منها شيئًا، فليسوا بمحاربين؛ لأنهم لم يرجعوا إلى منعة وقوة، وإن خرجوا على عددٍ يسير فقهروهم، فهم محاربون، ويعتبر ثبوت ذلك ببيّنة، أو إقرار معتبر، فمن كان منهم قد قتل قتيلًا لأخذ ماله، ولو بمثقل، أو سوطٍ، أو عصا ولو غير مكافٍ له؛ كمن قتل عبدًا أو ذميًا وأخذ المال، قتل حتمًا بالسيف في عنقه، ولو عفا عنه ولي، وصلب المكافىء دون غيره بقدر ما يشتهر، ثم يُنزل ويُدفع إلى أهله، فيُغسل ويُكفن، ويصلى عليه، ويدفن، فإن مات قبل قتله، لم يصلب.
(1) وتقدم تخريجه عند البخاري.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 142).
(3)
تقدم تخريجه، لكن عند البخاري برقم (3956).
ولا يتحتم استيفاء جناية توجب القصاص فيما دون النفس إلا إذا كان قد قتل، وحكمها حكم الجناية في غير المحاربة، فإن جرح إنسانًا وقتل آخر، اقتُصَّ منه للجراح، ثم قُتل للمحاربة حتمًا فيهما (1).
وفي "التنقيح"(2)، و"المنتهى" (3): التحتُّم القصاص في النفس فقط، وولي الجراح بالخيار، ورِدءٌ وطليع في ذلك كمباشر، فإذا قتل واحدًا منهم، ثبت حكم القتل في حق جميعهم، فيجب قتل الكل، وإن قتل بعضُهم، وأخذ المال بعضُهم، قتلوا كلهم، وصلب المكافىء.
وإن قطع أهل الذمة على المسلمين الطريق وحدَهم، أو مع المسلمين، انتقض عهدُهم، وحلّت دماؤهم وأموالهم، ومن قتل من المحاربين، ولم يأخذ المال، قُتل حتمًا، ولا أثر لعفو ولي، ولم يصلب.
ومن أخذ المال ولم يقتل، قُطعت يده اليمنى، وحُسمت، ثم رجلُه اليسرى، وحُسمت في مقام واحد حتمًا مرتبًا وجوبًا.
وإن أخافوا السبيل من غير قتل ولا أخذ مال، نُفوا وشُرِّدوا، فلا يُتركون أن يأووا إلى بلد -ولو عبدًا- حتى تظهر توبتهم، ويجب أن ينفوا متفرقين، ومن تاب منهم قبل القدرة عليه لا بعدها، سقط عنه حقُّ الله من الصلب والقطع، وانحتام القتل، حتى حدّ زِنًا وسرقةٍ وشرب، وكذا خارجي وباغٍ ومرتدّ، وآخذ بحقوق الآدميين من الأنفس والأموال والجراح، إلا أن يُعفى لهم عنها، وقد تضمنت الآية الشريفة أحوال المحاربين وهي: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 269 - 270).
(2)
انظر: "التنقيح المشبع" للمرداوي (ص: 379 - 380).
(3)
انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 160 - 161).
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
وقد روى الشافعي في "مسنده" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال، قُتلوا وصُلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قُتلوا ولم يُصلبوا، فإذا أخذوا المال ولم يَقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلُهم من خلف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالًا، نُفوا من الأرض (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية": هذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي، وأحمد، قال: وهو قريب من قول أبي حنيفة، انتهى (2).
وتحقيق مذهب أبي حنيفة على ما نقله الإمام ابن هبيرة في "الإفصاح": أن الإمام مخيّر، إن شاء، قطع أيديهم وأرجلهم من خلف، وصلبهم، وإن شاء، صلبهم، وإن شاء، قتلهم ولم يصلبهم، وصفةُ القتل عنده أن يُصلب الواحد منهم حيا ويُبعج بطنه برمح إلى أن يموت، ولا يُصلب أكثرَ من ثلاثة أيام.
وعنه رواية أخرى: أنه يقتل، ثم يصلب مقتولًا، فإن قتلوا ولم يأخذوا المال، قتلهم الإمام حدًا، وإن عفا الأولياء عنهم، لم يلتفت إلى قولهم، فإن أخذوا مالًا لمسلم أو ذمي، والمأخوذ لو قُسم على جماعتهم أصابَ كلَّ واحد عشرةُ دراهم فصاعدًا، أو ما قيمته ذلك، قطع الإمام أيديَهم وأرجلَهم من خلاف، فإن أُخذوا قبل أن يأخذوا مالًا ولا قَتلوا نفسًا، حبسهم الإمام
(1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده "(ص: 336)، وفي "الأم"(6/ 151 - 152).
(2)
انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 67).
حتى يحدِثوا توبة، أو يموتوا، فهذه صفة النفي عنده.
وقال مالك: إذا المحاربون فعل الإمام فيهم ما يراه ويجتهد فيه، فمن كان منهم ذا رأي وقوة، قتل، ومن كان ذا جلد وقوة، قطعه من خلاف، ومن كان منهم لا رأي له ولا قوة، نفاه.
وفي الجملة عنده: أنه يجوز قتلهم وقطعهم وصلبهم وإن لم يقتلوا، ولم يأخذوا مالًا على ما يراه أردعَ لهم ولأمثالهم، وصفةُ النفي عنده: أن يُخرجوا من البلد الذي كانوا فيه إلى غيره، ويُحبسوا فيه.
ووقتُ الصلب عنده لمن رأى الإمام أن يجمع بين صلبه وقتله: أن يُصلب حيًا، ويقتل.
وكيفية الصلب في مذهبه كمذهب أبي حنيفة.
وصفة النفي عند الشافعي: أن يطلبوا إذا هربوا ليقام عليهم الحد إن أتوا حدًا، وعند بعض أصحاب الشافعي: أنه يصلب حيًا، ثم يقتل، والأصح عندهم كمذهبنا، والله أعلم (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من كان من المحاربين قد قتل، فإنه يقتله الإمام حدًا، لا يجوز العفو عنه بحال، بإجماع العلماء، ذكره ابن المنذر، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، حتى لو كان المقتول غير مكافىء للقاتل -كما تقدم (2) -.
قال شيخ الإسلام: فأما التمثيل في القتل، فلا يجوز إلا على وجه القصاص، وقد قال عِمران بن حُصين رضي الله عنه: ما خطبنا
(1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 262 - 263).
(2)
انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 67).
رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المُثْلَة (1)، حتى الكفار إذا قتلناهم، فإنا لا نمثل بهم بعد القتل، فلا نجدع أنفهم وآذانهم، ولا نبقُر بطونهم، إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا، فنفعل بهم مثلما فعلوا، والتركُ أفضلُ كما قال الله -تعالى-:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].
وفي "صحيح مسلم" عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم يقول:"اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا مَنْ كفرَ بالله، ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِروا، ولا تُمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا"(2)، والله -تعالى- الموفق.
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(7843).
(2)
رواه مسلم (1731)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث، وانظر:"السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 70 - 71).