الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
عَنْها رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي رَجُلٌ، فَقَالَ:"يَا عَائِشَةُ؟ مَنْ هَذَا؟ "، قُلْتُ: أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ:"يَا عَائِشَةُ! انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانكُنَّ، فَإنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ"(1).
* * *
(عنها)؛ أي: أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم) ذات يوم (وعندي رجل)، زاد في رواية: قاعد، الواو فيه
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (2504)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض، والموت القديم، واللفظ له، و (4814)، كتاب: النكاح، باب: من قال: لا رضاع بعد حولين، ومسلم (1455)، كتاب: الرضاع، باب: إنما الرضاعة من المجاعة، وأبو داود (2058)، كتاب: النكاح، باب: في رضاعة الكبير، والنسائي (3312)، كتاب: النكاح، باب: القدر الذي يحرم من الرضاعة، وابن ماجه (1945)، كتاب: النكاح، باب: لا رضاع بعد فصال.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (3/ 184)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 190)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 80)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1392)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 146)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 206)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 32)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 214)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 121).
للحال، قالت: فاشتدّ ذلك عليه، ورأيتُ الغضب في وجهه (1) (فقال: يا عائشة! مَنْ هذا؟)، وفي روايةٍ: فشق عليه ذلك، وتغير وجهه (2)، فـ (قلت: أخي من الرضاعة). وأخرجه الإمام أحمد بدون زيادة: من الرضاعة (3)، وذكره أبو داود بها من طريق شعبة وسفيان (4).
قال في "الفتح": لم أقف على اسمه -يعني: أخاها من الرضاعة-، قال: وأظنه ابنًا لأبي القُعيس، وغلط من قال: هو عبد الله بن يزيد رضيعُ عائشة؛ لأن عبد الله هذا تابعي باتفاق الأئمة، وكأن أمه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فولدته، فلهذا قيل له: رضيع عائشة (5).
(فقال) عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة! انظرن) من النظر الذي هو التأمل والتفكر (من) استفهامية، وفي لفظ: ما (إخوانكنَّ)(6)، وفي رواية مسلم:"إخوتُكن"(7)، وكلاهما جمع أخ، والمعنى تَأْمَّلْنَ ما وقع من ذلك، هل هو رضاع صحيح بشرطه، من وقوعه في زمن الرضاع، ومقدار الارتضاع؟ فإن الحكم الذي ينشأ عن الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط.
قال المهلب: معناه: انظرن ما سبب هذه الأخوة، فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسدّ الرضاعة المجاعة.
(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1455).
(2)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5749).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 94).
(4)
تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2058).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 147).
(6)
تقدم تخريجه عند النسائي برقم (3312).
(7)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1455).
وقال أبو عبيد: معناه: أن الذي جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع، لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع (1)، ولهذا علل ذلك بقوله:(فإنما الرضاعة) الفاء للتعليل لقوله: "انظرنَ"؛ أي: أَمْعِنَّ النظرَ والتفكُّرَ؛ لأن الرضاعة (من المجاعة)؛ أي: الرضاعة التي تثبت بها الحرمةُ، وتحصل لأجلها الخلوة، وتجعل الرضيع محرمًا: هي حيث يكون الرضيع طفلًا يسدّ اللبنُ جوعته؛ لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه، فيصير كجزء من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال: لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة، أو المطعمة من المجاعة، كقوله -تعالى-:{أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} (2)[قريش: 4].
ومن شواهده: حديثُ ابن مسعود رضي الله عنه: "لا رضاعة إلا ما شدّ العظم، وأنبت اللحم" أخرجه الترمذي في "صحيحه"(3)، وحديث أم سَلَمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُحَرِّمُ من الرضاع إلّا ما فتقَ الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام" رواه الترمذي في "صحيحه"(4)، وحديث ابن عباس مرفوعًا: "لا رضاع إلّا ما كان في
(1) انظر "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 149). وانظر "فتح الباري" لابن حجر (9/ 148).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 148).
(3)
رواه أبو داود (2059)، كتاب: النكاح، باب: في رضاعة الكبير، موقوفًا. ورواه -أيضًا- (2065)، مرفوعًا. ولم يروه الترمذي في "سننه"، ولعلّه سبق قلم من الشارح رحمه الله، إذ إنه ينقل عن الحافظ ابن حجر في "الفتح"(9/ 148)، وعبارته هناك:"أخرجه أبو داود مرفوعًا وموقوفًا"، والله أعلم.
(4)
رواه الترمذي (1152)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء ما ذكر أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين.
الحولين" رواه الدارقطني (1)، وحديث جابر مرفوعًا: "لا رضاعَ بعد فصال-، ولا يُتْمَ بعدَ احتلام" رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (2).
قال في "الفتح": ويمكن أن يستدل به؛ أي: بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنما الرضاعة من المجاعة" على أن الرضعة الواحدة لا تحرّم؛ لأنها لا تغني من جوع، وإذا كان يحتاج إلى تقدير، فأولى ما يؤخذ به ما قدرته الشريعة، وهو خمس رضعات (3)، وكذا قال العيني (4)، وقيل: معناه: أن المصّة والمصّتين لا تسد الجوع، وكذا الرضاع بعد الحولين، وإن بلغ خمس رضعات، وإنّما يحرم إذا كان في الحولين قدر ما يدفع المجاعة، وهو ما قدرت به السنة، يعني: خمسًا، فلا بُدّ من اعتبار المقدار والزمان (5).
قلت: وإنما لم يذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- ما يدلُّ على اعتبار العدد لأجل التحريم اعتمادًا على هذا المفهوم، ولأن أحاديث اعتبار العدد من أفراد مسلم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرِّمُ المصّةُ والمصّتان" رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (6)، وفي "مسلم" عن أم الفضل: أنّ
(1) رواه الدارقطني في "سننه"(4/ 174)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 462).
(2)
رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(1767)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(2/ 447).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 148).
(4)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (20/ 97).
(5)
المرجع السابق، (13/ 206).
(6)
رواه الإمام حمد في "المسند"(6/ 31)، ومسلم (1450)، كتاب: الرضاع، باب: في المصة والمصتان، وأبو داود (2063)، كتاب: النكاح، باب: هل =
رجلًا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أتحرم الرضعةُ والرضعتان، والمصّةُ والمصّتان؟ (1)
وفي رواية: قالت: دخل أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيتي، فقال: يا فني الله! إني كانت لي امراة، فتزوجتُ عليها أخرى، فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحدث رضعة أو رضعتين، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الإملاجةُ ولا الإملاجتان" رواهما مسلم (2)، وفي لفظ:"الملجة والملجتان"(3).
قال في "النهاية": الملج: المَصُّ، يقال: ملجَ الصبيُّ أمّه يملجها ملجًا، الملجة والإملاجة: المرة، يعني: أنّ المصّة والمصّتين لا يحرمان ما يحرمه الرضاع الكامل، ومنه الحديث: "فجعل مالكُ بنُ سنان يملج الدّم بفيه من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ازْدَرَدّه (4)؛ أي: مصّه، ثم ابتلعه.
وروي: "الملحة والملحتان"(5) -بالحاء المهملة- بدل الجيم.
قال في "النهاية": أي: الرضعة والرضعتان، قال: وأما بالجيم، فهي المصّة، والملح -بالفتح والكسر-: الرضع (6).
= يحرم ما دون خمس رضعات، والنسائي (3310)، كتاب: النكاح، باب: القدر الذي يحرم من الرضاعة، والترمذي (1150)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، وابن ماجه (1941)، كتاب: النكاح، باب: لا تحرم المصة ولا المصتان.
(1)
رواه مسلم (1451/ 20)، كتاب: الرضاع، باب: في المصة والمصتان، بلفظ:"لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصة أو المصتان".
(2)
رواه مسلم (1451/ 18)، كتاب: الرضاع، باب: في المصة والمصتان.
(3)
كذا ذكره ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث"(4/ 353).
(4)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(20/ 385)، من طريق الواقدي، به.
(5)
رواه الخطابي في "غريب الحديث"(1/ 571).
(6)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 353 - 354).
وفي حديث عبد الله بن الزبير مرفوعًا: "لا يحرم من الرضاع المصّة والمصّتان" رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي (1).
وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن أنّ عشرَ رضعاتٍ معلومات يُحَرِّمْنَ، ثم نُسخن بخمسٍ معلوماتٍ، فتوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما نقرأ من القرآن، روإه مسلم، وأبو داود، والنسائي (2).
وفي لفظ: وهي تذكر الذي يحرم من الرضاعة: نزل في القرآن: عشرُ رضعات معلومات، ثم نزل -أيضًا- خمسٌ معلومات، رواه مسلم (3). وفي لفظٍ قالت: أنزل في القرآن: عشرُ رضعاتٍ معلومات، فنُسخ من ذلك خمس، وصارت إلى خمس رضعاتٍ معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، رواه الترمذي (4).
تنبيهات:
الأوّل: المُحَرِّمُ إنما هو التغذيةُ بلبن المرضِعة، سواء كان بشرب، أم الحل بأي صفة كان، حتى الوجور والسعوط والثرد والطبخ، وغير ذلك،
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 4)، والنسائي (3309)، كتاب: النكاح، باب: القدر الذي يحرم من الرضاعة، والترمذي (3/ 455)، عقب حديث (1150)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان.
(2)
رواه مسلم (1452/ 24)، كتاب: الرضاع، باب: التحريم بخمس رضعات، وأبو داود (2062)، كتاب: النكاح، باب: هل يحرم ما دون خمس رضعات، والنسائي (3307)، كتاب: النكاح، باب: القدر الذي يحرم من الرضاعة.
(3)
رواه مسلم (1452/ 25)، كتاب: الرضاع، باب: التحريم بخمس رضعات.
(4)
رواه الترمذي (3/ 456)، عقب حديث (1150)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان.
وإذا وقع ذلك بالشرط المذكور من العدد في الأمد لأن كلّ ذلك يطرد الجوع، وبهذا قال الجمهور، نعم استثنى الحنفية الحقنة، كما في "الفتح"(1).
قلت: وهو مذهبنا.
قال في "الفروع": ويُحَرِّمُ لبنٌ حُلب من ميتة كحلبِه من حية، ثم شُرب بعدَ موتها، لا حقنة، نصّ عليهما؛ لأن العلة انتشار العظم وإنبات اللحم لا حصوله في الجوف فقط، بخلاف الحقنة بخمر، وخالف الخلال في الأولى، فذكرها ابن عقيل وغيره رواية، وابن حامد في الثانية، ويحنث به من حلف لا يشرب من لبنها، ذكره في "الانتصار"، ولا أثر لواصلٍ جوفاً لا يغذي، كمثانة وذَكَر (2).
وجزم متأخرو علمائنا بعدم انتشار الحرمة بالحقنة (3)، فَعَزْوُ الحافظ ابن حجر ذلك للحنفية فقط تقصير، والله أعلم.
وقال الليثُ وأهلُ الظاهر: الرضاعة المحرِّمَةُ لا تكون إلا بالتقام الثدي، ومصّ اللبن منه. وأورد على ابن حزم أنه يلزم على اعتبارهم التقامَ الثدي إشكال في التقام سالم ثديَ سهلة زوجةِ أبي حذيفة رضي الله عنهم (4) -، وهي أجنبية منه، فإن عياضاً إنما أجاب عن الإشكال باحتمال أنها حلبته، ثم شربه من غير أن يمسّ ثديها.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 148).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 436).
(3)
انظر: "القناع" للحجاوي (4/ 30).
(4)
سيأتي تخريجه.
قال الإِمام النووي: وهو احتمال حسن (1)، لكنه لا يفيد ابن حزم؛ لأنه لا يكتفى في الرضاع إلا بالتقام الثدي، نعم قال النووي: إنه عني عن ذلك للحاجة، وأما ابن حزم، فاستدل بقصة سالم على جواز مسّ الأجنبي ثديَ الأجنبية والتقام ثديها إذا أراد أن يرتضع منها مطلقًا (2).
الثاني: المعتبرُ كونُ الرضاعة في حال الطفولة؛ لأنها الحال الذي يمكن طرد الجوع فيها باللبن، بخلاف حال الكبر، وضابط ذلك بتمام الحولين -كما تقدم-، وعليه دلّ حديث ابن عباس، وحديث أم سَلَمة، وحديث جابر -كما تقدمت الإشارة إلى ذلك-، فهذه قاعدة كلّية صريحة في اعتبار الرضاع في الزمن الذي يستِغني به الرضيع عن الطعام باللبن (3)، ويَعتضد بقوله -تعالى-:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، فإنه يدل على أن هذه أقصى مدّة الرضاع المحتاج إليه عادة، المعتبر شرعًا، وما زاد عليه، فلا يحتاج إليه عادةً، ولا يعتبر شرعًا، إذ لا حكم للنادر، وفي اعتبار إرضاع الكبير انتهاكُ حرمة المرأة بارتضاع الأجنبي، منها لاطلاعه على عورتها ولو بالتقام ثديها (4).
وهذا مذهب الإِمام أحمد، والجمهور، كالإمام مالك، والشافعي، وبه قال أبو يوسف، ومحمد صاحبا أبي حنيفة.
وقال أبو حنيفة: المدة المعتبرة لذلك ثلاثون شهرًا.
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 31).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 148).
(3)
ذكر هذه القاعدة: القرطبي في "المفهم"(5/ 188).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 148).
وقال زفر: ثلاث سنين، كما نقله العيني في "شرح البخاري"(1).
قال أبو الخطاب من أئمة علمائنا: لو ارتضع بعد الحولين بساعة، لم يحرِّم.
وقال القاضي أبو يعلى، وصاحب "الترغيب": لو شَرَع في الخامسة -يعني: من الرضعات-، فحال الحول -يعني: الثاني- قبل كمالِها، لم يثبت التحريم.
قال الإِمام الموفق عن قول القاضي، وصاحب "المستوعب": لا يصح هذا؛ لأن ما وجد من الرضعة في الحولين كافٍ في التحريم، بدليل ما لو انفصل مما بعده.
واختار شيخ الإِسلام تقي الدين بن تيمية ثبوتَ الحرمة بالرضاع إلى الفطام، ولو بعد الحولين، أو قبلهما، فأناط الحكم بالفطام، سواء كان قبل الحول، أو بعده (2).
وخالفت عائشة رضي الله عنها في ذلك، فلم تعتبر كون الرضاعة في الحولين، ولم تفرق في حكم الرضاع بين حال الصغر والكبر، وقد استشكل ذلك مع كون هذا الحديث من روايتها، واحتجت لمذهبها بقصة سالم مولى أبي حذيفة، فعن زينبَ بنتِ أم سَلَمة، قالت: قالت أم سلَمَةَ لعائشة: إنه يدخل عَلَيَّ الغلامُ الأيفعُ، ما أحبُّ أن يدخل عليّ، فقالت عائشة: مالك في رسول الله أسوة حسنة؟ وقالت: إنّ امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله! إنّ سالمًا يدخل عليّ، وهو رجل وفي نفس
(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 207).
(2)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (9/ 334).
أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه حتى يدخل عليك" رواه الإِمام أحمد، ومسلم (1).
وفي رواية عن زينب، عن أمها أم سَلَمة: أنها قالت: أبي سائرُ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخلن عليهنّ أحدًا بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: ما نرى هذا إلا رخصةً أرخصَها رسول الله- صلى الله عليه وسلم لسالمٍ خاصّة، فما هو داخلٌ علينا أحدٌ بهذه الرضاعة، ولا رائينا، رواه الإِمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه (2).
وفي "مسلم" -أيضًا- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءت سهلةُ بنتُ سُهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم، وهو حليفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه"، قالت: وكيف أرضعه وهو رجلٌ كبير؟! فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"قد علمتُ أنه رجل كبير".
وفي رواية: فضحك رسول الله، وقال:"قد علمت أنه رجل كبير".
وفي رواية: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي أخرى: وقد شهد بدرًا (3).
وفي لفظ: فقالت: إن سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال، وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة شيئًا من ذلك، فقال:"أرضعيه تَحْرُمي عليه"،
(1) رواه الإِمام أحمد في "المسند"(6/ 174)، ومسلم (1453/ 29)، كتاب: الرضاع، باب: رضاعة الكبير.
(2)
رواه الإِمام أحمد في "المسند"(6/ 312)، ومسلم (1454)، كتاب: الرضاع، باب: رضاعة الكبير، والنسائي (3325)، كتاب: النكاح، باب: رضاع الكبير، وابن ماجه (1947)، كتاب: النكاح، باب: لا رضاع بعد فصال.
(3)
رواه مسلم (1453/ 26)، كتاب: الرضاع، باب: رضاعة الكبير.
فرجعتُ إليه فقلت: إني قد أرضعته، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة (1).
واسم أبي حذيفة مهشم، على المشهور، وقيل: هاشم، وقيل غير ذلك، وهو ابن عتبة بن ربيعة خال معاوية بن أبي سفيان، وكان سالم حليفًا له، فكان يأوي معه ومع امرأته سهلةَ في بيت واحد، وكان يراها متبذِّلَةً في ثياب مهنتها، وربما تكون في ثوب واحد، وربما تكون مكشوفة الرأس والصدر، وقد كان استشهاد سالم وأبي حذيفة جميعًا يومَ اليمامة في خلافة الصدِّيق (2).
وفي البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: أن أبا حذيفة بنَ عتبةَ بنِ ربيعةَ بنِ عبدِ شمس، وكان ممن شهد بدرًا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالمًا، وأنكحه بنتَ أخيه هند بنتَ الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو -أي: سالم- مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم زيدًا، وكان من تبنى رجلًا في الجاهلية، دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله تعالي:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] إلى قوله: {وَمَوَالِيكُمْ} ، فرُدوا إلى آبائهم، فمن لم يعلم له أبًا، كان مولًى وأخًا في الدين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشيِّ ثم العامريِّ، وهي امرأة أبي حذيفة النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إنّا كنّا نربي سالمًا ولدًا، وقد أنزل الله ما [قد](3) علمتَ، فذكر الحديث هكذا في البخاري (4)، وساق البرقاني وأبو داود بقيته، ولفظه: فكيف ترى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه"، فأرضعته خمسَ رضعات، فكان بمنزلة ولدِها من الرضاعة، فبذلك كانت عائشة تأمر
(1) رواه مسلم (1453/ 27)، كتاب: الرضاع، باب: رضاعة الكبير.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 133).
(3)
ما بين معكوفين ساقطة من "ب".
(4)
رواه البخاري (4800)، كتاب: النكاح، باب: الأكفاء في الدين.
بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يُرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها، وإن كان كبيرًا، خمسَ رضعات، ثم يدخل عليها، وأبت أم سلَمَة: وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحدًا من الناس، حتى يرضع في المهد، وقلن لعائشة: والله ما ندري، لعلها رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس (1).
قال في "الفتح": وذكر الطبري في "تهذيب الآثار" في مسند عليّ هذه المسألةَ، وساق بإسناده الصحيح عن حفصةَ مثلَ عائشة، وهو مما يخص به قول أم سلَمَة: أبي سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخلن عليهنَّ بتلك الرضاعة أحدًا، ونقله الطبري عن عبد الله بن الزبير، والقاسم بن محمَّد، وعروة في أخوين، وفيه تعقب على القرطبي، حيث خصّ الجواز بعد عائشة بداود، وفي نسبته ذلك لداود نظر، فإن ابن حزم ذكر عن داود أنه مع الجمهور، وكذا نقل غيره من أهل الظاهر، وهم أخبرُ بمذهب صاحبهم، وإنما الذي نصرَ مذهب عائشة هذا، وبالغ في ذلك ابنُ حزم، ونقله عن علي رضي الله عنه -أيضًا-، وهو من رواية الحارث الأعور عنه، فلذلك ضعفه ابن عبد البر (2)، وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج، قال رجل لعطاء: إن امرأة سقتني من لبنها بعدَ ما كبرتُ، أفأنكِحُها، قال: لا، قال ابن جريج: فقلت له: هذا رأيك؟ قال: نعم، كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها (3)، وهو قول الليث بن سعد، قال ابن عبد البر: لم يختلف عنه في ذلك (4).
(1) رواه أبو داود (2061)، كتاب: النكاح، باب: فيمن حرم به.
(2)
انظر: "الاستذكار"(6/ 255)، و"التمهيد" كلاهما لابن عبد البر (8/ 256).
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(13883).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 149).
قلت: واختار شيخ الإِسلام ابن تيمية ثبوتَ الحرمه بالرضاع، ولو كان المرتضِع كبيرًا، للحاجة، نحو كونه محرمًا، لقصة سالم مولى أبي حذيفة مع زوجة أبي حذيفه (1).
وأجاب الجمهور عن قصة سالم بأجوبة:
منها: أنه حكمٌ منسوخ، وبه جزم المُحِبُّ الطبري في "أحكامه"، وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة، والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة، فدلّ على تأخرها.
وهو مستند ضعيف، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ولا صغره أَلَاّ يكون ما رواه متقدمًا، وأيضًا، ففي سياق قصة سالم ما يُشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين، لقول امرأة أبي حذيفة: كيف أرضعه وهو كبير؟ فهذا يشعر أنها كانت تعرف أنّ الصغر معتبر في الرضاع المحرِّم.
ومنها: دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة، والأصل في هذا قولُ أم سَلَمة وأزواجِ النبي صلى الله عليه وسلم: ما نرى هذا إلّا رخصةً أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصّة، وقرره ابن الصباغ وغيره بأن أصل قصة سالم
ما كان وقع من التّبنّي الذي أدّى إلى اختلاط سالم بسهلة، فلما نزل الاحتجاب، ومُنعوا من التبني، شقّ ذلك على سهلةَ، فوقع الترخيصُ لها في ذلك لرفع ما حصل لها من المشقة، وهذا فيه نظر؛ لأنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقة والاحتياج بها، فتنتفي الخصوصية، وثبت مذهب المخالف، لكن بقيد الاحتياج.
قلت: وهذا الذي التزمه شيخ الإِسلام ابن تيمية، واختاره، وقرره آخرون بأن الأصل أن الرّضاع لا يحرِّم، فلما ثبت ذلك في الصغر، خولف
(1) نقله المرداوي في "الإنصاف"(9/ 334)، وعنه: نقل الشارح رحمه الله.
الأصل له، وبقي ما عداه على الأصل، وقصة سالم واقعةُ عين يتطرقها احتمالُ الخصوصية، فيجب الوقوف عن الاحتجاج بها.
قال في "الفتح" عن السبكي: أنه رأى في تصنيفٍ لمحمد بنِ خليلٍ الأندلسيِّ في هذه المسألة أنه توقف في أنه صحّ عن عائشة، وأنه صحّ عنها الفتيا بذلك، لكن لم يقع منها إدخالُ أحد من الأجانب بتلك الرضاعة.
قال تاج الدين السبكي: وظاهر الأحاديث ترد عليه، قال: وليس عندي فيه قول جزم، لا من قطع، ولا ظن غالب، كذا قال الحافظ ابن حجر، وفيه غفلة عما ثبت عند أبي داود في هذه القصة: فكانت عائشة تأمر بنات أخواتها أن يرضعن من أحبّت أن يدخل عليها أو يراها، وإن كان كبيرًا، خمسَ رضعات، ثم يدخل عليها -كما تقدم (1) -، وإسناده صحيح، وهو صريح، فأيُّ ظنٍّ غالب وراء هذا؟ (2) والله الموفق.
الثالث: اختلف في القدر المحرِّم من الرضاع، فمذهب الإِمام أحمد، والإمام الشافعي: لا يثبت حكم الرضاع بأقل من خمس رضعات، وقال به ابنُ حزم.
قال في "الكافي": ولا تثبت الحرمة إلا أن يرضع خمسَ رضعات (3)، قال في شرحه: هذا ظاهر المذهب، وهذا المذهب بلا ريب.
[قال المصنف -يعني: الإِمام الموفق-، والشارح -يعني: ابن أخيه-: هذا الصحيح من المذهب](4).
(1) برقم (2061) عنده.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 149).
(3)
انظر: "الكافي" لابن قدامة (3/ 342).
(4)
ما بين معكوفين ساقطة من "ب".
وكذا قال المجد في "محرره"(1)، وغيره.
قال الزركشي: هو مختار أصحابه، متقدِّمِهم ومتأخِّرِهم (2)، وجزم به في "الوجيز"، وغيره، وقدمه في "الفروع"(3)، وغيره. وعنه: ثلاثٌ يحرِّمْنَ (4).
وبه قال إسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، وداود وأتباعُه إلاّ ابنَ حزم، وحجتُهم مفهومُ قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تحرم الرضعة والرضعتان"(5)، فإن مفهومه: أن الثلاث تحرِّم، وأغرب القرطبيُّ فزعم أنه لم يقل به إلا داودُ (6)، وتقدمت الأحاديث الصحيحة الصريحة باعتبار الخمس.
وقال أبو حنيفة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، ورواية مشهورة عن أحمد: يثبت حكم الرضاع برضعة واحدة، واحتجّ أبو حنيفة بإطلاق قوله -تعالى-:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] ولم يذكر عددًا، والتقييد به زيادة، وهو نسخ، قاله العيني (7)، وفيه نظر لا يخفى، وحديث الخمس جاء من طرق صحيحة لا يسوغ ردّها، والسنّة تبين المجمل من كتاب الله -تعالى-، وتقيد المطلق منه، والله -تعالى- أعلم.
(1) انظر: "المحرر" للمجد ابن تيمية (2/ 112).
(2)
انظر: "شرح الزركشي على الخرقي"(5/ 586).
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 436).
(4)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (9/ 334).
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 187).
(7)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 206).