المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الرابع عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٦

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب القصاص

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌كتاب الحدود

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب حد السرقة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب حد الخمر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌كتاب الأيمان والنذور

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب النذر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب القضاء

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب الصيد

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

الفصل: ‌ ‌الحديث الرابع عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى

‌الحديث الرابع

عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إنْسَانٍ"، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ"(1).

قولُه: "قِيلَ لَهُ: قُلْ: إنْ شاءَ اللهُ" يَعْنِي: قالَ لهُ المَلَكُ.

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (2664)، كتاب: الجهاد والسير، باب: من طلب الولد للجهاد، و (3242)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]، و (4944)، كتاب: النكاح، باب: قول الرجل: لأطوفن الليلة على نسائي، و (6263)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، و (6341)، كتاب: كفارات الأيمان، باب: الاستثناء في الأيمان، و (7031)، كتاب: التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة، ومسلم (1654/ 24)، واللفظ له، و (1654/ 22 - 25)، كتاب: الأيمان، باب: الاستثناء، والنسائي (3831)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا حلف، فقال له رجل: إن شاء الله، هل له استثناء، و (3856)، باب: الاستثناء، والترمذي (1532)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في الاستثناء في اليمين.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 416)، =

ص: 367

(عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام) تقدم ذكر داود عليه السلام في: أفضل الصيام، وأما سليمان -عليه أفضل الصلاة والسلام-، فلم يبلغ أحدٌ من الأنبياء ما بلغ ملكه، فإن الله سبحانه سخر له الإنس والجن والطير والوحش والريح، وآتاه ما لم يؤت أحدًا من العالمين، وكان ملكه من الشام إلى إِصطخر، وقيل: ملك الأرض، وكان عسكره مئة فرسخ، وكان مع ذلك يجالس المساكين، ويقول: مسكين جالس مسكينًا.

وقد روي عن ابن عباس -رضي لله عنهما-: ملكَ الأرضَ مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود، وذو القرنين، والكافران: نمرود، وبخت نصر (1).

وكان عمرُ سليمان عليه السلام يوم ملكَ ثلاثَ عشرة سنة، وابتدأ في عمارة بيت المقدس بعد ذلك بأربع سنين.

وروى النسائي: أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس، سأل الله حُكْمًا يوافق حكمه، فأوتيه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، فأوتيه، وسأله أَلَّا يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريدُ إلا الصلاةَ فيه، إلا خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمه (2)، ولهذا كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يأتي بيت

= و"المفهم" للقرطبي (5/ 635)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 118)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 146)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1511)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 460)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 115)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 419)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 125).

(1)

رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(13558).

(2)

رواه النسائي (693)، كتاب: المساجد، باب: فضل المسجد الأقصى والصلاة =

ص: 368

المقدس، فيدخل فيصلي ركعتين، ثم يخرج، ولا يشرب منه، وكأنه يطلب دعوة سليمان.

وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحديث: "فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة"(1).

فإن قيل: ما الحكمةُ من سؤال المُلك مع تنزُّه الأنبياء -صلوات الله عليهم- عن الدنيا؟

فالجواب: أن ذلك كان معجزة له، فليس الملك مقصودًا لذاته، بل لغيره، كما أن من الأنبياء من كانت آيتُه الناقةَ، ومنهم من آيتُه العصا والحية.

وورث سليمانُ أباه داود في الملك والنبوة، وقام بشريعة موسى، وكل نبي جاء بعد موسى ممن بُعث أو من لم يبعث، فإنما كان يقوم بشريعة موسى إلى أن بعث الله المسيحَ عيسى بن مريم، فنسخ منها ما خالفها.

وبينَ سليمانَ بنِ داودَ عليه السلام وبين الهجرة النبوية -على صاحبها الصلاة والسلام- نحو ألف سنة وثمان مئة سنة، واليهود يقولون: ألف وثلاث مئة واثنتان وستون، وعاش داود نيفًا وخمسين سنة.

وجرى البرماوي على أنه عاش ثلاثًا وخمسين سنة، وذكر كلَّ ما تقدم.

قلتُ: والذي ذكره في "الأنس الجليل" للحنبلي ما نصُّه: لما كان في السنة الرابعة من ملكه -أي: سليمان-، في شهر أيار، وفي سنة تسع

= فيه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(1)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 176)، وابن حبان في "صحيحه"(1633)، وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ص: 369

وثلاثين وخمس مئة لوفاة موسى عليه السلام، ابتدأ سليمان عليه السلام في عمارة بيت المقدس حسبما أوصاه به أبوه داود عليه السلام، وفرغ منه في الحادية عشرة من ملكه، فيكون الفراغ من عمارة بيت المقدس في أواخر سنة ست وأربعين وخمس مئة لوفاة موسى عليه السلام، وكان من هبوط آدم إلى ابتداء سليمان ببناء بيت المقدس أربعة آلاف وأربع مئة وأربع عشرة سنة، وبين عمارة بيت المقدس والهجرة الشريفة النبوية المحمدية -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- ألف سنة كاملة، هكذا في تاريخ الحنبلي المسمى بـ "الأنس الجليل"(1)، والله أعلم.

(لأطوفن) هذا وما بعده مَقولُ سليمان عليه السلام، وفي رواية:"لأُطيفن"(2)، وهما لغتان، طاف بالشيء، وأطاف به: إذا دار حوله، وتكرر عليه، وهو هنا كناية عن الجماع، واللام في "لأطوفن" جواب القسم المقدر (3)، ولم أره إلا محذوف المقسم به في جميع الطرق.

(الليلةَ على سبعين امرأةً)، وفي رواية: على مئة امرأة (4)، وفي أخرى: تسعين (5).

قال في "الفتح": ومحصل الروايات: ستون، وسبعون، وتسعون، وتسع وتسعون، والجمع بينها: أن الستين حرائر، وما زاد عليهن كُنَّ سراري، أو بالعكس، وأما السبعون، فللمبالغة، وأما التسعون والمئة،

(1) انظر: "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل" لمجير الدين العليمي (1/ 120).

(2)

تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1654/ 24).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 460).

(4)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2664).

(5)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6263)، وعند مسلم برقم (1654/ 25).

ص: 370

فكنّ دون المئة، وفوق التسعين، فمن قال: تسعون، ألغى الكسر، ومن قال: مئة، جبَرهُ.

وقد حكي عن وهب بن منبه في "المبتدأ": أنه كان لسليمان ألف امرأة: ثلاث مئة مهرية، وسبع مئة سرية (1).

ونحوه ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" من طريق أبي معمر محمد بن كعب، قال: بلغنا أنه كان لسليمان ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاث مئة صريحة، وسبع مئة سرية (2).

(تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله) تعالى: هذا إنما قاله على سبيل التمني للخير، وإنما جزم به، لأنه غلب عليه الرجاء؛ لكونه قصد به الخير وأمر الآخرة، لا لغرض الدنيا.

قال بعض السلف: نبّه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن التفويض، قال: ولذلك نسي الاستثناء؛ ليمضي فيه القدر (3).

(فقيل)؛ أي: قال (له)، أي: لسليمان صاحبُه.

وفي رواية معمر عن طاوس: "فقال له المَلَك"(4).

وفي رواية هشام بن حجير: "فقال له صاحبه"، قال سفيان بنُ عيينة:

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 460).

(2)

رواه الحاكم في "المستدرك"(4141)، عن محمد بن كعب قال: بلغنا أن سليمان بن داود .. ، فذكره.

(3)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 120)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 461).

(4)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4944).

ص: 371

يعني: الملك (1)، وفي هذا إشعار بأن تفسير صاحبه بالملك ليس بمرفوع، لكن في "مسند الحميدي" عن سفيان:"فقال له صاحبه، أو الملك" -بالشك (2) -، ومثلها لمسلم (3)، وفيه رد على من فسر صاحبه بأنه الذي عنده علم من الكتاب، وهو آصِفُ -بالمد وكسر المهملة بعدها فاء- بنُ بَرخيَا -بفتح الموحدة وسكون الراء وكسر الخاء المعجمة بعدها تحتانية- (4).

وقال القرطبي في قوله: "فقال [له] صاحبه، أو الملك": إن كان صاحبه، فيعني به: وزيره من الإنس والجن، وإن كان الملك، فهو الذي يأتي بالوحي، قال: وقد أبعد من قال: المراد به: خاطره (5).

وقال النووي: قيل: المراد بصاحبه: المَلَك، وهو الظاهر من لفظه، وقيل: القرين، وقيل: صاحب له آدمي (6).

(قل: إن شاء الله، فلم يقل) قال عياض: وفي الرواية الأخرى: "فنسي"(7)، يعني: لم يقل: إن شاء الله بلسانه، لا أنه أبى أن يفوض إلى الله تعالى، بل كان ذلك ثابتًا في قلبه يُكنه، فكأنه اكتفى بما أضمر عليه قلبه أولًا، ونسي أن يُجريه على لسانه لما قيل له: قل: إن شاء الله؛ لشيء

(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6341).

(2)

رواه الحميدي في "مسنده"(1174).

(3)

تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1654/ 23).

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 461).

(5)

انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 637).

(6)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 120).

(7)

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 418).

ص: 372

عرض له، فأشغله عن إجرائه على لسانه (1).

(فطاف بِهِنَّ) كلِّهن في تلك الليلة (فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة) من بينهن (نصفَ إنسان)، وفي رواية:"جاءت بشق إنسان"(2)، وفي أخرى:"إلا واحدًا ساقطًا شِقُّه"(3)، وفي أخرى:"جاءت بشقِّ رجل"(4)، وقد حكى النقاش في "تفسيره": أن الشقَّ المذكور هو الجسدُ الذي أُلقي على كرسيه.

وفي قول غير واحد من المفسرين: أن المراد بالجسد المذكور: شيطان، وهو المعتمد، والنقاش صاحب مناكير (5).

(قال) أبو هريرة رضي الله عنه: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال) سليمانُ بنُ داود عليه السلام بعدَ مقالته التي قالها: (إن شاء الله، لم يحنث) المراد: أنه لو كان، يحصل له ما طلب، ولا يلزم من إخباره عليه الصلاة والسلام بذلك في حق سليمان في هذه القصة أن يقع ذلك لكل من استثنى في أمنيته، بل في الاستثناء رجوى الوقوع، وفي ترك الاستثناء خشية عدم الوقوع، وأما إخباره صلى الله عليه وسلم أن سليمان عليه السلام لو قال: إن شاء الله، لم يحنث (6)، (وكان) ذلك (دَرَكًا) -بفتحتين-، من

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 461).

(2)

رواه الطبراني في "مسند الشاميين"(3317)، وتقدم تخريجه عند البخاري برقم (4944)، وعند مسلم برقم (1654/ 22)، وعندهما:"نصف إنسان".

(3)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3242)، وعنده:"ساقطًا أحد شقيه".

(4)

تقدم تخريجه عند البخارىِ برقم (2664، 6263)، وعند مسلم برقم (1654/ 25).

(5)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 461).

(6)

المرجع السابق، الموضع نفسه.

ص: 373

الإدراك (1)(لحاجته) وأمنيته التي تمناها، وهو كقوله تعالى:{لَا تَخَافُ دَرَكًا} [طه: 77]؛ أي: لحاقًا، لعله أخبر بذلك من جهة الوحي.

وفيه جواز الإخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل بناء على غلبة الظن؛ فإن سليمان عليه السلام جزم بما قال، ولم يكن ذلك عن وحي، وإلا، لوقع، كذا قيل (2).

وقال القرطبي: لا يَظُنُّ بسليمان عليه السلام أنه قطعَ بذلك على ربه إلا مَنْ جهل حالَ الأنبياء وأدبَهم مع الله تعالى (3).

وقال ابن الجوزي: فإن قيل: من أين لسليمان أن يخلق من مئة هذا العدد في ليلة؟ لا جائز أن يكون بوحي؛ لأنه ما وقع، ولا جائز أن يكون الأمر في ذلك إليه؛ لأن الإرادة لله!

قال: والجواب: أنه من جنس التمني على الله تعالى، والسؤال له أن يفعل، والقسم عليه، كقول أنسِ بنِ مُعاذ: واللهِ لا تُكسر سِنُّها، ويحتمل أن يكون لما أجاب الله دعوته أن يهب له ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، كان هذا عنده من جملة ذلك، فجزم به (4).

قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: و (قوله) في الحديث: (قيل له: قل: إن شاء الله) -تعالى (يعني: قال له الملك) -كما تقدم من ذكر الخلاف في ذلك-.

(1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 418).

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 462).

(3)

انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 636).

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 462)، وعنه نقل الشارح رحمه الله كلام ابن الجوزي.

ص: 374

وفي الحديث: قصدُ فعل الخير، وتعاطي أسبابه، وأن كثيرًا من المباح والملاذ يصير مستحبًا بالنية والقصد.

وفيه: استحباب نية الاستثناء لمن قال: سأفعل كذا، وأنَّ إِتباعَ المشيئةِ اليمينَ يرفعُ حكمَها، وهو متفق عليه في الجملة (1).

قال علماؤنا: يصح الاستثناء في كل يمين مكفَّرة؛ كاليمين بالله، والظِّهار، والنذر، فإذا حلف فقال: إن شاء الله، أو إن أراد الله، وقصد بها المشيئة، لا من أراد محبته وأمره، وأراد التحقيق لا التعليق، لم يحنث، فعل أو ترك، قدم الاستثناء أو أخره، إذا كان متصلًا لفظًا أو حكمًا؛ كانقطاعه بنَفس أو سُعال أو عُطاس أو قيء أو نحوه.

ويعتبر نطقه به، فلا ينفعه بالقلب إلا من مظلوم خائف، ولابد من قصد الاستثناء قبل تمام المستثنى منه، فلو حلف غيرَ قاصد الاستثناء، ثم عرض له بعدَ فراغه من اليمين، فاستثنى، لم ينفعه، ولو أراد الجزم، فسبق لسانه إلى الاستثناء من غير قصد، أو كانت عادته جارية به، فجرى على لسانه من غير قصد، لم يصح (2).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ينفعه تعليقُه الطلاقَ بمشيئة الله تعالى، فإذا حلف: لا يسكن هذه الدار إن شاء الله، فلا حنثَ عليه إذا سكن فيها، سواء كانت يمينه بالطلاق، أو بالله تعالى.

قال: وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، قال: وكذا أحمد في مشهور مذهبه، وقول في مذهب مالك (3).

(1) المرجع السابق، (6/ 461 - 462).

(2)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 342).

(3)

انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 577 - 578).

ص: 375

وعند شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يعتبر له اتصال، ولا أن ينويه قبل تمام المستثنى منه، واحتج بعدة أحاديث، منها: الحديث المذكور الذي نحن بصدده، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "والله لأغزونَّ قريشًا"، قاله ثلاثًا، ثم سكت، ثم قال:"إن شاء الله"، ثم لم يغزهم (1).

وفي "الفروع": قال الإمام أحمد: قول ابن عباس رضي الله عنهما: إذا استثنى بعد سنة، فله ثنياه، [و](2) ليس هو في الأيمان، إنما تأويله قول الله:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] فهذا استثناء من الكذب؛ لأن الكذب ليس فيه كفارة، وهو أشد من اليمين؛ لأن اليمين تكفَّر، والكذب لا يكفَّر.

وقال ابن الجوزي: فائدة الاستثناء خروجه من الكذب، قال موسى:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69]، ولم يصبر، فسلم منه بالاستثناء (3).

وقد استدل من قال بعدم اعتبار نية الاستثناء قبل فراغه من المستثنى منه بهذا الحديث، فقال: الاستثناء إذا عقبَ اليمين، ولو تخلل بينهما شيء [و (4)] لا يضر؛ فإنه دل على أن سليمان عليه السلام لو قال: إن شاء الله عقب قول الملك له: قل: إن شاء الله، لنفعه ذلك، مع أنه تخلل بين كلاميه كلامُ الملَك.

(1) رواه أبو داود (3285)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الاستثناء في اليمين بعد السكوت، وابن حبان في "صحيحه"(4343)، وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

[و] ساقطة من "ب".

(3)

انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 309).

(4)

كذا في "ب"، والصواب حذف الواو، والله أعلم.

ص: 376

وأجاب القرطبي باحتمال أن يكون الملَك قال ذلك في أثناء كلام سليمان (1)، وهو ممكن.

وفي الحديث: دليل على اعتبار كون الاستثناء باللفظ دون النية، وهو متفق عليه إلا ما حكي عن بعض المالكية.

وفيه: ما خُص به الأنبياء عليهم السلام من القوة على الجماع الدالِّ ذلك على صحة البنية وقوة الفحولية وكمال الرجولية، مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم، وقد وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أبلغُ معجزة؛ لأنه مع اشتغاله بعبادة ربه وعلومه ومعالجة الخلق، مع كونه صلى الله عليه وسلم متقلِّلًا من المآكل والمشارب المقتضية لضعف البدن وقلة الجماع، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد، وهن إحدى عشرة امرأة، ويقال: إن كلَّ من كان أَتقى لله تكون شهوته أشدَّ؛ لأن الذي لا يتقي يتفرج بالنظر ونحوه.

وأبعدَ من استدلَّ بالحديث على جواز الحلف مع غلبة الظن مع وجود القرينة المقوية لذلك.

وفيه: جواز السهو على الأنبياء عليهم السلام، وأن ذلك لا يقدح في مراتبهم العلية.

وفيه: جواز إضمار المقسَم به في اليمين، لقوله:"لأطوفَنَّ"، مع قوله عليه السلام:"لم يحنث"، فدل على أن اسم الله فيه مقدَّر، فمن قال بجواز ذلك، فالحديث حجة له (2).

(1) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 637).

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 462).

ص: 377

قلت: ذكره في "الفروع" تخريجًا حيث قال: "عليَّ يمينٌ لأفعلنَّ".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه لام القسم، فلا تُذكر إلَّا معه مظهَرًا أو مقدَّرًا (1).

قال بعض علمائنا: ويؤيده قول سليمان بن داود عليه السلام: "لأطوفن الليلة على ستين امرأة"، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"لو استثنى، لم يحنث"، ونسب إليه الحنث، فدل أنه يمين، انتهى.

وهذا على معتمد المذهب: أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد تقريرُه على لسان الشارع، ولم ينسخ.

وفي الحديث: حجةٌ لنا وللحنفية من عدم اشتراط التصريح بمقسَم به، فمن قال: أحلف، أو حلفت، أو أشهد، أو شهدت، إلخ، فإنه يكون يمينًا عند الحنفية، وقيده علماؤنا والمالكية بالنية، وقال بعض الشافعية: ليس بيمين مطلقًا.

وفيه: استعمال لو ولولا.

وفيه: رعاية الأدب مع التكنية عما يستقبح ذكرُه؛ لقول سليمان عليه السلام: لأطوفنّ، بدل قوله: لأجامعن (2)، والله الموفق.

(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 302 - 303).

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 462).

ص: 378