الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
عَنْ هَمَّامِ بْنِ الحَارِثِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أُرْسِلُ الكِلَابَ المُعَلَّمَةَ، فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ، وَأَذْكُرُ اسْمَ اللهِ، فَقَالَ:"إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ، فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ". قُلْتُ: وَإنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: "وَإنْ قَتَلْنَ، مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ منها". قُلْتُ لَهُ: فَإنِّي أَرْمِي بالمِعْرَاضِ الصَّيْد، فَأصيبُ، فَقَالَ:"إذَا رَمَيْتَ بِالمِعْرَاضِ، فَخَزَقَ، فَكُلْهُ، وإنْ أَصَابَهُ بعرض، فَلَا تَأْكُلْهُ"(1).
وحديثُ الشعبيِّ عن عديٍّ نحوُه، وفيه: "إِلا أَنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ، فَإنْ أَكَلَ، فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (5160)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: ما أصاب المعراض بعرضه، و (6962)، كتاب: التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، ومسلم (1929/ 1)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، واللفظ له، وأبو داود (2847)، كتاب: الصيد، باب: في الصيد، والنسائي (4267)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إذا قتل الكلب، و (4305)، باب: صيد المعراض، والترمذي (1465)، كتاب: الصيد، باب: ما جاء: ما يؤكل من صيد الكلب وما لا يؤكل.
مِنْ غَيْرِهَا، فَلا تَأْكُلْ (1)، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ" (2).
وَفِيهِ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُكَلَّبَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإنْ أَمْسَكَ عَلَيْهِ، فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا، فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، فَكُلْهُ (3)؛ فَإِنَّ أَخْذَ الكَلْب ذَكَاتُهُ"(4).
وَفِيهِ أَيْضًا: "إذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ"(5).
وَفِيهِ أَيْضًا: "فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ -وَفِي رِوَايَةٍ-: اليَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلا أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إنْ شِئْتَ، فَإنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي المَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لا تَدْرِي المَاءُ قَتَلَهُ، أَوْ سَهْمُك"(6).
(1) رواه البخاري (5166)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: إذا أكل الكلب، و (5169)، باب: ما جاء في الصيد، ومسلم (1929/ 2)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، وأبو داود (2848)، كتاب: الصيد، باب: في الصيد، وابن ماجه (3208)، كتاب: الصيد، باب: صيد الكلب.
(2)
رواه البخاري (5168)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: إذا وجد مع الصيد كلبًا آخر، ومسلم (1929/ 3، 5)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، والنسائي (4264)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، و (4269 - 4273)، باب: إذا وجد مع كلبه كلبًا آخر.
(3)
رواه مسلم (1929/ 6)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، دون قوله:"المكلب".
(4)
رواه مسلم (1929/ 4)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، بلفظ:"فإن ذكاته أخذه"، والنسائي (4264)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه.
(5)
رواه مسلم (1929/ 6)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، وأبو داود (2849)، كتاب: الصيد، باب: في الصيد، والترمذي (1469)، كتاب: الصيد، باب: ما جاء فيمن يرمي الصيد فيجده ميتًا في الماء.
(6)
رواه البخاري (5167)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: الصيد إذا غاب عنه =
(عن همام) -بفتح الهاء وتشديد الميم- (بن الحارث) بنِ قيسٍ الكوفيِّ النخعيِّ التابعيِّ، كان من العُبَّاد التقاة، سمع ابن مسعود، وجرير بن عبد الله، وعائشة، والمقداد، وحذيفة، وعمارًا، وعديَّ بنَ حاتم، وغيرَهم رضي الله عنهم (1). (عن عديِّ) يكنى: أبا طريف -بفتح الطاء المهملة وكسر الراء-، وقيل: أبا وهب (بنِ حاتم) بنِ عبدِ الله بنِ سعدٍ الطائيِّ، من ولد طيىء بن أدد.
قدم عدي على النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة ست، وقيل: سبع، وقيل: تسع، وقيل: عشر، فأسلم، وكان نصرانيًا.
= يومين أو ثلاثة، ومسلم (1929/ 6 - 7)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (4/ 289)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 251)، و "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 356)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 212)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 73)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 198)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1614)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 341)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 610)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 45)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 81)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 5).
(1)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 118)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 236)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 106)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 510)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (4/ 178)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 35)، و"تهذيب الكمال" للمزي (30/ 297)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 283)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 58).
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وستون حديثًا، اتفقا منها على ثلاثة، وانفرد مسلم بحديثين.
نزل الكوفة، وسكنها، وفقئت عينه يوم الجمل مع علي (رضي الله عنه)، وشهد مع علي أيضًا: صفين، وشهد النهروان.
ومات عدي رضي الله عنه بالكوفة سنة ثمان وستين، أو سبع، أو ست، أو تسع، على خلافٍ في ذلك، وهو ابن مئة وعشرين سنة.
وفي كتاب "المعمرين" لأبي حاتم السجستاني: أنه عاش مئة وثمانين سنة (1).
قال ابن قتيبة: وكان عدي طويلًا، إذا ركب الفرس، تكاد رجله تخط الأرض، وأبوه حاتم هو المشهور بالجود، وكان هو أيضًا جوادًا، وثبت عدي وقوفه على الإسلام في أيام الردة، واحتال بحيلة ظريفة حتى أوصل صدقة قومه إلى الصديق، فحصل بها الانتفاع العظيم من تجهيز الجيوش للغزاة، ولهذا [لما] (2) قال عدي رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في "الصحيحين": أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال:
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 22)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 43)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 2)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1057)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 189)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (40/ 66)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 7)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 301)، و"تهذيب الكمال" للمزي (19/ 524)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 162)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 469)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 150).
(2)
ما بين معكوفين سقط من "ب".
بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا. قلت: فلا أبالي إذًا (1).
ولفظ البخاري: قال عدي: أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أناسٍ من قومي، فجعل يفرض [حتى](2) للرجل من طي في ألفين، ويعرض عني، قال: فاستقبلته، فأعرض عني، ثم أتيته من حيال وجهه، فأعرض عني، فقلت: يا أمير المؤمنين! أتعرفني؟ قال: فضحك، ثم قال: نعم، والله! إني لأعرفك، آمنت إذ كفروا، فذكر نحوه وزاد: وإن أول صدقة بيضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوه أصحابه صدقة طيىء جئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ يعتذر، ثم قال: إنما فرضتُ لقومٍ أجحفت بهم الفاقة، وهم سادة عشائرهم لما ينوبهم من الحقوق. فقال عدي: فلا أبالي إذن (3).
(قال) عدي رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله! إني أرسل الكلاب
(1) انظر: "المعارف" لابن قتيبة (ص: 313). والحديث رواه البخاري (4133)، كتاب: المغازي، باب: قصة وفد طيىء، وحديث عدي بن حاتم.
(2)
ما بين معكوفين سقط من "ب".
(3)
قلت: ما ساقه الشارح رحمه الله في هذا الحديث، وعزوه للبخاري، إنما نقله عن الإمام النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 302) حيث قال: روينا في "صحيحي البخاري ومسلم"، واللفظ للبخاري، عن عدي بن حاتم، قال .. فذكره، كما نقله الشارح هنا.
ولفظ البخاري الذي ساقه في "صحيحه" هو ما تقدم آنفًا برقم (4133)، ورواه مسلم (2523)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل غفار وأسلم وجهينة، مختصرًا. والحديث بالسياق الذي ذكره النووي رحمه الله وعنه نقله الشارح، رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 45)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 10)، وغيرهما.
المعلمة) للصيد، (فيمسكن) الصيد (علي، وأذكر اسم الله) تعالى عند إرسالي لها بأن أقول: باسم الله، (فقال) صلى الله عليه وسلم مجيبًا لعدي عن سؤاله:(إذا أرسلت كلبك المعلم)، والمراد بالكلب المعلم، ومثله الفهد، وكل ما يصيد بنابه: ما اجتمع فيه ثلاثة أشياء: يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر.
قال علماؤنا: لا في حال مشاهدته الصيد، وإذا أمسك لم يأكل (1)، والرابع من شروط حل صيد الكلب ونحوه: إذا ما لحقه إلا بعد الزهوق بما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله لعدي بن حاتم رضي الله عنه مجيبًا له عن سؤاله: (وذكرت اسم الله عليه)؛ أي: كلبك المعلم، فإذا كانت هذه الشروط، (فكل) منه؛ فإنه حلال، ولابد للحل من كون الجارح جرح الصيد، فإنه قتله بصدمته، أو خنقه، لم يبح على معتمد المذهب (2).
قال في "الفتح": المراد بالمعلمة: التي إذا أغراها صاحبها على الصيد، طلبته، وإذا زجرها، انزجرت، وإذا أخذت الصيد، حبسته على صاحبها.
قال: وهذا الثالث مختلف في اشتراطه، واختلف متى يعلم ذلك منها؟ (3).
فمعتمد مذهب أحمد: أنه لا يعتبر تكراره، بل يحصل بمرة، فإن أكل بعد تعليمه، لم يحرم ما تقدم من صيد، ولم يبح ما أكل منه، ولم يخرج
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 330).
(2)
المرجع السابق، (4/ 331).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600).
عن كونه معلمًا، فيباح ما صاده بعد الصيد الذي أكل منه، وإن شرب دمه، ولم يأكل منه، لم يحرم (1).
وقال البغوي من الشّافعيّة في "التهذيب": أقل ما يعلم به كون الكلب صار معلمًا: أن يتكرر وقوع ما اعتبر منه ثلاث مرات فصاعدًا.
وعن أبي حنيفة: يكفي مرتين.
وقال الرافعي: لم يقدره المعظم؛ لاضطراب العرف، واختلاف طباع الجوارح، فصار المرجع إلى العرف (2).
ووقع في رواية مجالد عن الشعبي، عن عدي رضي الله عنه في هذا الحديث عند أبي داود والترمذي ما لفظه عند أبي داود:"ما عَلَّمْتَ من كلب أو بازٍ، ثم أرسلته، وذكرتَ اسم الله، فكل (ما أمسك عليك) "(3)، ولفظ الترمذيّ: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي، فقال:"ما أمسك عليك، فكل"(4).
قال عدي رضي الله عنه: (قلت) للنبي صلى الله عليه وسلم: (وإن قتلنَ) الصيد [كلبي](5)، فلم تدركه إلا بعد زهوق روحه، (قال) صلى الله عليه وسلم:(وإن قتلنَ) الصيد فلم تدركه إلا بعد زهوقه (ما لم يشركها)؛ أي: كلابك المعلمة التي سَمَّيْتَ عليها عند إرسالها [للصيد](6) في قتل الصيد (كلبٌ ليس) هو (منها)، أي:
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 331).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600).
(3)
رواه أبو داود (2851)، كتاب: الصيد، باب: في الصيد.
(4)
رواه الترمذي (1467)، كتاب: الصيد، باب: ما جاء في صيد البزاة.
(5)
ما بين معكوفين سقط من "ب".
(6)
ما بين معكوفين سقط من "ب".
من كلابك، فوجدتها وقد قتلت الصيد، فلا تأكله؛ لإعانة غيرها مما لا يحل صيدُه؛ لعدم استيفاء الشروط فيه على قتله تغليبًا لجانب الحظر.
ومحل ذلك ما إذا كان المشارك قد استرسل بنفسه، أو أرسله مَنْ ليس من أهل الذكاة، فإن تحقق أنه أرسله مَنْ هو من أهل الذكاة، وقد أتى بالتسمية، وكان معلمًا، حل.
ثم إن كان الكلبان قتلاه معًا، فهو لصاحبيهما، وإن علم أن أحدهما قتله، فهو لصاحبه، وإن جهل الحال، حل أكله.
ثم إن كان الكلبان متعلقين به، فهو بينهما، وإن كان أحدهما متعلقًا به، فهو لصاحبه، وعلى من حكم له به اليمين.
وإن كان الكلبان ناحيةً، وقف الأمر حتى يصطلحا، فإن خيف فساده، بيع، واصطلحا على ثمنه (1).
قال أبو عيسى الترمذيّ: أهل العلم لا يرون بصيد البزاة والصقور بأسًا (2)، انتهى.
وفي معنى البازي: الصقر، والعقاب، [والباشق](3)، والشاهين.
وقد فسر مجاهد الجوارح في الآية بالكلاب والطيور، وهو قول الجمهور، إلا ما روي عن ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم بين صيد الكلب والطير (4).
وفي "الفتح": فلو قتل -يعني: الجارح- الصيدَ بظفره أو نابه، حلَّ.
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 327).
(2)
انظر: "سنن الترمذي"(4/ 66).
(3)
ما بين معكوفين سقط من "ب".
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600 - 601).
قال: وكذا بثقله على أحد القولين للشافعي، وهو الراجح عندهم (1).
وهو قول عندنا اختاره ابن حامد، وأبو محمد الجوزي.
وإن أدرك الصياد الصيد وفيه حياة غير مستقرة، بل متحركًا كحركة المذبوح، لم يحتج إلى ذكاة.
وكذا لو كان فيه حياة مستقرة فوق حركة المذبوح، ولكن لم يتسع الوقت لتذكيته، فإن اتسع لها، لم يبح إلا بها، فإن خشي موته، ولم يجد ما يذكيه به، لم يبح، ولو امتنع الصيد على الصائد من الذبح بأن جعل يعدو منه حتى مات تعبًا (2)، حل.
وفهم من قوله: "فكل ما أمسك عليك"، وفي لفظ:"مما أمسك عليك"، وهو كقوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، فإن مقتضاها: أن الذي يمسكه من غير إرسال لا يباح، ويتقوى أيضًا بالشواهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الإمام أحمد:"إذا أرسلت الكلب، فأكله الصيد، فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، وإذا أرسلته، فقتل، ولم يأكل، فإنما أمسكه على صاحبه"(3)، وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس (4)، وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع، نحوه، بمعناه (5)، ولو كان مجرد الإمساك كافيًا، لما احتيج إلى زيادة {عَلَيْكُمْ} .
قال الجمهور: معنى قول: {أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} : صدن لكم، وقد جعل
(1) المرجع السابق، (9/ 601).
(2)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 325 - 326).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 231).
(4)
رواه البزار في "مسنده"(4/ 31 - "مجمع الزوائد" للهيثمي).
(5)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(19585).
الشارع أكله منه علامة على أنه أمسك لنفسه، لا لصاحبه، فلا يعدل عن ذلك.
ولم يشترط مالك في التعليم عدم الأكل، والأحاديث الصحيحة دالة على اشتراط ذلك، فلا يعدل عنه (1).
فائدة:
استدل بعض أهل العلم بالحديث على طهارة سؤر كلب الصيد دون غيره من الكلاب؛ للإذن في الأكل من الموضع الذي أكل منه، ولم يذكر الغسل، ولو كان واجبًا، لبيّنه؛ لأنه وقت الحاجة إلى البيان.
وقال بعضهم: يعفى عن بعض الكلب؛ ولو كان نجسًا لهذا الحديث.
قلت: وقد صرح علماؤنا وغيرهم بوجوب غسل ما أصابه فم الكلب، وأجابوا عن ظاهر إطلاق الحديث بأن وجوب الغسل كان قد اشتهر عندهم حتى صار معلومًا لهم، فاستغنى عن ذكره (2).
(قال) عدي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإني أرمي بالمِعْراض)، وهو -بكسر الميم وسكون المهملة وآخره ضاد معجمة-: سهم لا ريش له، ولا نصل، قاله الخليل، وتبعه جماعة.
وقال ابن دريد، وتبعه ابن سيده: هو سهم طويل له أربع قذذ رقاق، فإذا رمي به، اعترض.
وقال الخطابي: المعراض: نصلٌ عريض له ثقل ورزانة (3).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 602).
(2)
المرجع السابق، (9/ 603).
(3)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (290/ 4).
وقيل: عود رقيق الطرفين غليظ الوسط، وهو المسمى بالحذافة. وقيل: خشبة ثقيلة آخرها عصا محدود [رأسها](1)، وقد لا تحدد (2).
وقد جزم علماؤنا بأن المعراض عود محدود، وربما جُعل في رأسه حديدة (3).
وقال ابن التين: المعراض: عصا في طرفها حديدة، يرمي الصائد بها الصيد، فما أصاب بحده، فهو ذكي، وما أصاب بغير حده، فهو وقيذ (4)، (الصيد) مفعول أرمي، (فأصيب) -بضم الهمزة- من أصاب؛ أي: أصيب الصيدَ، (فقال) صلى الله عليه وسلم:(إذا رميت) الصيد (بالمعراض، فخزق، فكله)، وفي لفظ:"كُلْ ما خَزَقَ"(5)، وهو -بفتح الخاء المعجمة والزاي بعدها قاف-؛ أي: نفذ، يقال: سهم خازق؛ أي: نافذ، ويقال: بالسين المهملة بدل الزاي، وقيل: الخزق -بالزاي-، وقد تبدل سينًا: الخدش، ولا يثبت فيه.
فإن قيل بالراء، فهو أن يثبته (6).
وفي "المطالع": وخزق المعراض: ثنى اللحم وقطعه (7).
وحاصله: أن السهم وما في معناه إذا أصاب الصيد بحده، فجرحه، كانت تلك ذكاته (8).
(1) ما بين معكوفين سقط من "ب".
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600).
(3)
انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 305).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600).
(5)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5160).
(6)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600)، وعنده:"يثقبه" بدل "يثبته".
(7)
وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 234).
(8)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600).
(وإن أصابه)؛ أي: أصاب المعراض من الصيد (بعرض) المعراض، (فلا تأكله).
وفي رواية: وما أصاب بعرضه، فهو وَقيذ (1).
والوقيذ -بقاف وآخره ذال معجمة- وزن عظيم، فعيل بمعنى مفعول: ما قُتل بعصًا أو حجر، أو ما لا حدّ له، والموقوذة: التي تضرب بالخشب حتى توقذها فتموت، فإذا أصاب الصيد بعرض المعراض، لم يحل؛ لأنه في معنى الخشبة الثقيلة، والحجر، ونحو ذلك من الثقل (2).
وقوله: "بعَرْض" أو "عرضه" هو -بفتح العين المهملة-؛ أي: بغير طرفه المحدود، وهو حجة الجمهور في التفصيل المذكور.
وعن الأوزاعي وغيره من فقهاء الشام حلُّ ذلك (3).
قال الحافظ المصنف رحمه الله، ورضي عنه-:(وحديث) أبي عمرو عامر بن شراحيل بن عبد الله، وقيل: ابن عبد الله بنِ شراحيل (الشعبي) -بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة وبالياء الموحدة- منسوب إلى شَعْب، وهو بطن من همذان.
وقال الجوهري: هذه النسبة إلى جبل باليمن يقال له شَعْب، نزله حسان بن عمرو الحِمْيَري هو وولدُه، ودُفن به، وهو ذو شعبين ممن كان بالكوفة، منهم قيل لهم: شعبيون، والواحد شعبي، و [من] كان بمصر والمغرب قيل لهم: الأشعوب، والواحد شعوبي، ومن كان منهم بالشام؛
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5158)، وعند مسلم برقم (1929/ 4).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600).
(3)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
قيل: شعبانيون، والواحد شعباني، ومن كان منهم باليمن، قيل له: ذو شعبين.
قال ابن خلكان عن الشعبي: عداده في همذان، وهو كوفي تابعي، جليل القدر، وافر العلم، روي أن ابن عمر رضي الله عنهما مرّ يومًا وهو يحدث بالمغازي، فقال: شهدت القوم، وإنه أعلم بها مني.
وقال الزهري: العلماء أربعة: ابن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام، ويقال: إن الشعبي أدرك خمس مئة رضي الله عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
ولد الشعبي كما في "تاريخ ابن خلكان" لأربع سنين بقين من خلافة عمر رضي الله عنه.
قال خليفة بن خياط: ولد الشعبي والحسن البصري في سنة إحدى وعشرين.
وقال الأصمعي: سنة سبع عشرة بالكوفة.
وكان ضئيلًا، نحيفا، فقيل له يوما: ما لنا نراك ضئيلًا؟ فقال: زوحمت في الرحم، وكان قد ولد هو وأخ آخر في بطن، وأقام في البطن سنين كما في "معارف ابن قتيبة".
وفي البرماوي، وابن خلكان أيضًا: أن ولادة الشعبي لست سنين خلت من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقيل: سنة عشرين من الهجرة.
وروي عنه أنه قال: ولدت سنة جلولاء، وهي -بفتح الجيم وضم اللام
(1) فقد روى البخاري في "التاريخ الكبير"(6/ 450)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (25/ 349) عنه: أنه قال: أدركت خمس مئة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: علي وطلحة والزبير في الجنة.
ومد آخره-: قرية بناحية فارس، كانت بها الوقعة المشهورة زمن الصحابة رضي الله عنهم وكانت سنة تسع عشرة، وقيل سنة إحدى وثلاثين.
وتوفي بالكوفة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وقيل: ست، وقيل: سبع، وقيل: خمس ومئة، وكانت وفاته فجأة، وكانت أمه من سبي جلولاء.
روى عن: علي بن أبي طالب، وابنيه الحسن والحسين، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بنِ عمرو بنِ نُفيل، وعبدِ الله بن جعفر، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأسامةَ بنِ زيد، وجابر بن سَمُرَة، وأنسِ بنِ مالك، وغيرِهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين-.
وروى عنه خلائق، منهم: أبو حنيفة النعمان الإمام، وعبدُ الله بن بريدة، وقتادة، والأعمش سليمان بن مهران، وغيرُهم.
وكان الشعبي كثيرًا ما يتمثل بقول مسكين الدارمي:
[من الرمل]
لَيْسَتِ الأَحْلَامُ فِي حَالِ الرِّضَا
…
إِنَّمَا الأَحْلَامُ فِي وَقْتِ الْغَضَبْ (1)
(عن عديِّ) بنِ حاتم رضي الله عنه (نَحْوُه)؛ أي: نحوُ حديثِ همام بن الحارث عن عدي، (وفيه)؛ أي: في حديث الشعبي عن عدي -
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 246) و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 450)، و"المعارف" لابن قتيبة (ص: 449)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 323)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 185)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (4/ 310)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (12/ 227)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (25/ 335)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 75)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 28)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 294)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 79)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 12)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (5/ 57).
رضي الله عنه-، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إنا قومٌ نصيد بهذه الكلاب، فقال:"إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله، فكل مما أمسكن عليكم، وإن قتلن، (إلا أن يأكل الكلب) من الصيد الذي اصطاده، (فإن أكل) منه، (فلا تأكل) من ذلك الصيد، وعلل ذلك بقوله: (فإني أخاف أن يكون) الكلبُ (إنَّما أمسكَ على نفسه) ليأكله، لا أنه أمسكه عليك، وحينئذٍ لا يحل صيد الكلب ونحوه إذا كان كذلك؛ لأنه غير معلَّم إذن، وأما إذا لم يأكل الكلب من الصيد الذي صاده، وتوفرت فيه الشروط -المتقدم ذكرها-، فيحل أكلُ ما أمسكه على صاحبه، ولو لم يذبح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أخذ الكلب ذكاة" كما في "الصحيحين" من حديث عدي رضي الله عنه.
وتقدم أنه لو وجد فيه حياة مستقرة، لم يحل إلا بتذكيته، فإذا وجده حيًا، وذكاه، حلَّ، ولو كان الكلب غيرَ معلم؛ لأن الاعتماد في الإباحة إذن على التذكية، لا على إمساك الكلب.
وأما إذا وجده قد مات، وقد أكل الكلب منه، لم يحل، ولو كان الكلب معلَّمًا؛ لأنه علل في الحديث بالخوف من أنه إنما أمسك على نفسه، وهذا قول الجمهور، والراجح من قولي الشّافعيّ.
وقال في "القديم": هو قول مالك، ونقل عن بعض أصحابه الحل، واحتجوا بما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن أعرابيًا يقال له: أبو ثعلبة، قال: يا رسول الله! إن لي كلابًا معلَّمة، فأَفتني في صيدها، قال:"كُلْ مِمَّا أمسكْنَ عليك"، قال: وإن أكل منه؟ قال: "وإنْ أكل منه" أخرجه أبو داود بسند لا بأس به (1).
(1) رواه أبو داود (2857)، كتاب: الصيد، باب: في الصيد.
وقد ارتبك الناس في الجمع بين الحديثين، فحمل القائلون بالتحريم -وهم الجمهور- من حديث أبي ثعلبة على ما إذا قتله وخَلَّاه، ثم عاد فأكل منه، وأيضًا رواية عدي في "الصحيحين"، ورواية أبي ثعلبة المذكورة ليست فيها، بل هي مختلَف في تضعيفها، وأيضًا: رواية عدي صحيحة وصريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم، وهو خوف الإمساك على نفسه، متأيدة بأن الأصل في الميتة التحريم، فإذا شككنا في السبب المُبيح، رجعنا إلى الأصل، وبظاهر القرآن أيضًا، وهو قوله سبحانه وتعالى:{أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]؛ فإن مقتضاه أنَّ الذي يمسكه من غير إرسال لا يباح، ويتقوى أيضًا بالشواهد من حديث ابن عباس عند الإمام أحمد، وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع، وغيرهما؛ كما قدمنا ذلك.
وأما القائلون بالإباحة، فحملوا حديثَ عدي على كراهة التنزيه، وحديثَ أبي ثعلبة على بيان الجواز، وأبدى بعضهم لذلك مناسبة بأن عديًا كان موسرًا، فاختير له الحمل على الأولى، بخلاف أبي ثعلبة؛ فإنه كان بعكسه، ولا يخفى ضعفُ هذا التمسك مع التصريح في الحديث بالتعليل بخوف الإمساك على نفسه.
وقال ابن التين: هو عامٌّ، فيُحمل على الذي أدركه ميتًا من شدة العدو، أو من الصدمة، فأكل منه؛ لأنه صار على صفة لا يتعلق بها الإرسال ولا الإمساك على صاحبه.
ولا يخفى ما في هذا من التعسف الذي لا يحتاج إليه.
وقال ابن القصار: مجرد إرسالنا الكلب إمساكٌ علينا؛ لأن الكلب لا نيّة له، ولا يصح منه ميزها، وإنما يتصيد بالتعليم، فإذا كان الاعتبار بأن يمسك علينا أو على نفسه، واختلف الحكم في ذلك وجب أن يتميز ذلك
بنيّة مَنْ له نيّة، وهو مرسلُهُ، فإذا أرسله، فقد أمسك عليه، وإذا لم يرسله [ينقذه]، فلم يمسك عليه. كذا قال.
ولا يخفى بعدُ هذا ومصادمتُه لسياق الحديث.
وقد قال الجمهور: معنى: {أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]: صِدْن لكم -كما مر-، وجعل الشارع أكلَه منه علامة على أنه أمسك لنفسه، لا لصاحبه، ولا يُعْدَل عن ذلك (1)، والله الموفق.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه: (وإن خالطها)؛ أي: خالط كلابَك التي أرسلتها لتصطاد بها (كلابٌ من غيرها)؛ أي: من غير كلابك التي سميت عليها، وأرسلتها، [فوجدتها قد صادت، أو قد اشتركت جميعًا في اصطياده، (فلا تأكل) منه شيئًا، ومحله -كما تقدم- ما إذا استرسلت الكلاب نفسها، أو أرسلها](2) مَنْ ليس من أهل الذكاة، أو من لم يُسم عليها حين إرسالها (3)، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم معللًا لذلك:(فإنما سميتَ على كلبك، ولم تسمِّ على غيره)؛ فإنه يدل على أنه لو أرسلها من فيه أهلية الذكاة، وسمى عند إرساله له، لحل -كما تقدم-.
ويؤخذ من الحديث اعتبار كون التسمية على الآلة من سهم وجارح، فلو سمى على صيد، فأصاب غيره، حَلَّ أكلُه، لا إن سمى على سهم ثم ألقاه ورمى بغيره، فلا يحل ما قتله، وكذا لو سمى على كلب، ثم أرسل غيره؛ لأنه لمّا لم يمكن اعتبار التسمية على صيدٍ بعينه، اعتبرت على آلته (4).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 601 - 602).
(2)
ما بين معكوفين سقط من "ب".
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 601).
(4)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(وفيه)؛ أي: حديثِ عدي بن حاتم رضي الله عنه: (إذا أرسلتَ كلبك المكلَّب، فاذكر اسم الله عليه)، وهذا أمر منه صلى الله عليه وسلم عند استفتاء عدي له عليه السلام، فأمره بالتسمية عند إرسال جارحه، ومثله عند السهم، فدل على وجوبها؛ لأن الأمر المطلق للوجوب، ولاسيما مع ما يؤيده من الأحاديث التي ذكرناها، وما لم نذكره أكثر.
ولا يضرُّ تقديم البسملة على الإرسال بزمن يسير، وكذا لا يضر تأخرها عن إرسال الجارح -ولو بكثير- إذا زجره فانزجر، (فإن أمسك) الكلبُ الذي سَمَّيتَ عليه وأرسلته (عليك، فأدركته حيًا) حياة مستقرة، (فاذبحه) ليحل، فإذا ذبحته، حلَّ، سواء كان الكلب معلَّمًا، أو غيرَ معلم، وسواء أرسلته، أو استرسل بنفسه، وسواء سميت عليه حين الإرسال، أو لا؛ لأن اعتماد الإباحة إذن التذكيةُ الشرعية بشروطها دون غيرها، وإنما قال صلى الله عليه وسلم:"فاذكر اسم الله عليه"، وقال:"فإن أمسك عليك" تمهيدًا لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن أدركته)؛ أي: الصيدَ (قد قتلَ)، ولم تجد فيه حياة مستقرة، (ولم يأكل) الكلبُ ونحوه (منه)؛ أي: الصيدِ شيئًا، فهو حلال، (فكله؛ فإنَّ أخذَ الكلبِ) المعلَّمِ بعد إرساله المصحوب بالتسمية (ذَكاتُه)؛ كما تقدم ذلك مشروطًا.
(وفيه)؛ أي: حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه (أيضًا) مصدر آضَ: إذا رجع (1): (إذا رميت) الصيد (بسهمك، فاذكر اسم الله عليه) عند رميك السهمَ -على ما مر-.
(وفيه أيضًا)؛ أي: حديث عدي رضي الله عنه: (فإن غاب) الصيدُ
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 821)، (مادة: أيض).
(عنك) بعد رميك له، وإصابة سهمك له (يومًا أو يومين).
(وفي رواية): فإن غاب عنك (اليومين والثلاثةَ) أيام، (فلم تجد فيه)؛ أي: الصيد الذي غاب عنك (إلا أثرَ سهمِك)، فالظاهر أن زُهوقه إنما كان به، (فكل) ذلك الصيدَ (إن شئت) أكلَه؛ فإنه حلال.
ومفهومه: أنه إذا وجد فيه أثر غير سهمه، لا يؤكل، وهو نظير ما تقدم في الكلب من التفصيل فيما إذا خالط الكلبَ الذي أرسله الصياد كلبٌ آخر، لكن التفصيل في مسألة الكلب فيما إذا شارك الكلبَ في قتله كلبٌ آخرُ قبله، وهنا الأثرُ الذي يوجد فيه من غير سهم الرامي أعمّ من أن يكون أثر سهم آخر، أو غير ذلك من الأسباب القاتلة، فلا يحلُّ أكلُه مع التردد، وقد جاءت فيه زيادة من رواية سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم عند الترمذيّ، والنسائي، والطحاوي، بلفظ:"إذا وجدتَ سهمَك فيه، ولم تجدْ به أثر سَبُعٍ، وعلمت أن سهمَك قتلَه، فكل منه"(1).
قال في "الإقناع"، وغيره من علمائنا: وإن رمى صيدًا -ولو ليلًا-، فجرحه، ولو غير مُوحٍ، فغاب عن عينه، ثم وجده ميتًا، ولو بعد يومه، وسهمُه فقط فيه، أو أثره، ولا أثر به غيره، حلّ، وإن وجد به سهمًا، أو أثر سهم غير سهمه، أو شك في سهمه، أو في قتله به، أو أكل منه سبع يصلح أن يكون قتله، لم يحل، وإن كان الأثر مما لا يقتل مثله، مثل أكل حيوان ضعيف؛ كسنور وثعلب من حيوان قوي، أو تهشم من وقعته، فمباح (2).
(1) رواه الترمذي (1468)، كتاب: الصيد، باب: ما جاء في الرجل يرمي الصيد فيغيب عنه، والنسائي (4300)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: في الذي يرمي الصيد فيغيب عنه. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 611).
(2)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 329).
وذكر الرافعي عن الشّافعيّ: أنه إذا جرحه، ثم غاب، ثم جاء فوجده ميتًا: أنه لا يحل.
قال النووي: الحِلُّ أصح دليلًا (1).
وحكى البيهقي في "المعرفة" عن الشّافعيّ: أنه قال في قول ابن عباس رضي الله عنهما: كُلْ ما أصميتَ، ودع ما أنميتَ.
معنى ما أصميت: ما قتله الكلب، وأنت تراه، وما أنميت: ما غاب عنك مقتله.
قال: وهذا لا يجوز عندي غيره، إلا أن يكون جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيءٌ، فيسقط كل شيء خالف أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقوم معه رأيٌ ولا قياس.
قال البيهقي: وقد ثبت الخبر -يعني: حديث الباب-، فينبغي أن يكون هو قول الشّافعيّ، انتهى (2).
قال أبو المظفر بن هبيرة -رحمه الله تعالى- في "اختلاف الأئمة": اختلفوا فيما إذا أرسل كلبه المعلم، أو رمى بسهمه بعد أن يسمي علي هـ[ـمـ]ـا، ثم غاب عنه، فلم يدرك الصيدَ إلا بعد يومٍ أو يومين.
فقال مالك: لا يباح في الكلب، وفي السهم عنه روايتان.
وقال الشّافعيّ في "الأم"(3) في هذه المسألة: القياس أنه لا يحل أكله، إلا أن يكون ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر، فيسقط كل ما خالفه.
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 79).
(2)
انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (13/ 449). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 611).
(3)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 226 - 227).
وقال أبو حنيفة: إن تبعه، ولم يقصر في طلبه حتى أصابه، أكل منه، فإن قعد عن طلبه، ثم أصابه ميتًا، لم يؤكل (1).
وقد ذكرنا -فيما تقدم آنفًا-: أن مذهب الإمام أحمد إباحةُ أكله، على التفصيل الذي ذكرناه، والله أعلم.
وقال صلى الله عليه وسلم لعدي رضي الله عنه: (فإن وجدته)؛ أي: الصيدَ الذي رميته بسهمك، وغاب بعد أن أصبته عنك (غريقًا في الماء)، وفي رواية عندهما من حديث عدي:"فإن وجدته قد وقع في ماء"(2)، (فلا تأكلـ) ـه، زاد مسلم:(فإنك لا تدري الماءُ قتلَه)؛ أي: الصيدَ (أو سهمُك) الذي كنت رميته به فأصابه، فلما وقع التردد هل قتله السهم، أو الغرق في الماء؟ لم يحل (3).
قال علماؤنا: ولو رمى الصيد، فوقع في ماء يقتله مثلُه، أو تردّى تردِّيًا يقتله مثلُه، أو وطىء عليه شيء يقتلُه، لم يحل [أكله](4)، ولو كان الجرح مُوحِيًا.
وإن وقع في ماء، ورأسُه خارجه، أو كان من طير الماء، أو كان التردِّي لا يقتل مثلَ ذلك الحيوان، فمباح.
وإن رمى طيرًا في الهواء، أو على شجرة، أو جبل، فوقع إلى الأرض فمات، حلّ؛ لأن سقوطه بالإصابة (5).
(1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 303 - 304).
(2)
رواه مسلم فقط (1929/ 7)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة.
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 611).
(4)
ما بين معكوفين سقط من "ب".
(5)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 328).
قال ابن هبيرة: وأجمعوا على أنه إن وجده في ماء، أو تردى من جبل، فإنه لا يحل أكله؛ لجواز أن يكون الماء أو الجبلُ هما اللذان قتلاه (1).
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": فلو تحقق أن السهم أصابه فمات، فلم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم، فهذا يحل أكله.
وقال النووي في "شرح مسلم": إذا وجد الصيد في الماء غريقًا، حرم بالاتفاق، انتهى (2).
وقد صرح الرافعي بأن محله ما لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح، فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلًا، فقد تمت ذكاته، ويؤيده زيادة مسلم؛ فإنها تُشعر بأنه إذا علم أن سهمه هو الذي قتله، فإنه يحل (3).
تنبيهات:
الأول: ذو المخلب من الجوارح؛ مثل البازي والصقر والعقاب والشاهين، تعليمُه أنه يسترسل إذا أُرسل، ويرجع إذا دُعي، لا بعد رؤيته الصيد، ولابدَّ من أهلية مرسله، ومن التسمية عند إرساله -على ما مرّ-، ولابدّ أن يجرح الصيد -كما مر أيضًا-، ولا يعتبر ترك الأكل في ذي المخلب.
الثاني: تقدم لا يضر ولو غاب اليومين أو الثلاثة، وفي رواية: بعد يوم أو يومين، وفي أخرى: فيغيب عنه الليل والليلتين (4).
(1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 306).
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 79).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 611).
(4)
تقدم تخريجها.
ووقع عند مسلم في حديث أبي ثعلبة: "إذا رميت بسهمك، فغاب عنك، فأدركته، فكل ما لم ينتن"(1).
وفي لفظ في الذي يدرك الصيد بعد ثلاث: "كله ما لم يُنتن"، ونحوه عند أبي داود (2)، فجعل الغاية أن ينتن الصيد، فلو وجده مثلًا بعد ثلاث لم ينتن، حلَّ، وإن وجده بدونها وقد أنتن، فلا. هذا ظاهر الحديث، وأجاب النووي بأن النهي عن أكله إذا أنتن للتنزيه (3).
قلت: وجزم بهذا علماؤنا؛ كما في "الإقناع"(4)، و"المنتهى"(5)، وغيرهما.
وفي "مختصر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ما لفظه: وإذا جرح الصيد، فغاب عنه، وليس به غير سهمه، فإنه يحل، على الصحيح من أقوالهم.
قال: وبه أفتى النبي صلى الله عليه وسلم عديَّ بنَ حاتم، وأبا ثعلبة، وفي حديثه: فغاب عنه ثلاثة أيام، قال:"فإن أدركته، فكلْ، ما لم ينتن"، قال: وأما إذا أنتن، فيكره أكله (6).
(1) رواه مسلم (1931/ 9)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إذا غاب عنه الصيد ثم وجده.
(2)
رواه مسلم (1931/ 10)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إذا غاب عنه الصيد ثم وجده، وأبو داود (2861)، كتاب: الصيد، باب: في اتباع الصيد.
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 81). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 611).
(4)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 326).
(5)
انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 204).
(6)
وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 201).
وفي "فروع العلامة ابن مفلح": لا بأس بلحم نِيءٍ، نقله مهنا، ولحم منتنٍ، نقله أبو الحارث.
وذكر جماعة فيهما: يكره، وجعله في "الانتصار" في الثانية اتفاقًا (1).
واستدل على جواز أكل اللحم المنتن مع الكراهة بحديت جابر في "الصحيحين"، وغيرهما في جيش الخبط، وقصة العنبر، وأكلهم من لحمه نصف شهر، وتزوُّدهم منه، وأنهم لما قدموا المدينة، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"هو رزقٌ أخرجَهُ الله لكم، فهل معكم من لحمه شيءٌ فتطعمونا؟ "، فأكل منه صلى الله عليه وسلم، وإن الجيش كان ثلاث مئة رجل (2). وفي رواية: أنهم أكلوا منه ثمان عشرة ليلة (3). واللحمُ لا يبقى غالبًا بلا نتن هذه المدة، لاسيما في الحجاز مع شدة الحر.
لكن قال في "الفتح": يحتمل أن يكونوا مَلحوه، وقَدَّدوه، فلم يدخلْه النتن.
نعم، إن خيف من المنتن الضرر، حرم، كما ذكره النووي (4).
وحمل المالكية النهيَ عن أكل اللحم المنتن على التحريم مطلقًا (5)، والله تعالى الموفق.
الثالث: الصيد مباحٌ لقاصده، ويكره لهوًا، وإن كان فيه ظلم الناس بالاعتداء على زروعهم وأموالهم، فحرام (6).
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 273).
(2)
رواه مسلم (1935)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر.
(3)
رواه البخاري (4102)، كتاب: المغازي، باب: غزوة سيف البحر.
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 81).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 619).
(6)
انطر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 323).
قال في "الفتح": يباح الاصطياد والانتفاع بالصيد للأكل والبيع، قال: وكذا اللهو بشرط قصد التذكية والانتفاع.
وكرهه مالك، وخالفه الجمهور، وقال الليث: لا أعلم حقًا أشبه بباطل منه.
ولو لم يقصد الانتفاع به، حَرُم؛ لأنه من الفساد بالأرض بإتلاف نفسٍ عبثًا.
كذا قال في "الفتح"، ثم قال: وينقدح أن يقال: يباح، فإنْ لازمَهُ، وأكثرَ منه، كُره؛ لأنه قد يشغله عن بعض الواجبات، وكثيرٍ من المندوبات، وقد أخرج الترمذيّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، رفعه:"من سكن الباديةَ، جفا، ومن اتبع الصيدَ، غفل"(1)، وله شاهد عن أبي هريرة عند الترمذيّ أيضًا (2)، وآخر عند الدارقطني في "الأفراد" من حديث البراء بن عازب، وقال: تفرد به شريك (3)، والله تعالى الموفق.
(1) رواه الترمذي (2256)، كتاب: الفتن، باب:(69). وكذا أبو داود (2859)، كتاب: الصيد، باب: في اتباع الصيد، والنسائي (4309)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: اتباع الصيد.
(2)
قلت: أشار الترمذي إلى حديث أبي هريرة عقب حديث ابن عباس، ولم يخرجه، والله أعلم. وقد رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 371)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
ورواه الروياني في "مسنده"(383). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 602).