المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الأول عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٦

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب القصاص

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌كتاب الحدود

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب حد السرقة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب حد الخمر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌كتاب الأيمان والنذور

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب النذر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب القضاء

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب الصيد

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

الفصل: ‌ ‌الحديث الأول عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ

‌الحديث الأول

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بإصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيهِ-: "إِنَّ الحَلَالَ بيَّنٌ، وَإِنَّ الحَرَامَ بيَّن، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَع فِيهِ، أَلَا وَإِن لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلْبُ"(1).

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (52)، كتاب: الإيمان،‌

‌ باب:

فضل من استبرأ لدينه، و (1946)، كتاب: البيوع، باب: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات، ومسلم (1599)، كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، واللفظ له، وأبو داود (3329 - 3330)، كتاب: البيوع، باب: في اجتناب الشبهات، والنسائي (4453)، كتاب: البيوع، باب: اجتناب الشبهات في الكسب، والترمذي (1205)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في ترك الشبهات، وابن ماجه (3984)، كتاب: الفتن، باب: الوقوف عند الشبهات.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 198)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 284)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 488)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 27)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 182)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1581)، و"جامع العلوم والحكم" =

ص: 499

(عن) أبي عبد الله (النعمانِ بنِ بشير -رضي الله عن هـ) ـما-، (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وأهوى النعمان) بن بشير (بإصبعيه) السبابتين؛ أي: مدهما مشيرًا بهما (إلى أذنيه-): أنه سمعه صلى الله عليه وسلم بأذنيه هاتين يقول.

قال الحافظ ابن رجب: وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وجابر، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم.

قال: وحديث النعمان أصحّ أحاديث هذا الباب (1).

(إن الحلال) المحض (بَيَّنٌ)، لا اشتباه فيه ولا خفاء، (وإن الحرام) المحض (بَيَّنٌ) واضح، لا اشتباه فيه، (و) لكن (بينهما)؛ أي: الحلال المحض والحرام المحض أمورٌ (مشتبهاتٌ) بوزن مفتَعِلات -بتاء مفتوحة وعين مكسورة-؛ أي: اكتسبت الشبهةَ من وجهين متعارضين، وفي رواية:"مُشَبَّهات"(2) بوزن مفعَّلات -بتشديد العين المهملة المفتوحة-؛ أي: شبهت بغيرها مما لا يتبين به حكمها على التعيين. وفي أخرى: "متشابهات"(3)؛ أي: ليست بواضحة الحِلِّ والحُرمة؛ لتعارض الأدلة، واختلاف العلماء (4)، (لا يعلمهنَّ)؛ أي: المشتبهات (كثيرٌ من الناس)،

= لابن رجب (ص: 66)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 126)، و"عمدة القاري" للعيني (1/ 295)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (1/ 142)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 171)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 320).

(1)

انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 67).

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (52).

(3)

رواه أبو عوانة في "مسنده"(3/ 398)، وهي رواية للأصيلي، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح"(1/ 127).

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 127).

ص: 500

وإنما يعلمها العلماء بنص، أو قياس، أو غيرهما من الأدلة، وهم بالنسبة لمن لا يعلمها قليل، فأكثرُ الناس أو كثير منهم تشتبه عليه، هل هي من الحلال، أم من الحرام؟ وأما الراسخون في العلم، فلا يشتبه عليهم ذلك، ويعلمون بالأدلة من أيِّ القسمين هي.

والحاصل: أنه عليه الصلاة والسلام قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الحلال المحض، مثل: أكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان والصوف والشعر، وكالنكاح والتسري، وغير ذلك، إذا كان اكتسابه بعقد صحيح؛ كالبيع، أو بميراث، أو هبة، أو غنيمة.

الثاني: الحرام المحض؛ كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وشرب الخمر، ونكاح المحارم، ولباس الحرير للرجال، ومثل الأكساب المحرمة؛ كالربا والميسر، وثمن ما لا يحل، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب، ونحو ذلك.

الثالث: المُشْتَبه؛ كأكل ما اختُلف في حله وتحريمه، إما من الأعيان؛ كالخيل والبغال والحمير والضب، وشرب ما اختُلف في تحريمه من الأنبذة التي لا يُسكر قليلها، ولُبسِ ما اختُلف في لبسه من جلود السباع ونحوها، وكذا ما استُفيد من المكاسب المختلَف في تحريمها؛ كمسألتي العينة والتورق، ونحو ذلك.

وبنحو هذا المعنى فسر المشتبهات سيدُنا الإمام أحمد، وإسحاقُ بن راهويه، وغيرُهما من الأئمة (1).

(1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 67).

ص: 501

وحاصل الأمر: أن الله تعالى أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم الكتاب، وبين فيه للأمة ما يحتاج إليه من حلال وحرام، كما قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].

قال مجاهد وغيره: لكل شيء أُمروا به، أو نُهوا عنه (1).

وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على بيضاءَ نقيةٍ ليلُها كنهارها لا يَزيغُ عنها إلا هالِكٌ"(2).

وقال عمُّه العباس رضي الله عنه لما شكَّ الناسُ في موته صلى الله عليه وسلم: واللهِ ما مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى تركَ السبيل نهجًا واضحًا، وأحلَّ الحلالَ، وحَرَّمَ الحرام، ونكح وطلَّق، وحاربَ وسالم، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوسَ الجبال يخبط عليها العضاه بخبطه، ويمدرُ حوضها بيده بأنصبَ ولا أدأبَ من رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان فيكم (3).

وفي الجملة: فما ترك اللهُ ورسوله حلالًا إلا مُبَيَّنًا، ولا حرامًا إلا مبينًا، لكن بيان بعضه أظهرُ وأوضحُ من بعض.

فما ظهر بيانُه واشتهر، وعُلم من الدين بالضرورة من ذلك، لم يبق فيه شك، ولا يُعذر أحدٌ بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام.

وما كان بيانه دون ذلك، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة قاطبة،

(1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(5/ 1424).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 126)، وابن ماجه (43) في مقدمة "سننه"، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.

(3)

رواه الدارمي في "سننه"(83).

ص: 502

فأجمع العلماء على حله أو حرمته، وقد يخفى على بعض مَنْ ليس منهم.

ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة، فاختلفوا في تحليله وتحريمه، وذلك لأسباب:

منها: كون النص عليه خفيًا لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميعَ حملة العلم.

ومنها: أنه قد يُنقل فيه نصان، أحدُهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ كلَّ طائفة أحدُ النصين دون الآخر، فتمسَّكَ كلُّ طائفة بما بلغها، أو يبلغ النصان معًا من لا يبلغه التاريخ، فيقف؛ لعدم معرفته بالناسخ.

ومنها: ما ليس فيه نصٌّ صريح، وإنما يؤخذ من عموم، أو مفهوم، أو قياس، فتختلف أفهامُ العلماء في هذا كثيرًا.

ومنها: ما يكون فيه أمر أو نهي، فتختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب، أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم، أو التنزيه (1).

وأسباب الاختلاف كثيرة جدًا، وقد ذكر جميعها أو مجموعها شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في كتابه:"رفع الملام عن أئمة الإسلام".

قال الحافظ ابن رجب: ولابدّ من عالم في الأمة يوافقُ قولُه الحقَّ، فيكونُ هو العالمَ بهذا الحكم، وغيرُه يكون الأمر مشتبهًا عليه، فلا يكون عالمًا بهذا؛ فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يظهر أهلُ باطلها على أهل حقها، فلا يكون الحق مهجورًا غيرَ معمول به في جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قال عليه السلام في الشبهات: "لا يعلمهنَّ كثيرٌ من

(1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 67 - 69).

ص: 503

الناس"، فدل على أن من الناس مَنْ يعلمُها، وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها، وليست مشتبهة في نفس الأمر، فدخل فيمن لم يعلمها نوعان:

أحدهما: من يتوقف فيها؛ لاشتباهها عليه.

الثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه.

ودل على أن غير هؤلاء يعلمها، والمراد: أنه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر؛ من تحليل أو تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله عز وجل في مسائل الاجتهاد المختلف فيها بين الحِلِّ والحُرْمَة واحدٌ، وغيره ليس بعالم بها؛ بمعنى: أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر، وإن كان يعتقد باستناده فيها إلى شُبَهٍ يظنها دليلًا، ويكون مأجورًا على اجتهاده، أو مغفورًا له خطؤه لعدم اعتماده.

ثم إنه صلى الله عليه وسلم قسم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين؛ وقدَّمَ القسمَ الأول لشرفه، فقال (فمن)؛ أي: أي شخص ممن اشتبهت عليه، وهو مَنْ لا يعلمها، بخلاف العالمِ بها، المتتبعِ ما دلَّه علمُه عليها؛ فإنه على هُدًى واستبصار، فهذا ليس ممن الكلام فيه (1) (اتقى الشبهات)؛ أي: حَذر منها، وهي -بالضم- جمع شبهة؛ أي: من اجتنبها فقد (استبرأ) -بالهمز- بوزن استفعل من البراءة؛ أي: طلب البراءة (لدينه) من الذم والنقص (و) صيانة (عرضه) من الشَّين وكلام الناس، والعِرْض -بكسر العين المهملة وسكون الراء فضاد معجمة-: موضع المدح والذم من الإنسان؛ أي: ما يحصل له بذكره الجميل مدح، وبذكره القبيح قدح، وقد يكون ذلك تارة في نفس الإنسان، وتارة في سلفه، أو في أهله ومن يلزمُه أمرُه.

(1) المرجع السابق، (ص: 69 - 71).

ص: 504

وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن يُنتقص أو يُثلب.

وقال ابن قتيبة: عرض الرجل: نفسه وبدنه، لا غير.

قال في "النهاية": ومنه الحديث: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"؛ أي: احتاط لنفسه، ولا يجوز فيه معنى الآباء والأسلاف، ومنه حديث أبي ضمضم:"اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك"(1)؛ أي: تصدقت على من ذكرني بما يرجع إلي عيبه.

قال: ومنه شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه:

[من الوافر]

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي

لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ (2)

فهذا خاص بالنفس، ومنه حديث:"أقرضْ مِنْ عِرْضِكَ ليوِم عَرْضِكَ"(3)؛ أي: مَنْ عابَكَ وذَمَّك، فلا تجازِهِ، واجعلْه قرضًا في ذمته؛ لتستوفيه منه يوم عَرْضِك على مولاك، واحتياجك إلى جدواك (4).

والحاصل: أنه يُراد به: المعنيان، والله الموفق.

فمن اتقى الأمور المشتبهة، واجتنبها، فقد حَصَّنَ عرضَه من القدح والشَّين الداخلِ على من لم يجتنبْها.

وفيه: دليل على أن من ارتكب الشبهات، فقد عَرَّضَ نفسَه للقدح

(1) رواه أبو داود (4886)، كتاب: الأدب، باب: من ليست له غيبة.

(2)

انظر: "ديوانه"(1/ 18)، (ق 1/ 27).

(3)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(7575)، وفي "مسند الشاميين"(1371)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. وجاء موقوفًا عن أبي الدرداء رضي الله عنه: رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34596).

(4)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 209).

ص: 505

والطعن فيه؛ كما قال بعض السلف: من عرض نفسه للتهم، فلا يلومن من أساء به الظن.

وفي رواية للترمذي في هذا الحديث: "من تركها استبراءً لدينه وعرضه، فقد سلم"(1)، والمعنى: أنه تركها بهذا القصد، وهو براءة دينه وعرضه من النقص، لا لغرضٍ آخرَ فاسدٍ من رياءٍ ونحوه.

وفيه: دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح؛ كطلب البراءة للدين، ولهذا ورد: أن ما وقى به المرءُ عرضَه، فهو صَدَقَة.

وفي رواية في "الصحيحين" في هذا الحديث: "فمن تركَ ما يشتبه عليه من الإثم، كان لِما استبانَ أتركَ"(2)؛ يعني: أنّ من ترك الإثم مع اشتباهه عليه، وعدمِ تحقُّقه، فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم، وهذا إذا كان تركه تحرُّزًا من الإثم، فأما من يقصد التصنُّعَ للناس، فإنه لا يترك إلا ما يظن أنه ممدوح عندهم (3).

القسم الثاني: ما أشار إليه بقوله: (ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام) مع كونها مشتبهة عنده، فأما من أتى شيئًا مما يظنه الناس شبهة؛ لعلمه بحله في نفس الأمر، فلا حرج عليه من الله في ذلك.

لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك، كان تركُها حينئذٍ استبراءً لعرضه، فيكون حسنًا، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم لمن رآه واقفًا مع صفية:"إنها صفيةُ بنتُ حُيَيّ"(4).

(1) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1205).

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1946).

(3)

انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 72).

(4)

رواه البخاري (3107)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، ومسلم (2175)، كتاب: السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رئي خاليًا بامرأة، من =

ص: 506

وخرج أنس إلى الجمعة، فرأى الناس قد صلَّوا ورجعوا، فاستحيا، ودخل موضعًا لا يراه الناس فيه، وقال: من لا يستحي من الناس، لا يستحي من الله.

وخرّجه الطبراني مرفوعًا (1)، ولا يصح رفعُه.

وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال، إما باجتهاد سائغ، أو تقليد سائغ، وكان مخطئًا في اعتقاده، فلا حرج عليه.

فإن كان الاجتهاد ضعيفًا، والتقليد غيرَ سائغ، وإنما حمل عليه مجردُ اتباع الهوى، فحكمُه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن الذي يأتي الشبهات: أنه قد وقع في الحرام. وهذا -يعني: كونَ مرتكب الشبهة قد وقع في الحرام- يفسر بمعنيين:

أحدهما: أن ارتكابه الشبهةَ مع اعتقاده أنَّها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقده أنه حرام بالتدريج والتسامح.

وفي رواية في "الصحيحين" لهذا الحديث: "ومن اجترأَ على ما يشكُّ فيه من الإثم، أَوْشَكَ أن يواقعَ ما استبانَ"(2).

وفي رواية: "ومن يخالطِ الريبةَ، يوشكْ أن يَجْسُر"(3)؛ أي: يقرب أن يقدم على الحرام المحض، والجَسُور: المقدامُ الذي لا يهاب شيئًا، ولا يراقب أحدًا (4).

= حديث صفية بنت حيي رضي الله عنها.

(1)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7159).

(2)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1946).

(3)

تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3329)، وعند النسائي برقم (4453).

(4)

انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 72 - 73).

ص: 507

ثم ضرب صلى الله عليه وسلم مثلًا، فقال:(كالراعي يرعى) ماشيته ودوابه (حول)؛ أي: جوانب (الحمى) وقربه الذي يحميه الملوك، ويمنعون غيرَهم من قربانه.

وقد جعل صلى الله عليه وسلم حول مدينته اثني عشر ميلًا حمًى محرَّمًا، لا يُقطع شجرُه، ولا يُصاد صيدُه، وحمى عمرُ، وعثمان رضي الله عنهما أماكنَ ينبت فيها الكلأ لأجل إبل الصَّدقة، والله سبحانه وتعالى حمى هذه المحرمات، ومنع عباده من قُربانها، وسماها: حدودَه، فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].

وهذا فيه بيان أنه حَدَّ لهم ما أحل لهم وما حرم عليهم، فلا يقربوا الحرام، ولا يتعدوا الحلال، وكذا قال في الآية الأخرى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1)[البقرة: 229](يوشك)؛ أي: يقرب ويسرع (أن يرتع فيه)؛ أي: هو جدير بأن يدخل الحمى، ويرتع فيه.

وفي بعض الروايات: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وسأضرب لك مثلًا"(2)، ثم ذكر هذا الكلام، فمن تعدى الحلال، ووقع في الشبهات، فإنه قد قارب الحرامَ غايةَ المقاربة، فما أخلقَه وأجدرَه بمواقعة الحرام المحض.

وفي ذلك تنبيه: إلى أنه ينبغي التباعدُ عن المحرمات، وأن يجعل الإنسانُ بينه وبينها حاجزًا.

وقد أخرج الترمذي، وابن ماجه من حديث عبد الله بن يزيد -رضي الله

(1) المرجع السابق، (ص 73).

(2)

تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3329)، والنسائي برقم (4453)، وعندهما:"وسأضرب لكم في ذلك مثلًا".

ص: 508

عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يبلغ العبدُ أن يكون من المتقين حتى يدعَ ما لا بأسَ به حذرًا مِمَّا به بأسٌ"(1).

وقال أبو الدرداء: تمامُ التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يتركَ بعضَ ما يَرى أنه حلال خَشية أن يكون حرامًا؛ حجابًا بينه وبين الحرام (2).

وقال الحسن: مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام (3).

وقال الثوري: إنما سُمُّوا المتقين؛ لأنهم اتقوا ما لا يُتقى (4).

وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: إني لا أُحبُّ أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها.

وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب حقيقةَ الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال، وحتى يدع الإثمَ وما تشابهَ منه (5).

واستدل بهذا الحديث مَنْ يذهب إلى سدِّ الذرائع إلى المحرمات، وتحريمِ الوسائل إليها (6).

(1) رواه الترمذي (2451)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب:(19)، وابن ماجه (4215)، كتاب: الزهد، باب: الورع والتقوى، والحاكم في "المستدرك"(7899)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 335)، لكن من حديث عطية السعدي رضي الله عنه.

(2)

رواه ابن المبارك في "الزهد"(ص: 19)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 212)، وغيرهما.

(3)

عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(1/ 61) لابن أبي الدنيا.

(4)

ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 284)، عن سفيان بن عيينة.

(5)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 288).

(6)

انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 73 - 74).

ص: 509

(ألا وإنّ لكل ملك) من ملوك الدُّنيا من العرب وغيرهم (حِمًى) يحميه عن الناس، ويمنعهم من دخوله، فمن دخله، أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه، لا يقارب ذلك الحمى؛ خوفًا من الوقوع فيه (ألا وإن حمى الله) سبحانه وتعالى (محارمُه)؛ أي: المعاصي التي حرّمها؛ كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر وأشباهها، فكلُّها حمى الله، من دخل شيئًا منها بارتكابه المعاصي، استحق العقوبة، ومن قارب شيئًا منها، يوشك أن يقع فيه، فمن احتاط لنفسه، لم يقاربها، فلا يتعلق بشيء يقربه من المعاصي، ولا يدخل في شيء من الشبهات (1).

(ألا وإن في الجسد مضغة) هي القطعة من اللحم، سميت بذلك؛ لأنها تُمْضَغ في الفم؛ لصغرها، قالوا: والمراد: تصغيرُ القلب بالنسبة إلى سائر الجسد (2)(إذا صلَحت) تلك المضغة، (صلَح الجسدُ كلُّه)، (وإذا فسَدَتْ) تلك المضغة، (فسدَ الجسدُ كلُّه).

قال أهل اللغة: يقال: صلَح وفسَد -بفتح اللام والسين وضمهما- والفتح أفصح وأشهر (3)، (ألا وهي)؛ أي: تلك المضغة التي يصلح الجسد كله بصلاحها، ويفسد سائره بفسادها (القلبُ)، وهو الشكل الصَّنَوْبَرِيُّ في الجوف، أدقُّه إلى أسفل، وأغلُظه إلى فوق، وسُمِّي القلبَ؛ لتقلُّبه في الأمور، أو لأنه أخلص ما في البدن، وخالصُ كلِّ شيء فيه، أو لأنه وُضع في الجسد مقلوبًا، فصلاح حركات العبد بجوارحِه واجتنابه المحرمات، واتقائه الشبهات بحسب صلاح قلبه، فإن كان قلبه سليمًا، ليس فيه إلا

(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 28).

(2)

المرجع السابق، (11/ 29).

(3)

المرجع السابق، الموضع نفسه.

ص: 510

محبة الله، ومحبةُ ما يحبه، وخشيةُ الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه، صَلَحت حركات الجوارح كلِّها، ونشأ عن ذلك اجتنابُ المحرمات كلِّها، وتوقّي الشبهاتِ حذرًا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباعُ هواه، وطلبُ ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركاتُ الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والشبهات بحسب هوى القلب، ولهذا يقال: القلبُ ملك الأعضاء، وبقيةُ الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون، منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الملِكُ صالحًا، كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسدًا، كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلبُ السليم كما قال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]، وكان من دعائه عليه السلام:"أسألك قلبًا سليمًا"(1)، فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهاتِ كلِّها، وهو الذي ليس فيه سوى محبةِ الله، وما يحبُّه الله، وخشيةُ الله، وخشيةُ ما يباعد منه، والله الموفق (2).

(1) رواه النسائي (1304)، كتاب: السهو، باب: نوع آخر من الدعاء، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 123).

(2)

وانظر: "غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب" للشارح رحمه الله (1/ 32) وما بعدها، حيث ذكر هناك ما قاله هنا عن القلب، والله الموفق.

ص: 511