الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع والعشرون
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ عَنْ سَالِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ فَقَالَ: هَكَذَا بِيَدِهِ، فَحَرَّفَهَا، كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقَتْلَ.
قوله: "يقبض العلم" بضم أوله، مبنيٌ للمجهول، وهو يفسر المراد بقوله، قبل هذا "يرفع العلم" والقبض يفسره حديث عبد الله بن عمرو الآتي في باب "كيف يقبض العلم، إنه يقع بموت العلماء" ويأتي استيفاء الكلام عليه، ان شاء الله تعالى، هناك.
وقوله: "ويظهر الجهل بالبناء للمعلوم، وذكر هذه لزيادة التأكيد والإيضاح، وإلا فظهور الجهل من لازم قبض العلم، وقوله: "والفتنُ" هو بالرفع، عطف على الجهل، وللأصيليّ وابن عساكر "وتظهر الفتن" بإسقاط "الجهل" وقوله: "ويكثر الهَرْج" بفتح الهاء وسكون الراء آخرُه جيم، وأصله في اللغة العربية الاختلاط، يقال: هَرَج الناس، اختلفوا واختلفوا، وهرَج القوم في الحديث، إذا كثّروا وخلّطوا. وقد جاء في حديث أبي هريرة عند المؤلف في كتاب الفتن تفسيره بالقتل مرفوعًا، ولا يعارض ذلك ما جاء من وقفه على أبي موسى حيث قال: والهرْجُ بلسان الحبش: القَتْل، ولا ما في هذه الرواية من قوله: "فقال هكذا بيده، فحرفها، كانه يريد القتل" لأنه يجمع بينها بأنه جمع بين الإشارة والقول، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ بعض.
وأخطأ من قال نسبة تفسير الهَرْج بالقتل للسان الحبشة، وهم من بعض الرواة، وإلا فهي عربية صحيحة، ووجه الخطأ أنها لا تستعمل في اللغة
العربية بمعنى القتل إلا على طريق المجاز، لكون الاختلاط مع الاختلاف يفضي كثيرا إلى القتل، وكثيرا ما يسمى الشيء باسم ما يُؤول إليه، واستعمالها في القتل بطريق الحقيقة هو بلسان الحبش، وكيف يُدعى على مثل أبي موسى الأشعري الوهم في تصير لفظة لغوية؟ بل الصواب معه، واستعمال العرب الهرج بمعنى القتل لا يمنع كونها لغة الحبشة، وإن ورد استعمالها في الاختلاط والاختلاف، كحديث مَعْقِل بن يسار، رفعه "العبادة في الهَرْج كهجرة إليّ" أخرجه مسلم.
وذكر صاحب "المحكم" للهرج معاني أُخرى، ومجموعها تسعة: شدة القتل وكثرة القتل، والاختلاط، والفتنة في آخر الزمان، وكثرة النكاح، وكثرة الكذب، وكثرة النوم، وما يرى في النوم غير مُنْضبط، وعدم الإتقان للشيء. وقال الجوهري: أصل الهَرْج الكثرة في الشيء، يعني حتى لا يتميز. وقد جاء في تفسير أيام الهرج، فيما أخرجه أحمد والطَّبرانيّ بسند حسن من حديث خالد بن الوليد، أن رجلًا قال له: يا أبا سليمان، اتَّق الله، فإن الفتن قد ظهرت، فقال، أما وابن الخطاب حي فلا، إنما تكونَ بعده، فينظر الرجل فيفكر، هل يجد مكانًا لم ينزل به ما نزل بمكانه الذي هو فيه من الفتنة والشر، فلا يجد، فتلك الأيام التي ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بين يدي الساعة أيام الهَرْج، قلت: هذا الحديث نص في زماننا هذا، وفي قوله:"فقال هكذا بيده" إطلاق القول على الفعلِ، والفاء في قوله "فحرفها" تفسيريّة، كأن الراوي بيّن أن الإيماء كان محرفاً، وقوله:"كأنه يريد القتل" فهمه الراوي من تحريف يده الكريمة، وحركتها كالضارب.
وهذا الحديث أخرجه المؤلف في الفتن عن أبي هريرة، وزاد فيه "يتقارب الزمان ويُلْقى الشُّح" وفيه "وينقص العلم" بدل "ويقبض" وأخرجه الطَّبرانِيّ في الأوسط عن أبي هريرة، بزيادة، ولفظه مرفوعًا "لا تقوم الساعة حتى يظهرَ الفُحْشُ والبُخْل، ويخوَن الأمينُ، ويؤتمنَ الخائن، وتهلك
الوُعُول، وتظهر التحوت" قالوا: يا رسول الله، وما التحوت والوعول؟ قال:"الوعول وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس، ليس يعلم بهم" وفي رواية عن ابن مسعود، قلنا: وما التحوت؟ قال: "فُسُوله الرجال، وأهل البيوت الغامضة" قلنا: وما الوعول؟ قال: أهل البيوت الصالحة.
قال ابن بَطَّال: معنى "تقارب الزمان" تقارب أحوال أهله في قلة الدين، حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، لغلبة الفسق، وظهور اهله. وقد جاء فى الحديث "لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما تفاضلوا، فإذا تساووا هلكوا" يعني لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف من الله، يُلْجا إليهم عند الشدائد، ويستشفى بآرائهم، ويُتبَرَّك بدعائهم، ويؤخذ بتقويمهم وآثارهم. قال الطَّحاويّ: قد يكون معنا. في ترك طلب العلم خاصة والرضى بالجهل، وذلك لأن الناس لا يتساوون في العلم؛ لأن دَرَج العلم تتفاوت قال تعالى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] وإنما يتساوون إذا كانوا جُهّالًا، وكأنه يريد غلبة الجهل، وكثرته بحيث يفقد العلم بفقد العلماء. قال ابن بَطَّال: وجميع ما تضمنه هذا الحديث من الأشراط قد رأيناها عَيانًا، فقد قبض العلم، وظهر الجهل وألقي الشحُّ في القلوب، وعمت الفتن، وكثر القتل.
قال في "الفتح": الذي يظهر أن الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله، والمراد من الحديث استحكام ذلك حتى لا يبقى مما يقابله إلا النادر، وإليه الإشارة بالتعبير بقبض العلم، فلا يبقى إلا الجهل الصرف، ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم، لانهم يكونون حينئذٍ، مغمورين في أولئك، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجة، بسند قوي عن حذيفة، قال:"يَدْرسُ الإِسلام كما يدرس وشيُ الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويسري على الكتاب في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية" الحديث.
وعند الطَّبرانيّ عن ابن مسعود قال: "ولَيُنْزَعَنَّ القرآن من بين أظهركم، يُسرى عليه ليلًا فيذهب من أجواف الرجال، فلا يبقى في الأرض منه شيء". وسنده صحيح، لكنه موقوف. قلت: هذا لا يقال من قبل الرأي، فله حكم المرفوع، وقد مر عند حديث "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" بيان ما يعارض ذلك، والجمع بين الأحاديث، فراجعه.
قال في "الفتح": والواقع أن الصفات المذكورة وجدت مباديها من عهد الصحابة، ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض، والذي يَعْقُبُه قيام الساعة استحكامُ ذلك كما قرر، وقد مضى من الوقت الذي. قال فيه ابن بَطَّال ما قال، نحوُ ثلاث مئة وخمسين سنة، والصفات المذكورة في ازدياد في جميع البلاد، لكن يقل بعضها في بعض، ويكثر بعضها في بعض، وكلما مضت طبقة ظهر النقص الكثير في التي تليها، وإلى ذلك الإشارة بقوله:"لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرُّ منه" المُخَرَّج عند المصنف في الفتن. ثم نقل ابن بطّال عن الخَطَّابيّ في معنى "تقارب الزمان" المذكور في الحديث الآخر الذي أخرجه التَرمِذِيّ عن أنس وأحمد عن أبي هُرَيْرة مرفوعًا "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمانُ فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السَّعَفَة" قال الخطابيّ: هو من استلذاذ العيش، يريد أنه يقع عند خروج المَهْدِيَّ ووقوع الأمنة في الأرض، وغلبة العدل فيها، فيستلذ العيش عند ذلك، وتستقصر مدته، ومازال الناس يستقصرون مدة أيام الرخاء وإن طالت، ويستطيلون مدة المكروه، وان قصرت. وتُعُقبَ بأنه لا يناسب أخواته من ظهور الفتن، وكثرة الهرْج وغيرهما. قال في "الفتح": وإنما احتاج الخَطّابي إلى تأويله بما ذكر؛ لأنه لم يقع النقص في زمانه، وإلا فالذي تضمنه الحديث قد وجد في زماننا هذا، فإنا نجد من سرعة مر الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا، وإن لم يكن هناك عيش مستلذ، والحق أن المراد نزع البركة من كل شيء، حتى من الزمان. وذلك من علامات قرب الساعة.
وقال بعضهم: معنى تقارب الزمان استواء الليل والنهار، وهذا مما قالوه في قوله:"إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب" وقال النوويّ تبعًا لعياض: المراد بقصره عدم البركة فيه وأن اليوم، مثلًا يصير الانتفاع به بقدر الانتفاع بالساعة الواحدة. قالوا: وهذا أظهر وأكثر فائدة، وأوفق لبقية الأحاديث، وقيل في تفسير "يتقارب الزمان" قصر الأعمار بالنسبة إلى كل طبقة، فالطبقة الأخيرة أقصر أعمارًا من التي قبلها، وقيل تقارب أحوالهم في الشر والفساد والجهل، وهذا اختيار الطَّحاويّ، والذي جنح إليه لا يناسب ما ذكر معه إلا أن يقال: إن الواو لا ترتب، فيكون ظهور الفتن أولًا، ينشأ عنها الهَرْج، ثم يخرج المَهْديُّ، فيحصل الأمن.
قال ابن أبي جَمْرة: يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان قصره، علي ما وقع في حديث "لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر" المار قريبًا. قال: وعلى هذا فالقِصَر يحتمل أن يكون حِسَّيًا، ويحتمل أن يكون معنويًا. أما الحسَّي فله يظهر بعد، ولعله من الأمور التي تكون قرب قيام الساعة، وأما المعنوي فله مدة ظهر، يعرف ذلك أهل العلم الدينيّ، ومن له فطنة من أهل السبب الدنيويّ فإنهم يجدون أنفسهم لا يقدر أحدهم أن يبلغ من العمل قدر ما كانوا يعملونه قبل ذلك، ويشكون ذلك ولا يدرون العلة فيه، ولعل ذلك بسبب ما وقع من ضعف الإيمان، لظهور الأُمور المخالفة للشرع من عدة أوجه، وأشد ذلك الأقوات، ففيها من الحرام المَحْض، ومن الشُّبه ما لا يخفى، حتى أن كثيرًا من الناس لا يتوقف في شيء، ومهما قدرعلى تحصيل شيء هجم عليه، ولا يبالي، والواقع أن البركه في الزمان وفي الرزق وفي النبت إنما تكون من قوة الإيمان واتباع الأمر واجتناب النهي والشاهد لذلك قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . [الأعراف: 96].
وقال البيضاويّ: يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان تسارع الدول إلى الانقضاء والقرون إلى الانقراض، فيتقارب زمانهم فتتدانى أيامهم،
وأما قوله: "ويلقى الشح" فالمراد إلقاؤه في قلوب الناس على اختلاف أحوالهم، ومنه {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] حتى يبخل العالم بعلمه، فيترك التعليم والفتوى، ويبخل الصانع بصناعته حتى يترك تعليم غيره، ويبخل الغني بماله حتى يهلك الفقير، وليس المراد وجود أصل الشح؛ لأنه لم يزل موجودًا، والمحفوظ في الروايات "يلُقّى" بضم أوله من الرباعي، ويحتمل أن يكون بفتح اللام وتشديد القاف، أي يتلقَّى ويتعلّم ويتواصى به، كما في قوله تعالى {وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80].
قال الحُميدي: ولو قيل بالفاء مع التخفيف، لم يستقم، لانه لم يزل موجودًا قال في "الفتح" لو ثبتت الرواية بالفاء لكان مستقيمًا، والمعنى أنه يوجد كثيرًا مستفيضًا عند كل أحد، وقال القُرْطُبيُّ يجوز أن يكون يلقى، بتخفيف اللام والقاف، أي يترك، لأجل كثرة المال، وإفاضته حتى يهُمُّ ذو المال مَنْ يقبل صدقته. قال ابن أبي جَمْرة: يحتمل أن يكون القاء الشح عامًا في الاشخاص، والمحذور من ذلك ما تترتب عليه مفسدة، والشحيح شرعًا هو من يمنع ما وجب عليه، وامساك ذلك ممحق للمال، مذهب لبركته، ويؤيده "ما نقص مالٌ من صدقة" فإن أهل المعرفة فهموا منه أن المال الذي يخرج منه الحق الشرعي لا تلحقه آفة ولا عاهة، بل يحصل له النماء، ومن ثمَّ سميت الزكاة؛ لأن المال ينمو بها، وتحصل فيه البركة، واختلف في المراد بقوله:"وينقص العلم"، فقيل: المراد نقص علم كل عالم بأن يطرأ عليه النسيان مثلًا، وقيل: نقص العلم بموت أهله، فكلما مات عالم في بلد ولم يخلفه غيره نقص العلم من تلك البلدة، وأما نقص العمل فيحتمل أن يكون بالنسبة لكل فَرْدٍ فإن العالم إذا دهمته الخطوب ألهته عن أوراده وعبادته ويحتمل أن يراد به ظهور الخيانة في الأمانات والصناعات.
قال ابن أبي جَمْرة: نقص العمل الحسين ينشأ عن نقص الدين