الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن إسحاق بن إبراهيم، وابن ماجة في الزهد عن محمد بن عبد الله بن نُمَير.
ثم قال المصنف:
باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام
هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم، لأن ما يغتبط تحتمل المشقة فيه، ولأن موسى عليه السلام، لم يمنعه بلوغه من السيادة المحلَّ الأعلى، من طلب العلم وركوب البر والبحر لأجله، وبهذا تظهر مناسبة هذا الباب لما قبله، وظاهر التبويب أن موسى ركب البحر لما توجه في طلب الخضر، والذي ثبت عند المصنف وغيره، أنه خرج في البر، وفي لفظ "فخرجا يمشيان". وفي لفظ لأحمد حتى "أتيا الصخرة" وإنما ركب البحر في السفينة هو والخضر بعد أن التقيا، فيُحمل قوله "إلى الخضر" على أن فيه حذفًا، أي إلى مقصد الخضر، لأن موسى لم يركب البحر لحاجة نفسه وإنما ركبه تبعًا للخضر، ويحتمل أن يكون التقدير "ذهاب موسى في ساحل البحر" فيكون فيه حذف، ويمكن أن يقال: مقصود الذهاب إنما حصل بتمام القصة، ومن تمامها أنه ركب معه في البحر، فأطلق على جميعها ذهابًا مجازًا، إما من إطلاق الكل على البعض، أو من تسمية السبب باسم المُسبِّب.
وحمله ابن المُنير على أن "إلى" بمعنى "مع" وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكون ثبت عند البخاريّ أن موسى توجه في البحر لما طلب الخضر، ولعله قَوِيَ عنده أحد الاحتمالين في قوله "فكان يتبع أثَرَ الحوت في البحر" فالظرف يحتمل أن يكون لموسى، ويحتمل أن يكون للحوت، ويؤيد الأول ما رواه عباد ابن حُميد عن أبي العالية "أن موسى التقى بالخضر في جزيرة من جزائر البحر" والتوصل إلى الجزيرة في البحر لا يقع إلا بسلوك البحر غالبًا، وعنده، أيضًا، من طريق الرَّبيع بن أنس، قال:"انجاب الماء عن مسلك الحوت، فصار طاقة مفتوحة، فدخلها موسى على أثر الحوت، حتى انتهى إلى الخضر" فهذا يوضح أنه ركب البحر إليه، وهذان الأثران الموقوفان رجالهما ثقات.
ثم قال: وقوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}
[الكهف: 66] أي: باب قوله تعالى. وقوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} [الكهف: 66] أي: على شرط أن تعلمني، وهو في موضع الحال من الكاف، وقوله:{مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] أي: علما ذا رشد وهو إصابة الخير. وفي رواية، وقوله تعالى:{عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} [الكهف: 66] الآية، فالآية بالنصب بتقدير "فذكر" على المفعولية، وذكر باقي الآية، كما هنا، ثابت في رواية الأصيلي، وقرأ يعقوب وأبو عمرو والحسن بفتح الراء والشين. في رَشَدًا، والباقون بضم الراء وسكون الشين، وهما لغتان: كالنَّجَل والنُّجل، وهو مفعول تعلمن، ومفعول عُلِّمت العائد محذوفٌ. وكلاهما منقول من "عَلِم" الذي له مفعول واحد ويجوز أن يكون له علة لـ"أتبعك"، أو مصدرًا، بإضمار فعله، ولا ينافي نُبوَّته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره، ما لم يكن شرطًا في أبواب الدين. فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أُرسل إليه فيما بُعث به من أصول الدين وفروعه، لا مطلقًا. وكأنه راعى في ذلك غاية الأدب والتواضع، فاستجهل نفسه، واستأذن أن يكون تابعًا له، وسال منه أن يرشده، وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه.
أما موسى، عليه الصلاة والسلام، فهو كليم الله تعالى، بنص الكتاب العزيز، أحد أولي العزم من الرسل، وهذا الاسم سمته به آسية بنت مُزاحم، امرأة فرعون، لما وجدوه في التابوت، وهو اسم اقتضاه حاله، لأن موسى مُعرَّب موشى، بالشين المعجمة، ومعناه الماء والشجر. فمو بلغة القبط الماء، وشى الشجر. فقيل: موسى. وسمي موسى بذلك، لأنه وجد بين الشجر والماء. وقيل: إنه عربي، وإن اشتقاقه من المَوْسِ وهو حلق الشعر، فالميم أصلية. وقيل: مشتق من أوسيتُ رأسه إذا حلقته بالموس، فعلى هذا الميم زائدة، وموسى عليه السلام، أبوه عِمران بن يَصْهَر بن فاهت بن لاوي ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام.
ولد وعمرُ عِمران سبعون سنة، وعمِّر عمران مئة وسبعًا وثلاثين سنة، وعُمِّر موسى عليه الصلاة والسلام، مئة وعشرين سنة، وقيل: مئة وستين
سنة، وكانت وفاته في التيه في سابع آذار لمضي ألف سنة وست مئة وعشرين سنة من الطوفان، في أيام "متوجهر" الملك. وكان عمره لما خرج ببني إسرائيل من مصر ثمانين سنة، وأقام بالتيه أربعين سنة، وأرسل عليه الصلاة والسلام إلى فرعون، ولم يكن في الفراعنة أعتى منه، ولا أطول منه عمرًا في الملك، عاش أربع مئة سنة، وذكر فضل موسى غير محتاج إليه لما في القرآن العزيز من التنويه بقدره. وذكر ما وقع له من المعجزات العظام الباهرة، فلا نطيل به الكلام.
وأما الخِضر، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو ككَتِف، وبفتح الخاء وكسرها، مع سكون الضاد. واختلف في سبب تلقيبه بهذا اللقب، واختلف في اسمه، واسم أبيه، واختلف فيه. هل هو نبي أو رسول أو ملك؟ وهل هو حي أو ميت؟.
أما سبب تلقيبه بذلك فهو ما جاء في "الصحيح""في كتاب الأنبياء" عليهم الصلاة والسلام، قال: إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء. والفَروة وجه الأرض، وقيل: النبات المجتمع اليابس، وقيل: سمي بذلك، لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله. قاله مجاهد. وقال الخطّابي: إنما سمي به لحسنه، وإشراق وجهه، وكنيته أبو العباس. وأما اسمه، فالصحيح أنه "بَلْيا" بفتح الباء الوحدة، وقيل: اسمه "إرْميا"، وقيل:"إلْيَسَع"، سمي بذلك لأن علمه وسع ست سموات، وست أرضين، وضعَّفَه ابن الجَوْزي، بأنَّ إليسع اسم أعجمي ليس بمشتق، وقيل: اسمه أحمد، وضعَّفَه ابن دحية، بأنه لم يسم أحد قبل نبينا، عليه الصلاة والسلام، بذلك. وقيل: عامر.
وأما أبوه فقيل: اسمه مَلْكان، بفتح الميم وسكون اللام، ابن فالِغ بن عابِر بن شالِخ بن أرْفَخْشَذ بن سام بن نوح. وقيل: ابن عَمَاييل بن الفتر بن العِيص بن إسحاق بن إبراهيم. وقيل: ابن حلقيا، وقيل: ابن قابيل بن آدم. ورُوي عن ابن عباس أنه قال: الخضر بن آدم لصلبه، ونُسىءَ له في أجله حتى يكذِّب الدَّجال. وقيل: إنه ولد عِيصوا بن إسحاق. وقيل: إنه
من سِبط هارون، وقيل: إنه من ولد فارس، وقيل: إنه ابن خالة ذي القرنين، وقيل: إنه ابن فرعون، صاحب موسى، ملك مصر، وهذا غريب جدًّا. وقيل: إنه ابن بنته.
وأما ولايته أو نبوءته، فجزم القُشَيريّ بأنه وليّ. وأغرب ما قيل فيه أنه ملك، والصحيح أنه نبيّ. وجزم به جماعة. وقال الثَّعلبيّ: هو على جميع الأقوال نبي مُعَمَّر محجوب عن الأبصار. وصححه ابن الجَوْزيّ، أيضًا في كتابه لقوله تعالى حكاية عنه {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] فدل على أنه نبي أُوحي إليه، ولأنه كان أعلم من موسى بعلم مخصوص، ولا يبعد أن يكون نبي أعلم من نبي، وإن كان يحتمل أن يكون أُوحي إلى نبي في ذلك العصر يأمر الخضر بذلك. ولأنه قدم على قتل ذلك الغلام، وما ذلك إلا للوحي إليه في ذلك، لأن الولي لا يجوز له الإِقدام على قتل النفس بمجرد ما يلقى في خلده، لأن خاطره ليس بواجب العصمة.
وكان بعض أكابر العلماء يقول: أول عقد يحل من الزندقة اعتقاد كون الخضر نبيًا، لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي، كما قال قائلهم:
مقامُ النبوءة في بَرْزَخ
…
فُوَيْق الرسول ودونَ الوليّ
وأما حياته، فالجمهور على أنه باق إلى يوم القيامة، واختلف في سبب تعميره، فقيل: إنه بسبب دعوة آدم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فقد رُوي أنه لما حضره أجَلُه، جمع بنيه، وقال لهم: إن الله تعالى منزل على أهل الأرض عذابًا، فليكن جسدي معكم في المغارة، حتى تدفنوني بالشام. فلما وقع الطوفان، قال نوح لبنيه: إن آدم دعا الله أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة، فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي تولىّ دفنه، وأنجز الله تعالى ما وعده، فهو يحيا إلى ما شاء الله. وقيل: لأنه شرب من عين الحياة، فقد قيل: إن لله عينًا تسمى "عين الحياة"، من شرب منها شرْبةً لم يمت أبدًا، حتى يكون هو الذي يسأل ربه الموت. وهذه
العين مذكورة في حديث طويل، مروي في شأن ذي القرنين، عن أبي جعفر عن أبيه، أنه سُئل عن ذي القرنين فقال:"كان عبدًا من عباد الله تعالى الخ .. " ذكره ابن حَجَر في "الإِصابة" بتمامه. وقال النَّوويّ في تهذيبه: الأكثرون من العلماء على أنه موجود حي بين أظهرنا. وذلك متفق عليه عند الصوفية، وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به والأخذ عنه، وسؤاله وجوابه، ووجوده في المواضع الشريفة، ومواطن الخير أكثر من أن تحصى. وأشهر من أن تذكر. وفي الإِصابة كثير من ذلك.
وقال ابن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، والعامة معهم في ذلك، وإنما شذ بإنكاره بعض المُحدِّثين. وفي صحيح مسلم، في حديث الدَّجَّال أنه يقتل رجُلًا ثم يحييه، قال إبراهيم بن سُفيان، راوي كتاب مسلم، يقال: إنه الخضر. وكذلك قال مُعمَّر في مسنده، وأنكر حياته جماعة منهم إبراهيم الحربيّ والإِمام البخاريّ وابن المناويّ وابن الجوزيّ وغيرهم. واستدلوا بحديث الصحيحين "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مئة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد"، واستدلوا أيضًا، بما أخرجه أحمد من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا أن يتبعُني". فإذا كان هذا في حق موسى، فكيف لم يتبعه الخضر؟ فلو كان حيًا صلى معه الجمعة والجماعة، وجاهد تحت رايته، كما ثبت أن عيسى يصلي خلف إمام هذه الأمة.
واستدلوا، أيضًا، بقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] الخ. قال ابن عباس: ما بعث الله نبيًا إلا أخَذ عليه الميثاق: إن بعث محمد وهو حي ليُؤمنن به، ولينصرنه. فلو كان الخضر موجودًا في عهده، عليه الصلاة والسلام، لجاءه ونصره بيده ولسانه، وقاتل تحت رايته، وكان من أعظم الأسباب في إِيمان أهل الكتاب، الذين يعرفون قصته مع موسى، عليهما الصلاة والسلام.
وأما أول وقته الذي كان فيه، فقد قال الطبريّ: إنه كان في أيام أفْريدُون، وقيل: كان مقدمة ذي القرنين الأكبر، الذي كان أيام إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام. وذو القرنين، عند قوم، هو أفْريدون، وذكر بعضهم أنه كان في زمن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام. وقيل: كان في زمن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وأنه المراد بقوله تعالى:{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40] وفي هذا القدر كفاية. ومن أراد أكثر من هذا من شأنه، فعليه بالجزء الأول من الإِصابة لابن حَجَر، فإنه أطال فيه جدًا، وذكرته هنا، هو وموسى، عليهما الصلاة والسلام، وإن كانا غير داخلين في الرجال، رجاء أن الله تعالى يمنُّ عليَّ وعلى الكتاب بالبركة والخيرات، وأن يجعلني وارث سمي الخضر، فإن الله سميع قريب، ولمن دعاه من عباده مجيب.