الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني والاربعون
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا".
قوله: "لا يقبض العلم انتزاعًا" أي: محوًا من الصدور، وكان تحديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، في حجة الوداع، كما رواه أحمد والطبراني والدارميّ عن أبي أُمامة. قال: لما كان في حجة الوداع، قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم:"خذوا العلم قبل أنْ يقبض أو يرفع" فقال أعرابيّ: "يا رسول الله: كيف يرفع العلم منا، وبين أظهرنا المصاحف، وقد تعلمنا ما فيها، وعلمناها أبناءنا ونساءنا، وخدمنا؟ فرفع إليه رأسه وهو مغضب فقال: وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يتعلقوا منها بحرف فيما جاءهم به أنبياؤهم، الا ان ذهاب العلم ذهاب حَمَلَته" ثلاث مرات. فبين عبد الله بن عمرو أن الذي ورد في قبض العلم ورفعه، إنما هو على الكيفية التي ذكرها، وقد فسر عمر قبض العلم بما وقع تفسيره به، وفي حديث عبد الله بن عمر، وذلك فيما أخرجه أحمد والبَّزار وابن عبد البر "أن عمر سمع أبا هريرة يحدث بحديث قبض العلم، فقال: إنَّ قبض العلم ليس شيئًا ينزع من صدور الرجال، ولكنّه فناء العلماء. وهذا يحتمل أن يكون عند عمر مرفوعًا، فيكون شاهدًا قويًا لحديث عبد الله ابن عمرو.
وقال ابن المنير. محو العلم من الصدور جائز في القدرة، إلَاّ أنّ هذا الحديث دل على عدم وقوعه. وأخرج الطبراني في "الأوسط" بسند ضعيف عن أبي سعيد بلفظ "يقبض اللهُ العلماء، ويقبض العلم معهم، فتنشأ أحداث، ينزو بعضهم على بعض نزو العير على العير، ويكون الشيخ فيهم مستضعفًا". وأخرج الدارمي عن أبي الدرداء قوله: "رفع العلم ذهاب العلماء" وعن حُذيفة "قبض العلم قبض العلماء" وعند أحمد عن ابن مسعود "هل تدرون ما ذهاب العلم؟ ذهابُ العلماء".
واستفيد من حديث أبي أمامة السابق أن بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء، لا يغني عمن ليس بعالم شيئًا. وقوله:"ولكن يُقبْض العلم بقبض العلماء" أي بقبض أرواحهم، وإنما عبر بالمظهر في قوله "يقبض العلم" موضع المضمر، لزيادة تعظيم المظهر، كما في قوله تعالى {الله الصمد} [الصمد: 2] بعد قوله {الله أحد} [الصمد: 1]. وقوله: "حتى إذا لم يبق" بضم المثناة التحتية، وكسر القاف من الإبقاء، وفيه ضمير يرجع إلى الله تعالى، أي حتى إذا لم يبق الله. وقوله:"عالمًا" بالنصب على المفعولية، وفي رواية غير الأصيليّ "يَبْقَ" بفتح حرف المضارعة، من البقاء الثلاثي. و"عالم" بالرفع على الفاعلية، ولمسلم حتى إذا لم يترك عالمًا وقوله:"اتخذ الناس رُؤساء" أي بضم الراء والهمزة، والتنوين، جمع رأس. ولأبي ذرٍ "رؤساء" بهمزة مفتوحة، وفي آخره همزة أخرى مفتوحة، جمع رئيس. وقوله:"جُهّالًا" بالضم والتشديد والنصب، صفة لسابقه، وقوله "فسُئلوا" بضم السين أي: سألهم الناس.
وقوله: "فضلوا" من الضلال، أي في أنفسهم وقوله:"وأضَلَّوا" من الاضلال أي أضلوا السائلين، فإن قيل الواقع بعد حتى هنا جملة شرطية فكيف وقعت غاية؟ أجيب بأن التقدير "ولكن يقبض العلم بموت العلماء إلى أن يتخذ الناس رؤساء جهالًا وقت انقراض أهل العلم" فالغاية في الحقيقة هي ما ينسبك من الجواب مرتبًا على فعل الشرط.
وفي الحديث الزجر عن ترئيس الجاهل لما يترتب عليه من المفسدة، وقد يتمسك به من لا يجوز تولية الجاهل بالحكم، ولو كان عاقلًا عفيفًا، لكن إذا دار الأمر بين العالم الفاسق والجاهل العفيف، فالجاهل العفيف، أولى لأن ورعه يمنعه عن الحكم بغير علم، فيحمله على البحث والسؤال.
واستدل به أيضًا على جواز خلو الزمان عن مجتهد، وهو قول الجمهور خلافًا لأكثر الحنابلة وبعض من غيرهم، لأنه صريح في رفع العلم بقبض العلماء، وفي ترئيس أهل الجهل ومن لازمه الحكم بالجهل، وإذا انتفى العلم وفي يحكم به استلزم انتفاء الاجتهاد والمجتهد وعورض بحديث "لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله" وقد مر في باب "من يرد الله به خيرًا يفقهْه في الدين" بجميع رواياته. وأجيب أولًا بأنه ظاهر في عدم الخلو، لا في نفي الجواز وثانيًا بأن الدليل للأول أظهر للتصريح بقبض العلم تارة، وبرفعه أخرى بخلاف الثاني، وعلى تقدير التعارض فيبقى أن الأصل عدم المانع.
قالوا الاجتهاد فرض كفاية، فيستلزم انتفاؤه الاتفاق على الباطل، وأجيب بأن بقاء فرض الكفاية مشروط ببقاء العلماء، فأما إذا قام الدليل على انقراض العلماء، فلا لأن بفقدهم تنتفي القدرة والتمكن من الاجتهاد، وإذا انتفى أن يكون مقدورًا لم يقع التكليف به، وقد مر في باب "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" في حديث معاوية، أن محل وجود ذلك عند فقد المسلمين بهبوب الريح، التي تهب بعد نزول عيسى عليه السلام، وموته، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا قبضته إلى آخر ما مر. فلا يرد حينئذ اتفاق المسلمين على ترك فرض الكفاية والعمل بالجهل، لعدم وجودهم، وهو المعبر عنه بقوله "حتى يأتي أمر الله".
ومر هناك ما جوزه الطبري من أنه يضمر في كل من الحديثين المحل الذي تكون فيه تلك الطائفة الخ، وما اعترض به عليه، ويمكن أن تنزل