الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ -أَوْ بِزِمَامِهِ- قَالَ:"أَىُّ يَوْمٍ هَذَا؟ ". فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ. قَالَ:"أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ". قُلْنَا بَلَى. قَالَ: "فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا؟ ". فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ: "أَلَيْسَ بِذِى الْحِجَّةِ؟ ". قُلْنَا بَلَى. قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا. لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ".
قوله: ذكر النبي، صلى الله عليه وسلم، بنصب النبيّ على المفعولية. وفي ذكر ضمير يعود على الراوي يعني، أن أبا بكرة كان يحدثهم، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"قعد على بعيره" ورواه النّسائي بلفظ "عن أبي بكرة قال": وذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فالواو إما حالية وإما عاطفة على محذوف. وفي رواية ابن عساكر عن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد، ولا إشكال فيه. وكان ذلك بمنى يوم النَّحر في حجة الوداع، وإنما قعد على البعير لحاجته إلى إسماع الناس كلامه، فالنهي عن اتخاذ ظهور الدواب منابرَ محمولٌ على ما إذا لم تدْعُ الحاجة إليه.
وقوله: "وأمسك إنسان بخِطامه أو بزِمامه" الشك من الراوي، ممن دون أبي بكرة، لا منه، لما يظهر من رواية الاسماعيليّ الآتية. والخِطام والزِّمام بمعنى، وهو الخيط الذي تُشَدُّ فيه الحلْقة التي تسمى بالبُرة، بضم الموحّدة، وتخفيف الراء المفتوحة، المجعولة في أنف البعير. والإِنسان
المبهمُ الممسكُ، الظاهر أنه أبو بَكرة، لما في رواية الإسماعيلي عن ابن عون عن أبي بكرة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلة يوم النحر، وأمسكتُ، إما قال: بخطامها، وإما قال: بزمامها. وهذا صريح في أن الشك من غير أبي بكرة. أو كان الممسك بلالًا، كما في النَّسائي عن أُم الحُصين قالت: حججتُ فرأيتُ بلالًا يقول بخطام راحلة النبي صلى الله عليه وسلم. أو الممسك عمرو بن خارجة، كما في السنن من حديثه، قال: كنت آخذًا بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، وفائدة إمساك الخطام صونُ البعير عن الاضطراب، حتى لا يشوش على راكبه.
وأبو بكرة يأتي محل تعريفه في ذكر السند، وبلال يأتي تعريفه في التاسع والثلاثين من كتاب العلم هذا، وعمرو، إن شاء الله تعالى، يأتي تعريفه قريبًا بعد إتمام الكلام على المتن قبل الشروع في السند.
وقوله: قال: "أليس يوم النحر" الاستفهامُ فيه، وفيما بعده، للتقرير، كما في قوله تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]. وقوله: "قلْنا بلى" في نسخة "فقلنا بلى"، وبلى حرف جواب مختص بالنفي، ويفيد إبطاله ويُصيِّره إثباتًا، وأما نعم، فتأتي لتقرير ما قبلها، من نفي أو إثبات. قال الناظم:
"نعم" لتقرير ما قبلها
…
إثباتًا أو نفيا كذا قرّروا
"بلى" جوابُ النفي لكنّه
…
يصير إثباتًا كما قرروا
وقوله: "أليس بذي الحِجّة" هو بكسر الحاء، كما في الصحاح. وقال الزّركشيّ: هو المشهور، وأباه قوم. وقال القزاز: الأشهر فيه الفَتْح، وقوله:"قلنا بلى"، وقد سقط في رواية المستملي والحَمَويّ والأصيليّ، السؤال عن الشهر، والجواب الذي قبله، فصار هكذا: أيّ يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه. قال: "أليس بذي الحجة؟ ". وتوجيهه ظاهر، وهو من إطلاق الكل على البعض. وثبت عند مسلم السؤال عن
البلد. وثبت السؤال عن الثلاثة عند المصنف في الأضاحي والحج. قال القرطُبيّ: سؤاله عليه الصلاة والسلام عن الثلاثة، وسكوته بعد كل سؤال منها، كان لاستحضار فُهومهم، وليقبلوا عليه بكلِّيتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه. ولذلك قال بعد هذا:"فإن دماءكم .. " إلى آخره، مبالغةً في بيان تحريم هذه الأشياء.
ووقع في الروايات التي أشرنا إليها عند المصنف وغيره، أنهم أجابوه عن كل سؤال بقولهم:"الله ورسوله أعلم". وذلك من حُسْن أدبهم، لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، وأنه ليس مراده مطلق الإِخبار بما يعرفونه، ولهذا قال في رواية الباب: حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، ففيه إشارة إلى تفويض الأمور الكلية إلى الشارع. ويستفاد منه الحجة لمثبتي الحقائق الشرعية.
وقوله: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام .. الخ" مَنَاطُ التشبيه في قوله: "كحرمة يومكم" وما بعده، ظهوره عند السامعين، لأن تحريم البلد والشهر واليوم، كان ثابتًا في نفوسهم، مقررًا عندهم، بخلاف الأنفس والأموال والأعراض، فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فقرر الشرع عليهم بأنّ تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبةً من المشبه، لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع، ولكون أحكام الشرع متعلقة بأفعال المكلفين لا بالذوات، عُلم أنه لابد من تقدير مضافٍ قبل كل واحد من الثلاثة مناسبٍ له، أي: فإن سفك دمائكم وأخذ أموالكم وثَلْب أعراضكم، ولابد أيضًا من تقييد هذا بغير حق شرعي. والأولى، كما في "المصابيح"، أن يُقَدَّر المضافُ لفظةَ "انتهاك" التي موضوعها تناول الشيء بغير حق، ومع تقدير لفظ "انتهاك" لا احتياج إلى التقييد "بغير الحقّيّة" لوجود القيد في أصل معناه.
ووقع في حديث الباب "فسكتنا بعد السؤال". وعند المصنف في
الحج من حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطب الناس يوم النحر، فقال: "أيّ يوم هذا؟ " قالوا: "يوم حرام"، وظاهرهما التعارض، والجمع بينهما أن الطائفة الذين كان فيهم ابن عباس أجابوا، والطائفة الذين كان فيهم أبو بَكرة لم يجيبوا، بل قالوا: "الله ورسوله أعلم" كما أشرنا إليه، أو تكون رواية ابن عباس بالمعنى، لأن في حديث أبي بكرة أنه لما قال: "أليس يوم النحر" قالوا: بلى، فقولهم: بلى، بمعنى قولهم: يوم حرام، بالاستلزام، وغايته أن أبا بَكرة نقل السياق بتمامه، واختصره ابن عباس، وكان ذلك بسبب قرب أبي بَكرة منه، لكونه كان آخذًا بخطام الناقة.
وقال بعضهم: يحتمل تعدد الخطبة، فإن أراد أنه كررها في يوم النحر، فيحتاج إلى دليل. فإن في حديث ابن عمر عند المصنف في الحج، أن ذلك كان يوم النحر بين الجَمَرات في حجه.
وقوله: "ليبلغ الشاهد الغائب" أي: الحاضر في المجلس الغائب عنه. ولام "ليبلغ" لام الأمر، مكسورة، ويبلغ فعل مضارع مجزوم بها، وكسرت غينه لالتقاء الساكنين. والمراد بالتبليغ إما تبليغ القول المذكور، أو تبليغ جميع الأحكام. وقوله:"من هو أوعى له منه" منه: صلة لأفعل التفضيل، وجاز الفصل بينهما بالجار والمجرور، لأنه معمول لأفعل. وقد يجوز الفصل بينهما بمعمول أفعل إذا كان ظرفًا، أو جارًا أو مجرورًا. وكذا يفصل بينهما بلو، وما اتصل بها، فالأول كقوله:
فلَأنْتَ أسْمحُ للعفاة بسُؤلِهم
…
عند الشَّصائب من أب لبنيه
والشصائب: الشدائد، وزنًا ومعنى، والثاني كقوله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] وفي البيت أيضًا، الجار والمجرور. والثالث كقوله:
ولَغوكِ أطْيبُ لو بَذَلْتِ لنا
…
من ماءِ موهبةٍ على خَمْر
وإلى هذا أشار المختار بن بون في احمراره بقوله: