الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والأربعون
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَاّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ". قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قَالَتْ فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ".
قوله: "إن عائشة" ظاهر أوله الإرسال، لأن ابن أبي مُليكة تابعي، لم يدرك مراجعة عائشة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لكن تبين وصله بعد في قوله:"قالت عائشة: فقلت. وقوله: "لا تسمع" أي: بالمضارع، استحضارًا للصورة الماضية لقوة تحققها، وقوله: وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" عطف على قوله أن "عائشة" وقوله: "فقلت: أو ليس يقول الله تعالى" يقول خبر ليس، واسمها ضمير الشأن، أو أن ليس بمعنى لا، أي أو لا يقول الله. وفي رواية في التفسير "يا رسول الله جعلني الله فداءك، أليس يقول الله عز وجل".
وقوله: "فقال: إنما ذلك العرض" بكسر الكاف، لأنه خطاب للمؤنث. قال القُرطبيْ: معنى قوله "إنما ذلك العرض" أن الحساب المذكور في الآية، إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه، حتى يعرف منّة الله تعالى عليه، في سترها عليه في الدنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة، كما في حديث ابن عمر في النجوى، أخرجه المؤلف في المظالم. وفي تفسير سورة هود، وفي التوحيد، بلفظ "يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك في الآخرة".
وجاء في كيفية العرض ما أخرجه التِّرْمِذيُّ عن الحسن عن أبي هريرة، رفعه، "تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عَرْضات: فأما عرضتان فجدالٌ ومعاذير، وعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذٌ بيمينه، وآخذٌ بشماله". قال التِّرمِذي: لا يصح، لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. ورواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى، وهو عند ابن ماجة وأحمد من هذا الوجه مرفوعًا، وأخرجه البيهْقيّ في البعث. بسند حسن عن عبد الله بن مسعود موقوفًا.
قال الترمذي الحكيم: الجدال للكفار يجادلون، لأنهم لا يعرفون ربّهم، فيظنون أنهم إذا جادلوا نجوا، والمعاذير أعتذار الله لآدم وأنبيائه بإقامة الحجة على أعدائه، والثالثة للمؤمنين وهو العرض الأكبر. وقوله:"ولكن من نوقش الحساب" بالقاف والمعجمة، من المناقشة، وأصلها الاستخراج، ومنه نقش الشوكة، إذا أخرجها، والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة، والمطالبة بالجليل والحقير، وترك المسامحة، يقال: استنقشت منه حقي، أي: استقصيته. وقوله: "يهلِكْ" بكسر اللام، وإسكان الكاف، لأنه جواب الشرط، ويجوز الرفعُ، لأن الشرط إذا كان ماضيًا يجوز في الجواب الوجهان، كما قال ابن مالك:
وبعد ماضٍ رفعكُ الجزا حَسَن
وفي رواية عند المؤلف "عذَّب" قال عياض: قوله "عذب" له معنيان: أحدهما أن نفس مناقشة الحساب وعرض الذنوب والتوقيف على قبيح ما سلف والتوبيخ تعذيب، والثاني أنه يفضي إلى استحقاق العذاب، إذ لا حسنة للعبد إلا من عند الله، لإقداره عليها، وتفضله عليه بها، وهدايته لها. ولأن الخالص لوجهه قليل. ويؤيد الثاني قوله في الرواية الأخرى هلَك. وقال النَّووي: التأويل الثاني هو الصحيح، لأن التقصير غلب على الناس، فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك.
ووجه المعارضة أن لفظ الحديث عام في تعذيب كل من حوسب،
ولفظ الآية دال على أن بعضهم لا يعذب، وطريق الجمع أن المراد بالحساب في الآية العرض، وهو إبراز الأعمال وإظهارها فيُعرَّف صاحبها بذنوبه، ثم يتجاوز عنه. ويؤيده ما أخرجه البَزَّار عن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير، قال: سمعت عائشة تقول: سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الحساب اليسير، فقال:"الرجل تعرض عليه ذنوبه، ثم يتجاوز له عنها" وفي حديث أبي ذَر عند مسلم "يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه" الحديث. وفي حديث جابر عند أبي حاتم والحاكم "من زادت حسناته على سيئاته، فذلك الذي يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فذلك الذي يحاسب حسابًا يسيرًا، ثم يدخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته، فذلك الذي أوبق نفسه، وإنما الشفاعة في مثله" ويدخل في هذا حديث ابن عمر المارّ في النجوى.
وروى ابن مردويه عن عائشة مرفوعًا "لا يحاسبُ رجل يوم القيامة إلا دخل الجنة" وظاهره يعارض حديثها المذكور في الباب، وطريق الجمع بينهما أن الحديثين معًا في حق المؤمن، ولا منافاة بين التعذيب ودخول الجنة، لأن الموحد وإن قضي عليه بالتعذيب فإنه لابد أن يخرج من النار بالشفاعة، أو بعموم الرحمة، وقد أخرج أحمد عن عائشة "سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في بعض صلاته: اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا، فلما انصرف، قلت: يا رسول الله، ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه، فيتجاوز له عنه. إنَّ من نوقش الحساب، يا عائشة، يومئذٍ هلك". وفي الحديث ما كان عند عائشة من الحرص على تفهم معاني الحديث وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لم يكن يتضجَّر من المراجعة في العلم، وفيه جواز المناظرة، ومقابلة السنة بالكتاب، وتفاوت الناس في الحساب، وفيه أن السؤال عن مثل هذا لم يدخل فيما نُهي الصحابة عنه في قوله تعالى {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101]. وفي حديث أنس "كنُا نهينا أن نسأل رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم،
عن شيء" وقد وقع نحو ذلك لغير عائشة، ففي حديث حفصة أنها لما سمعت "لا يدخل النار أحدٌ ممن شهد بدرًا والحديبية" قالت: أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ثم اجيبت بقوله {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] الآية.
وسأل الصحابة لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فأجيبوا بأن المراد بالظلم الشرك.
والجامع بين هذه المسائل الثلاث: ظهور العموم في الحساب، والورود والظلم. فأوضح لهم أن المراد في كل منهما أمرٌ خاص، ولم يقع مثل هذا من الصحابة إلا قليلًا، مع توجيه السؤال وظهوره، وذلك لكمال فهمهم، ومعرفتهم باللسان العربي فيحُمل ما ورد من ذم من سأل عن المشكلات، على من سأل تعنتًا، كما قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7] وفي حديث عائشة عن البخاري "فإذا رأيتم الذين يسألون عن ذلك، فهُم الذين سمّى الله، فاحذروهم" ومن ثم أنكر عمر على ضُبيعٍ لما رآه أكثر من السؤال عن مثل ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح ذلك كله في كتاب الاعتصام.
وقد انتقد الدارقطني إسناد هذا الحديث فقال: رواه حاتم بن أبي صغيرة، عن عبد الله بن أبي مُليكة، فقال: حدثني القاسم بن محمد حدثتني عائشة. وقوله أصح، لأنه زاد، وهو حافظ متقن. وتعقبه النووي وغيره، بأنه محمول على أنه سمع من عائشة وسمعه من القاسم عن عائشة، فحدث به على الوجهين. قال في "الفتح": وقد وقع التصريح بسماع ابن أبي مُليكة له من عائشة في بعض طرقه، كما في الرقاق فانتفى التعليل بإسقاط رجل من السند، وتعين العمل على أنه سمع من القاسم عن عائشة، ثم سمعه من عائشة بغير واسطة، وإن كان مؤداهما واحدًا، وهذا هو المعتمد.