الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيضًا، عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، ومسلم في الديات عن أبي بَكر بن أبي شيبة وغيره. والنّسائي في الحج عن إسماعيل بن مسعود، وفي العلم عن أبي قدامة السَّرْخسىّ. وأخرجه البخاري من حديث ابن عباس، وابن عمر، وابن مَنْده في مستخرجه من حديث سبعة عشر صحابيًا.
ثم قال البخاري:
باب "العلم قبل القول والعمل
" لقوله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] فبدأ بالعلم.
قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما، لأنه مصحح للنية المصحّحة للعمل. فنبه المصنف على ذلك، حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: إن العلم لا ينفع إلا بالعمل تهوينُ أمر العلم، والتساهل فيه.
وقوله: لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فبدأ بالعلم. أي: أولا، حيث قال:{فَاعْلَمْ} [محمد: 19]، ثم قال:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] إشارة إلى القول والعمل والخطاب، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو متناولٌ لأمته. والأمر بالنسبة إليه، عليه الصلاة والسلام، للدوام والثبوت، كقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] أي: دم على التقوى. واستدل سُفيان بن عُيينة بهذه الآية على فضل العلم، كما أخرجه أبو نعيم في "الحلية" في ترجمته عنه، أنه تلاها، فقال: ألم تسمع أنه بدأ به؟ فقال: أعلم. ثم أمره بالعمل.
وينتزع منها دليل ما يقوله المتكلمون من وجوب المعرفة، لكن النزاع إنما هو في إيجاب تعلُّم الأدلة على القوانين المذكورة في كتب الكلام، وقد مر شيء من هذا في كتاب الإيمان في باب قوله عليه الصلاة والسلام:"أنا أعلمكم بالله". ويأتي إتمام الكلام عليه في كتاب التوحيد إن شاء الله
تعالى. وقد أشبعنا القول عليه في كتابنا "على متشابه الصفات" ثم قال:
"وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورّثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر".
بفتح أن، ويجوز كسرها، ومناسبة هذا الحديث للترجمة من جهة أن الوارث قائم مقام موروثه، فله حكمه فيما قام مقامه فيه، وقوله: ورَّثوا العلم، بتشديد الراء، أي: الأنبياء. ويروى بتخفيفها مع كسر الراء، أي العلماء، ويؤيد الأول قولُه في الحديث "وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم". وقد سقنا لفظ الحديث بطوله، في باب فضل العلم، أول الكتاب. وهذا التعليق طرف من حديث أخرجه أبو داود والتِّرمذيّ وابن حِبان والحاكم مصححًا من حديث أبي الدرداء، وحسّنه حمزة الكناني، وضعّفه غيرهم بالاضطراب في سنده، لكن له شواهد يتقوى بها. ولم يفصح المصنف بكونه حديثًا، فلهذا لا يعد في تعاليقه، لكن إيراده له في الترجمة مشعر بكونه له أصلًا. وشاهده في القرآن قوله تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] ثم قال: "ومَن سَلَك طريقًا يطلب به علمًا سهّل الله له طريقًا إلي الجنة".
نكّر طريقًا وعلمًا ليتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية، وليندرج فيه القليل والكثير. وقوله:"سهل الله له طريقًا" أي: في الآخرة أو في الدنيا، بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة، وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه، لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة. وهذا طرف من الحديث المذكور.
وقد أخرج أيضًا هذه الجملة مسلمٌ من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في حديث غير هذا، وأخرجه التِّرمذيّ، وقال: حسن، ولم يقل: صحيح، لأنه يقال: إن الأعمش دَلّس فيه فقال: حُدّثتُ عن أبي صالح، قال ابن حَجَر: لكن في رواية مسلم عن أبي أُسامة عن الأعمش
حدثنا أبو صالح فانتفت تهمة تدليسه، ولكن المصنف لم يخرجْه للاختلاف فيه، ثم قال:
"وقال جل ذكره {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] " أي: إنما يخافه الذين علموا قدرته وسلطانه، فمن كان أعلم كان أخشى لله، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: أنا أخشاكم لله، وأتقاكم له، ثم قال: وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا} [العنكبوت: 43] أي: الأمثال المضروبة، وحسنها وفائدتها. وفي الحديث، تفسيرًا لهذه الآية: العالم الذي عقل عن الله، فعمل بطاعته، واجتنب سخَطَه. ووجه إدخال هذه الآية والتي قبلها، في الترجمة، هو أن الباب في العلم والإِتيان في مدح العلماء، ولم يستحقوا هذا المدح إلا بالعلم إلا العالمون، أي: الذين يعقلون عن الله، فيتدبرون الأشياء على ما ينبغي. ثم قال:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} [الملك: 10] أي: كلام الرُّسُل، فنقبله جملة، من غير بحث وتفتيش، اعتمادًا على ما ظهر من صدقهم بالمعجزات، أو نعقل فنفكر في حِكَمه ومعانيه تفكُّرَ المستبصرين {مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] أي: في عدادهم وفي جملتهم. وهذا إخبار عن قول الكفار، حين دخولهم النار، وإنما حذف مفعول نَعْقِل، لأنه جُعِل كالفعل اللازم، والمعنى: لو كنا من أهل العلم، ما كنا من أهل النار. وإنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل.
وقد روى أبو سعيد الخُدريّ مرفوعًا: "أن لكل شيء دعامة، ودعامة المؤمن عَقْله، فبقدر ما يعقل يعبد ربه. ولقد ندم الفجّار يوم القيامة، فقالوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] " وروى أنسٌ مرفوعًا أن الأحمق ليصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غدا في الدرجات، وينالون الزُّلفى من ربهم على قدر عقولهم. ووجه دخول هذه الآية في الترجمة، هو أن المراد من العقل هاهنا العلم، فإن الكفار تمنَّوا أن لو كان لهم العلم لما دخلوا في النار. ثم قال:
{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
أراد بالذين يعلمون العاملين من علماء الديانة، كانه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون فيها، ثم يفتنون بالدنيا، ووجه دخولها في الترجمة، هو أن الله تعالى نفى المساواة بين العلم والجهل، ويقتضي نفي المساواة أيضًا بين العالم والجاهل، وفيه مدح للعلم وذم للجهل.
وهذه الآية بعد قوله تعالى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] الخ .. قال القسطلانيّ عند آية المتن: نفيٌ لاستواء الفريقين، باعتبار القوة العلمية بعد نفيها، باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم، وقيل: تقرير للأول على سبيل التشبيه، أي: كما لا يستوي العالمون والجاهلون، لا يستوي القانتون والعاصون ثم قال:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم، "من يُرِد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين"، وفي رواية المستملي "يفهِّمه" بالهاء المشددة المكسورة بعدها ميم، والفقه هو الفهم، قال الله تعالى {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] أي: لا يفهمون. والمراد الفهم في الأحكام الشرعية. وهذا التعليق وصله البخاري باللفظ الأول بعد هذا ببابين، وأما اللفظ الثاني فأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب العلم من طريق ابن عمر عن عمر مرفوعًا. وإسناده حسن.
ثم قال: "وإنما العلم بالتَّعلُّم" وهذا حديث مرفوع أورده ابن أبي عاصم والطَّبراني من حديث معاوية، بلفظ "يأيها الناس تعلّموا إنما العلم بالتعلّم، والفقه بالتَّفقُّه، ومن يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدِّين" وإسناده حسن لأن فيه مبهمًا اعتضد بمجيئه من وجه آخر.
وروى البزّار نحوه، عن ابن مسعود موقوفًا، ورواه أبو نُعيم الأصبهاني مرفوعًا عن أبي الدرداء بلفظ "إنما العلم بالتعلم وإنما الحِلم بالتَّحَلّم، ومن يَتَحَرَّ الخير يُعْطَهُ". فلا يغتر بقول من جعله من كلام البخاري، والمعنى ليس
العلم المعتبر، إلا المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلُّم.
ثم قال: وقال أبو ذَرّ: لو وضعتم الصَّمْصَامَةَ على هذه وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها.
وهذا التعليق وصله الدارمي في مسنده، عن أبي كثير مالك بن مَرْثَد عن أبيه قال: أتيت أبا ذَرٍّ، وهو جالس عند الجَمْرة الوُسطى، وقد اجتمع عليه الناس يستفتونه، فأتاه رجل، فوقف عليه ثم قال: ألم تُنْهَ عن الفُتْيَا؟، فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت عليّ؟ لو وضعتم .. فذكر مثله. ووصله أبو نعيم في "الحلية" من وجه آخر، وبين أن الذي خاطبه رجل من قريش، وأن الذي نهاه عن الفُتْيا عثمان، رضي الله عنه.
وكان سبب ذلك أنه كان بالشام، فاختلف مع معاوية في تأويل قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب خاصة، وقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا، فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر، ثم حصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذرٍ عن المدينة إلى الرَّبَذَة، بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة، إلى أن مات بها. رواه النَّسَائي. وفيه دليل على أن أبا ذرٍّ كان لا يرى بطاعة الإِمام إذا نهاه عن الفتيا، لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بالتبليغ، كما مر قريبًا في قوله:"لِيبلغ الشاهدُ الغائب". ولعله أيضًا سمع الوعيد في حق من كتم علمًا يعلمه.
والصمصامة، بمهملتين، الأولى مفتوحة، هو السيف الصارم الذي لا ينثني، وقيل: الذي له حد واحد. وقوله: هذه، إشارة إلى القفا، وهو يذكر ويؤنث، وقوله: إني أُنْفِذُ، بضم الهمزة وكسر الفاء وبالذال المعجمة، أي: أُمضي. وقوله: أن تجيزوا عليَّ، بضم المثناة وكسر الجيم وبعد الياء زاي، أي: تكملوا قتلي. ونكر "كلمة" ليشمل القليل والكثير، والمراد أنه يبلغ ما تحمله في كل حال، ولا ينتهي عن ذلك ولو أشرف على القتل.
"لو" في كلامه لمجرد الشرط، من غير أن يلاحظ الامتناع، أو المراد أنّ الإِنفاذ حاصل على تقدير وضع الصمصامة، وعلى تقدير عدم حصوله أولى، فهو كقوله "لو لم يخَفِ الله لم يَعْصِه". وفيه الحث على تعليم العلم، واحتمال المشقة فيه، والصبر على الأذى، طلبًا للثواب.
قلت: في حديث أبي ذَرّ دليل لمن قال إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يسقط وجوبهما بخوف القتل، كالشافعية. وفي حديث أبي هريرة الآتي في آخر كتاب العلم، "وأما الآخر فلو بَثَثْته لقطع هذا البلعوم" دليلٌ لمن قال بسقوط وجوبهما بخوف القتل، كالمالكية.
ثم قال: "وقال ابن عباس كونوا ربانيين حلماء فقهاء علماء، ويقال الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره".
وقد فسر ابن عباس الرَّباني، بأنه الحكيم الفقيه، ووافقه ابن مسعود فيما رواه إبراهيم الحربي في غريبه عنه، بإسناد صحيح. وقال الأصمعي والإِسماعيلي: الرَّبّاني نسبة إلى الربّ، أي: الذي يقصد ما أمره الرب بقصده، من العلم والعمل، وقال ثعلب: قيل للعلماء: الرَّبانيون، لأنهم يربون العلم أي يقومون به، وزيدت الألف والنون للمبالغة، والحاصل أنه اختلف في هذه النسبة، هل هي نسبة إلى الرب أو إلى التربية. والتربية على هذا للعلم، وعلى ما حكاه البخاري لمتعلمه. والمراد بصغار العلم، ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها. وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده. وقال ابن الأعرابيّ: لا يقال للعالم ربَّانيّ حتى يكون عالمًا معلمًا عاملًا.
وقد اقتصر المصنف في هذا الباب، على ما أورده، من غير أن يورد حديثًا موصولًا على شرطه، فإما أن يكون بيَّض له ليُورد فيه ما يثبت على شرطه، أو يكون تعمد ذلك اكتفاء بما ذكر. وهذا التعليق وصله ابن أبي عاصم بإسناد حسن، والخطيب بإسناد آخر حسن. وقد مرّ أبو ذَرّ في الثالث والعشرين من كتاب الإِيمان، ومر ابن عباس في الخامس من بدء الوحي.