المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الثاني والخمسون - كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري - جـ ٣

[محمد الخضر الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب العلم

- ‌باب فضل العلم

- ‌باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل

- ‌الحديث الأول

- ‌رجاله ثمانية:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من رفع صوته بالعلم

- ‌الحديث الثاني

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب قول المحدث حدثنا واخبرنا وانبأنا

- ‌الحديث الثالث

- ‌رجاله أربعة

- ‌باب طرح الإِمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم

- ‌الحديث الرابع

- ‌رجاله أربعة

- ‌باب ما جاء في العلم وقول الله تعالى وقل رب زدني علمًا

- ‌باب القراءة والعرض على المحدث

- ‌الحديث الخامس

- ‌رجاله خمسة

- ‌لطائف إسناده

- ‌باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان

- ‌الحديث السادس

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السابع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من قعد حيث ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة في الحَلقة، فجلس فيها

- ‌الحديث الثامن

- ‌رجال سنده خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ مُبْلغٍ أوعى من سامع

- ‌الحديث التاسع

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب "العلم قبل القول والعمل

- ‌باب "ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلهُم بالموعظة والعلم كي لا يَنفروا

- ‌الحديث العاشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من يُرد الله به خيرًا يفقِّهْهُ في الدين

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الفهم في العلم

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الاغتباط في العلم والحكمة

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌رجاله تسعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب قول النبي صلى الله عليه وسلم اللهمّ علِّمهُ الكِتابَ

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب متى يصح سماع الصغير

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الخروج في طلب العلم

- ‌الحديث العشرون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب فضل من عَلِمَ وعَلَّمَ

- ‌الحديث الحادي والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب رفع العلم وظهور الجهل

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب فضل العلم

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌رجالُهُ ستةٌ

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وقد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا من وارءهم

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌رجاله خمسة

- ‌باب الرِّحلة في المسألة النازلة

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌رجال السند خمسة

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب التناوب في العلم

- ‌الحديث الحادي والثلاثون

- ‌رجاله تسعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من برك على ركبتيه عند الإِمام أو المحدث

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌ رجاله رجال الأول

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب تعليم الرجل أَمَتَه وأَهْلَه

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب عظة الإمام النساء وتعليمهن

- ‌الحديث الاربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الحرص على الحديث

- ‌الحديث الحادي والاربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب كيف يقبض العلم

- ‌الحديث الثاني والاربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب هل يجعل للنساء يومًا على حدة في العلم

- ‌الحديث الثالث والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الرابع والأربعون

- ‌رجاله ثمانية:

- ‌باب من سمع شيئًا فراجع حتى يعرفه

- ‌الحديث الخامس والأربعون

- ‌رجاله أربعة

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب

- ‌الحديث السادس والاربعون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث الثامن والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث التاسع والاربعون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الخمسون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الحادي والخمسون

- ‌رجاله ثلاثة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثاني والخمسون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب كتابة العلم

الفصل: ‌الحديث الثاني والخمسون

‌الحديث الثاني والخمسون

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي، وَمَنْ رَآنِي فِى الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِى صُورَتِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".

قد أورد المصنف هذا الحديث بتمامه في "كتاب الأدب" من هذا الوجه، واقتصر مسلم في روايته له على الجملة الأخيرة، وهي مقصود الباب، وإنما ساقه المؤلف بتمامه، ولم يختصره كعادته، لينبه على أن الكذب على النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم يستوي فيه اليقظة والمنام. وقد رتب المصنف أحاديث الباب ترتيبًا حسنًا، لأنه بدأ بحديث عليّ، وفيه مقصود الباب، وثنى بحديث الزبير الدّال على توقي الصحابة وتحرزهم من الكذب عليه، وثلَّث بحديث أنسٍ الدّال على أن امتناعهم إنما كان من الإِكثار المفضي إلى الخطأ، لا عن أصل التحديث، لأنهم مأمورون بالتبليغ. وختم بحديث أبي هُريرة الذي فيه الإشارة إلى استواء تحريم الكذب عليه، سواء كانت دعوى السماع منه في اليقظة أو في المنام.

وقوله "تسموا باسمي" أي، بفتح التاء والسين والميم المشددة، أمر بصيغة الجمع من باب التَّفَعُّل واسمه محمد وأحمد والعاقب والحاشر والماحي، وغير هذا. وقوله "ولا تكتنوا بكنيتي" بفتح التائين بينهما كاف ساكنة، وفي رواية الأربعة "ولا تكنَّوا" بفتح التاء والكاف ونون مشددة من غير تاء ثانية، من باب التفعُّل من تكنَّى يتكنَّى تكنيًا، وأصله لا تتكنوا، فحذفت إحدى التاءين، أو بضم التاء وفتح الكاف وضم النون المشددة، من باب التفصيل، من كنّى يكني تكنية، أو بفتح التاء وسكون الكاف،

ص: 464

وكلها مأخوذة من الكناية. تقول: كنَّيت عن الأمر بكذا، إذا ذكرته بغير ما يستدل به عليه صريحًا، وقد اشتهرت الكنى للعرب حتى ربما غلبت على الأسماء، كأبي طالب وأبي لهبٍ وغيرهما. وقد يكون للواحد كنية واحدة فأكثر، وقد يشتهر باسمه وكنيته جميعًا، فالاسم والكنية واللقب يجمعها العَلم، بفتحتين، وتتغاير بأن اللقب ما أشعر بمدح أو ذم، والكنية ما صدرت بأب أو أُم وما عدا ذلك فهو اسم.

وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يكنى أبا القاسم، بولده القاسم، وكان أكبر أولاده، واختلف هل مات قبل البعثة أو بعدها، واختلف في التسمي باسمه محمد، والتكني بكنيته أبي القاسم على خمسة مذاهب:

الأول: منع التكنية بأبي القاسم مطلقًا، سواء كان اسمه محمدًا أم لا، ثبت ذلك عن الشافعي. وبه قالت الظاهرية، وبالغ بعضهم فقال: لا يجوز لأحد أن يسمي ابنه القاسم، لئلا يكنى أبا القاسم. قال ابن أبي جمرة: والأخذ به أولى، لأنه أبرأ للذمة، وأعظم للحرمة.

والثاني: الجواز مطلقًا، ويختص النهي بحياته صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الذي عليه إطباق الناس في جميع الأعصار، وكان مستندهم ما أخرجه البخاري عن أنس من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم، كان في السوق فسمع رجلًا يقول يا أبا القاسم فالتفت إليه. فقال: لم أعنك! فقال: "تسموا باسمي ولا تكنَّوا بكنيتي". فكأن القائلين بهذا القول فهموا من النهي الاختصاص بحياته، للسبب المذكور. وقد زال بعده، صلى الله تعالى عليه وسلم، واحتجوا أيضًا بما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود وابن ماجة، وصححه الحاكم، عن محمد بن الحنفية قال: قال علي: قلت يا رسول الله إن ولد لي من بعدك ولد أسميه باسمك واكنيه بكنيتك؟ قال: "نعم". وفي بعض طرقه "سماني محمدًا وكناني أبا

ص: 465

القاسم" فكان رخصة من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لعلي بن أبي طالب.

قال الطبريُّ في إباحة ذلك لعلي، ثم تكنيته على ولده أبا القاسم، إشارة إلى أن النهي عن ذلك كان على الكراهة لا على التحريم، قال: ويؤيد ذلك أنه لو كان على التحريم لأنكره الصحابة، ولما مكنوه أن يكني ولده أبا القاسم، أصلًا، فدل على أنهم إنما فهموا من النهي التنزيه. وتعقَّب بأنه لم ينحصر الأمر فيما قاله، فلعلهم علموا الرخصة له دون غيره، كما في بعض طرقه، أو فهموا تخصيص النهي بزمانه صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا أقوى، لأن بعض الصحابة سمى ابنه محمدًا وكناه أبا القاسم، وهو طلحة بن عُبيد الله، وقد جزم الطَّبرانيُّ أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، هو الذي كنّاه، وأخرج ذلك من طريق عيسى بن طلحة عن ظئر محمد بن طلحة، وكذا يقال لكنية كل من المحمدين: ابن أبي بكر، وابن سعد، وابن جعفر بن أبي طالب، وابن عبد الرحمن بن عوف، وابن حاطب بن أبي بَلْتَعَة، وابن الأشعث بن قيس أبو القاسم، وإن آباءهم كنَّوهُم بذلك.

قال عياض: وبه قال جمهور السلف والخلف، وفقهاء الامصار، وأما ما أخرجه أبو داود عن عائشة "أن امرأة قالت يا رسول الله إنّي سميت ابني محمدًا وكنيته أبا القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك، فقال: ما الذي أحل اسمي وحرَّم كنيتي؟ " فقد ذكر الطَّبرانيُّ في الأوسط أن محمد بن عمران الحَجَبَى تفرد به عن صفية بنت شيْبة عنها، ومحمد المذكور مجهول، وعلى تقدير أن يكون محفوظًا، فلا دلالة فيه على الجواز مطلقًا لاحتمال أن يكون قبل النهي.

الثالث: لا يجوز لمن اسمه محمد، ويجوز لغيره، قال الرافعي: يشبه أن يكون هذا هو الأصح، وأشار ابن أبي جَمْرة إلى تصحيحه، واستدلوا بما أخرجه أحمد وأبو داود، وحسّنه التِّرمِذيّ، وصححه ابن حبان

ص: 466

من طريق أبي الزبير عن جابر، رفعه، قال:"من تسمَّى باسمي فلا يكتني بكنيتي، ومن اكتنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي" وفي رواية: "إذا سمّيتم بي، فلا تكنّوا بي، وإذا كنيتم بي فلا تسموا بي" وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو يعلي بلفظ "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي". وأخرجه التِّرمِذِي بلفظ "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته"، وقال:"أنا أبو القاسم، الله يعطي، وأنا القاسم". وأخرج أحمد وابن أبي شيبة عن أبي عَمْرة عن عمه، رفعه، "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي" وأخرج الطَّبرانيُّ عن محمد فضَالة قال: قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وأنا ابن اسبوعين، فأتي بي إليه، فمسح على رأسي وقال:"سموه باسمي، ولا تكنوه بكنيتي" وأخرجه أبو يعلى عن أبي زرعة بلفظ "من تسمى باسمي فلا يتكني بكنيتي".

الرابع: وهو للطّبريّ: المنع من التسمية بمحمد مطلقًا، وكذا التكني بأبي القاسم مطلقًا، وأخرج من طريق سالم بن أبي الجعْد قال: كتب عمر لا تسموا أحدًا باسم نبي، واحتج لهذا القول أيضًا، بما أخرجه عن ثابث عن أنس، رفعه، "يسمونهم محمدًا ثم يلعنونهم" وأخرجه البزَّار وأبو يعلى أيضًا، وسنده ليِّن. قال عياض: والأشبه أن عمر إنما فعل ذلك إعظامًا لاسم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لئلا ينتهك. وكان قد سمع رجلًا يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب: يا محمد فعل الله بك كذا، وفعل، فدعاه، وقال: لا أرى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يُسب بك" فغير اسمه. وأخرجه أحمد والطَّبرانيُّ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى نظر عمر إلى ابن عبد الحميد، وكان اسمه محمدًا، ورجل يقول له: فعل الله بك يا محمد، فأرسل إلى ابن زيد بن الخطاب، فقال: لا أرى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يُسب بك، فسماه عبد الرحمن، وأرسل إلى بني طلحة، وهم سبعة ليغير أسماءهم، فقال له محمد وهو كبيرهم: والله لقد سماني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم محمدًا، فقال: قوموا فلا سبيل إليكم. فهذا يدل على رجوعه عن ذلك.

ص: 467

الخامس: المنع مطلقًا في حياته، والتفصيل بعده بين من اسمه محمد وأحمد، فيمتنع وإلا فيجوز. قال في "الفتح": وفي الجملة أعدل المذاهب المذهب المفصل المحكي أخيرًا مع غرابته.

وقوله: "ومن رآني في المنام فقد رآني" مَنْ شرطية، جوابه فقد رآني، ولأجل كون الجزاء لابد أن يكون غير الشرط، ويكون الشرط سببًا متقدمًا عليه، والأمر هنا ليس كذلك كان الجزاء حقيقة لازم، فقد رآني في تقديره فليستبشر، فإنه قد رآني. واتحاد الشرط والجزاء صورةً يدلُّ على الكمال والغاية، كما مر عند قوله:"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله".

وقوله: "فإن الشيطان" الفاء فيه للتعليل، والشيطان اسم إن وخبرها قوله "لا يتمثل"، والشيطان إمّا مشتق من شاط أي هلك، فهو فَعْلان، ونونه زائدة، وهو غير مصروف، وإما من شطن، أي بَعُد فهو فيْعال، ونونه أصلية، وهو مصروفٌ، والشيطان معروف، وكل عاتٍ متمردٍ من الجنِ والإِنس والدّواب الشيطانُ. والعرب تُسمي الحية شيطانًا.

وقوله: "لا يتمثل في صورتي" أي لا يتصور في مثل صورتي، يقال مَثَّلْثُ له كذا تمثيلًا فتمثل، أي صوَّرت له بالكتابة وغيرها فتصَوَّر. قال {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] والتركيب يدل على مناظرة الشيء للشيء. وفي رواية: "فإن الشيطان لا يتمثل بي" وفي حديث جابر عند مسلم وابن ماجة "أنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل بي". وفي حديث ابن مسعودٍ عند التِّرمذِيّ وابن ماجه "إن الشيطان لا يستطيع أن يتمثل بي". وفي حديث أبي قتادة "وإن الشيطان لا يتراءى" بالراء، بوزن يتعاطى. ومعناه: لا يستطيع أن يصير مرئيًا في صورتي. وفي رواية غير أبي ذَرٍّ "يتزايا" بزاي، وبعد الألف تحتانية. وفي حديث أبي سعيد "فإن الشيطان لا يتكونني".

أما قوله: "لا يتمثل بي" فمعناه لا يتشبه بي، وأما قوله "لا يتراءى بي"

ص: 468

فرجح بعض الشُرّاحِ رواية الزاي عليها أي لا يظهر في رئيي وليست الرواية الأخرى ببعيدةٍ من هذا المعنى. وأما قوله: "لا يتكونني" أي: لا يتكون كوني فحذف المضاف ووصل المضاف إليه بالفعل، والمعنى لا يتكون في صورتي، فالجميع راجع إلى معنى واحد.

وقوله: "لا يستطيع" يُشير إلى أنَّ الله تعالى وإن أمكنه من التصور في أي صورةٍ أراد، فإنه لم يمكّنه من التصور في صورة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد ذهب إلى هذا جماعة، فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها. ومنهم من ضيق الفرض في ذلك حتى قال: لابد أن يراه على صورته التي خرج من الدنيا عليها، حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة. والصواب التعميم في جميع حالاته، بشرط أن تكون صورته الحقيقية في وقت ما، سواء كان في شبابه أو رجوليته أو كهوليته أو آخر عمره. وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائي.

وقوله: "فقد رآني" في رواية "فقد رأى الحق" وفي رواية "فسيراني في اليقظة" وفي رواية "فكأنما رآني في اليقظة" وفي رواية "فقد رآني في اليقظة". قال المازريّ: اختلف المحققون في تأويل هذا الحديث، فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن المراد بقوله "من رآني في المنام فقد رآني" أن رُؤياه صحيحة لا تكون أضغاثًا، ولا من تشبيهات الشيطان. قال: ويعضده قوله في بعض طرقه "فقد رأى الحق" قال: وفي قوله "إن الشيطان لا يتمثل بي" إشارة إلى أنّ رؤياه لا تكون أضغاثًا. ثم قال المازري: وقال آخرون: بل الحديث محمول على ظاهره، والمراد أن من رآه فقد أدركه، ولا مانع يمنع من ذلك، ولا عقل يحيله، حتى يحتاج إلى صرف الكلام على ظاهره، وأما كونه قد يُرى على غير صفة، أو يُرى في مكانين مختلفين معًا، فإن ذلك غلط في صفته وتخيل لها على غير ما هي عليه، وقد يظن بعض الخيالات مرئيات، لكون ما يتخيل مرتبطًا بما يرى

ص: 469

في العادة، فتكون ذاته، صلى الله تعالى عليه وسلم، مرئيةً، وصفاُته متخيلةً غير مرئية.

والإِدراك لا يشترط فيه تحديق البصر، ولا قرب المسافة، ولا كون المرئي ظاهرًا على الأرض، ولا مدفونًا فيها، وإنما يشترط كونه موجودًا، ولم يقم دليل على فناء جسمه صلى الله تعالى عليه وسلم، بل جاء في الخبر الصحيح ما يدل على بقائه، وأن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، وتكون ثمرة اختلاف الصفات اختلاف الدلالات. كما قال بعض علماء التعبير: إن من رآه شيخًا فهو عامُ سلم، أو شابًا فهو عام حرب. ويؤخذ من ذلك ما يتعلق بأقواله كما لو رآه أحد يأمر بقتل من لا يحل قتله، فإنّ ذلك يحمل على الصفة المتخيلة لا المرئية.

وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون معنى الحديث إذا رآه على الصفة التي كان عليها في حياته لا على صفةٍ مضادة لحاله، فإن رُؤي على غيرها كانت رؤيا تأويل لا رُؤيا حقيقة. فإنَّ من الرؤيا ما يخرج على وجهه، ومنها ما يحتاج إلى تأويل. وقال النووي: هذا الذي قاله القاضي ضعيف، بل الصحيح أنه يراه حقيقة، سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها، كما ذكره المازري.

قال في "الفتح": هذا الذي رده الشيخ جاء عن ابن سيرين إمام المعَبِّرين اعتباره، فقد أخرج البخاري عنه تعليقًا بعد قوله في الحديث "ولا يتمثل الشيطان بي" قال ابن سيرين: إذا رآه في صورته. وصله إسماعيل بن إسحاق القاضي عن أيوب قال: كان محمد بن سيرين إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: صف لي الذي رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: لم تره، وسنده صحيح.

وأخرج الحاكم ما يؤيده عن عاصم بن كُليب عن أبيه قال: قلت لابن عباس: رأيتُ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم. قال: صفه لي، قال: ذكرت الحسن بن عليّ فشبهته به، قال: قد رأيته، وسنده جيد. وقال

ص: 470

القاضي أبو بكر بن العربي: شذ بعض القدرية فقال: الرؤيا لا حقيقة لها أصلًا، وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعيني الرأس حقيقيةً. وقال بعض المتكلمين: هي مُدْرَكةً بعينين في القلب. ثم قال: فالذي قاله عياض توسُّطٌ حسن، ويمكن الجمع بينه وبين ما قاله المازريّ، بأن تكون رؤياه على الحالين حقيقة، لكن إذا كان على صورته، كان ما يرى في المنام على ظاهره لا يحتاج إلى تعبير، وإذا كان على غير صورته، كان النقص من جهة الرائي، لتخيله الصفة على غير ما هي عليه، ويحتاج ما يراه في ذلك المنام إلى التعبير. وجرى على ذلك علماء التعبير، فقالوا: إذا قال الجاهل: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يُسأل عن صفته، فإن وافق الصفة المروية، وإلا فلا يقبل منه.

وأشاروا إلى ما إذا رآه على هيئة تخالف هيئته، مع أن الصورة كما هي، فقال أبو سعد أحمد بن محمد بن نصر: من رأى نبيًا على حاله وهيئته، فذلك دليل على صلاح الرائي، وكمال جاهه، وظفره بمن عاداه، وإنْ رآه متغير الحال عابسًا مثلاً، فذلك دليل على سوء حال الرائي. ونحا ابن أبي جمرة إلى ما اختاره النووي، فقال بعد أن حكى الخلاف: ومنهم من قال: إن الشيطان لا يتصور على صورته أصلًا، فمن رآه في صورة حسنة، فذلك حُسْن في دين الرائي، وإن كان في جارحة من جوارحه شَيْنٌ أو نقص، فذاك خلل في الرائي من جهة الدين. قال: وهذا هو الحق. وقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه، حتى يتبين للرائي هل عنده خلل أو لا، لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم، نُورانّي مثل المرآة الصقيلة، ما كان في الناظر إليها من حسن وغيره تصوَّرَ فيها، وهي في ذاتها على أحسن حال، لا نقص فيها ولا شين.

وكذلك يقال في كلامه، عليه الصلاة والسلام، في النوم، أنه يعرض على السنة، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فالخلل في سمع الرائي. فرؤيا الذات الكريمة حق، والخلل إنما هو في سمع الرائي أو بصره. قال:

ص: 471

وهذا خير ما سمعته في ذلك. ثم حكى القاضي عياض عن بعضهم قال: خص الله نبيه بعموم رؤياه كلها، ومنع الشيطان أن يتصور في صورته، لئلا يتذرع بالكذب على لسانه في النوم، ولما خرق الله العادة للأنبياء، للدلالة على صحة حالهم في اليقظة، واستحال تصوُّر الشيطان على صورته في اليقظة، ولا على صفة مضادة لحاله، إذ لو كان ذلك لدخل اللَّبْسُ بين الحق والباطل، ولم يوثق بما جاء من جهة النبوة، حمى الله حماها لذلك من الشيطان، وتصوره وإِلقائه وكيده، وكذلك حمى رؤياهم أنفسهم، ورؤيا غير النبي للنبي عن تمثيل بذلك، لتصح رؤياه في الوجهين، ويكون طريقًا إلى علم صحيح لا ريب فيه.

وقال الغزالي: ليس معنى قوله "رآني" أنّه رأى جسمي وبدني، وإنما المراد أنه رأى مثالًا صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسي إليه، وكذلك قوله "فسيراني" في اليقظة، ليس المراد أنه يرى جسمي ويدني. قال: والآلة تارة تكون حقيقية، وتارة تكون خيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى، ولا شخصه، بل هو مثال له، قال: ومثال ذلك من يرى الله سبحانه وتعالى، في المنام: فإن ذاته منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره، ويكون ذلك حقًا في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرائي: رأيت الله تعالى في المنام، لا يعني أني رأيت ذات الله تعالى، كما يقول في حق غيره.

وقال أبو القاسم القُشَيْرِيّ ما حاصله أن رؤياه على غير صفته لا تستلزم أن لا يكون هو، فإنه لو رأى الله تعالى على وصف يتعالى عنه، وهو يعتقد أنه منزه عن ذلك، لا يقدح في رؤيته، بل يكون لتلك الرؤيا ضرب من التأويل، كما قال الواسطيّ "من رأى ربه على صورة شيخ كان إشارة إلى وقار الرائي" وغير ذلك. وقال الطِّيبيّ: المعنى من رأني في المنام بأي صفة كانت، فليستبشر، ويعلم أنه قد رأى الرؤيا الحق التي هي من الله، وهي

ص: 472

مبشرة، لا الباطل الذي هو الحلم المنسوب للشيطان فإن الشيطان لا يتمثل بي.

وقوله "فسيراني" معناه فسيرى تفسير ما رأى، لأنه حق وغيب أُلقي فيه. وأما قوله "فكأنما رأني" فهو تشبيه، ومعناه أنه لو رآه في اليقظة لطابق ما رآه في النوم، فيكون الأول حقًا وحقيقة، والثاني حقًا وتمثيلًا. قال ابن العربي: وهذا كله إذا رآه على صورته، فإن رآه على خلاف صفته، فهي أمثال، فإن رآه مقبلًا عليه مثلًا، فهو خير للرائي وفيه، وعلى العكس فبالعكس.

وقوله "فقد رأى الحق" قال الطيْبيّ: أي رؤية الحق لا الباطل، وكذا قوله "فقد رآني" فإن الشرط والجزاء إذا اتحدا دلّا على الغاية في الكمال، أي فقد رآني رؤيا ليس بعدها شيء. وقال القرطبي: اختلف في معنى الحديث، فقال قوم: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رأى حقيقته، كما رآه في اليقظة، سواء. قال: وهذا قول يدْرَك فسادهُ بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره، ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده، فلا يبقى في قبره منه شيء، فيزار مجرد القبر، ويسلم على غائب لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مَسْكةٍ من عقل.

وقالت طائفة: معناه أن من رآه رآه على صورته التي كان عليها، ويلزم منه أنّ من رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من الأضغاث. ومن المعلوم أنه يُرى في النوم على حالة تخالف حالته في الدنيا من الأحوال اللائقة به، وتقع تلك الرؤيا حقًا كما لو رئي ملأ دارًا بجسمه مثلًا، فإنه يدل على امتلاء تلك الدار بالخير، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشيء مما كان عليه أو ينسب إليه، لعارض عموم قوله "فإن الشيطان لا يتمثل بي" فالأَوْلى أن تُنَزَّه

ص: 473

رؤياه، وكذا رؤيا شيء منه، أو مما ينسب إليه عن ذلك، فهو أبلغ في الحرمة، وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان في يقظته.

قال: والصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة، ولا أضغاثًا بل، هي حق في نفسها، ولو رئي على غير صورته، فتصور تلك الصورة ليست من الشيطان، بل هو من قبل الله، وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطَّيِّب وغيره. ويؤيده قوله "فقد رأى الحق" أي رأى الحق الذي قصد إعلام الرائي به، فإن كانت على ظاهرها وإلا سعى في تأويلها، ولا يهمل أمرها لأنها إما بشرى بخير، أو إنذار من شر. إما ليخيف الرائي، وإما لينزجر عنه، وإِما لينبه على حكم يقع له في دينه أو دنياه.

وقال ابن بطال: قوله "فسيراني في اليقظة" يريد تصديق تلك الرؤيا في اليقظة، وصحتها وخروجها على الحق، وليس المراد أنه يراه في الآخرة، لأنه سيراه يوم القيامة في اليقظة، فيراه جميع أمته، من رآه في النوم، ومن لم يره منهم. وقال ابن التين: المراد من آمن به في حياته، ولم يره، لكونه حينئذ غائبًا عنه، فيكون بهذا مبشرًا لكل من آمن به ولم يره أنه لابد أن يراه في اليقظة" قبل موته، قاله القزَّاز.

وقال من المازَرِيّ: إن كان المحفوظ "فكأنما رآني في اليقظة" فمعناه ظاهر، وإن كان المحفوظ "فسيراني في اليقظة" احتمل أن يكون أراد أهل عصره ممن لم يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة، وأوحى الله بذلك إليه صلى الله تعالى عليه وسلم. وقيل: معنى الرؤية في اليقظة أنه سيراه في الآخرة وتُعقَّب بأنه في الآخرة يراه جميع أمته؛ من رآه في المنام ومن لم يره، يعني فلا يبقى لخصوص رؤيته في المنام مزية. وأجاب عياض باحتمال أن تكون رؤياه له في النوم على الصفة التي عرف بها، ووصف بها، موجبةً لتكرمته في الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه، والشفاعة له بعلو الدرجة،

ص: 474

ونحو ذلك من الخصوصيات. قال: ولا يَبْعدُ أن يعاقب الله بعض المذنبين في القيامة بمنع رؤية نبيه عليه الصلاة والسلام مدة. قلت: الجواب الأحسن هو أن يقال: من أين للمتعقب أن جميع أمته يرونه في الآخرة؟ هل ورد نص من الشارع بذلك؟ وأيضًا أكلُّ من آمن به يأمن من سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى من ذلك؟ وأي بشرى وفائدة أعظم من أن رؤيته، صلى الله تعالى عليه وسلم، في النوم أمان لصاحبها من سوء الخاتمة، ضامنة لصاحبها الموت على الإِيمان؟

وقد قال الدَّمامينيّ في قوله "فسيراني في اليقظة" بشارة لرائيه بالموت مسلمًا، لأنه لا يراه تلك الرؤية الخاصة باعتبار القرب إلا من تحقق موته على الإِسلام. وحمله ابن أبي جمرة على محمل آخر، فذكر عن ابن عباس أو غيره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، في المنام، فبقي بعد أن استيقظ متفكرًا في هذا الحديث، فدخل على بعض أمهات المؤمنين، ولعلها خالته ميمونة، فأخرجت له المرآة التي كانت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فنظر فيها فرأى صورته عليه الصلاة والسلام، ولم ير صورة نفسه. ونقل عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام، ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين، فأرشدهم إلى طريق تفريجها، فجاء الأمر كذلك.

قال في "الفتح": هذا مشكل جدًا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة. ويُعَكَّرُ عليه أن جمعًا جمًا رأوه في المنام، ولم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف، وقد اشتد إنكار القرطبيّ على من قال: من رآه في المنام فقد رأى حقيقته، ثم يراها كذلك في اليقظة كما مر قريبًا، وقد تفطن ابن أبي جمرة لهذا، فأحال بما قال على كرامات الأولياء، فإن يكن كذلك تعين العدول عن العموم في كل راءٍ، ثم ذكر أنه عام في أهل التوفيق، وأما غيرهم فعلى الاحتمال، فإن خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الاغواء والإِملاء، كما

ص: 475

يقع للصِّدِّيق بطريق الكرامة والإِكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة.

والحاصل من الأجوبة المذكورة ستة:

أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل، ودل عليه قوله في الرواية الأخرى "فكأنما رآني في اليقظة".

ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير.

ثالثها: أنه خاص بعصره ممن آمن به قبل أن يراه.

رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكن ذلك، وهذا من أبعد المحامل.

خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من يراه حينئذ ممن لم يره في المنام.

سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقة، ويخاطبه. وقد مر ما فيه من الإشكال.

قال القرطبي: قد تقرر أن الذي يرى في المنام أمثلة للمرئيات لا أنفسها، غير أن تلك الأمثلة تارة تقع مطابقة وتارة يقع معناها. فمن الأول رؤياه عليه الصلاة والسلام لعائشة، وفيه فإذا هي أنت، فأخبر أنه رأى في اليقظة ما رآه في نومه بعينه. ومن الثاني رؤياه البقر التي تنحر، والمقصود بالثاني التنبيه على معاني تلك الأمور. ومن فوائد رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم تسكين شوق الرائي، لكونه صادقًا في محبته ليعمل على مشاهدته، وإلى ذلك الإشارة بقوله "فسيراني في اليقظة" أي: من رآني رؤية معظمٍ لحرمتي ومشتاقٍ إلى مشاهدتي، وصل إلى رؤية محبوبه، وظفر بكل مطلوبة.

قال: ويجوز أن يكون مقصود تلك الرؤيا معنى صورته، وهو دينه وشريعته، فيعبر بحسب ما يراه الرائي من زيادة ونقصان، أو إساءة

ص: 476

وإحسان. قال في "الفتح": وهذا جوابٌ سابعٌ، والذي قبله لم يظهر لي، فإن ظهر فهو ثامن. قلت: وأنا أيضًا لم يظهر لي.

وأعلم أن الرؤيا بالقصر، هي ما يراه الشخص في منامه، وهي بوزن فُعْلى وقد تسهل الهمزة، وقال الواحدي: هل في الأصل مصدر كاليُسْرى، فلما جعلت اسمًا لما يتخيله النائم أُجريت مجرى الأسماء. قال الراغب: الرؤية، بالهاء، إدراك المرء بحاسة البصر وتطلق على ما يدرك بالتخيل نحو أرى أن زيدًا مسافر، وعلى التفكير النظري: نحو أرى ما لا ترون. وعلى الرأي، وهو اعتقاد أحد النقيضين على غلبة الظن.

وقال القرطبي في "المفهم": قال بعض العلماء: قد تجىء الرؤيا بمعنى الرؤية كقوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] فزعم أن المراد بها ما رآه النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء من العجائب، وكان الإِسراء جميعه في اليقظة، قلت: ومن هذا المعنى قول الشاعر يصف صيادًا:

وكبَّر للرؤيا، وهشَّ فؤاده

وبَشَّر قلبًا كان جمًا بلابله

وعكس بعضهم، فجعل الآية دليلًا على أن الإسراء كان منامًا، ويأتي إن شاء الله تعالى، تحرير هذه المسألة في غير هذه المحل عند حديث الإسراء في أول كتاب الصلاة. ويحتمل أن تكون الحكمة في تسمية ذلك رؤيا كون أمور الغيب مخالفة لرؤية الشهادة، فاشبهت ما في المنام. واختلف في حقيقة الرؤيا المنامية، فقال أبو بكر بن العربيّ، والاستاذ أبو إسحاق: الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان، إما باسمائها أي حقيقتها، وإِما بكنُاها أي عبارتها وإما تخليطًا. ونظيرها في اليقظة الخواطر، فإنها قد تأتي على نسق في قصد، وقد تأتي مسترسلة غير محصلة.

وذهب أبو بكر بن الطَّيِّب إلى أنها اعتقادات واحتج بان الرائي قد يرى نفسه بهيمة، أو طائرًا مثلًا، وليس هذا إدراكًا، فوجب أن يكون اعتقادا،

ص: 477

لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد. قال ابن العربيّ: والأول أولى. والذي يكون من قبيل ما ذكر ابن الطَّيِّب من قبيل المثل، فالإدراك إِنما يتعلق به لا بأصل الذات.

وقال المازَريّ: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الاسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع فاضطربت أقوالهم.

فمن ينتمي إلى الطب ينسب جميع الرؤيا إلى الأَخلاط فيقول: من غلب عليه البَلْغَم رأى أنه يسبح في الماء ونحو ذلك، لمناسبة الماء طبيعة البلغم. ومن غلبت عليه الصفراء، رأى النيران والصعود في الجو، وهكذا وهذا، وإن جوَّزه العقل، وجاز أن يجري الله العادة به، لكنه لم يقم عليه دليلٌ، ولا اطردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غلط.

ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنقوش، فما حاذى بعض النقوش منها انتقش فيها. قال: وهذا أشد فسادًا من الأول، لكونه تحكمًا لا برهان عليه. والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلويّ الأعراضُ، والأعراض لا ينتقش فيها. قاله في الفتح.

ولم أفهم معنى قوله: إن أكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراضُ، لأن العالم العلوي فيه الأجسام التي هي أعظم من الأرض وما فيها. ثم قال: والصحيح ما عليه أهل السنة من أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات، كما يخلقها في قلب اليقظان. فإذا خلقها فكأنه جعلها علمًا على أمور أخرى يخلقها في ثاني الحال، وما وقع منها على خلاف المعتقد، فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن الله خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف. وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسر، أو بحضرة الشيطان، فيقع بعدها ما يضر.

ص: 478

وقال القرطبيّ: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضُهم عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم، وبيان ذلك أن الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس، وقد غُيَّب عنّا علم حقيقتها، أي: النفس، وإذا كان كذلك، فالأوْلى أن لا نعلم علم إدراكاتها، بل كثير مما انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنما نعلم منه أمورًا جُمليَّة لا تفصيلية، ونقل في "المفهم" عن بعض أهل العلم: أن لله تعالى ملكًا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صورة محسوسة، فتكون تارة أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون أمثلة لمعان معقولة، وتكون في الحالين مبشرة ومنذرة. قال: ويحتاج فيما نقله عن الملك إلى توقيف من الشرع، وإلا فجائز أن يخلق الله ثلث المثالات من غير ملك. قال: وقيل: إن الرؤيا إدراك أمثلة منضبطة في التخيل جعلها الله تعالى أعلامًا على ما كان، أو يكون.

وقال عياض: اختلف في النائم المستغرق، فقيل: لا تصح رؤياه، ولا ضرب المثل له، لأن هذا لا يدرك شيئًا مع استغراق أجزاء قلبه، لأن النوم يخرج الحي عن صفات التمييز، والظن والتخييل، كما يخرجه عن صفة العلم. وقال آخرون بل يصح للنائم مع استغراق أجزاء قلبه بالنوم أن يكون ظانًّا أو متخيلًا، وأما العلم فلا، لأن النوم آفة تمنع حصول الاعتقادات الصحيحة. نعم. إن كان بعض أجزاء قلبه لم يحل فيه النوم فيصح، وبه يضرب المثل، وبه يرى ما يتخيله، ولا تكليف عليه حينئذ، ولأن رؤياه ليست على حقيقة وجود العلم، ولا صحة الميز، وإنما بقيت فيه بقية يدرك بها ضرب المثل. وأيده القرطبيُّ بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كان تنام عينه، وقلبه لا ينام. ومن ثم احترز القائل بقوله "المدرك من النائم" ولذا قال: منضبطة في التخيل، لأن الرائي لا يرى في منامه إلا من نوع ما يدركه في اليقظة بحسه، إلا أنَّ التخيلات قد تركب له في النوم تركيبًا تحصل به صورة لا عهد له بها، يكون علمًا على أمرٍ نادر

ص: 479

كمن رأى رأس إنسان على جسد فرس له جناحان مثلًا، وأشار بقوله "أعلاما" إلى الرؤيا الصحيحة المنتظمة الواقعة على شروطها.

وأما الحديث الذي أخرجه الحاكم والعقيليّ من رواية محمد بن عَجلان عن ابن عمر قال: لقي عمر عليًا فقال: يا أبا الحسن، الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب، قال: نعم. سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يقول:"ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلىء نومًا إلا تخرج روحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش، فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش، فتلك الرؤيا التي تكذب". فقد قال الذهبي: أنه حديث منكر. وقال الحكيم الترمِذِيّ: وكل الله بالرؤيا ملكًا أطلعه على أحوال بني آدم من اللوح المحفوظ، فينسخ منها، ويضرب لكل على قصته مثلًا، فإذا نام مثل له تلك الأشياء على طريق الحكمة، لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة. والآدميّ قد تسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما، فهو يكيده بكل وجه، ويريد إفساد أموره بكل طريق، فيلْبس عليه رؤياه، إما بتغليطه فيها، وإما بغفلته عنها ثم جميع المرائي تنحصر في قسمين: الصادقة، وهي رؤيا الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم بِنُدور، وهي التي تقع في اليقظة على وفق ما وقعت في النوم، والأضغاث، وهي لا تنذر بشيء، وهي أنواع:

الأول تلاعُب الشيطان ليحزن الرائي، كأن يرى أنه قد قطع رأسه وهو يتبعه، أو يرى أنه واقع في هول ولا يجد من ينجده، ونحو ذلك.

الثاني أن يرى أن بعض الملائكة تأمره أن يفعل المحرمات مثلًا، ونحوه من المحال عقلًا.

الثالث أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه، فيراه كما هو في المنام، وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة، أو ما يغلب على مزاجه، ويقع عن المستقبل غالبًا، وعن الحال كثيرًا. وعن الماضي قليلًا.

فإن قيل هل يجوز أن تكون رؤيته، عليه الصلاة والسلام، في المنام

ص: 480

مما يحدث به المرء نفسه، الذي هو من أضغاث الأحلام؟ فالجواب أن ذلك لا يصح، لأن الاجتماع بين الشيئين يقظة ومنامًا لابد له من وجود اتحاد بينهما، وحديث المرء نفسه لا يمكن أن تحصل بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام، مناسبةٌ تكون سببًا للاجتماع. وأيضًا النبي، عليه الصلاة والسلام، أعظم عند الله تعالى من أن تكون رؤيته من أضغاث الأحلام.

هذا ما قيل في رؤيته، صلى الله تعالى عليه وسلم، في النوم، وأما رؤيته في اليقظة، فلم يرد فيها حديث صحيح ولا ضعيف. وقد أشبعنا الكلام فيها في كتابنا "مشتهى الخارف الجاني" وهو لله الحمد والمنة، مطبوع بأيدي الناس شرقًا وغربًا، فمن أراد الإِطلاع على ما قيل فيها فليراجعه.

تنبيهان.

الأول: في رؤيا الله تعالى في المنام، قال في "الفتح": جوز أهل التعبير رؤية الباري عز وجل في المنام مطلقًا، ولم يجروا فيها الخلاف الذي في رؤيا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وأجاب بعضهم عن ذلك بأمور قابلة للتأويل في جميع وجوهها، فتارة يعبر بالسلطان، وتارة بالوالد، وتارة بالسيد، وتارة بالرئيس في أي من كان، فلما كان الوقوف على حقية ذاته ممتنعًا، وجميع من يعبر به يجوز عليهم الصدق والكذب، كانت رؤياه تحتاج إلى تعبير دائما، بخلاف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فإذا رؤي على صفته المتفق عليها، وهو لا يجوز عليه الكذب، كانت في هذه الحالة حقًا محضًا لا يحتاج إلى تعبير. ومرّ ما قاله الغزالي والقُشَيْريّ.

الثاني: في الإِلهام. قال في "الفتح": وذكر ابن أبي جَمْرَة ما ملخصه أنه يؤخذ من قوله "فإن الشيطان لا يتمثل بي" أنَّ من تمثلت صورته، صلى الله تعالى عليه وسلم، في خاطره من أرباب القلوب، وتصور له في عالم سره أنه يكلمه، أنّ ذلك يكون حقًا بل ذلك أصدق من مرأى غيرهم، لما منَّ الله به عليهم من تنوير قلوبهم. وهذا المقام الذي أشار إليه هو الإِلهام،

ص: 481

وهو من جملة أصناف الوحي إلى الأنبياء، ولكن لم أر في شيء من الأحاديث وصفه بما وصفت به الرؤيا، أنه جزء من النبوة. وقد قيل في الفرق بينهما أن المنام يرجع إلى قواعد مقررة، وله تأويلات مختلفة، ويقع لكل أحد، بخلاف الإلهام، فإنه لا يقع إلا للخواص، ولا يرجع إلى قاعدة يميز بها بينه وبين لمة الشيطان.

وتُعُقِّب بأن أهل المعرفة بذلك ذكروا أن الخاطر الذي يكون من الحق يستقر ولا يضطرب، والذي يكون من الشيطان يضطرب ولا يستقر، فهذا إن ثبت كان فارقًا واضحًا. ومع ذلك فقد صرح الأئمة بأن الأحكام الشرعية لا تثبت بذلك. قال أبو المظْفّر بن السَّمْعَاني في "القواطع" بعد أن حكى عن أبي زيد الدَّبوسي من أئمة الحنفية: إن الإلهام ما حرك القلب لعلم يدعو إلى العمل به من غير استدلال، والذي عليه الجمهور أنه لا يجوز العلم به إلا عند فَقْدِ الحجج كلها في باب المباح، وعن بعض المبتدعة أنه حجة، واحتج بقوله تعالى {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] وبقوله تعالى {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] أي: ألهمها حتى عرفت مصالحها، فيؤخذ منه مثل ذلك للآدمي بطريق الأَولى، وذكر فيه ظواهر أخرى. ومنه الحديث قوله صلى الله تعالى عليه وسلم "اتقوا فراسة المؤمن". وقوله لوابصة "ما حاك في صدرك فدعْه، وإن أفتوك" فجعل شهادة قلبه حجة مقدمة على الفتوى، وقوله "قد كان في الأمم محدثون" فثبت بهذا أن الإِلهام حق، وأنه وحي باطن، وإنما حُرِمه العاصي لاستيلاء وحي الشيطان عليه.

قال: وحجة أهل السنة الآياتُ الدالة على اعتبار الحجة والحث على التفكر في الآيات، والاعتبار والنظر في الأدلة، وذم الأماني والهواجس والظنون، وهي كثيرة مشهورة، وبأن الخاطر قد يكون من الله، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون من النفس، وكل شيء احتمل أن لا يكون حقًا، لم يوصف بأنه حق.

ص: 482

قال: والجواب عن قوله {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] أن معناه عرفها طريق العلم، وهو الحجج. وأما الوحي إلى النحل فنظيره في الآدمي فيما يتعلق بالصنائع، وما فيه صلاح المعاش. وأما الفراسة فنسلمها، لكن لا نجعل شهادة القلب حجة، لأننا لا نتحقق كونها من الله أو من غيره. قال ابن السمعانيّ: إنكار الإِلهام مردود، ويجوز أن يفعل الله لعبده ما يكرمه به، ولكن التمييز بين الحق والباطل في ذلك أن كل ما استقام على الشريعة المحمدية، ولم يكن في الكتاب والسنة ما يرده، فهو مقبول، وإلا فمردود، يقع من حديث النفس ووسوسة الشيطان. ثم قال: ونحن لا ننكر أن الله يكرم عبده بزيادة نور منه يزداد به نظره، ويقوي به فكره ورأيه، وإنما ننكر أن يرجع إلى قلبه بقول لا يعرف أصله، ولا نزعم أنه حجة شرعية، وإنما هو نور يخص الله به من يشاء من عباده، فإن وافق الشرع، كان الشرع هو الحجة.

ويؤخذ من هذا ما مر التنبيه عليه أن النائم لو رأى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، يأمره بشيء هل يجب عليه امتثاله؟ ولابد أولًا أن يعرضه على الشرع الظاهر. والثاني هو المعتمد الحق وقد استوفينا في كتابنا المذكور سابقًا الكلام على هذا المنزع، الذي هو الإِلهام، استيفاء لا يحتاج إلى زيادة. وهذا الحديث حديث جليل أخرجه البخاري عن ثمانية من الصحابة، وروي عن ثلاثين من الصحابة بأسانيد صحاح وحَسِان، وعن نحو خمسين غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو عشرين آخرين بأسانيد ساقطة، بل تحصل من مجموع من جمع طرقه رواية مائة من الصحابة له.

ونقل النووي أنه جاء عن مئتين من الصحابة، ونقل البَيْهَقيّ عن الحاكم، ووافقه، أنه جاء من رواية العشرة المشهورة. قال: وليس في الدنيا حديث أجمع العشرة على روايته غيره. والطرق عنهم موجودة فيما جمعه ابن الجَوْزِيّ في مقدمة كتاب "الموضوعات" ومن بعده، لكن الثابت

ص: 483