الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجاله أربعة:
أبو اليمان، وشعيب بن أبي حَمْزة مرا في السابع من بدء الوحي، ومر ابن شهاب في الثالث منه، ومر أنس بن مالك في السادس من كتاب الإيمان ومر عبد الله بن حُذافة في السادس من كتاب العلم. أخرجه البخاري هنا، وفي الصلاة أيضًا، وفي الاعتصام عن أبي اليمان، ومسلم في فضائل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، عن عبد الله بن عبد الرحمن.
ثم قال المصنف.
باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه
كذا هو في رواية كريمة والأصيلي، بذكر "عنه" وحينئذ يفهم، بفتح الهاء لا غير، وفي رواية غيرهما بحذف "عنه" وحينئذ الياء بالضم والهاء روي فيه الفتح والكسر، قال ابن المنير: نبه البخاريّ بهذه الترجمة على الرد على من كره إعادة الحديث، وأنكر على الطالب الاستعادة، وعده من البلادة، والحق إن هذا يختلف باختلاف القرائح، فلا عيب على المستفيد الذي لا يحفظ من مرة إذا استعاد، ولا عذر للمفيد إذا لم يعد، بل الإِعادة عليه آكد من الابتداء، لان الشروع ملزم.
ثم قال المصنف مستدلًا للترجمة:
فقال: "ألا وقول الزور، فما زال يكررها" وفي رواية غير أبي ذر "فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم"، وهذا طرف معلق من حديث أبي بكرة المذكور في الشهادات والدِّيات أوله " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس، وكان متكئا، ألا وقول الزور، قال فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت" هذا لفظ الحديث.
وقوله فيه: "ثلاثًا" أي: قال لهم ذلك ثلاث مرات، وكرره تأكيدًا لينتبه السامع على إحضار فهمة. ووهم من قال: المراد بذلك عدد الكبائر. وفي
هذا اللفظ معنى الترجمة لكونه قال لهم ذلك ثلاثًا. وها أنا أذكر بعضًا من تصير هذا الحديث فأقول:
قوله: "الإشراك بالله" يحتمل مطلق الكفر، ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، ولاسيما في بلاد العرب، فذكره تنبيهًا على غيره، ويحتمل أن يراد به خصوصيته، إلا أنه يرد عليه أن بعض الكفر أعظم قبحًا من الاشراك، وهو التعطَّل لأنه نفي مطلق، والإشراك إثبات مقيد، فيترجح الاحتمال الأول.
وقوله: "وعقوق الوالدين" العقُوق، بضم العين المهملة، مشتق من العَقّ، وهو القطع، والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلَاّ في شرك أو معصية، ما لم يتعنت الوالد. وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلًا وتركًا، واستحبابها في المندوبات وفروض الكفاية كذلك. ومنه تقديمها عند تعارض الأمرين، وهو كمن دعته أمه ليمرِّضها مثلا بحيث يفوت عليه فعلُ واجب إن استمر عندها، ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها، وغير ذلك إن لو تركها وفعله وكان مما يمكن تداركه مع تفاوت الفضيلة، كالصلاة أول الوقت أو في الجماعة.
وقوله: "وجلس وكان متكئا" يشعر بأنه اهتم بذلك، حتى جلس بعد أن كان متكئًا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه، وعظم قبحه وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعا على الناس، والتهاون بها أكثر، فإن الاشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك قطعًا، بل لكون مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد، بخلاف الشرك، فإن مفسدته قاصرة غالبًا.
وقوله: "ألا وقول الزور" في رواية "وشهادة الزور". قال ابن دقيق العيد عطف الشهادة على القول ينبغي أن يكون تأكيدًا للشهادة، فإنا لو حملنا
القول على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة كبيرة، وليس كذلك. ولا شك أن عظم الكذب ومراتبه متفاوتة، بحسب تفاوت مفاسده ومنه قوله تعالى {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112]. قال: وقد نص الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة، والغيبة تختلف بحسب القول المغتاب به، فالغيبة بالقذف كبيرة ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة، أو الهيئة مثلا، وقال غيره: يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام؛ لأن كل شهادة زور قول زور، بغير عكس ويحتمل قول الزور على نوع خاص، والأولى: ما قاله ابن دقيق العيد، ويؤيده وقوع الشك في رواية أنس، هل قال: قُول الزور "أو شهادة الزور"؟ فدل على أن المراد شيء واحد.
وقال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررًا منها، ولا أكثر فسادًا بعد الشرك بالله. وزعم بعضهم أن المراد بشهادة الزور في هذا الحديث الكفر، فإن الكافر شاهد بالزور، وهو ضعيف. وقيل: المراد من يستحل شهادة الزور، وهو بعيد، وقد نظم كل من العقوق وشهادة الزور بالشرك في آيتين إحداهما قوله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] ثانيهما قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] وقد أخرج النَّسائي والبَّزار، وصححه ابن حبان والحاكم، عن ابن عمر "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، ومُدْ من الخمر والمنَّان" وأخرج أحمد والنسائي، وصححه الحاكم عن عبد الله بن عمرو، نحوه، إلا أنه قال "الديوث" بدل "المنان" والديوث، بفتح الدال المهملة وتشديد التحتانية بوزن فروخ، هو الذي يقر الخبث في أهله.
وقوله: "فما زال يكررها" يعني في مجلسه ذلك، والضمير يعود على الكلمة الأخيرة، وهي قول الزور، وقوله:"حتى قلنا: ليته سكت" أي:
شفقة عليه، وكراهية لما يزعجه، وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله تعالى عليه وسلم والمحبة له، والشفقة عليه.
وقوله في الحديث "أكبر الكبائر" ليس على ظاهره من الحصر، بل فيه "من" مقدرة فقد ثبت في أشياء أخر أنها من أكبر الكبائر، منها حديث أنس عند المصنف حيث عد فيه "قتل النفس" وحديث ابن مسعود عنده أيضًا "أيُّ الذنب أعظم"؟ فذكر فيه "الزنى بحليلة الجار" وحديث عبد الله بن أُنيس الجهنيّ مرفوعًا قال: من"أكبر الكبائر" فذكر منها "اليمين الغَمُوس" أخرجه التِّرمذي بسند حسن، وله شاهد عند أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث أبي هريرة، رفعه، أن عن أكبر الكبائر "استطالة المرء في عرض رجل مسلم" أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن، وحديث ابن عمر رفعه، "أكبر الكبائر سوء الظن بالله" أخرجه ابن مَرْدَويهِ بسند ضعيف، وحديث بُرَيدة رفعه، من أكبر الكبائر، فذكر منها "منع فضل الماء" و"منع الغسل" أخرجه البّزار بسند ضعيف، ويقرب من هذا حديث أبي هريرة "ومن أظلم ممن يخلق كخلقي" أخرجه المصنف في اللباس وغيره، وحديث عائشة "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" أخرجه الشيخان. وحديث عبد الله بن عمرو عند المصنف "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل أباه" ولكنه من جملة العقوق.
قال ابن دقيق العيد: يستفاد من قوله "أكبر الكبائر" انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويستنبط منه أن في الذنوب صغائر وكبائر، وقد اختلف السلف فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر وصغائر، وشذت طائفة، منهم أبو إسحاق الإسْفراينيَّ، فقال: ليس في الذنوب صغيرة، بل كل ما نهى الله عنه كبيرة، ونقل ذلك عن ابن عباس أخرجه عنه إسماعيل القاضي والطبري بسند صحيح، على شرط الشيخين، وحكاه القاضي عياض عن المحققين. واحتجوا بأن كل مخالفة لله فهي، بالنسبة إلى جلاله كبيرة. ونسبه ابن بَطّال إلى بعض الأشعرية، فقال: انقسام الذنوب إلى صغائر
وكبائر، وهو قول عامة الفقهاء، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطَّيب وأصحابه، فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة، بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: القُبْلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا وكلها كبائر.
قالوا: ولا ذنب عندنا يغفر واجبًا باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وأجابوا عن الآية التي احتج أهل القول الأول بها، وهي قوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]. أن المراد الشرك. وقال الفراء: من قرأ كبائر، فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد، كقوله تعالى {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]. ولم يرسل إليهم غير نوح. قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة، كجوازه على الكبيرة، قال النّوويّ: قدّ تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة إلى القول الأول. وقال الغزالي في "البسيط": إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه، وقد حقق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة واختاره، وبين أنه لا يخالف ما قاله الجمهور فقال في "الإرشاد" المرضيُّ عندنا أن كل ذنب يُعصى الله به كبيرة، فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران، ولو كان في حق الملك لكان كبيرة، والرب أعظم من عُصي، فكل ذنب بالإضافة إلى مخالفته عظيم، ولكن الذنوب وإن عظمت فهي متفاوتة في رتبها، وظَنَّ بعض الناس أن الخلاف لفظي، فقال: التحقيق أن للكبيرة اعتبارين، فبالنسبة إلى مقايسة بعضها لبعض فهي تختلف قطعًا، وبالنسبة إلى الآمر الناهي، فكلها كبائر. والتحقيق أن الخلاف معنوي، وإنما جر إليه الأخذ بظاهر الآية، والحديث الدال على أن الصغائر تكَفَّر باحتناب الكبائر.
وقال القرطبي: ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله عز
وجل، عنه كبيرة؛ لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] وقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] فجعل في المنهيات صغائر الكبائر، وفرَّق بينهما في الحكم، إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطًا باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفى ذلك على حَبْر القرآن؟ كذا قال، لكن النقل المذكور عنه قد مر لك من أخرجه فالأَوْلى أن يكون المراد بقوله "نهى الله عنه" محمولا على نهي خاص، وهو الذي قرن به وعيد، كما قيد في الرواية الأخرى الآتية، عن ابن عباس فيحمل مطلقَهُ على مقيده جمعًا بين كلاميه.
وقال الحَلِيميّ في "المنهاج": ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشة كذلك، إلا الكفر بالله فإنه أفحش الكبائر، وليس من نوعه صغيرة، ومع ذلك فهو ينقسم إلى فاحش، وافحش. ثم ذكر الحليمي أمثلة لما ذكر، فقال: الثاني كقتل النفس بغير حق، فإنه كبيرة، فإن قتل أصلًا أو فرعًا أو ذا رحم أو بالحرم أو بالشهر الحرام، فهو فاحشة والزنا كبيرة فإن كان بحليلة الجار، أو بذات محرم، أو في شهر رمضان أو في الحرم فهو فاحشة. وشرب الخمر كبيرة فإن كان في شهر رمضان نهارًا فهو فاحشة. والأول كالمفاخذة مع الأجنبية صغيرة، فإن كان مع امرأة الأب أو خليلة الابن أو ذات رحم فكبيرة، وسرقة دون النصاب صغيرة، فإن كان المسروق منه لا يملك غيره، وافضى به عدمه إلى الضعف فهو كبيرة، وأطال في أمثلة ذلك، وهو منهج حسن لا بأس باعتباره، ومداره على شدة المفسدة وخفتها.
وقال الطَّيبيّ: الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان، فلابد من أمر يضافان إليه، فهو أحد ثلاثة أشياء: الطاعة أو المعصية أو الثواب. فأما الطاعة، فكل ما تكفره الصلاة مثلًا فهو من الصغائر، وكل ما يكفره الإِسلام أو
الهجرة فهو من الكبائر، وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدًا أو عقابًا بأزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة. وأما الثواب ففاعل المعصية إن كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة. فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية.
قال فى"الفتح": وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب يخصص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها، لكن يلزم منه أنَّ مطلق قتل النفس مثلًا ليس كبيرة؛ لأنه وإن ورد الوعيد فيه أو العقاب، لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل ولده أشد، فالصواب ما قاله الجمهور. وأن المثال المذكور ينقسم إلى كبيرة وأكبر.
قال النوويّ: اختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافًا كثيرًا، فروي عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وهذا أخرجه عنه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به، إلا أن فيه انقطاعًا. وأخرج عنه من وجه آخر متصل، لا بأس برجاله، قال: كل ما توعد الله عليه بالنار كبيرة، وجاء نحو هذا عن الحسن البصري، وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار في الآخرة أو أوجب فيه حدًا في الدنيا. نص على هذا الإمام أحمد، والماوَرْدِيّ من الشافعية قال: الكبيرة ما وجبت فيه الحدود أو توجه إليها الوعيد. وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخرى منها قول إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة. وقال الرافعي: هي ما أوجب الحد. وقيل: ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة. هذا أكثر ما يوجد للأصحاب، وهم إلى ترجيح الأول أميل. لكن الثاني أوفق، لما ذكره عند تفصيل الكبائر، وقد أقره في الروضة، وهو يشعر بأنه لا يوجد عند أحد من الشافعية الجمع بين التعريفين، وليس كذلك، فقد مر قريبا عن الماوردي الجمع بينهما، وكيف يقول عالم أن الكبيرة ما ورد فيه الحد مع التصريح في الصحيحين بالعقوق واليمين الغموس
وشهادة الزور ونحو ذلك، وأجاب بعض الأئمة بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بأنه كبيرة.
وقال ابن عبد السلام: لم أقف على ضابط للكبيرة يسلم من الاعتراض. قال: والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارًا صغر الكبائر المنصوص عليها، قال: وضبطها بعضهم بكل ذنب قرن به وعيد أو لعن. وهذا أشمل من غيره، ولا يرد عليه إخلاله بما فيه حد؛ لأن كلل ما ثبت فيه الحد لا يخلو من ورود الوعيد على فعله، ويدخل فيه ترك الواجبات الفورية منها مطلقًا والمتراخية إذ تضيقت.
وقال ابن الصّلاح: لها أمارات، منها إيجاب الحد وألا يعاد عليها بالعذاب بالنار، ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف صاحبها بالفسق أو اللعن. وهذا أوسع مما قبله، وأخرج إسماعيل القاضي بسند فيه ابن لهيعة عن أبي سعيد مرفوعًا "الكبائر كل ذنب أدخل صاحبه النار" وبسند صحيح عن الحسن البصري قال "كل ذنب نسبه الله تعالى إلى النار فهو كبيرة ومن أحسن التعاريف قول القرطبيّ "المفهم": كل ذنب أُطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو اجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدة العقاب أو علق عبيه الحد أو شدد عليه النكير فهو كبيرة. قال: وعلى هذا فينبغي تتبع ما ورد فيه الوعيد أو اللعن أو الفسق من القرآن، أو الأحاديث الصحيحة أو الحسنة، ويضم إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن والاحاديث الصحاح والحسان على أنه كبيرة، فمهما بلغ مجموع ذلك عرف تحرير عدها.
وقد أخرج البخاريّ في كتاب الحدود عن أبي هريرة رفعه "اجتنبوا السبعَ الموبقات قالوا: يا رسول الله، وما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربى، وأكل مال اليتيم، والتَّولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات". وقد شرط القاضي أبو سعيد الهَرَويّ أن شرط كون غصب المال كبيرة أن يبلغ نصابًا ويطرد ذلك في السرقة، وفي أكل مال ليتيم وجميع أنواع الجناية.
والمراد بالموبقة هنا الكبيرة، وقد تتبع في "الفتح" عند هذا الحديث جميع ما وقف عليه من الأحاديث فيه التصريح بأن الذنب من الكبائر أو من أكبر الكبائر صحيحاً وضعيفًا مرفوعًا وموقوفًا فقال في عدها. وللطبرانيّ عن سهل بن أبي خَيْثَمة عن عليّ رفعه، "اجتنبوا الكبائر السبع" فذكرها، ولكن ذكر "التعّرب بعد الهجرة بدل "السحر" وله في "الأوسط" عن أبي سعيد مثله، وقال "الرجوع إلى الأعراب بعد الهجرة" ولإسماعيل القاضي عن عبد الله بن عمرو قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ثم قال: "أبشروا من صلّى الخمس، واجتنب الكبائر السبع، نودي من أبواب الجنة"، فقيل له: أسمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يذكرهن؟ فقال: نعم. فذكر مثل حديث على سواء.
وقال عبد الرزاق عن الحسن قال: الكبائر: الإشراك بالله، فذكر مثل الأُصول سواء إلا أنه قال:"اليمين الفاجرة" بدل "السحر" ولابن عمر فيما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" والطبري في التفسير، وعبد الرزاق والخرائطيّ في "مساوىء الأخلاق" وإسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" مرفوعًا وموقوفًا قال "الكبائر تسع"، فذكر السبعة المذكورة، وزاد "الإلحاد في الحرم وعقوق الوالدين" ولأبي داود والطبرانيّ عن عُبيد بن عُمير اللَّيثيّ عن أبيه، رفعه "أن اولياء الله المصلون، ومن يجتنب الكبائر" قالوا: وما الكبائر قال: هن تسع، أعظمهن الإشراك بالله، .. " فذكر مثل حديث ابن عمر سواء، إلا أنه عبر عن الإِلحاد في الحرم باستحلال بيت الله الحرام". وأخرج إسماعيل القاضي بسند صحيح عن سعيد بن المُسيّب قال: هن عشر، فذكر السبعة التي في الأصل وزاد و"عقوق الوالدين واليمين الغموس وشرب الخمر".
ولابن أبي حاتم عن مالك بن الحُوَيرث عن عليّ قال: فذكر التسعة إلَاّ مال اليتيم، وزاد "العقوق، والتَّعرب بعد الهجرة وفراق الجماعة، ونكت الصَّفقة" وللطّبراني عن أبي أُمامة أنهم تذاكروا الكبائر، فقالوا: الشرك،
ومال اليتيم، والفرار من الزحف، والسحر، والعقوق، وقول الزور، والغُلول، والزنى. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه سلم:"فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا"، وعند عبد الرزاق والطَّبراني عن ابن مسعود: أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، وهو موقوف. قلت: هذا لا مجال للرأي فيه، فهو في حكم المرفوع.
وروى إسماعيل، بسند صحيح، عن ابن سيرين عن عبد الله بن عمرو مثل حديث الأصل قال: البُهْتان، بدل السحر، والقذْف. فسئل عن ذلك، فقال: البُهتان يجمع. وفي الموطأ، عن النعمان بن مُرّة، مرسلًا "الزنى، والسرقة، وشرب الخمر فواحش" وله شاهد عن عمران بن حُصين عند البخاريّ في "الأدب المفرد" والطَّبراني والبّيهقي، وسنده حسن ولاسماعيل القاضي من مرسل الحسن ذكر "الزنى والسرقة" وله عن أبي إسحاق السَّبيْعيّ "شتم أبي بكر وعمر" وهو لابن أبي حاتم من قول المغيرة بن مِقْسَم. وأخرج الطبريّ عنه، بسند صحيح "الإضرار فى الوصية من الكبائر" وعنه "الجمع بين الصلاتين من غير عذر" رفعه، وله شاهد أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر قوله، وعند إسماعيل من قول ابن عمر، ذكر النُّهبة، ومن حديث أبي هريرة عند الحاكم "الصلوات كفّارات إلا من ثلاث: الإشراك بالله، ونكَثُ الصَّفقة، وترك السنة" ثم فسر نكث الصفقة بالخروج على الإِمام، وترك السنة بالخروج عن الجماعة.
ومن الضعيف في ذلك نسيان القرآن. أخرجه أبو داود والترمذِيّ عن أنس، رفعه "نظرت في الذنوب فلم أر أعظم من سورة من القرآن أُوتيها رجلٌ فنسيها" وحديث "من أتى حائضًا أو كاهنًا فقد كفرًا أخرجه التِّرْمِذي. وقد مر في أول الكلام على هذا الحديث، وذكر أحاديث وردت فيها أشياء من أكبر الكبائر "قتل النفس، والزنى بحليلة الجار، واليمين الغموس، واستطالة المرء في عرض رجل مسلم، وسؤ الظن بالله، ومنع فضل الماء،
ومنع الغسل، ومن اظلم ممن يخلق كخلقي، وأبغض الرجال إلى الله الألد الخَصِم، وسب الرجل أباه" ومر في الطهارة ذكر النميمة، والغيبة، وترك التنّزه عن البول، ثم قال: وقد تتبعه غاية التتبع.
وفي بعضه ما ورد خاصًا ويدخل في عموم غيره كالتسبب في لعن الوالدين، فهو داخل في العقوق، وقتل الولد وهو داخل في قتل النفس، والزنا بحليلة الجار، وهو داخل في الزنا، والنهبة والغلول واسم الخيانة يشملها، ويدخل الجميع في السرقة، وتعلم السحر وهو داخل في السحر، وشهادة الزور وهي داخلة في قول الزّور، ويمين الغموس وهي داخلة في اليمين الفاجرة، والقنوط من رحمة الله كاليأس من روح الله. والمعتمد من كل ذلك ما ورد مرفوعًا بغير تداخل من وجه صحيح، وهي السبعة المذكورة في الحديث السابق، والانتقال عن الهجرة يعني الرجوع عنها، والزنى، والسرقة، والعقوق واليمين الغموس، والإِلحاد في الحرم، وشرب الخمر، وشهادة الزور، والنميمة، وترك التنزه من البول، والغلول، ونكث الصفقة، وفراق الجماعة، فتلك عشرون فصلة، وتتفاوت مراتبها. والمجمع على عده من ذلك اقوى من المختلف فيه إلا ما عضده القرآن أو الإِجماع فيلتحق بما فوقه، ويجتمع من المرفوع والموقوف ما يقاربها، ويحتاج عند هذا إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع، ويجاب بان مفهوم العدد ليس بحجة، وهو جواب ضعيف، وبأنه أعلم أولًا بالمذكورات، ثم أعلم بما زاد فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل، أو من وقعت له واقعة ونحو ذلك. وقد أخرج الطبريّ وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له: الكبائر سبع؟، فقال هن أكثر من سبع وسبع. وفي رواية عنه هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية إلى السبعمائة، ويحمل كلامه على المبالغة بالنسبة إلى من اقتصر على سبع وكأَن المقتصر عليها اعتمد على حديث أبي هريرة السابق. هذا تلخيص ما بسطه في فتح الباري في ثلاثة مواضع في الشهادات والادب والحدود وكتاب المحاربين.
ثم قال المصنف:
وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "هل بَلَّغْت"، ثلاثًا. وهذا طرف من حديث وصله المؤلف في خطبة الوداع، ووصله أيضًا في كتاب الحدود، أوله " ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة" الخ وقوله:"ثلاثًا" متعلق بقال، لا بقوله: بلّغت. وتقدم الكلام على هذا الحديث في باب قوله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم "رُبَّ مُبَلِّغٍ أوعى من سامع" ومر عبد الله بن عمر في أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه.