الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث عشر
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ".
قوله: "خطيبًا" حال من المفعول، وفي رواية مسلم والاعتصام: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو يخطب الحديث، وهذا مشتمل على ثلاثة أحكام: أحدها فضل التفقه في الدين، وهذا حاصلٌ، ما قيل فيه هو، ما ذكرناه في الترجمة. وثانيها أن المعطي في الحقيقة هو الله. وثالثها أن بعض هذه الأُمة يبقى على الحق أبدًا. والأول لائق بأبواب العلم، كما فعل. والثاني لائق بقَسْم الصدقات، ولهذا أورده مسلم في الزكاة، والمؤلف في الخُمس. والثالث لائق بذكر أشراط الساعة، وقد أورده المؤلف في الاعتصام لالتفاته إلى مسألة عدم خلوّ الزمان من مجتهد، وقد تتعلق الأحاديث الثلاثة بأبواب العلم، بل بترجمة هذا الباب خاصة، من جهة إثبات الخير لمن تفقه في دين الله، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط، بل لمن يفتح الله عليه به، وإن من يفتح الله عليه بذلك لا يزال جنسه موجودًا، حتى يأتي أمر الله. وها أنا أتكلم علي الحديثين الأخيرين بما يكفي ويشفي.
فقوله: "وإنما أنا قاسم" أي: أقسم بينكم بتبليغ الوحي من غير تخصيص، وقوله:"والله يُعطي" أي: كلَّ واحد منكم من الفهم على قدر ما تعلقت به إرادته تعالى، فالتفاوت في افهامكم منه سبحانه. وقد كان بعض الصحابة يسمع الحديث، فلا يفهم منه إلا الظاهر الجليّ، ويسمعه آخر
منهم، أو من القرن الذي يليهم، أو ممن أتى بعدهم، فيستنبط منه مسائل كثيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا على أن المراد القَسْم في تبليغ الوحي، ويحتمل أن يكون المراد القَسْم للمال، فقد قال الطّيبيّ: الواو في قوله "وإنما أنا قاسم" للحال من فاعل "يفقهْهُ" ومن مفعوله، فعلى الثاني، فالمعنى أن الله تعالى يعطي كلًا ممن أراد أن يفقهه استعدادًا لدركِ المعاني على قدرِهِ له، ثم يلهمني بالقاء ما هو لائق، باستعداد كل واحد. وعلى الأول، فالمعنى أني أُلقي على ما يسمح إليّ، وأسوي فيه، ولا أرجح بعضهم على بعض، والله يوفق كلا منهم، على ما أراد وشاء من العطاء.
وقال غيره: المراد القَسم المالي، لكنّ سياق الكلام يدل على الأول، إذ أنه أخبر أن من أراد به خيرًا يفقهه في الدين، وظاهره يدل على الثاني، لأن القسمة حقيقية في الأموال، نعم يتوجه السؤال عن وجه المناسبة بين اللاحق والسابق، وقد يجُاب بأن مورد الحديث كان عند قسمة مال، وخص عليه الصلاة والسلام، بعضهم بزيادة لمقتضى اقتضاه، فتعرض بعض من خَفيت عليه الحكمة، فرد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله:"مَن يرد الله به خيرًا" الخ .. أي: من أراد الله به الخير، يزيد له في فهمه في أمور الشرع، فلا يتعرض لأمر ليس على وفق خاطره، إذ الأمر كله لله، وهو الذي يعطي ويمنع، ويزيد وينقص، والنبي صلى الله عليه وسلم، قاسمٌ بأمر الله، ليس بمعطٍ، حتى تنسب إليه الزيادة والنقصان. والحصر في قوله عليه الصلاة والسلام:"وإنما أنا قاسم" ليس حقيقيًا، إذ له صفات أخر. بل هو رد على من اعتقد أنه يعطي ويقسم، فيكون قصر إفراد، أو يعطي ولا يقسم، فيكون قصر قلب.
وقوله: "ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله" أي: الدين الحق، لا يضرُّهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله. وفي رواية للمصنف في الاعتصام "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون" أي: على من خالفهم، أي: غالبون، أو المراد بالظهور أنهم غير مستترين، بل مشهورون. والأول أولى، وعند مسلم من حديث جابر بن سَمُرة "لن يبرح
هذا الدين قائمًا، تقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة" وله أيضًا عن عُقبة بن عامر "لا تزال عُصَابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك".
وأخرج أبو داود والحاكم عن عمران بن حُصين، رفعه:"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهُم الدجال". والطائفة التي تبقى على الحق في حديث أبي أمامة، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال:"ببيت المقدس" وفي رواية مالك بن يخامر: قال معاذ "وهم بالشام" وفي رواية لمسلم "لا يزال أهل الغَرْب" قال في "المشارق" هي بفتح الغين وسكون الراء. وروي عن علي بن المَديني أنه قال: المراد بالغَرب الدَّلْو، أي العَرَب، بفتح المُهملتين، لأنهم أصحابها لا يستسقي بها أحد غيرهم. لكن في حديث مُعاذ "وهم أهل الشام" فالظاهر أن المراد بالغَرب البلد، لأن الشام غَربيّ الحجاز، كذا قال: وليس بواضح.
ووقع في بعض طرق الحديث "المَغْرب" بفتح الميم وسكون المعجمة، وهذا يرد تأويل الغرب بالعرب، لكن يحتمل أن يكون بعض رواته نقله بالمعنى الذي فهمه، أن المراد الإِقليم لا صفة بعض أهله. وقيل: المراد بالغرب أهل القوة والاجتهاد في الجهاد، يقال: في لسانه غَرْب، بفتح ثم سكون، أي: حِدّة، وفي الطَّبراني الأوسط عن أبي هريرة "يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب المَقْدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين إلي يوم القيامة".
قال في الفتح: يمكن الجمع بين الأخبار، بأن المراد قوم يكونون ببيت المقدس، وهي شامية، ويسقون بالدلو، وتكون لهم قوة في جهاد العدو، وحِدّة وجِد. واتفق الشرَّاح على أن معنى قوله:"على من خالفهم" أن المراد علوهم عليهم بالغلبة، وأبعد من أبدع فرد على من جعل ذلك مَنْقَبة لأهل الغرب، أنه مذمة لأن المراد بقوله:"ظاهرين على الحق" أنهم غالبون له، وأن
الحق بين أيديهم كالميت، وأن المراد بالحديث ذمّ الغَرْب وأهله، لا مدحهم.
قال النَّوويّ: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع، وبصير بالحرب، وفقيه، ومحدث، ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وزاهد، وعابد. ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولًا فأولًا، إلى أن لا تبقى إلا فرقة واحدة، فإذا انقرضوا جاء أمر الله.
قلت: ما قاله، وإن كان ظاهر الأحاديث من كونهم يقاتلون ظاهرين على عدوهم، مخالفًا له، لم يبق بعد المشاهدة لما فيه الإِسلام من الضعف، وعدم ناصر له في قطر من الأقطار، شيءٌ تحمل عليه الأحاديث الصحاح المتقدمة إلا هو، وكأنه كوشف له عن حالة الإِسلام اليوم، فحمل الطائفة المذكورة في الأحاديث على ما قال وإلا فزمنه كان الإِسلام فيه في عز لا يخطر حالنا الذي نحن فيه اليوم على قلب مؤمن في ذلك الزمان.
قال في "الفتح": ونظير ما نبه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مئة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجه. فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها، لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أنّ جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدَّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المئة الأولى، باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها. ومن ثَمَّ أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه.
وأما من جاء بعده فالشافعي، وإن كان متصفًا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفًا بشيء من ذلك عند رأس المئة، هو المراد، سواء تعدد أم لا.
أما ما قيل في معنى هذا الحديث، فهو ظاهر غير منافٍ للفظه، وهذه الأحاديث المتقدمة الدالة على بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق، إلى أن يأتي أمر الله، أو إلى الساعة، يعارضها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو:"ولا تقوم الساعة إلا على شرِار الخلق، هم شرٌّ من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم". وأخرج مسلم من حديث ابن مسعود أيضًا "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" وأجيب عن هذا التعارض بما قال الطبريّ من أنه يضمر في كل من الحديثين المحل الذي تكون فيه تلك الطائفة، فالموصوفون بشرار الناس الذين يبقون بعد أن تقبض الريح من تقبضه، يكونون مثلًا، ببعض البلاد، كالمشرق الذي هو أصل الفتن. والموصوفون بأنهم على الحق يكونون مثلا، ببعض البلاد كبيت المقدس، لقوله في حديث مُعاذ إنهم بالشام. وفي لفظ "ببيت المقدس" كما مر. وما قاله، وإن كان محتملًا، يرده قوله في حديث أنس في صحيح مسلم "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله" إلى غير ذلك من الأحاديث التي ذكرناها في حديث سؤال جبريل عند ذكر أشراط الساعة فيه.
وأولى ما يتمسك به في الجمع بينها أن المراد بأمر الله في قوله {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] ما ذكر من قبض ما بقي من المؤمنين، وظواهر الأخبار تقتضي أن الموصوفين بكونهم ببيت المقدس، أن آخرهم من كان مع عيسى بن مريم، عليه السلام، ثم إذا بعث الله الريح الطيبة، فقبضت روح كل مؤمن، لم يبق إلا شرِار الناس، وإنما يقع ذلك بعد طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وسائر الآيات العظام. وقد مر عند الحديث المذكور ما قيل في تتابع تلك الآيات.
وفي حديث عائشة عند مسلم ما يشير إلى بيان الزمان الذي يقع فيه ذلك، ولفظه "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللاتُ والعزى، وفيه يبعث الله ريحًا طيبة، فتوفي كل مؤمن في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم". وعنده في حديث عبد الله بن