الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قال المصنف:
باب الاغتباط في العلم والحكمة
الاغتباط افتعال من الغِبطة، وهي تمني ما للمغبوط من غير زواله عنه، بخلاف الحسد فإنه مع زواله عنه. والحكمة معرفة الشيء على ما هو عليه، فهي بمعنى العلم حينئذ. ويكون عطفها عليه من باب العطف التفسيريّ. وقيل: الحكمة هي العلم النافع خاصة، فيكون عطفها عليه من عطف الخاص على العام. ثم قال:
وقال عمر، رضي الله تعالى عنه: تفقَّهوا قبل أن تُسَوَّدوا، بضم المثناة الفوقية، وتشديد الواو، أي: تصيروا سادة، من ساد قومه يسودهم سيادة، إذا كان سيدهم. والسيد هو الذي يلجأ إلى سَوَاده، أي: شخصه عند الشدائد. وقيل: السيد كل مقهور مغمور بحلمه، قال أبو عبيدة: أي تفقهوا وأنتم صغار، قبل أن تصيروا سادة، فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمن هو دونكم، فتبقوا جهالًا. وفسر التسود بالتزوج، فإنه إذا تزوّج صار سيد أهله، ولاسيما إن ولد له. وهذا حمل بعيد، إذ المراد بقوله تسودوا، السيادة، وهي أعم من التزويج، ولا وجه لمن خصصه بذلك؛ لأنها قد تكون به، وبغيره من الأشياء الشاغلة لأصحابها عن الاشتغال بالعلم.
وجوز الكَرَماني أن يكون من السواد في اللحية، فيكون أمرًا للشباب بالتفقه قبل أن تسود لحيته، أو أمرًا للكهل قبل أن يتحول سواد لحيته إلى الشيب. ولا يخفى تكلفه. وقيل: أراد عمر الكف عن طلب الرياسة، لأن الذي يتفقه يعرف ما فيها من الغوائل، فيجتنبها. وقيل: معناه لا تأخذوا العلم من الأصاغر، فيُزدرى بكم. وهذا أشبه بحديث عبد الله "لن يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم" وزاد الكَشميهنيّ في روايته: قال أبو عبد الله، أي: البخاري: وبعد أن تسودوا، وإنما أتى بها البخاري عقب ذلك ليبين أنه لا مفهوم له، خشية أن يفهم أحد من ذلك أن السيادة مانعة من التفقه، وإنما أراد عمر أنها قد تكون سببًا للمنع، لأن الرئيس قد يمنعه
الكبر والاحتشامُ أنْ يجلس مجلس المتعلمين. ولهذا قال مالك: من عيب القضاء أن القاضي إذا عزل لا يرجع إلى مجلسه الذي كان يتعلم فيه.
وقال الشافعيّ: إذا تصدر الحدث، فاته علم كثير. وقال ابن المنير: مطابقة قول عمر للترجمة، أنه جعل السيادة من ثمرات العلم، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة، وذلك يحقق استحقاق العلم بأن يغبط صاحبه، فإنه سبب لسيادته، كذا قال. والذي يظهر أن مراد البخاريّ أن الرياسة وإن كانت مما يغبط بها صاحبها في العادة، لكن الحديث دل على أن الغبطة لا تكون إلا بأحد أمرين: العلم أو الجود، ولا يكون الجود محمودًا إلا إذا كان بعلم، فكأنه يقول: تعلموا العلم قبل حصول الرياسة لتغبطوا، إذا غبطتم، بحق، ويقول أيضًا: إن تعجلتم الرياسة التي من عادتها أن تمنع صاحبها من طلب العلم، فاتركوا تلك العادة وتعلموا العلم لتحصل لكم الغبطة الحقيقية. وليس قول عمر، رضي الله عنه، هنا من تمام الترجمة إلا أنْ يقال كما قال الكَرَماني، أن الفعل مؤول بمصدر، والتقدير باب الاغتباط وقول عمر، وهذا مردود بأن تأويل الفعل بالمصدر، لا يكون إلا بوجود "أنْ" المصدرية. وأتى البخاريّ بقوله: وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، في كبر سنهم، تأكيدًا للسابق. ووجهه ظاهر، فإن كثيرًا من أصحابه عليه الصلاة والسلام، لم يسلم إلا بعد كبر السن، كأبي بكر وعمر والعباس وغيرهم، رضي الله تعالى عنهم.
أما عمر فقد مر في الأول من بدء الوحي، وأما الأثر الذي علقه، فقد أخرجه أبو عمر بإسناد صحيح، والجَوْزيّ في كتابه، ورواه ابن أبي شَيْبة بسند منقطع، والبَيْهَقيّ في كتابه "المَدْخَل".