الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع والعشرون
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِى أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ". قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "الْعِلْمَ".
قوله: "بينا أنا نائم" بينا: أصله بين، فأُشبعث الفتحة، وقد تزاد الميم قبل الألف، وقد مر الكلام عليها، مستوفىً في الرابع من بدء الوحي. وقوله: أُتيت "بضم الهمزة جواب بينا، أي جيء إليَّ. وقوله: "حتى أَني" بكسر الهمزة، لوقوعها بعد حتى الابتدائية، أو بفتحها على جعلها جارة. وقوله: "لأرى" بفتح الهمزة من الرؤية البصرية أو العِلْمية، ويؤيد الأول حديث الحاكم والطبرانى "فشربت حتى رأيته يجري في عُرْوقي بين اللحم والجلد، مع أنه محتمل أيضا، واللام للتأكيد في خبر إن، أو جواب قسم محذوف. وقوله:"الرَّيّ"، هو بكسر الراء في الرواية، وحكى الجوهري الفتح، وقال غيره: بالكسر الفِعل، وبالفتح المصدر. وقوله:"يخرج" أي: الري، جعله مرئيًا تنزيلاً له منزلة الجسم، وإلا فالرِّيُّ لا يرى، فهو استعارة أصلية، وعبر بـ"يخرج" المضارع موضع الماضي، لاستحضار صورة الرؤية للسامعين. و"يخرج" في محل نصب مفعول ثانٍ لأرى إن قدرت الرؤية بمعنى العلم، أو حال إن قدرت بمعنى الإبصار.
وقوله: "في أظفاري" في رواية ابن عساكر من "أظفاري" وهي أبلغ، وفي التعبير "من أطرافي" وهو بمعناه، ويجوز أن تكون "في" بمعنى "على"
أي: على أظفاري كقوله تعالى {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. أي: عليها. ويكون بمعنى يظهر عليها، والظفْر إما منشأ الخروج أو ظرفه.
وقوله: "ثم أعطيت فضلي عمر" أي: ما فضل من لبن القدح الذي شربت منه، وعمر مفعول ثان "لأعطيت" وقوله:"قال العلم" روي بالنصب على أنه مفعول "لأَوَّلَ" مقدرةً، أي: أوَّلتْهُ بالعلم، فحذف الجار، ونصب المجرور، على حد قوله تعالى {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ويجوز الرفع خبرَ مبتدأ محذوف، أي: المُؤَوَّل به العلم. وفي رواية أبي بكر بن سالم "أنه صلى الله تعالى عليه وسلم، قال لهم: أَوَّلوها، قالوا: يا نبيّ الله، هذا علم أعطاكه الله، فملَاّك منه، ففَضُلَتْ فَضْلة فأعْطَيْتها عمر، قال: أصبتم ويجمع بأن هذا وقع أولاً، ثم احتمل عندهم أن يكون عنده في تأويلها زيادة على ذلك، فقالوا: ما أوَّلْته
…
الخ، والفاء في "فما أوَّلتْه" زائدة، كهي في قوله تعالى:{فَلْيَذُوقُوهُ} [ص: 57].
ووجه تفسير اللبن بالعلم الاشتراكُ في كثرة النفع بهما، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي، وقال ابن المنير: وجه الفضيلة للعلم في الحديث من جهة أنه عبر عن العلم بأنه فضلة: النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ونصيب مما آتاه الله، وناهيك بذلك. قال المُهَلب: اللَّبن في النوم يدل على الفطرة والسنة والقرآن والعلم، وقد جاء في بعض الأحاديث المرفوعة تأويلُه بالفطرة، كما أخرجه البَزَّار عن أبي هريرة، رفعه "اللَّبَنُ في المنام فطره" وعند الطبراني عن أبي بكرة، رفعه من رأى أنه تسرب لبنًا فهو الفطرة" وذكر الدَّنْيوَرِيّ أن اللبن المذكور في هذا يختص بالإبل وأنه لشاربه، مال حلال وعلم وحكمة. قال: ولبن البقر خصب السنة، ومال حلال وفطرة أيضًا، ولبن الشاة مال وسرور وصحة جسم، وألبان الوحش شك في الدّين، والبان السباع غير محمودة، إلا أن لبن اللَّبُوة مال مع عداوة لذي أمرة.
وقال ابن العَرَبي: اللَّبَنُ رزق يخلقه الله طيبًا بين أخباث من فرْثٍ ودم، كالعلم نورٌ يظهره الله في ظلمة الجهل، فضرب به المثل في المنام. وقال بعض العارفين: الذي خلق اللبن من بين فرْث ودم قادرٌ على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل، ويحفظ العمل عن غفلة وزلل، وهو كما قال. لكن اطَّردت العادة بأن العلم بالتعلُّم، والذي ذكره قد يقع خارقًا للعادة، فيكون من باب الكرامة. قاله في "الفتح".
قلت: الذي يتوقف على التعلم من العلم إنما هو علم الشريعة، وأما المعارف والأنوار فلا تتوقف على التعلم، بل يهبها الله لمن يشاء من عباده، وهذا هو المراد بقول بعض العارفين. وقد أشبعنا القول على هذه المسألة في كتابنا "مُشْتهى الخارف".
وقال ابن أبي جَمْرَةَ: تأوّل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، اللبن بالعلم، اعتبارًا بما بين له أول الأمر، حين أُتي بقدح خمر، وقدح لبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أخذت الفطرة
…
الحديث. قال: وفي الحديث مشروعية قَصِّ الكبير رؤياه على من دونه، وإلقاء العالم المسائل، واختبار أصحابه في تأويلها، وأنّ من الأدب أنْ يَرُدّ الطالب علم ذلك إلى معلمه. قال: والذي يظهر أنه لم يُرد منهم أن يُعَبِّروها، وإنما أراد أن يسألوه عن تعبيرها، ففهموا مراده، فسألوه، فأفادهم، وكذلك ينبغي أن يسلك هذا الأدب في جميع الحالات. قال: وفيه أن علم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بالله لا يبلغ أحدٌ درَجَته فيه؛ لأنه شرب حتى رأى الرِّيّ يخرج من أظفاره. وأما إعطاؤه فضله عمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله، بحيث كان لا تأخذه في الله لومة لائم. قال: وفيه أنَّ من الرؤيا ما يدل على الماضي والحال والمستقبل. قال: وهذه أُوِّلت على الماضي، فإن رؤياه هذه تمثيل بأمر قد وقع؛ لأن الذي أَعْطِيه من العلم، كان قد حصل له، وكذلك ما أُعْطيه عمر، فكانت فائدةُ هذه الرؤيا تعريفَ قدر النسبة بين ما أعطيه من العلم وما أُعطيه عمر.