المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان - كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري - جـ ٣

[محمد الخضر الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب العلم

- ‌باب فضل العلم

- ‌باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل

- ‌الحديث الأول

- ‌رجاله ثمانية:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من رفع صوته بالعلم

- ‌الحديث الثاني

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب قول المحدث حدثنا واخبرنا وانبأنا

- ‌الحديث الثالث

- ‌رجاله أربعة

- ‌باب طرح الإِمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم

- ‌الحديث الرابع

- ‌رجاله أربعة

- ‌باب ما جاء في العلم وقول الله تعالى وقل رب زدني علمًا

- ‌باب القراءة والعرض على المحدث

- ‌الحديث الخامس

- ‌رجاله خمسة

- ‌لطائف إسناده

- ‌باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان

- ‌الحديث السادس

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السابع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من قعد حيث ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة في الحَلقة، فجلس فيها

- ‌الحديث الثامن

- ‌رجال سنده خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ مُبْلغٍ أوعى من سامع

- ‌الحديث التاسع

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب "العلم قبل القول والعمل

- ‌باب "ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلهُم بالموعظة والعلم كي لا يَنفروا

- ‌الحديث العاشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من يُرد الله به خيرًا يفقِّهْهُ في الدين

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الفهم في العلم

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الاغتباط في العلم والحكمة

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌رجاله تسعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب قول النبي صلى الله عليه وسلم اللهمّ علِّمهُ الكِتابَ

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب متى يصح سماع الصغير

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الخروج في طلب العلم

- ‌الحديث العشرون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب فضل من عَلِمَ وعَلَّمَ

- ‌الحديث الحادي والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب رفع العلم وظهور الجهل

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب فضل العلم

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌رجالُهُ ستةٌ

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وقد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا من وارءهم

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌رجاله خمسة

- ‌باب الرِّحلة في المسألة النازلة

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌رجال السند خمسة

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب التناوب في العلم

- ‌الحديث الحادي والثلاثون

- ‌رجاله تسعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب من برك على ركبتيه عند الإِمام أو المحدث

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌ رجاله رجال الأول

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب تعليم الرجل أَمَتَه وأَهْلَه

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب عظة الإمام النساء وتعليمهن

- ‌الحديث الاربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب الحرص على الحديث

- ‌الحديث الحادي والاربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب كيف يقبض العلم

- ‌الحديث الثاني والاربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب هل يجعل للنساء يومًا على حدة في العلم

- ‌الحديث الثالث والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الرابع والأربعون

- ‌رجاله ثمانية:

- ‌باب من سمع شيئًا فراجع حتى يعرفه

- ‌الحديث الخامس والأربعون

- ‌رجاله أربعة

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب

- ‌الحديث السادس والاربعون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث الثامن والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث التاسع والاربعون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الخمسون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الحادي والخمسون

- ‌رجاله ثلاثة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الثاني والخمسون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب كتابة العلم

الفصل: ‌باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان

ونظم العراقي أحكام العالي والنازل فقال:

وطَلَبُ العُلُو سُنَّة فقدْ

فَضَلَ بعضَ النزول وهْوَ رَدّ

وقسّموه خمسة فالأولُ

قُرْب من الرسول، وهو الأفضلُ

إن صح الإِسناد وقُسِم القُرب

إلى إمام وهو عُلُو نِسْبي

بنسبةٍ للكتب الستة إذ

ينزل متنٌ من طريقها أُخِذْ

فإن يكنْ في شيخه قد وافقه

مع عُلُوّ فهو الموافقه

أو شيخِ شيخه كذاك، فالبَدَل

وإن يكنْ ساواه عَدًّا، قد حَصَلْ

فهو المساواة، وحيث راجَحَه

الأصل بالواحد، فالمصافحهْ

ثم عُلُوُّ قِدَم الوفاة

أما العُلُوّ لا مع الثقات

لآخر، فقيل للخمسينا

أو الثلاثين مضتْ سنينَ

ثم عُلُوُّ قِدَم السماعِ

وضده النزول كالأنواع

وحيث ذُمّ فهو ما لم يُجْبر

والصحةُ العُلُوّ عند النّظر

ثم قال البخاري:

‌باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان

يُذكر، بالبناء للمجهول، لما فرغ من تقرير السماع والعرض، أردفه ببقية وجوه التحمُّل المعتبرة عند الجمهور. وقوله:"إلى البلدان" أي: إلى أهل البلدان. وكتاب مصدر، وإلى متعلق به. وذكر البلدان على سبيل المثال، وإلا فالحكم عام في القرى وغيرها، فقد ذكر في هذا الباب أصلين من أصول الحديث.

الأول: المناولة وهي إعطاء الشيخ الطالبَ شيئًا من مروياته، ويقول له: هذا من مرويّاتي، أو من حديثي، أو نحو ذلك، وهي باعتبار صورها الآتية على نوعين، لأنها إما أن تقترن بالإجازة أو لا، فالتي فيها الإذن هي أعلى الإِجازات مطلقًا، لما فيها من تعيين المرويّ، وتشخيصه. وفي هذا النوع صور متفاوتة علوًا، وأعلاها أن يعطي الشيخَ الطالب مؤلفا له أو أصلًا

ص: 79

من مسموعاته، مثلًا، أو فرعًا مقابلًا به على وجه التمليك له، بهبة أو بيع أو غير ذلك، قائلًا له: هذا من تأليفي أو سماعي أو روايتي عن فلان. وأنا عالم بما فيه، فاروه أو حدث به عني، أو نحو ذلك. وكذا لو لم يذكر اسم شيخه، وكان مذكورًا في الكتاب المناوَل، مع بيان سماعه، أو إجازته، أو نحو ذلك، ثانيهما الإعارة، وهي أن يناوله ذلك على وجه الإعارة أو الإجازة، قائلًا له مع ما مر: انسخه ثم قابل به أو فقابل به نسختك التي انتسختها، ثم رده إليّ.

الثالث: أن يُحضر الطالب الكتاب الذي هو أصل للشيخ، أو فرعه المقابل به، للشيخ ليعرضه عليه، والشيخ صاحب يقظة ومعرفة، فينظره متأملا له، ليعلم صحته، أو يقابله بأصله إن لم يكن عارفًا، ثم يناوله الشيخ للطالب الذي أحضره له، ويقول له: هذا من حديثي، فاروِه عنّي، أو حدّث به عني، ويقيّد هذا النوع بعرض المناولة ليتميز بالتقييد عن عرض السماع السابق.

الرابع: أن يناول الشيخ الطالب الكتابَ، ويجيزه له ثم يسترده منه في ذلك الوقت، ويمسكه عنده، فتصح هذه الصورة، كما لو لم يمسكه، ولكن بشرط أن يكون المُجاز له بهذه المناولة أدى ما أُجيز له من نسخة موافقة لمرويه المجاز به بمقابلتها به، أو بإخبار ثقة بموافقتها له أو من مرويه الذي استرده منه الشيخ إن ظفر به بعد ذلك، وغلب على ظنه سلامته من التغيير، وهذه الصورة، مع أنها دون الصور المتقدمة، لعدم احتواء الطالب على مرويه، وغيبته عنه، ليست لها مزية على الكتاب المعين في الإِجازة المجردة عن المناولة عند المحققين من الفقهاء والأصوليين. وجعل لها بعض أهل الحديث قديما وحديثا مزية على الاجازة المجردة عن المناولة.

الخامس: أن يُحضر الطالب الكتابَ للشيخ، ويقول له: وهذا مرويُّك، ناولْنيه، وأجزني روايته، والشيخ لا يعلم أنه مرويه، ولم ينظره،

ص: 80

لكنَّه اعتمد في كونه مرويَّه على الطالب الذي أحضره، وهو ثقة معتمد. وإن لم يكن الطالب المحضر للكتاب ثقةً معتمدًا، بَطل كلٌ من المناولة والإذن، إلا إذا تبيّن بعد ذلك بخبر ثقةٍ أن ذلك من مرويه، فالظاهر الصحة، لزوال ما كان يُخشى من عدم ثقة المُجاز، وإن قال: أجزته لك، إن كان ذلك من حديثي، كان ذلك فعلًا حسنًا، فإن كان المحضر ثقة، جازت روايته بذلك، أو غير ثقة، وتبين بخبر ثقة، أنه من مرويِّ الشيخ.

وقد قال الإِمام مالك وجماعة من المدنيين وغيرهم: إن المناولة المقرونة بالإجازة تعادل السماع، بل ذهب جماعة إلى أنها أعلى منه، ووجهه بأن الثقة بالكتاب مع الإِجازة أكثر من الثقة بالسماع وأثبت لما يدخل من الوهم على السامع والمستمع. والذي عليه النُّعمان والشافعيّ وأحمد وابن المبارك وإسحاق بن رَاهَويه وغيرهم: أنها أنقص من السماع، وهو التحقيق، وقد حكى القاضي عِياض الإِجماع على أنها صحيحة معتمدة، وإن كانت مرجوحة بالنسبة للسماع على المعتمد.

إن النوع الثاني: أن تخلو المناولة من الإذن، وذلك بأن يناوله مرويَّه، ويقول له: هذا حديثي، ومرْويِّي فقط، فالصحيح أنها باطلة، لا تجوز الرواية بها لعدم التصريح بالاذن فيها وقيل صحيحة تجوز الرواية بها لإِشعارها بالإِذن في الرواية.

واختلف أئمة الحديث فيما يقوله الراوي بالمناولة الصحيحة، فأجاز مالك وابن شهاب له أن يقول:"حدثنا" و"أخبرنا"، بل أجاز ابن جُريج له ذلك في مُطلق الرواية بالإجازة المجردة عن المناولة. وقال أبو عبد الله محمد بن عمران المَرْزُبانيّ، بضم الزاي، وأبو نُعيم الأصْبهاني: إنه يقول: "أخبرنا" دون "حدثنا"، والصحيح عند الجمهور، أنه لابد له من التقييد بما يبين كيفية تحمله من سماع أو إجازة أو مناولة، كأن يقول: حدثنا أو أخبرنا فلان إجازة أو مناولة أو هما معًا، أو يقول: أذِن أو أطلق

ص: 81

لي روايته عنه، أو أجازني أو سوَّغ لي أو أباح لي أو ناولني ونحوها، مما يبين كيفية التحمل.

وإن أجاز الشيخ للمُجاز إطلاق "حدثنا" و"أخبرنا" في المناولة والإِجازة، كما فعله بعض المشايخ في إجازتهم حيث قالوا في إجازتهم لمن أجازوا له، إن شاء قال: حدثنا أو أخبرنا، لم يكن ذلك كافيًا، في جواز الإِطلاق. وبعض المحدِّثين، كالحاكم، لم يقتصر على ما مر، بل أتى بلفظ موهِمٍ غير المراد فيما أجازه به شيخه بلفظه، شفاهًا أو بكتابة، كأخبرنا فلان مشافهةً، أو تشافهني فلان، أو أخبرني فلان كتابةً أو مكاتبة، أو في كتابه أو كتب لي.

وهذه الألفاظ وإن استعملها بعض المتأخرين، لم يسلم من استعملها من الإِيهام، وطرفٍ من التدليل. أما المشافهة فتوهم مشافهته بالتحديث، وأما الكتابة فتوهم أنه كتب إليه بذلك الحديث بعينه، كما كان يفعله المتقدمون. وقد قال الأوزاعي: إنه يأتي بـ"يخبرنا" في الإجازة، و"بأخبرنا" في القراءة، ولم يخلُ ما قاله من النزاع. واختار الخطّابي أن يقول في الإِجازة: أخبرنا فلان أن فلانًا حدثه أو أخبره، واستبعده ابن الصَّلاح، وقال: لكنْ إذا كان سمع منه الإِسناد فقط من شيخه، وأجازه فيما وراءه كان ذلك قريبًا فإن في أن إشعارًا بوجود أصل الإِخبار، وإن أجْمل الخبر، ولم يفصِّله، واختار أبو العباس الوليد بن بكر بن مَخْلد الغَمْريّ الأنْدلسيّ، صاحب "الوِجازة في تجويز الإجازة" أن يقول في الإِجازة: أنبأنا. واختاره الحاكم فيما شافهه فيه شيخه بالإِذن في روايته بعد عرضه له عرض مناولة.

واستحسن البَيْهَقيّ أن يقول: أنبأنا إجازة، وبعض متأخري الحديث استعمل لفظ "عن" فيما سمعه من شيخه الراوي، عن شيخه إجازة، فيقول: قرأته على فلان عن فلان، ولفظة "عن" قرينة لمن سماعه من شيخه، فيه شك مع تيقُّن إجازته منه، ولفظ "عن" مشترك بين السماع

ص: 82

والإِجازة، وأما ما في صحيح البخاريّ من قوله:"قال لي فلان" فجعله أبو جعفر أحمد بن حمدان النَّيْسابوريّ لما أخذه بالعرض والمناولة، وانفرد النَّيْسابوريّ بذلك، وخالفه في غيره. قال ابن حَجَر: إنما يستعملها في أحد أمرين: أن يكون الحديث موقوفًا ظاهرًا وإن كان له حُكْمُ الرفع، أو يكون في إسناده من ليس على شرطه. وذلك في المتابعات والشواهد. وأشار العراقي إلى هذا الفصل بقوله:

ثمّ المناولاتُ إما تقترنْ

بالِإذن أولا فالتي فيها إذْنٌ

أعلى الإِجازات وأعلاها إذا

أعطاه مِلكًا فإعارةً كذا

إن يحضُر الطالبُ بالكتاب له

عرضًا، وهذا العرضُ للمناولة

والشيخُ ذو معرفةٍ فينظره

ثم يناولُ الكتابَ مُحضِره

يقولُ هذا من حديثي فاروِهِ

وقد حَكَوا عن مالِك ونحوِهِ

بأنها تعادلُ السَّماعا

وقد أبى المُفتون ذا امتناعا

إسحاقُ والثَّوري مع النعمان

والشافعي أحمد والشيبانيّ

وابن المُبارك وغيرهم رأوا

بأنها أنقص، قلتُ: وحَكَوا

إجماعهم بأنها صحِيحه

معتمدًا وإن تكنْ مرجوحه

أما إذا ناول واستردّا

في الوقت صحّ والمُجازُ أدَّى

من نسخةٍ قد وافقت مَرْويَّة

وهذه ليست لها مَزِيَّه

على الذي عُيّن في الإجازة

عند المحققين لكنْ مازَه

أهل الحديث أخرا وقدما

أما إذا ما الشيخ لم ينظر ما

أحضره الطالبُ لكنْ اعتمِدْ

من أحضر الكتاب، وهو مُعْتمَدْ

صحّ وإلا بَطل استيقانًا

وإن يقل: أجزْتُه إن كانا

ذا من حديثي، فهو فعلٌ حسنُ

يُفيد حيث وقعَ التَّبْيين

وإنْ خلتَ من إذن المناوله

قبل: تصحُّ، والأصحُّ باطله

واختلفوا فيمن روى ما نوِّلا

فمالِكٌ وابن شهابٍ جَعَلا

إطلاقه "حدثنا" و"أخبرا"

يسوغُ وهو لائق بمن يرى

العرض كالسماع بل أجازه

بعضُهم في مطلق الإجازة

ص: 83

والمرْزُبانىّ وأبو نُعيم

أخبر، والصحيح عند القوم

تقييدهُ بمن يبين الواقع

أجازه تناولاهما معا

أذِن لي، أطلق لي، أجاز لي

سوّغ لي أباح لي، ناولني

وإن أباح الشيخ للمُجازي

إطلاقه لم يكفِ في الجوازِ

وبعضُهم أتى بلفظٍ موهِم

"شافهني""كتب لي" فما سلم

وقد أتى بخبر الأوزاعي

فيها، ولم يخلُ من النزاع

ولفظ إن اختاره الخطّابي

وهو مع الإِسناد واقتراب

وبعضُهم يختار في الإِجازة

"أنبأنا" كصاحب الوِجازة

واختاره الحاكم فيما شافهه

بالإِذن بعد عرضه مشافهه

واستحسنوا للبَيْهقيّ مصطلحًا

"أنبأنا" أجازه فصرحا

وبعضُ من تأخر استعمل "عن"

إجازة وهي قرينة لمن

سماعُه من شيخه فيه يُشَكُّ

وحرف "عن" بينهما فمشترك

وفي البخاري "قال لي" فجعله

حبرّيهم للعرض والمناوله

ويلتحق بالمناولة قسم من أقسام التحمُّل، يسمى بإعلام الشيخ، وهو أن يعلم الشيخ الطالب لفظًا بشيءٍ من مرويّه مجردًا عن الإجازة، رواه الشيخ سماعًا أو إجازة أو غيرهما. فجزم أبو حامد الطُّوسيّ، من أئمة الشافعية، بمنع الرواية به وقيل: الجازمُ الغزاليُّ، لجزمه بذلك في "المستصفى" وذلك لعدم إذنه له وربما لا تجوز روايته عنه، لخلل يعرف فيه، وإن سمعه. وهذا هو المختار. وذهب ابن جُريج، وكثير من أئمة الحديث، إلى الجواز قياسًا على شهادة الشاهد بما سمعه من المُقرّ، وإن لم يأذن له فيها. وقوّاه الوليد بن بَكر وابن الصَّبّاغ صاحب "الشامل". بل قال الرّامهرمزيّ: تجوز له الرواية به، وإن منعه الشيخ بأن قال له: لا تروهِ عني، أو لا أُجيزه لك قياسا على ما إذا منعه من التحديث بما سمعه، كما مر. والمشهور عدم جواز الرواية به، كالشهادة على شهادة الشاهد، فإنه لا يكفي إعلامه بها ولا سماعها منه. بل لابد أن يأذن له في أن يشهد على

ص: 84

شهادته. قال ابن الصلاح: وهذا مما تساوت فيه الشهادة والرواية، لأن المعنى يجمعها وإنْ افترقا في غيره، لكن إذا صح عند أحد ما حصل الإِعلام به من الحديث، يجب العمل بمضمونه، وان لم تجز الرواية به، لأن العمل يكفي فيه صحته في نفسه، وان لم تكن له به رواية، كما نقل الحديث من الكتب المعتمدة، وأشار العراقي إلى هذا القسم بقوله:

وهلْ لِمنْ أعْلمُه الشيخُ بما

يرويه أن يرويَه فَجَزَما

بمنعه الطُّوسيُّ، وذا المُختارُ

وعدَّة كابن جُريج، صاروا

إلى الجواز، وابن بَكر نَصَرَه

وصاحبُ الشامل جزمًا ذكره

بل زاد بعضُهم بأنْ لو مَنَعه

لم يمتنعْ، كما إذا قد سمعه

وردّ كاسترعاء من يحمل

لكنْ، إذا صح، عليه العمل

الأصل الثاني:

المكاتبة من الشيخ بشيء من مرويه أو تأليفه أو نظمه وإرساله إلى الطالب مع ثقة بعد تحريره، وتكون بخط الشيخ، وهي أعلى. أو بإذنه لثقة في الكتابة عنه لغائب، أو لحاضر عنده ببلده، وهي على نوعين، كالمناولة: الأول أن يُجيز الشيخ بخطه أو بإذنه مع الكتابة بشيء مما ذكر، كأجزتُ ما كتبه لك، أو ما كتب به إليك. وهذا هو النوع المسمّى بالكتابة المقرونة بالإِجازة. وهذا النوع يشبه المناولة المقرونة بالإِجازة في الصحة.

النوع الثاني: أن تقع الكتابة مجردة عن الإِجازة، والمشهور عند المحدِّثين صحة الأداء بها، لأنها وإن تجردت عن الإِجازة لفظًا، فقد تضمنتها معنىً، وكتبهم مشحونة بقولهم "كتب إليّ فلان"، "قال حدثنا فلان". وقد قال به أيّوب السّخْتيانيّ ومنصور بن المُعتمر والَّليث بن سعد، وقال السَّمْعانيّ: إنه أقوى من الإِجازة. وقال الماوَرْدي وبعض العلماء بمنع الرواية به. وعلى المشهور من جواز الرواية بها يكفي في الرواية بها أن يعْرف المكتوب له خط الذي كاتبه، وإن لم تقم بينة به، لتوسعهم في الرواية.

ص: 85

واشترط الإِمام الغزاليّ البينة برؤيته وهو يكتب، أو بإقراره إنه خطه للاشتباه في الخطوط. وقال ابن الصّلاح: إنه قول غير مرضيّ، لندور اللّبس في الخطوط، وحيث يريد تأدية ما تحمله بالكتابة، يجوز له أن يقول:"حدثنا" و"أخبرنا" بالإِطلاق عند الليث ومنصور. والجمهور على وجوب التقييد بالكتابة، كأنْ يقول:"حدثنا" أو "أخبرنا" كتابة، أو "كتب إلى"، وهذا هو الذي يليق بالتحري والبعد عما يوهم الّلبس. قال الحاكم: الذي أختاره وعهدت عليه الشيوخَ وأئمة عصري أن يقول فيما كتب إليه المحدِّث من حديثه، ولم يشافهه بالإِجازة: كتب إلى فلان، وأشار العراقي إلى هذا الفصل بقوله:

ثمّ الكتابةُ بخط الشيخ أو

بإذنه عنه لغائب، ولو

لحاضرٍ، فإن أجاز معها

أشبهَ ما نُوِّل أو جَرَّدها

صحَّ على الصحيح والمشهور

قال به أيّوب مع منصور

والليثُ والسَّمْعانيّ قد أجازه

وعدّه أقوى من الإِجازه

وبعضُهم صِحَّة ذاك مَنَعا

وصاحب "الحاوي" به قد قَطَعا

ويكتفي أن يعرف المكتوب له

خطَّ الذي كاتبه، وأبطله

قومٌ للاشتباه، لكن ردَّا

لندرة اللَّبس وحيث أدَّى

فالليثُ مع منصور استجازا

"أخبرنا""حدثنا" جوازًا

وصححوا التقييد بالكتابه

وهو الذي يليقُ بالنزاهه

ويلحق بالكتابة الوصيةُ بالكتاب، وهي أن يوصي الراوي عند موته، أو سفره، للطالب بكتاب، بل ولو بكتبه كلها، ولم يعلمه صريحًا أنه من مرويه، فقد أجاز له ابن سيرين الرواية بذلك، لأن فيه نوعًا من الإِذن، وشَبَهًا من العرض والمناولة. والمشهور أنه لا تجوز الرواية بها لأنها ليست بتحديث ولا إعلام بمروي، كالبيع. قال ابن الصّلاح: وهي زَلّة عالم ما لم يرد القائل بذلك مسألة الرواية بالوجادة. وانكر ابن أبي الدّم تشبيهها بالوجادة. وقال: هي أرفع رتبة من الوجادة بلا خلاف، فإنها معمول بها عند

ص: 86

الشافعي وغيره فهي أولى ووافقه ابن حَجَر على ما قال.

قال العراقي:

وبعضهم أجازَ للموصى له

بالجُزء من راوٍ قضى أجَلَه

يرويه أو لسفر أراده

ورَدّ ما لم يَرُدَّ الوجاده

ولما كانت الوِجادة معدودة في أقسام التحمُّل، أردت ذكرها هنا، تتميما للفائدة، لما لها من التعلق بالكتابة، ولأنها لم يبقَ من أقسام التحمل إلا هي والإِجازة. وهي عبارة عما أُخذ من العلم من صحيفة بغير سماع، ولا إجازة، ولا مناولة، وهي مصدر وَجَدَ وِجادَة، بكسر الواو، ولفظ مولد، لم يسمع من العرب، ولَّدَهُ أهل الفن اقتداء بالعرب في تفريقهم بين مصادر "وجد" للتمييز بين المعاني المختلفة، ليظهر تغايرها، فيقولون في مصدر "وجد ضالته" وجدانا، و"وجد مطلوبه" وُجُودا، وفي الغضب مَوْجِدة، وفي الغنى وُجْدًا، وفي الحب وَجْدًا، بفتح الواو، والذي قبله بضمها.

والوجادة نوعان:

الأول: أن تجد بخط من عاصرت، لقيته أو لم تلقه، أو بخط من لم تعاصره، حديثًا لم يحدثك به، ولم يُجز لك روايته عنه، فتقول: وجدت بخطة، أو قرأت بخطه، أخبرنا فلان. وتسوق سنده ومتنه، أو ما وجدته بخطه، وإن لم تثق بالخط الذي وجدت، قلتَ: وجدتُ عنه، أو بلغني عنه، أو وجدت بخطٍ قيل إنه خط فلان، أو قال لي فلان إنه خط فلان، بما يفصح بالمستند في كونه خطه، وجميع المروي بالإِجازة، سواء وثقت بأنه خطه أو لم تثق، مُنْقطع أو مُعلّق.

وقال ابن كَثير: الوجادة ليست من باب الرواية، وإنما هي حكايةٌ عما وجده في الكتاب، ولكن الأول الموثوق فيه بالخط، فيه نثوب ما من الوصل لزيادة القوة بالوثوق بالخط.

ص: 87

وقد تسهل بعض المحدِّثين في أداء ما يرويه بخط فلان، فأتى بـ "عن فلان"، ونحوها، مما يوهم أخذه عنه، سماعًا أو إجازة، كقال، مكان وجدت. قال ابن الصّلاح: وهو تدليس قبيحٌ إن أوْهم أنه حدثه به بنفسه بأن كان معاصرًا له. وبعض العلماء أدّى ما وجده من ذلك بقوله: حدثنا. وهذا مردودٌ لأنه يوهم أخذه عنه سماعًا أو إجازة. قال القاضي عِياض: لا أعلم أحدًا ممن يُقتدى به أجاز النقل فيه بذلك، ولا من عده معد المسند. وأما العمل به فالأكثر على وجوبه به. وهو المشهور الذي لا يتجه غيره فى الأعصار المتأخرة، لقصور الهمم فيها عن الرواية، فلم يبق إلا الوِجادة. قال النووي: هذا هو الصحيح. وقيل: يمنع العمل به قياسًا على المرسل ونحوه، مما لم يتصل. وقيل: يجوز العمل به، ونُسب للإمام الشافعيّ. قال القاضي عِياض: وهو الذي نَصَره الجُوَيْنيّ، واختاره غيره.

النوع الثاني:

أن تجد ذلك بغير خط من ذكر فإن وثقت بصحة النسخة بأن قوبلت مع ثقة بالأصل أو بفرع مقابَل به، فقلت:"قال فلان" ونحوها من ألفاظ الجزم. وإن لم يحصل الوثوق بالنسخة، فلا تجزم بذلك، وقيل: بلغني عن فلان أنه ذكر كذا، أو وجدتُ في نسخة من الكتاب الفلاني، ونحو ذلك مما لا يقتضي جزمًا. ولكنّ الجزمَ مرجوُّ الجواز للعالم الفطن، الذي لا يخفى عليه غالبًا مواضع الإِسقاط والسّقط، وما أُحيل عن جهته إلى غيرها، وإلى هذا الفصل أشار العراقي بقوله:

ثم الوجادة وتلك مَصْدرْ

وجَدْته مُولَّدًا ليظهرْ

تغاير المعنى وذاك أنْ تجدْ

بخط من عاصرت أو قبلَ عهدْ

ما لم يحدثْك به ولم يُجزْ

فقل: بخطه وجدتُ، واحترز

إن لم تثقْ بالخط قل: وجدتُ

عنه، أو اذكر "قيل" أن "ظننتُ"

وكله منقطِعٌ، والأول

قد شِيبَ وصلًا ما وقد تسهَّلوا

فيه "بعن" قال وهذا دَلَّسْه

تَقْبح إذ توهم أنّ نفسه

ص: 88

حدثه به، وبعضٌ أدَّى

"حدثنا""أخبرنا" وردًّا

وقيل، في العمل إن المعظمَا

لم يَرَهُ، وبالوجوب جَزَما

بعضُ المحققين، وهو الأصوب

ولابن إدريسَ الجوازَ نسبوا

وإن تكنْ بغير خطّه، فقل

قال، ونحوها، وإن لم يحصل

بالنسخة الوثوقُ قل: بَلَغني

والجزمُ يرجى حِلُّهُ للفَطِن

ثم ذكر البخاري أثرين معلقين، وحديثًا كذلك، مستدلًا بالجميع على مذهبه من الاكتفاء بالمناولة والكتابة، فأتى بالأثر الأول وهو قوله:"وقال أنس نسخ عثمان مصاحف فبعث بها إلى الآفاق".

قوله: "نسخَ عثمان المصاحف" أي: أمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزُّبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها.

وقوله: "إلى الآفاق" قال القَسْطلانيّ: بعث مصحفًا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وأمسك بالمدينة واحداً. والمشهور أنها خمسة. وقال الدّاني: أكثر الروايات على أنها أربعة. ودلالة هذا الحديث على تجويز الرواية بالمكاتبة بينة غير خفية، لأن عثمان أمرهم بالاعتماد على ما في تلك المصاحف، ومخالفة ما عداها. قال ابن المُنير: والمستفاد من بعثه المصاحف إنما هو ثبوت إسناد صورة المكتوب فيها إلى عثمان لا أصل ثبوت القرآن، فإنه متواتر عندهم.

وهذا التعليق قطعة من حديث طويل لأنس، وصله البخاريّ في فضائل القرآن، وأنس قد مر في السادس من كتاب الإِيمان.

وأما عثمان وهو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأُمَويّ القُرشِي أبو عبد الله أو أبو عمرو، والأخير أشهر. قيل: إنه ولدت له رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابنًا فسماه عبد الله فكني به حتى مات، ثم ولدت له آخر فسماه عمْروًا فاكتنى به إلى أن مات. وقيل: يكنى

ص: 89

أبا ليلى، ويلقب بذي النُّورين، لتزويجه بابنتي النبي صلى الله عليه وسلم، رُقيّة ثم أمِّ كلثوم، واحدةً بعد واحدة. ولم يعلم أحد تزوج بنتي نبىٍّ غيره. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كان عندي غيرهما لزوجتكها". وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "سألت ربي، عز وجل، أن لا يدخل النار أحدًا صاهر إلى أو صاهرت إليه وقيل: لُقب بذلك، لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتان. وقيل: لأنه كان يختم القرآن في الوِتر، والقرآن نور، وقيام الليل نور. وقيل غير ذلك.

وأمه أروى بنت كُريز بن ربيعة بن حَبيب بن عبد شمس، أسلمت، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم. ولد بعد الفيل بست سنين على الصحيح، وهو أحد السابقين في الإسلام، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين جعل عمر، رضي الله عنه، فيهم الشورى. وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم، توفي وهو عنهم راضٍ، وهو أول من هاجر إلى الحبشة فارًا بدينه مع زوجته رُقية، وتابعه سائر المهاجرين إلى أرض الحبشة، وتخلف عن بدرٍ لتمريض زوجته رقية، كانت عليلة، وماتت رقية في سنتين من الهجرة، حين أتى خبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بما فتح الله عليه به يوم بدر.

وأما تخلُّفه عن بَيْعة الرِّضوان بالحُديبية، فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان وجّهه إلى مكة لأمر لا يقوم به غيره من صلح قريش، على أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمرة ولو كان أحدٌ أعزَّ منه ببطن مكة، لبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكانه. ولما أتاه الخبر الكاذب بأنه قُتل جمع أصحابه ودعاهم إلى البيعة، فبايعوه على قتال أهل مكة يومئذ، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عثمان، حينئذ، بإحدى يديه الأخرى، ثم أتاه الخبر بأن عثمان لم يقتل، وما كان سبب بيعة الرضوان إلا ما بلغه من قتله. وقد قال ابن عمر: يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعثمان خير من يد عثمان لنفسه. فهو معدود في أهل بيعة الرضوان من أجل ما ذكر.

كان، رضي الله عنه، رَبْعةً وضيئًا جميلًا حسنًا أبيض، مُشْربًا بصُفرة،

ص: 90

جَعْد الشعر، له جُمّة أسفل من الأُذن، جذْل الساقين طويل الذراعين، بعيد ما بين المنْكبين، طويل اللحية، أقنى بيِّن القَنى، وكان يضْفُر لحيته، ويشد أسنانه بالذهب. وفيه يقال:

أحسن زوجين رأى إنسانُ

رقيةُ وزوجُها عثمانُ

ومن حديث أبي المِقدام مولى عثمان بن عفّان قال: بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، مع رجل بصَحْفة إلى عثمان، فاحتبس الرجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما حبسك إلا كنت تنظرُ إلى عثمان ورقية، تَعْجَب من حسنهما".

وروي في سبب إسلامه أنه قال: كنت بفناء الكعبة، إذ أُتينا، فقيل لنا: إن محمدًا قد أنكح عُتْبة بن أبي لهب ابنته رُقية، وكانت ذات جمال بارع، وكان عثمان مشتهرًا بحب النساء، ومن وصف جماله ما مر قريبًا. قال: فلما سمعتُ ذلك دخلتني حسرة أن لا أكون سبقتُ إليها، فلم ألبث أن انصرفتُ إلى منزلي، فأصبت خالتي سُعدى قاعدةً مع أهلي، وكانت قد طَرَقت وتكهَّنت لقومها، فلما رأتني قالت:

أبشِرْ وحييتَ ثلاثًا وِترًا

ثم ثلاثًا وثلاثًا أخرى

ثم بأخرى كي تتم عشرًا

لقيتَ خيرًا، ووُقيت شرا

نكحت، والله، حَصانًا زَهْرا

وأنت بَكر ولقيت بِكرا

قال: فتعجبت من قولها، وقلتُ: يا خالة، ما تقولين؟ قالت:

عثمانُ يا عثمانُ يا عثمانُ

لك الجمالُ والجمالُ الشانُ

هذا نبيٌّ معه البُرهانُ

أرسله بحقه الدَّيَّانُ

وجاءَهُ التنزيل والفُرقانُ

فاتَّبعه لا تطغى بك الأوثان

فقالت: إن محمد بن عبد الله رسول الله، جاءه جبريل يدعوه إلى الله، مصباحه مصباح، وقولُه صلاح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، لقِرنه

ص: 91

نطَّاح. ذلَّت له البِطاح، ما ينفعُ الصياح، لو وقع الكِفاح، وسلت الصِّفاح، ومُدَّت الرماح. ثم انصرفت ووقع كلامها في قلبي، وبقيت مفكرًا فيه. وكان لي مجلس من أبي بكر الصديق، فأتيته بعد يوم الاثنين، فأصبته في مجلسه ولا أحد عنده، فجلست إليه فرآني فسألني عن أمري، وكان رجلًا رفيقًا، فأخبرته بما سمعتُ من خالتي، فقال لي: ويحك يا عثمان، والله، إنك لرجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل. هذه الأوثان التي يعبدها قومك أليست حجارة صمًا، لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع؟ قلت: بلى، والله، إنها لكذلك. قال: والله لقد صدقت خالتك، هذا محمد بن عبد الله، بعثه الله برسالته إلى جميع الخلق. فهل لك أن تأتيه وتسمع منه؟ فقلت: نعم، فوالله ما كان بأسرع من أن مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عليٌّ بن أبي طالب، يحمل له ثوبًا، فلما رآه أبو بكر قام إليه، فسارّه في أذنه، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل علَيّ فقال:"يا عثمان، أحب الله إلى جنّته"، فإني رسول الله إليك، وإلى جميع خلقه. قال: فوالله ما تمالكتُ حين سمعتُ قولَه أنْ أسلمتُ، وشهدت أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، ثم لم ألبث أن تزوجتُ رقيةَ.

وفي إسلامه تقول خالتُه سُعدى:

هدى الله عثمانَ الصفىَّ بقوله

وأيَّدهُ والله يهدي إلى الحق

فتابع بالرأي السديد محمدًا

وكان ابن أرْوى لا يَصُدُّ عن الحق

وأنكحه المبعوث إحدى بناته

فكانَ كبدرٍ مازج الشمس بالأفق

فذلك يا ابن الهاشِميّيْن مُهجتي

فأنت أمين الله أُرسلت للخلق

وروى التِّرمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لكل نبي رفيقٌ ورفيقي في الجنة عثمان". وروى سهل بن سعد: ارْتجَّ أحدٌ، وكان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اثْبُثْ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان".

ص: 92

وسُئل ابن عمر، رضي الله عنه، عن عليّ وعثمان، رضي الله عنهما، فقال للسائل: قبحك الله، تسألني عن رجلين هما خيرٌ مني، تريد أن أغضَّ من أحدهما وأرفع من الآخر؟ وقال علي، رضي الله عنه: من تبرأ من دين عثمان فقد تبرأ من الإِيمان، والله ما أعنتُ على قتله، ولا أمرتُ، ولا رضيت. وقال فيه حين قال له ابن سَبْرة: حدِّثْنا عن عثمان، قال: ذلك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النُّورين. وقال: كان عثمان أوْصَلنا للرحم، وكان من {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 93] وقال ابن عمر: كنا نقول على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر ثمّ عثمان ثم نسكُت، فقيل هذا في التفضيل. وقيل: في الخلافة.

وهو الذي جهز جيش العُسْرة بتسع مئة وخمسين بعيرًا بأحلاسها وأقتابها، وأتم الألف بخمسين فرسًا، وقال قتادة: حمل عثمان، رضي الله عنه، على ألف بعير وسبعين فرسًا. وقال الزُّهريّ: حمل على تسع مئة وأربعين بعيرًا وستين فرسًا. وعن حُذيفة بن اليَمان قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم، إلى عثمان في تجهيز جيش العُسْرة، فبعث إليه بعشرة آلاف دينار، فصُبت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يقلبها ويقول:"غفر الله لك يا عثمان ما أسررتَ وما أعلنت، وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة". وفي رواية "لا يُضَرُّ عثمانُ بعد اليوم ما فعل".

واشترى بِئرَ رُومة بخمسة وثلاثين ألفًا، وسبَّلها لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من يشتري رُومة فيجعلها للمسلمين يضربُ بدلوه في دلائهم، وله بها مشربٌ في الجنة". وكانت رَكيَّةً ليهوديِّ يبيع للمسلمين ماءها. فأتاه عثمان فساومها فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى منه نصفها باثني عشر ألف درهم، فجعل ماله للمسلمين، وقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيبي قرنين، وإن شئت، فلي يومٌ ولك يوم، قال: بل لك يوم ولي يوم، فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى ذلك اليهوديّ قال: أفسدت عليّ ركبّتي، فاشتر النصف الآخر، فاشتراه بثمانية

ص: 93

آلاف درهم. فعلى هذا يكون الجميع عشرين ألفًا، خلاف ما مر من أنها خمسةٌ وثلاثون ألفًا.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يَزِيد في مسجدنا؟ " فاشترى عثمان موضع خمس سَوارٍ، فزاده في المسجد. وقال ابن مسعود حين بويع عثمان بالخلافة: بايعنا خيرنا، ولم نألُ. وبويع له بالخلافة يوم السبت، غرة المُحرم، سنة أربع وعشرين، بعد دفن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بثلاثة أيام باجتماع الناس عليه، ولما ولي زاد تواضعه ورأفته ورحمته برعيته، وكان يطعم الناس طعام الامارة، ويأكل الخَلّ والزيت. وقال ابن سيرين: كثر المال في زمن عثمان رضي الله عنه، حتى بيعت جارية بوزنها، وفرس بمئة ألف درهم، ونخلة بمئة ألف درهم. وافتُتح في أيامه الاسكندرية وسابور وإفريقية وقُبرسُ سواحل الروم وإصْطخر الأخرى، وفارس الأولى والأُخرى، وطَبَرستان وكَرَمان وسَجِسْتان وغير ذلك.

وقال ابن عمر: لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوا عليه. وقال ابن مهدي: لعثمان، رضي الله عنه، شيئان ليسا لأبي بكر ولا عمر، رضي الله عنهما: صبرُه على نفسه على قتل مظلومًا، وجمعه الناس على المصحف. وقال الزبير بن عبد الرحمن: إن جدته أخبرته، وكانت خادمة لعثمان، رضي الله عنه، أنها قالت: كان عثمان رضي الله عنه لا يوقظ نائمًا من أهله، إلا أن يجده يقظان، فيدعوه، فيناوله وضوءه.

وكان يصوم الدهر. وعن عَلْقَمَة بن وقَّاص، أن عمرو بن العاص، قام إلى عثمان وهو يخطب الناس، فقال: يا عثمان إنك ركبتَ بالناس المهَامِه وركبوها منك، فتُب إلى الله، عز وجل، وليتوبوا. فالتفت إليه عثمان وقال: إنك لهناك يا ابن النابغة، ثم رفع يديه، واستقبل القبلة وقال: الَّلهمّ إني أول تائب إليك.

وقال الحسن: سمعت عثمان يخطب، وهو يقول: يا أيها الناس، ما

ص: 94

تنقِمون عليّ، وما من يوم إلا وأنتم تقسمون فيه خيرًا؟ قال الحسن: سمعت مناديًا ينادي: أيها الناس، اغدوا على عطِيَّاتكم. فيفِدون ويأخذونها دانيةً. أيها الناس: أعذوا على السمن والعسل. قال الحسن: أرزاق دارة، وخير كثير وذات بين حسن، ما على وجه الأرض مؤمن يخاف مؤمنًا إلا يوده وينصره ويألفه، ولو صبر الأنصار لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق، ولكنهم لم يصبروا وسلوا السيف مع من سله، فصار عن الكفار مغْمدًا وعلى المسلمين مسلولًا إلى يوم القيامة.

وكان سبب قتله، رضي الله عنه، أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه، كان بالشام كلها معاوية، وبالبصرة سعيد بن العاص، وبمصر عبد الله بن سعد بن أبي سَرْحٍ، وبخُراسان عبد الله بن عامر. وكان من حج منهم يشكو من أميره، وكان عثمان لين العريكة، كثير الإحسان. وكان يستبدل أُمراءه فيرضيهم، ثم يعيدهم بعد إلى أن رحل أهل مصر يشكون من ابن أبي السّرْح، فعزله، وكتب لهم كتابًا بتولية محمد بن أبي بكر الصديق، فرضوا بذلك. فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكبًا على راحلة، فاستخبروه، فأخبرهم أنه من عند عثمان باستقرار ابن أبي السَّرْح، ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فأخذوا الكتاب، ورجعوا وواجهوه به، فحلف أنه ما كتب ولا أذِن. فقالوا: سلّمنا كاتبك، فخشي عليه منهم القتل، وكان كاتبه مروان بن الحكم، وهو ابن عمه، فغضبوا، وحصروه في داره، واجتمع جماعة يحمونه منهم، فكان ينهاهم عن القتال، وكانت مدة الحصار تسعًا وأربعين يومًا. وقيل: شهران وعشرون يومًا.

وعن شداد بن أوس أنه قال لما اشتد الحصار بعثمان، رضي الله عنه، يوم الدار: رأيت عليًا، رضي الله عنه، خارجًا من منزله معتمًا بعمامة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، متقلدًا بسيفه، وأمامه الحسن ابنه وعبد الله بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار، رضي الله تعالى عنهم، فحملوا على الناس وفرقوهم. ودخلوا عليه، وقال له علي، رضي الله عنه: السلام عليك يا أمير

ص: 95

المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب المدبر بالمقبل، وإني، والله، لا أرى القوم إلا قاتليك، فمرنا فلنقاتل. فقال عثمان: أنشد الله امرءا يعلم أن لله عز وجل عليه حقًا، ويعلم أن لي عليه حقًا أن لا يُهْريق بسببي ملء مِحْجَمة من دم أو يهريق دمه فيّ، فأعاد عليه القول. فأجابه بمثل ما أجابه به. قال: فرأيت عليًا خارجًا من الباب، وهو يقول: اللهمّ إنك تعلم أنا قد بذلنا المجهود. ثم دخل المسجد فاقتحموا عليه الدار، والمصحف بين يديه، فأخذ محمد بن أبي بكر الصديق بلحيته، فقال له عثمان، رضي الله عنه: أرسل لحيتي يا ابن أخي، فوالله لو رأى أبوك مقامك هذا لساءه، فأرسل لحيته وولّى، وقيل: إنه قال له: لقد كان أبوك يعظمها، ولما استحيى وخرج، دخل عليه رَوْمان بن سِرحان، وهو رجل أزرق قصير محدود عداده في مراد، ومعه خنجر فاستقبله به، وقال له: على أيِّ دين أنت يا نَعْثَل؟ فقال عثمان: لستُ بنَعْثَل، ولكني عثمان بن عفّان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفًا مسلمًا، وما أنا من المشركين. قال: كذبت، وضربه على صَدْغه الأيسر فقتله، فخرَّ، وأدخلته امرأته نائلة بينها وبين ثيابها، وكانت امرأة جسيمة، ودخل رجل من أهل مصر ومعه سيف مصلت، فقال: والله لأقطعن أنفه، فعالج المرأة، فكشفت عن ذراعيها، وقبضت على السيف، فقطع إبهامها، فقالت لغلام عثمان ويقال له رَبَاح، ومعه سيفُ عثمان: أعِنّي على هذا، وأخرجه عني. فضربه الغلام بالسيف فقتله.

وبقي عثمانُ، رضي الله عنه، يومه ذلك مطروحًا إلى الليل. ولما قتل نضح الدم على قوله تعالى:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] وقيل: إن الذي باشر قتله جبلة بن الأيْهم، ثم طاف بالمدينة ثلاثًا يقول: أنا قاتل نَعْثَل. وقيل: إن الذي باشر قتله سَوْدان بن عَمران.

ولما بلغ عائشة، رضي الله عنها، قتلُه قالت: قتلوه وإنه والله لأوصلهم

ص: 96

للرحم، وأتقاهم للرب. وروي عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعو لي بعضَ أصحابي، فقلت: أبو بكر؟ قال: لا. قلت: عمر؟ قال: لا. قلت: ابن عمك عليّ؟ قال: لا، قلت: عثمان بن عفان؟ قال: نعم. فلما جاء قال لي بيده، فَتَنَحَّيتُ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسارُّهُ، ولون عثمان رضي الله عنه يتغير، فلما كان يومُ الدار، وحُصِر قيل: ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَهِد إلى عهدًا، وأنا صابرٌ نفسا عليه.

وقال ابن عباس، رضي الله عنهما: لو اجتمع الناس على قتل عثمان لرُمُوا بالحجارة كما رُمِي قوم لوط. وقال عبد الله بن سَلام: لقد فتح الناس على أنفسهم، بقتل عثمان، باب فتنةٍ لا ينغلق عنهم إلى يوم القيامة. وقال علي بن زيد بن جَدْعان: قال لي ابن المُسَيّب: انظر إلى وجه هذا الرجل، فنظرتُ فإذا هو مسودّ الوجه، فقال: سلْهُ عن أمره، فقلت: حسبي أنت، حدِّثْني. قال: إن هذا كان يسب عليًا وعُثمان رضي الله عنهما. فكنت أنهاه، فلا ينتهي، فقلت: اللهم هذا يسُبُّ رجلين قد سبق لهما ما تعلم، اللهم إن كان يُسْخِطُك ما يقول فيهما، فأرني فيه آية، فاسْودَّ وجهه كما ترى.

وقال ابن خِلِّكَان وغيره: لما بويع عثمانُ نفى أبا ذَرٍّ الغِفاريّ، رضي الله عنه، إلى الرَّبَذَة، لأنه كان يزهِّد الناس في الدنيا، ورَدَّ الحكم بن أبي العاص، وكان قد نفاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، ولم يرده أبو بكر ولا عمر، فرده عثمان، رضي الله عنه. وأجيب عنه بأنه إنما ردَّه بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتفق له رده في حياته، عليه الصلاة والسلام، ولما ولي أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، طلبا منه شاهدًا آخر، فلم يتفق، حتى آل الأمر إليه، فحكم بعلمه. وأما أبو ذرّ فلم ينفِهِ، بل لما رآه يفسد بأقواله الأمور ويُشوِّشُ الأحْوال بالتزهيد في الدنيا، فقال له: إمّا أن تكفّ، وإمّا أنْ تخرج حيث شئتَ، فخرج إلى الرَّبذة غير منفيٍّ.

وأجاب الآبيُّ عن كل ما نُقِد عليه متتبعًا له حرفًا حرفًا.

ص: 97

له مئة وستة وأربعون حديثًا اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وروى عنه أولاده عَمرو وأبان وسعيد، وابن عمه مروان بن الحكم. وروى عنه من الصحابة ابن مسعود، وابن عمر، وابن الزبير، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعِمران ابن حُصين، وأبو هريرة، وغيرهم.

وروى عنه من التابعين الأحْنف بن قيس، وعبد الرحمن بن أبي ضَمْرة، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعيد بن المُسيَّب، وأبو وائل، ومحمد بن الحَنَفيّة، وغيرهم.

قتل رحمه الله يوم الجمعة بعد العصر لثمان عشرة أو سبعة عشر خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة. وقيل غير ذلك، ودفن بالبقيع ليلة السبت بين المغرب والعشاء في حُشِّ كَوْكب، محل كان اشتراه فوسع به البقيع، فكان أول من دفن فيه هو. وكوكب رجل من الأنصار، والحُش: البستان، والفتح فيه أكثر من الضم. وكان، رضي الله عنه، يمر به ويقول: إنه سيدفن هنا رجل صالح. وحمل على لوح سرًا. وقد قيل: إنه صلى عليه ابنه عمرو بن عثمان، وقيل: صلى عليه حكيم بن حِزام، وقيل المُسوَّر بن مَخرَمة، وقيل: كانوا خمسة أو ستة، وهم جُبير بن مُطعم وحكيم بن حِزام وأبو جَهْم بن حُذيفة ونِيار بن مُكرم وزوجتاه نائلة، وأم المؤمنين بنت عُيينة. ونزل في القبر نيار وأبو جهم وجُبير. وكان حكيم وزوجتاه يدلونه، فلما دفنوه، غيبوا قبره، رحمه الله.

وكانت ولايته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما. وقيل: ثمانية عشر يوما، وقيل: كانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا وأربعة عشر يومًا. وقيل: ثمانية عشر يومًا، واختلف في سنه حين قتل، فقيل: قتل وهو ابن ثمانين سنة، وقيل: ابن ثمان وثمانين، وقيل: ابن تسعين، وقيل: ابن ست وثمانين، وقيل: ابن اثنيتن وثمانين. وقيل: لما أُخرج ليدفن كانت بنته عائشة، معها مصباح في جرة، صاحت، فقال لها ابن الزبير، والله لئن

ص: 98

لم تسكتي لنضربنَّ الذي فيه عيناك، فسكتت فدفن.

وروي عن كِنانة مولاة صفية بنت حُييّ بن أخطب أنها قالت: شهدت مقتل عثمان، فأخرج من الدار أمامي أربعة من شبان قريش، ملطخين بالدم محمولين، كانوا يدرؤون عن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم.

وروي عن أبي جعفر الأنصاري قال: دخلت مع المصريين على عثمان، فلما ضربوه خرجتُ اشْتدّ حتى ملأت فُروجي عدوًا، فدخلت المسجد، فإذا رجل جالس في نحو عشرة عليه عَمامة سوداء، فقال: ويحك، ما وراءَك؟ قلت: قد والله فُرغ من الرجل. فقال: تبًا لكم سائر الدهر، فنظرتُ فإذا هو عليّ. وروى سعيد المقْبَريّ عن أبي هُريرة قال: كنت محصورًا مع عثمان في الدار فَرُمي رجل منا، فقلت: يا أمير المؤمنين، الآن طاب الضرابُ، قَتَلوا رجلًا منا، قال: عزمت عليك يا أبا هريرة ألاّ رميت بسيفك، فإنما يُراد نفسي، وسأقي المؤمنين بنفسي اليوم. قال أبو هريرة: فرميت بسيفي، فلا أدري أين هو حتى الساعة.

ثم ذكر البخاري الأثر الثاني المعلق بقوله:

ورأى عبد الله بن عمر ويحيى بن سعيد ومالك ذلك جائزا.

عُمر، كذا في جميع النسخ بضم العين وإسقاط الواو، وقوله: ذلك جائزًا، أي: المناولة والإِجازة على حد قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي ما ذكر من الفارض والبِكر، فأشار بذلك إلى المثنى.

أما أثر يحيى بن سعيد ومالك، فقد أخرجه الحاكم في "علوم الحديث" من طريق إسماعيل بن أبي أُوَيْس، قال: سمعت خالي مالك بن أنس يقول: قال لي يحيى بن سعيد الأنصاري، لما أراد الخروج إلى العراق: التقط لي مئة حديث من حديث ابن شِهاب حتى أرويها عنك.

ص: 99

قال مالك: فكتبتها، ثم بعثتها إليه. ورواه الرَّامَهْرمزِّي من طريق ابن أبي أُوَيس أيضًا، عن مالك. أما يحيى بن سعيد، فقد مر في الأول من بدء الوحي، ومر الإِمام مالك في الثاني منه أيضًا.

وأما عبد الله بن عمر المذكور فيحتمل أن يكون العُمري المَدنيّ، وجزم الكرمانيّ بذلك. وقد خرّج ابن حجر أثره في "تعليق التعليق". ويحتمل أن يكون ابن عمر، لما في كتاب الوصية لأبي القاسم بن مَنْده من طريق البخاري بسند له صحيح، إلى عبد الرحمن الحبلي أنه أتى عبد الله بكتاب فيه أحاديث. فقال: انظر في هذا الكتاب، فما عرفتَ منه اتركه، وما لم تعرفه امْحُه. فذكر الخبر، وهو أصل في عرض المناولة.

وعبد الله بن عمر الذي ذكر ابن منده يحتمل أن يكون ابن عمر بن الخطاب فإن الحبلي سمع منه، ويحتمل أن يكون ابن عمرو بن العاص، فإن الحبلي مشهور بالرواية عنه، وعبد الله بن عمر بن الخطاب مر في الأثر الرابع من كتاب الإِيمان قبل ذكر حديث منه. ومر عبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث الثالث منه.

وأما العمري فهو عبد الله بن عمران بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن المدنيّ القرشىّ العدويّ، كان يكنى أبا القاسم، فتركها واكتنى أبا عبد الرحمن. قال أبو طلحة عن أحمد: لا بأس به، قد رُوي عنه، ولكن ليس مثل أخيه عُبيد الله، وقال أبو زرْعة الدمشقي، عن أحمد: كان يزيد في الأسانيد، ويخالف. وكان رجلًا صالحًا. وقال أبو حاتم: رأيت أحمد بن حنبل يحسن الثناء عليه. وقال أحمد: يروي عبد الله عن أخيه عُبيد الله، ولم يرو عبيد الله عن أخيه عبد الله شيئًا. كان عبد الله يُسأل عن الحديث في حياة أخيه فيقول: أمّا وأبو عثمان حيٌّ فلا. وقال ابن معين: صُوَيلح. وقال مرة: ليس به بأس، يكتبُ حديثه. وقال ابن المدينيّ: ضعيف.

وقال عمرو بن علي: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه. وكان عبد

ص: 100

الرحمن يحدث عنه. وقال يعقوب بن شَيْبة: ثقة صدوق، في حديثه اضطراب. وقال صالح جَزَرة: لين مختلط الحديث. وقال النّسائي: ضعيف الحديث. وقال ابن عدي: لا بأس به في رواياته، صدوق. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث يُسْتضعَف، وقال أبو حاتم: وهو أحب إلى من عبد الله بن نافع، يكتب حديثه، ولا يحتج به، وقال العَجْليّ: لا بأس به، وقال ابن حِبان: كان ممن غلب عليه الصّلاح حتى غفل عن الضبط فاستحق الترك. وقال البخاريّ: ذاهب لا أروي عنه شيئاً. وقال أيضًا: كان يحيى بن سعيد يضعِّفه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقويّ عندهم.

وقال أحمد بنِ يُونس: لو رأيت هيأته لعرفت أنه ثقة. وقال المَرْوَزيّ: ذكره أحمد فلم يرضَهُ. وقال ابن عَمّار المُوصِليّ: لم يتركه أحد إلا يحيى ابن سعيد، وزعموا أنه أخذ كتب عُبيد الله فرواها، وأورد له يعقوب بن شَيْبة في مسنده حديثًا، فقال: هذا حديث حسن الإِسناد مدنيّ. وقال في موضع آخر: رجل صالح مذكور بالعلم والصلاح، وفي حديثه بعض الضعف والاضطراب، ويزيد في الأسانيد كثيرًا. وقال الخليلي: ثقة غير أن الحفّاظ لم يرضوا حفظه. وقال ابن معين فيه: إنه صُوَيلح، إنما حكاه عنه إسحاق الكَوْسج، وأما عثمان الدارميّ فقال: عن ابن معين: صالح ثقة.

روى عن نافع وزيد بن أسْلم وسعيد المَقْبَري، وأخيه عُبيد الله بن عمر بن حَفْص، وحُميد الطويل، وسالم بن أبي النضر وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الرحمن وعبد الرحمن بن مهديّ واللّيْث بن سعد، وابن وَهْب، وعبد الرزاق وأبو قُتيبة مُسْلم بن قُتيبة، وعبد الله بن مَسْلَمَة القَعْنبيّ، وسعيد بن الحكم بن أبي مريم، وكامل بن طَلْحة الجُحْدُريّ. وقال ابن سعد: خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن، فحبسه المنصور ثم خلاّه، توفي بالمدينة سنة إحدى أو اثنتين وسبعين ومئة، في خلافة هارون الرشيد، وقيل: مات سنة ثلاث وسبعين.

ولنذكر هنا تعريف الحبلي تتميمًا للفائدة، لكونه هو الراوي للأثر عن

ص: 101

عبد الله، على احتمال، وهو عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن الحُبْلِي المَعافِري. قال ابن معين: ثقة، وذكره ابن حِبان في الثقات. وقال ابن يونس: كان رجلًا صالحًا فاضلًا. وقال ابن سعد والعجليّ: ثقة. وقال أبو بكر المالكي في "تاريخ القيْروان": بعثه عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية ليفقههم، فبث فيها علمًا كثيرًا.

روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعُقْبة بن عامر، وأبي ذرٍّ، وأبي أيّوب الأنصاري، وعُمارة بن شَبِيب. وروى عنه أبو هانيء حُميد بن هانىء، وأبو عَقيل زُهرة بن مَعْبد، وعُقبة بن مُسلم، وشُرحبيل بن شَريك، وعبد الرحمن بن زِياد، ويزيد بن عمرو المَعافِرِيّ، وغيرهم. مات بإفريقية سنة مئة، ودفن بباب تونس.

وفي الستة عبد الله بن يزيد خلق، والحُبليّ في نسبه، بالضم على القياس، وبضمتين كجُهُنِيّ، وعلى الثاني اقتصر سيبويه، وقال: غير قياس. وقال السُّهَيْليّ: إن الضبط الأخير خطأ، وإنما أوقع من ضبطه فى الوهم، كونُ سيبويه ذكره مع جُذُمِي نسبة إلى جُذَيْمة، وإنما ذكره معه لكون كل منهما شاذًا، لا لكونه مثله في الوزن، نسبةٌ إلى حُبْلى، كبُشْرى، لقب سالم بن غَنْم بن عَوْف بن الخزرج، لقب به لعظم بطنه. من ولده بنو الحُبْلى بطن من الأنصار والمشهور بهذه النسبة هو هذا العالم.

والمَعَافِريّ في نسبه نسبة إلى مَعافر، بفتح الميم، وهو بلد باليمن نزل فيه معافر بن أدد، أبو حي من هَمْدان، والميم زائدة. لا ينصرف في معرفة ولا في نكرة، لأنه جاء على مثال ما لا ينصرف من الجمع، وإلى أحدهما تنسب الثياب المَعافِريَّة. ويقال ثوب مَعَافِريّ، فتصرفه لأنك أدخلت عليه يَاء النسبة، ولم تكن في الواحد، وقال الأزهري: بُرْدٌ مَعافِريّ، منسوب إلى مَعَافر اليمن، ثم صار اسمًا لها بغير نسبة، فيقال: مَعَافر. وقال سيبويه. مَعافرُ بن مُرّ، فيما يزعمون، أخو تميم بن مُرّ، ونسب إلى الجمع لأن مَعَافر اسم لشيء واحد، كما تقول لرجل من بني كلاب: كلابيّ، فأما النَّسْب

ص: 102

إلى الجماعة، فإنما توقع النسب إلى الواحد، كالنسب في مساجد تقول مسجدي.

والحديث المعلق هو قوله:

واحتج بعضُ أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كتب لأمير السرية كتابًا، وقال:"لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا"، فلما بلغ ذلك المكان، قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: في المناولة، أي: في صحة المناولة، والسَّرِية، بفتح المهملة وكسر الراء، وتشديد الياء التحتية: القطعة من الجيش. وكانوا اثني عشر رجلا من المهاجرين. وقوله: حتى تبلغ مكان كذا وكذا، هكذا في حديث جُنْدُب، على الإِبهام. وفي رواية عُروة أنه قال:"إذا سرت يومين، فافتح الكتاب"، قال: ففتحه هناك، فإذا فيه "أن امضِ حتى تنزل نخلةَ، فتأتينا من أخبار قريش، ولا تَسْتكْرهنَّ أحدًا" قال في حديث جُنْدُب: فرجع رجلان، ومضى الباقون، فلَقُوا عمرو بن الحَضْرميّ، ومعه عيرٌ، أي: تجارة لقريش، فقتلوه، فكان أول مقتول من الكفار في الإِسلام. وذلك في أول يوم من رجب، وغنموا ما كان معهم، فكانت أول غنيمة في الإِسلام، فعاب عليهم المشركون ذلك، فأنزل الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] الآية. وكان مع ابن الحضرمي المقتول ثلاثة أُسر منهم اثنان عثمان بن عبد الله بن المُغيرة المخزومي، والحَكَم ابن كَيْسان المخزومي، وفر واحد، وهو نَوْفل بن عبد الله. وفي ذلك يقول عبد الله بن جَحْش على الصحيح، وقيل: أبو بكر الصديق:

تعُدّون قتلًا في الحرام عظيمةٌ

وأعظم منها لو يرى الرشد راشدُ

صدُودُكم عمّا يقول محمدٌ

وكفرٌ به والله راءٍ وشاهدُ

وإخراجكم من مسجد الله أهله

لئلا يرى لله في البيت ساجدُ

فإنّا وإنْ عيرتمونا بقتله

وأرْجَف بالإِسلام باغٍ وحاسدُ

ص: 103

سقَيْنا من ابن الحضرميّ رماحنا

بنخلةَ، لما أوقد الحرب واقدُ

دمًا، وابن عبد الله عثمان بيننا

ينازعه غِل من الحقد عاقدُ

وواقد هو ابن عبد الله التميمي، وهو القاتل لابن الحضرميّ. فأما الحَكَم بن كَيْسان، فأسلم وحَسُن إسلامه، وأقام عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قتل يوم بئر مَعُونة شهيدًا. وأما عثمان، ففداه قومه، ولحق بمكة، ومات بها كافرًا، نسأل الله الكريم الحنّان المنّان العصمةَ من ذلك.

ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، فإنه ناوله الكتاب وأمره أن يقرأه على أصحابه، ليعملوا بما فيه، ففيه المناولة، ومعنى الكتابة. وتعقبه بعضهم بأن الحجة إنما وجبت به لعدم توهم التبديل والتغيير فيه، لعدالة الصحابة، بخلاف من بعدهم. حكاه البَيْهقيّ، قال في "الفتح": أقول: شرط قيام الحجة بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختومًا، وحامله مؤتمنًا، والمكتوب إليه يعرف خط الشيخ، إلى غير ذلك من الشروط الدافعة لتوهم التغيير، كما مر. يعني أنه حينئذ يؤمن التغيير فيه، كما هو الواقع في حق الصحابيّ.

ولم يذكر البخاريّ هذا الحديث موصولًا في كتابه، ووصله الطَّبرانيّ من حديث جُنْدُب البَجْليّ بإسناد حسن، وهو في سيرة ابن إسحاق مرسلًا، ورجاله ثقاتٌ عن عروة بن الزبير، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطَّبريّ في تفسيره. فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحًا، والمراد بالبعض هنا، شيخ البخاريّ الحُمَيديّ. وقد مر في أول حديث من بدء الوحي.

وأمير السرية هو عبد الله بن جَحْش بن رِياب، براء ثم تحتانية، ابن يَعْمُر بن صُبْرة بن مُرّة بن كثير بن غَنْم بن دَودَان بن أسد بن خُزَيْمة. أمه أُمَيْمة بنت عبد المطلب، وهو حليف لبني عبد شمس. وقيل لحرب بن أُمية، أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم، وكان هو وأخوه أبو أحمد

ص: 104

عَبد بن جَحْش من المهاجرين الأولين ممن هاجر الهجرتين، وأخوهما عُبيد الله بن جَحْش تنصَّر بأرض الحبشة، ومات بها نصرانيًّا. وبانت منه امرأته أُم حبيبة بنت أبي سُفيان، فتزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأختهم زينب بنت جحش، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأم حبيبة وحَمْنَة بنتي جحش، وكان عبد الله يعرف بالمُجَدَّع في الله، لأنه مُثِّل به يوم أُحد. قُطع أنفه وأذنه. قتله أبو الحكم الأخنس بن شُرَيق الثقفيّ، وهو يومئذ ابن نيّفٍ وأربعين سنة. ودفن هو وحمزة، رضي الله عنهما، في قبر واحد. وولي النبي صلى الله عليه وسلم، تركته فاشترى لابنه مالا بخَيْبَر.

وسبب تجديعه، ما رُوي من طريق إسحاق بن سعد بن أبي وقَّاص عن أبيه، أن عبد الله بن جحش قال له يوم أُحد: ألا تأتي فندعوا الله، فَخَليا في ناجية، فدعى سعد، فقال: يا ربِّ إذا لقيتُ العدوّ غدًا فلَقِّني رجلًا شديدًا بأسُه، شديدًا حَردُه، أقاتله فيك، ويقاتلني، ثم ارزقني الظَّفر حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمَّن عبد الله بن جحش، ثم قال: اللهم ارزقني غدا رجلًا شديدًا بأسه شديدًا حرْدُه، أقاتله فيك، ويقاتلني حتى يقتلني، فيأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك، قلت: يا عبد الله فيم جُدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك، وفي رسولك، فتقول: صدقت.

قال سعد: كانت دعوة عبد الله خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار، وإن أذنه وأنفه معلقان جميعًا في خيط. وعن الشعبيّ أنه قال: أول لواء عقده النبي صلى الله عليه وسلم، لعبد الله بن جَحْش، وقيل: لواء عُبيدة بن الحارث، وقيل: لواء حمزة، وهو أول من سن الخمس من الغنيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، من قبل أن يفرض الله تعالى الخمس، ثم أنزل الله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية. وكان قيل قبل ذلك في الجاهلية المِرْباع.

وروي عن سعد بن أبي وقّاص أن النبي صلى الله عليه وسلم، خطبهم وقال:"لأبعثن عليكم رجلًا ليس بخيركم، ولكنه أصبركم للجوع والعطش"، فبعث

ص: 105

عبد الله بن جحش. وذكر الزبير أن عبد الله بن جحش انقطع سيفه يوم أحد، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، عُرْجُونًا، فصار في يده سيفًا، يقال: إن قائمته منه، وكان يسمى العُرْجُون، ولم يزل يُتناول حتى بيع من بغاء التُّركيّ بمئتي دينار، ورُوي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: استشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أُسارى بدرٍ أبا بكر وعمر وعبد الله بن جحش. ورُوي عن الحسن بن زيد أنه قال: قاتل الله ابن هِشام ما أجرأه على ربه، دخلت عليه يومًا مع أبي في هذه الدار، يعني دار مروان، وقد أمره هشام أن يفرض للناس، فدخل عليه ابن لعبد الله بن جحش المُجدّع في الله، فانتسب له، وسأله الفريضة، فلم يجبه بشيء، ولو كان أحد يُرفع إلى السماء كان ينبغي أن يرفع بمكان أبيه، ثم دخل عليه ابنُ تِجْراة، وهم أهل بيت من كِندة، وقعوا بمكة، فقال: ابن أبي تجراة صاحب عمك عُمارة بن الوليد بن المُغيرة في سفره، فقال له: لينفَعَنَّك ذلك اليوم، ففرض له، ولأهل بيته. روى عن عبد الله بن جحش سعدُ بن أبي وقّاص، وروى عنه سعيد بن المُسيّب ولم يسمع منه. وفي الصحابة عبد الله بن جحش آخرُ، جاء ذكره في حديث ضعيف، ووصف بكونه أعمى.

ص: 106