الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن والعشرون
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ وَهِىَ تُصَلِّي فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ. قُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، أَىْ نَعَمْ، فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلَاّنِى الْغَشْيُ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي الْمَاءَ، فَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَاّ رَأَيْتُهُ فِى مَقَامِي حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِى قُبُورِكُمْ، مِثْلَ -أَوْ قَرِيبًا لَا أَدْرِى أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ- مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ -أَوِ الْمُوقِنُ لَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ. ثَلَاثًا، فَيُقَالُ ثمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ -أَوِ الْمُرْتَابُ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ".
قوله: "فقلت ما شأن الناس" أي: لما رأيت من اضطرابهم وفزعهم وقوله: "فأشارت" أي عائشة إلى السماء، أي انكسفت الشمس. قوله:"فإذا الناس قيام"، أي كأنها التفتت من حُجْرة عائشة إلى من في المسجد، فوجدتهم قيامًا في صلاة الكسوف، ففيه إطلاق الناس على البعض. وقوله:"فقالت سبحان الله" أي أشارت قائلة: سبحان الله. وقوله: "فقلت آية" هو بالرفم خبر مبتدأ محذوف أي: هذه آية، أي علامة لعذاب الناس؛ لأنها مقدمة له قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الِإسراء: 59]. أو علامة لقرب زمان قيام الساعة.
وقوله: "حتى علانى كذا" للأكثر بالعين المهملة، وتخفيف اللام، من علوت الرجل غلبته، ولكريمة "تجلاني" بمثناة وجيم ولام مشددة، وجلال الشيء ما غطي به، والغَشْي، بفتح الغين وسكون الشين المعجمتين وتخفيف الياء، وبكسر الشين وتشديد الياء، بمعنى الغشاوة وهي الغطاء، وأصله مرض معروف، يحصل بطول القيام في الحر ونحوه، وهو طرف من الإغماء. والمراد هنا الحالة القريبة منه فأطلقته مجازًا، ولهذا قالت:"فجعلتُ أصب على رأسي الماء في تلك الحالة ليذهب" ووهم من قال: إن صبها كان بعد الصلاة، ولو كان شديدًا، لكان كالإغماء، وهو ينقض الوضوء بإجماع، وكونها كانت تتولى صب الماء عليها، يدل على أنَّ حواسها كانت مدركة، وذلك لا ينقض الوضوء.
ومحل الاستدلال بفعلها من جهة أنها كانت تصلي خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يرى الذي خلفه في الصلاة، ولم ينقل أنه أنكر عليها. وقوله:"وأثنى عليه" عطف على "حمد" من باب عطف العام على الخاص؛ لأن الثناء أعم من الحمد والشكر والمدح، وقوله:"لم أكن أُريته" بضم الهمزة، أي مما تصح رؤيته عقلًا كرؤية الباري، ويليق عرفًا مما يتعلق بأمر الدين وغيره، وقوله:"ألا رأيته" أي: رؤية عين حقيقية، وقوله:"في مقامي" حال، أي: حال كوني في مقامي، بفتح الميم الأولى، وكسر الثانية. وفي رواية الكَشْمَيهْنيّ والحَمَويّ زيادة "هذا" خبر مبتدأ محذوف، أي وهو هذا، ويؤول بالمشار إليه، والاستئناء مفرغ متصل، فتلغى فيه إلا من حيث العمل لا من حيث المعنى، كسائر الحروف، نحو ما جاءني إلا زيدٌ، وما رأيت إلا زيدًا، وما مررت إلا بزيدٍ.
وقوله: "حتى الجنة والنار" رويت بالحركات الثلاث فيهما: (1)
بالرفع على أن حتى ابتدائية والجنة مبتدأ محذوف الخبر، أي حتى الجنة مرئية، والنار عطف عليه (2).
والنصب على أنها عاطفة، عطفت الجنة على الضمير المنصوب في رأيته (3).
والجر على أنها جارة، واستشكل الدماميني الجر بأنه لا وجه له إلا العطف على المجرور المتقدم، وهو ممنوع لما يلزم عليه من زيادة من مع المعرفة، والصحيح منعه. قلت: هكذا نقله القَسْطَلانيّ، ولم أفهم وجه قوله:"إن الجر لا وجه له إلا العطف على المجرور"، فإن الجر غير العطف، ولا يشترط فيه أن يكون قبله مجرور يعطف عليه، بل هي في حالة الجر لانتهاء الغاية. فالجنة والنار هما انتهاء غاية الرؤية، فهي مثل قوله تعالى {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] فلا فرق بين هذه الآية والحديث.
وقد مر في حديث كُفران العَشير في الإيمان استيفاء الكلام على رؤيته، عليه الصلاة والسلام، للجنة والنار. وقوله:"فأُوحي إليَّ أَنكم" بضم همزة أوحي وكسر الحاء وفتح همزة أن، نائب عن الفاعل، وقوله:"تُفْتَنون" أي تُمْتَحَنون وتُخْتَبَرون. وقوله: "مثل أو قريبًا" بترك التنوين في الأول وإثباته في الثاني. وتوجيهه أن اصله مثل فتنة الدَّجال، أو قريبًا من فتنة "الدجال" فحذف ما أضيف إليه "مثل" وترك "مثل" على حاله قبل الحذف، وجاز الحذف لدلالة ما بعده عليه، وهذا كقول الشاعر:
عَلَّقْتُ آمالي فَعَمّتِ النِّعَمْ
…
بمثلِ أو أنفعَ من وبلِ الدِّيَمْ
وتمثيله في الفتح بقول الشاعر:
بين ذِراعي وجَبْهَة الأسَدِ
وبقول الآخر:
أمامَ وخلفَ المرِء من لُطفِ ربه
الخ ليس في محله؛ لأن ما ذكره من باب قول ابن مالك:
ويحذَف الثاني ويبقى الأولُ
…
كحاله إذا به يَتَّصِلُ
بشرطِ عطفٍ وإضافةٍ إلى
…
مثل الذي له أضفت الأولَّ
وهذا المعنى ليس في الحديث، والذي في الحديث هو إعمال المعطوف في مثل ما أضيف إليه الأول: وهو يبقى فيه الأول على حاله كما مر في بيت الشاعر مشابه لما ذكره ابن مالك. وفي رواية بترك التنوين في الثاني أيضًا، وتوجيهه أنه مضافٌ إلى فتنة أيضا، وإظهار حرف الجر بين المضاف والمضاف إليه جائزٌ عند قوم.
وقوله: "لا أدري"، أيّ ذلك قالت أسماء:"جملة معترضة بين العامل ومعموله"، مؤكدة لمعنى الشك المستفاد من كلمة. أو بين بها الراوي أن الشك منه هل قالت أسماء "مثل" أو قالت "قريبًا"؟ وأيّ: مرفوع بالابتداء، والخبر "قالت أسماء". وضمير المفعول محذوف، أي، قالته. وفعل الدراية معلق بالاستفهام؛ لأنه من أفعال القلوب. وروي "أيَّ" بالنصب مفعولًا لأدري إن جُعِلت موصولة، أو"لقالت" إن جُعلت استفهامية أو موصولة.
وقوله: "من فتنة المسيح الدَّجَّال" المسيح بالحاء المهملة، سمي بذلك لمسحه الأرض، أو لأنه ممسوح العين. والدجَّال على وزن فَعَّال من الدجل، وهو الكذب والتمويه، وخلط الحق بالباطل، وهو كذّاب مَمَوِّه خلّاط. وقيل: سمي بذلك لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير، مثل دجلة تغطي الأرض بمائها، والدَّجَل التغطية. يقال دَجَل فلان الحق بباطله، أي: غطاه.
وقوله: "يقال له ما علمك" مبتدأ وخبر. والخطاب فيه للمقبور، بدليل قوله "إنكم تفتنون في قبوركم" ولكنّه عدل عن خطاب الجمع، إلى خطاب المفرد؛ لأن السؤال عن العلم يكون لكل واحد بانفراده واستقلاله، وكذا الجواب. وقوله:"بهذا الرجل" أي: النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يعبّر بضمير المتكلم، بأن يقول ما علمك بي؛ لأنه حكاية قول المَلكَيْن، ولم يقل رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لأنه يصير تَلْقِيْنًا لحجته، فيعظمه تقليدًا لهما لا اعتقادًا.
وقوله: "فأما المؤمن أو المُوقن" أي: المصدق بنبَّوته، صلى الله تعالى عليه وسلم، وقوله:"لا أدري بأيهما قالت أسماء" أي: بجر أيهما بالباء، وفي رواية الأربعة، لا أدري أيها المؤمن أو الموقن، وقوله:"قالت أسماء" والشك من فاطمة بنت المنذر. وقوله: "فيقول"، الفاء فيه جواب، إما لما في إما من معنى الشرط. وقوله:"جاءنا بالبينات" أي: بالمعجزات الدالة على نبوته.
وقوله: "والهدي" أي الدلالة الموصلة إلى البغية، وقوله:"فأجبنا واتبعنا" وفي رواية أبي ذَرِّ "فأجبناه واتبعناه" بالهاء فيهما، فحذف ضمير المفعول في الرواية الأولى، للعلم به أي: قبلنا نبوته، معتقدين مصدقين، واتبعناه فيما جاء به إلينا. أو الإجابة تتعلق بالعلم، والاتباع بالعمل.
وقوله: "هو محمد ثلاثًا" أي: ثلاث مرات. وقوله: "ثم صالحًا، أي: حال كونك صالحًا، أي: منتفعا بأعمالك، إذ الصلاح كون الشيء في حد الانتفاع. وقوله: "قد علمنا إن كنت لموقنًا" بكسر همزة إن، أي الشأن كنت لموقنًا، أي: أنت موقن كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 11] أي: أنتم، أو تبقى على بابها. قال القاضي، وهو الأظهر، واللام في قوله "لموقنا" عند البصريين للفرق بين إن المخففة وإن النافية. وأما الكوفيون، فإن عندهم بمعنى ما، والسلام بمعنى إلَاّ، كقوله تعالى {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} [الطارق: 4]. أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ والتقدير: ما كنت إلا موقنًا.
وحكى السَّفاقسي فتح همزة أن على جعلها مصدرية، أي: علمنا كونك موقنًا به. وردَّه بدخول اللام، وتعقبه الدَّمامينيُّ قائلًا: إنما تكون اللام مانعة، إذا جعلت لام الابتداء على رأي سيبويه ومن تبعه. وأما على رأي الفارسيّ ومن وافقه، إنها لامٌ غير لام الابتداء، اجتلبت للفرق، فيسوغ الفتح، بل يتعين حينئذ، لوجود المقتضي، وانتفاء المانع.
وقوله: "واما المنافق" أي غير المصدق بقلبه لنبوته. وقوله: "أو المرتاب" أي الشَّاكّ. وقوله: "سمعتُ الناس يقولون شيئًا فقلته" أي: قلت ما كان الناس يقولونه، وفي رواية، وذكر الحديث، أي الآتي في الجنائز، وهو فيقال:"لا دريت ولا تليت، ويضرب بمفارق من حديد ضربةً، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين". وقوله: "ولا تلَيت" أصله لا تَلَوت، أي: لا فهمتَ، ولا قرأت القرآن أو المعنى لا دريتَ ولا اتبعتَ من يدري. وإنما قاله بالياء لمؤاخاة "دريت" وروي لا دريت ولا أتليت، بزيادة همزة قبل المثناة، بوزن افتعلت، من قولهم ما ألوت، أي: لا دريت، ولا استطعت أن تدري، حُكِيَ عن الأصمعي، وبه جزم الخطابيّ.
وقال الأزهريّ: الألْوُيكون بمعنى الجهد، وبمعنى التقصير، وبمعنى الاستطاعة وحُكي عن يونس بن حبيب أن الصواب في الرواية "لا دريت ولا أتليت" بزيادة ألف وتسكين المثناه. كأنه يدعو عليه بأن لا يكون له من يتبعه، وهو من الإتلاء، يقال: ما أتْلت ابله، أي: لم تلد أولادًا يتبعونها، وعند أحمد من حديث أبي سعيد "لا دريتَ ولا اهديت" وعند عبد الرزاق "لا دريت ولا أفلحت".
وقوله: "بمطارق من حديد" وفي رواية "بمطرقة" بالإفراد. والجمع مؤذنٌ بأن كل جزء من أجزاء تلك المطرقة مطرقة برأسها مبالغة وفي حديث أبي هريرة عند عبد الرزاق "معهما مِرْزَيَّةٌ لو اجتمع عليها أهل مني لم يقلوها" وفي حديث البراء "لو ضرب بها جبل لصار ترابًا" وفي حديث أسماء "ويسلط عليه دابة في قبره معها سوطٌ ثمرته جمرة مثل غَرْبِ البعير، تضربه ما شاء الله، صماء لا تسمعه فترحمه" وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعائشة زيادة "ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا منزلك، لو آمنت بربك، فأما إذا كفرت، فإن الله أبدلك هذا، ويفتح له باب إلى النار، فيزداد حسرة وثبورًا، ويُضيَّق عليه قبره حتى تختلفَ أضلاعه".
وفي حديث البراء "فينادي مناد من السماء": افرشؤ من النار، وألبسوه
من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسَمُومها". ومرَّ في الحديث أن المؤمن يقال له:"نم صالحًا". وفي حديث أبي سعيد، فيقال له:"نم نومَة عَروس، فيكون في أحلى نومة نامها أحد حتى يُبْعث" وللتِّرْمِذيّ عن أبي هريرة، ويقال له:"نم فينام نومة العروس، الذي لا يوقظه إلا أحبّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك".
ولابن حِبان وابن ماجةَ في أبي هريرة، وأحمد عن عائشة، ويقال له:"على اليقين كنت، وعليه متَّ، وعليه تبعث إن شاء الله" وفي الحديث "فيقال له انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا" وفي رواية أبي داود "فيقال له: هذا بيتك كان في النار، ولكن الله، عز وجل، عصمك، ورحمك، فأبدلك الله به بيتًا في الجنة، فيقول: دعوني حتى أذهب فابشّر أهلي، فيقال له: اسكت". وعند أحمد عن أبي سعيد "كان هذا منزلك لو كفرت بربك"، ولابن ماجة عن أبي هريرة، بإسناد صحيح، فيقال له "هل رأيت الله فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فتفرج له فرْجة قِبَل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضًا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله"
وفي الحديث، أي حديث البخاريّ، في الجنائز، "فيفسح له في قبره" زاد مسلم "سبعين ذراعًا، ويملأ خضرا إلى يوم يبعثون" وللتَّرْمِذِيّ وابن حبان عن أبي هريرة "فيفسح له في قبره سبعين ذراعًا" زاد ابن حبان "في سبعين" وله من وجه آخر عن أبي هريرة "ويُرَحَّب له في قبره سبعون ذراعًا، وينور له كالقمر ليلة البدر" وفي حديث البراء الطويل "فينادي منادٍ من السماء: إن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا في الجنه، وألبسوه من الجنة. قال: فيأتيه من رُوْحها وطيبها، ويفسح له فيها مدَّ بصره"، زاد ابن حِبان عن أبي هريرة "فيزداد غِبطة وسرورًا، فيعاد الجلد إلى ما بدا منه، وتجعل روحه في نسَم طائر يعلق في شجر الجنة".
وقوله: سابقًا في الحديث "يسمعها من يليه" قال المُهَلّب: المراد
الملائكة الذين يلون فتنته، كذا قال. ولا وجه لتخصيصه بالملائكة، فقد ثبت أن البهائم تسمعه. وفي حديث البراء "يسمعه من بين المشرق والمغرب كلهم" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد "يسمعه خلق الله غير الثقلين" وهذا يدخل فيه الحيوان والجماد، لكن يمكن أن يخص منه الجماد، ويؤيده أن في حديث أبي هريرة عند البزَّار "يسمعه كل دابة إلا الثقلين" والمراد بالثقلين الإنس والجن، قيل لهم ذلك، لألهم كالثَّقل على وجه الأرض.
قال المُهَلّب: الحكمة في أن الله يسمع الجن قول الميت: قَدِّموني ولا يُسمعهم صوته إذا عُذِّب أن كلامه قبل الدفن متعلق بأحكام الدنيا، وصوته إذا عُذِّب في القبر متعلق بأحكام الآخرة. وقد أخفى الله على المكلفين أحوال الآخرة، إلا من شاء الله، إبقاء عليهم.
وفي الحديث المذكور "اتاه ملكان، فَيُقعدانه" زاد ابن حِبان والتِّرمِذِيّ "أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المُنْكر وللآخر النَّكير" وفي رواية ابن حبان "يقال لهما مُنكر ونِكيْر، وزادَ الطَّبراني في الأوسَطِ عَنْ أبي هُريَرة "أعْيَنهُما مِثْلَ قُدور النَّحاس وأنيابُهما مِثل صياصي البقَرِ وأصْواتهُما مِثْل الرَّعْد" ونَحَوْهِ لَعِبد الرَّزاقِ من مُرسَل عَمْرُو بنُ دينار، وزادَ يحفران بأنيابهما ويَطئان في أشعارهما، معَهما مِرَزَّبة لو اجتمع عَليها أهلُ منىً لم يقلُّوِهَا" وزادَ ابن حبان بَعد قولهِ "فَيُقْعِدانِه" عن أبي هريرة "فإذا كانَ مُؤمنًا كانَتْ الصَلاةُ عندَ رأسْه، والزَّكاةُ عنْ يمينهِ والصَّومُ عن شمالهِ وفِعلِ المعروفِ من قِبَلِ رِجْليه، فَيقالُ لَه: اجْلِسْ فَيجْلسِ، وقْد مثُلَت له الشَّمسُ عند الغُروب" زاد ابن حبان من حديث جابر "فيجلس فيمْسحُ عينيه ويقولُ: دعوني أُصلي.
وقد اختُلفَ في سؤالِ الميّت هل يقعُ على البدَنِ أو الرَّوح أو عليهما جميعًا؟ فقد قال ابن جريرٍ وجماعة من الكرَّامية: إنَّ السؤال في القبر يقعُ على البدن فقط وأنَّ الله يخلْقُ فيه إدراكًا بحيثُ يسمعُ ويعلمُ ويلَذُّ ويألم
وذهب ابن حزْمٍ وابن هُبيرْةَ إلى أن السؤال يقعُ على الروّح فقط من غير عودٍ الىِ الجسد وخالفهم الجمهور وقالوا: تُعاد الرّوحُ إلى الجسدِ أو بَعْضه كما ثبت في الحديث ولو كان على الرَّوحِ فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص.
ففي حديث البراء الطويل، أخرجَهُ أصحابُ السُّنن وصححهُ أبو عُوانة "فترَدُّ رُوحُهُ في جَسَدِه فيأتيهِ ملكان فَيُجلسانِه" وفيه أن الكافرَ تُعادُ روحُهُ في جَسده فيأتيه ملكان فيجلسانِه الخ. ولا يمْنع من ذلك كوْن الميتِ، قد تتفرق أجزاؤهُ؛ لأن الله تعالى قادر على أن يعيد الحياة إلى جزء من البدن، ويقع عليه السؤال، كما هو قادر على أنْ يجمع أجزاءهُ.
والحامل للقائلين إن السؤالَ يقعُ على الرُّوح فقط، أنَّ الميتَ قد يشاهَد في قبره حالَ المسَألةِ لا أثرَ فيه مِنْ إقعادٍ وغيره ولا ضيق في قبَرْهِ ولا سعَة. وكذلك غير المقبور كالمَصْلوب، وجوابُهُم أنَّ ذلك غيرَ ممُتنع في القُدرة بل لهُ نظيْر في العادة، وهوَ النَّائِمْ فإنَّه يجد لذةً وألمًا لا يُدْرِكهُ جُلَيسُه، بل اليقظانُ قَدْ يدركُ ألمًا أو لذةً لما يَسْمَعُهُ أو يُفكِرْ فيه، ولا يُدرِكُ ذلك جليسهُ، وإنما أتى الغَلطُ من قياس الغائب على الشاهِدِ، وأحوالِ ما بعد الموتِ عَلى ما قبلْهَ، والظاهر أنَ الله تعَالى صرَفَ أبصار العباد وأسماعهُم عن مشاهدة ذلك، وسترهُ عنهم إبقاءً عليهم، لئِلا يتدافنوا.
وليست للجوارحِ الدُّنيوية قُدرَةٌ على إدراك أمورٍ الملكوتِ إلا من شاء الله، وقد ثبَتَت الأحاديثُ بما ذَهب إليه الجمهُور كقوله عليه الصلاة والسلام "إنَّهُ لَيْسَمُع خَفْقَ نِعالهمِ" وقوله:"تَخْتَلفُ أضلاعُهُ" لضَمَّة القَبْر، وقوله:"يسمعُ صوته" إذا ضُرِبَ بالمطرقةِ وقوله "يُضْرَبُ بَين أَذُنَيه وقوله: فَيُقْعِدانه" وكلَّ ذلك من صفات الأجسادْ وَذهب أبو الهُذَيْلِ ومن تبعَهُ إلى أنّ الميتَ لا يشعُرُ بالتَّعذيب، ولا بِغَيْره إلا بيْن النَّفخْتَين. قالوا: وحالهُ كَحال النَّائمِ والمَغْشّي عليه، لا يُحِسُ بالضرب، ولا بِغَيْرِه إلا بعَد الإفاقَة.
والأحاديثُ الثّابتة في السؤال حالة تولي أصحاب الميت عنه ترُدُّ عليهم، واختُلِفَ في الكافرِ غيرُ المنافِق، هل يُسألُ أم لا؟ فالذي دَلَّت عليه
رواياتُ الحديثِ أنهُ يُسأَلُ، وهي رادّةٌ على من زعم أنَّ السؤالَ إنما يقع على من يدعي الإيمان إنْ مُحِقًا وإنْ مُبْطلًا. ومُسَتَندُهمُ في ذلك ما رواهُ عبد الرّزاقِ عن عُبيد بن عمير أحدِ كبار التابعين، قال: إنما يُفَتَنُ رَجُلانِ مُؤمن ومُنافق، وأما الكافرُ فلا يُسأل عن محمدٍ ولا يُعرفه، وهِذا موقوف، والاحاديث الناصة على أن الكافرَ يسأل مرفوعَةٌ، مع كثرة طُرُقها الصحيحة، فهي أولى بالقبول.
وجَزم التّرْمِذِيُّ الحكَيمُ بأنَّ الكافرَ يُسأَلْ، وقد مال ابنُ عبد البَّرِ إلى الأولِ، وقال: الآثارُ تدُلُ على أنَّ الفتْنَة لمن كان منسوبًا إلى أهل القبلة ، وأما الكافرُ الجاحِدُ فلا يُسألُ عَن دينهِ. وتعقَّبه بَعضُهُم قائِلًا: إنَّ في الكتاب والسُّنة دليلًا على أن السؤال يقعُ للكافِر والمُسلم. قال الله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27].
وفي حديث أنسٍ في البخاري: "وأما المُنافقُ والكافرُ"، بواوِ العطَفْ. وفي حديث أبي سعيد "فإنْ كان مُؤْمنًا فذِكّرهُ" وفيه "وإنْ كان كافرًا". وفي حديث البَرَّاءِ أنَ الكافِرَ إذا كان في انقطِاعٍ من الدُّنيا فَذَكّرهُ، وفيه:"فَيَأْتيه مُنكرٌ ونكير الحديث" أخرجه أحمد هكذا قال، وأما قولُ أبي عمَر، "فَأَما الكافرُ الجاحدُ فليسَ ممن يُسأَلُ عن دينِه فَجوابُه أنه نَفْي بلا دَليل، بل في الكتاب العزيز الدَّلالةُ على أنَ الكافِرَ يُسأَلُ عن دينه. قال الله تعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]. وقال تعالى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]، لكنّ للنافي أن يقول: إنّ هذا السؤال يكون يومَ القيامَة، قُلتُ: وهذا الاحتمالُ هو الظاهر.
وقد مَرَّ إتيان البُخاري بهذه الآية مع قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، وهذا دالٌ على أنَّ الُمرادَ بذلك الآخرة واخْتُلِفَ في الطفل غَير المُمَيزِ، هل يُسأَلُ؟ فَجَزَم القُرْطِبيّ
في التّذْكِرِة بَأَنهُ يُسأَلُ، وهو منقوَل عن الحنفية، وجزم غير واحدٍ من الشافعية بأنه لا يُسأل، ومن ثَمَّ قالوا: لا يُستحبُّ أن يُلَقَّنْ واختلِف أيضًا في النبي هل يُسألُ؟ وأَما الملَكُ فلَا يَعْرفُ أحدٌ ذِكْرَهَ والذي يَظْهر أنَّه لا يُسأَلُ، لأنَّ السُؤالَ يختصَ بمنَ شَأنْهُ أنْ يفُتن.
والمُسالةُ واقعةٌ على كل أَحدٍ كما مَرَّ. وهل تختْصُّ بهذه الأمة أو وَقَعت على الأممَ قبلها؟ ظاهرُ الأحاديث الأولُ، وبهِ جَزَمَ الحكيمُ التِّرِمِذي، وقال: كانت الأُمم قبلَ هذه الأُمةِ تأتيهمُ الرُّسلُ فإن أطاعوا فذاك، وإنْ أبَوا اعتزلوهم وعوجلوا بالعَذابْ، فلما أرسل اِلله محمدًا رحمة للعالمين أمسكَ عنهمُ العذابَ، وقبل الإِسلام ممَّن أظْهَرَهُ سواءٌ سَرّ الكُفْر أم لا، فلَما ماتوا قيَّض لله فَتَّانَيْ القبر لَيْستخِرجَ سرَّهُم بالسُّؤالِ، وليَميزَ الله الخَبيثَ من الطَّيب، ويُثَبّتَ الله الذين آمنوا ويضُلُّ الله الظالمين.
ويؤيّدُه حديثُ زَيدٍ بن ثابت مرْفوعًا "إن هذه الأُمةَ تُبْتلَى في قبورها" الحديث
…
، أخرجهُ مسلم، ويُؤيْدهُ أيضًا قولُ الملكين: ما تقولُ في هذا الرَّجل مُحمد؟ وحديثُ عائشة عند أحمدٍ أيضًا بلفظِ "وأما فِتْنة القبَّر: فبي تُفْتنونُ، وعَنّي تُسأَلون" وجَنحِ ابن القيم إلى الثاني، وقال: ليسَ في الأحاديث ما يَنفي المسألة عمنَّ تقَدَّم من الأمم، وإنّما أخبرَ النّبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أمته بكيفية امتحانِهم في القُبورِ لا أنَّه نفي ذلك عن غَيرهم، قال: والذي يَظهَرُ أنَّ كلَّ نبي مع أمَتَّهِ كذلك فتَعَذَّبَ كفُارهِم في قُبورهمِ بعَد سُؤالهَم وإقامة الحُجُّةَ عليهم، كما يعَذبَّون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحُجة.
وحُكي في مسألة: الأطفالِ احتمالا، والظاهرَ أنَّ ذلك لا يمتنع في حقّ المميّز دُون غَيره، قلت: وقَد مَر أن غيرَ الممَيّز فيه خِلافٌ، والظّاهرُ عندي ما جَزَم به الحكيمُ الترْمِذِيّ من اختصاص السُّؤال بهذه الأُمة، لما ذكرَ من الأدلة الظاهرةِ في اختصاصه بها، بل الصريحة كقوله في حديث زيد بن ثابت "إن هذه الأمة تُبلى في قبورها"، وما قاله ابن القَيّم إنّما هُو استظُهارٌ مِنْ نَفْسه، لمْ يأتِ عليه بلدليل، وهذا المَنْزَعُ مما لا مجالَ للرّأي فيه.