الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس والاربعون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهْوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ إئْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ". فَقِيلَ لأَبِى شُرَيْحٍ مَا قَالَ عَمْرو قَالَ أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، أَن مَكَة لَا تُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ.
قوله: "وهو يبعث البعوث" جمع بَعْث بمعنى مبعوث، وهو من تسمية المفعول بالمصدر، والمراد به الجيشُ المجهز للقتال، أي: يرسل الجيوش إلى مكة. لقتال عبد الله بن الزبير، لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية، واعتصم بالحرم، وكان عمرو والي يزيد على المدينة، والقصة مشهورة، وملخصها أن معاوية عَهِدَ بالخلافة بعده لابنه يزيد، فبايعه الناس إلا الحسين بن علي وابن الزبير، فأما ابن أبي بكر عبدُ الرحمن، فمات قبل موت معاوية، وأما ابن عمر، فقد بايع ليزيد بعد موت أبيه، وأما الحسين بن علي فسار إلى الكوفة، لاستدعائهم إياه ليبايعوه، فكان ذلك سبب قتله، وأما ابن الزبير فاعتصم، ويسمى "عائذ البيت" وغلب على أمر مكة، فكان يزيد بن معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهزوا إليه الجيوش، فكان آخر ذلك أن أهل المدينة اجتمعوا على خلع يزيد من الخلافة.
وقوله "إيئذن لي" أصله ائذن بهمزتين، فقلبت الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. وقوله "أيها الأمير" الأصل فيه: يا أيها الأمير، فحذف حرف النداء. ويستفاد منه حسن التلطف في مخاطبة السلطان، ليكون أدعى لقبولهم النصيحة، وأن السلطان لا يخاطب إلَاّ بعد استئذانه، ولاسيما إذا كان في أمر يعترض به، فترك ذلك والغلظة له قد يكون سببًا لإثارة نفسه، ومعاندة من يخاطبه، وسيأتي في الحدود قول "والد العسيف". وإيذن لي.
وقوله "أحدثك" بالجزم، لأنه جواب الأمر. وقوله "قولًا" بالنصب، مفعول ثان لأحدث، وقوله "قام به النبي" صفة للقول وقوله "الغد" بالنصب، على الظرفية، أي أنه خطب في اليوم الثاني من فتح مكة في العشرين من رمضان السنة الثامنة من الهجرة. وقوله "سمعته أذناي" أصله أذنان لي، فسقطت النون، وأضيف إلى ياء المتكلم والجملة في محل نصب صفة للقول أيضًا. وقوله "ووعاه قلبي" أي حفظه وتحقق فهمه، وتثبت في تعقل معناه. وقوله "وأبصرته عيناي" بتاء التأنيث، كسمعته أذناي، لأن كل ما هو في الإنسان من الأعضاء إثنان، كاليد والرجل والعين والأذن، فهو مؤنث، بخلاف الأنف والرأس، والمراد المبالغة في حفظه والتثبت فيه، وأنه لم يأخذه اعتمادًا فيه على الصوت من وراء حجاب، بل بالرؤية والمشاهدة، وأتى بالتثنية تأكيدًا.
وقوله "حين تكلم به" الضمير في "به" راجع إلى القول. وقوله "حمد الله" هو مقول القول، أو بيان لقوله تكلم، ويؤخذ منه استحباب الثناء بين يدي تعليم العلم، وتبيين الأحكام والخطبة في الأمور المهمة، ويؤخذ من قوله "ووعاه قلبي" أن العقل محله القلب. وقوله "وأثنى عليه" عطف على سابقه، من باب عطف العام على الخاص، كما مر لك قبل هذا. وقوله "إن مكة حرمها الله" في رواية ابن عباس "في الحج يوم خلق السموات والأرض" وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وقوله "ولم يحرمها الناس"
أي من قبل أنفسهم واصطلاحهم، كما حرموا أشياء في الجاهلية من عند أنفسهم، بل حرمه الله تعالى بوحيه، فتحريمها ابتدائيٌّ من غير سبب يعزى لأحد، فلا مدخل فيه لنبي ولا لغيره، ولا معارضة بين هذا وبين قوله الآتي في الجهاد وغيره من حديث أنس "أن إبراهيم حرم مكة" لأن المعنى أنه بلغ تحريم الله وأظهره، بعد أن رفع البيت وقت الطوفان، واندرست حرمتها. أو أن إبراهيم حرم مكة بأمر الله لا باجتهاده، أو أن إبراهيم أول من أظهر تحريمها بين الناس، وكانت قبل ذلك عند الله حرامًا. وقيل: معنى قوله "ولم يحرمها الناس" أن حرمتها مستمرة من أول الخلق، وليس مما اختصت به شريعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقوله "فلا يحل لامرىء" بكسر الراء كالهمزة، إذ هي تابعة لها في جميع أحوالها، أي: لا يحل لرجل، وكذا لامرأة. وقوله "يؤمن بالله واليوم الآخر" أي: يوم القيامة، إشارة إلى المبدأ والمعاد، وفيه تنبيه على الامتثال لأن من آمن بالله لزمته طاعته، ومن آمن باليوم الآخر لزمه امتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى الله عنه خوف الحساب. وقد تعلق به من قال إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، والصحيح عند الأكثر خلافه. وجوابهم بأنّ المؤمن هو الذي ينقاد للأحكام، وينزجر عن المحرمات، فجعل الكلام معه، وليس فيه نفي ذلك عن غيره. وقال ابن دقيق العيد: الذي أراه أنه من خطاب التهييج كقوله تعالى {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] فالمعنى أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر، بل ينافيه. فهذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف. ولو قيل: لا يحل لأحد مطلقًا، لم يحصل منه هذا الغرض، وإن أفاد التحريم.
وقوله "أن يسفِك بها دما" بكسر الفاء، وقد تضم، لغتان وفي رواية الكَشْمَيهْني "فيها" بدل "بها" والباء بمعنى في، وأن مصدرية، أي: فلا يحل سفك دم فيها، والسفك صبُّ الدم، والمراد به القتل. وقوله "ولا
يعضد بها شجرة" بفتح المثناة التحتية، وتسكين العين المهملة، وكسر الضاد المعجمة، آخره دال مهملة مفتوحة. وقال ابن الجوزي: أصحاب الحديث يقولون "يَعضُد" بضم الضاد. وقال ابن الخَشّاب: هو بكسرها، أي: لا يقطع بالمِعْضَد، بكسر أوله، الآلة التي يقطع بها. وقال الخليل: المِعْضَد المُمْتهن من السيوف في قطع الشجر. وقال الطَّبريّ: أصله من عَضُد الرجل إذا أصابه بسوء في عضده، ووقع في رواية لعمر بن شَبَّة بلفظ "لا تَخْضُد" بالخاء المعجمة بدل العين المهملة، وهو راجع إلى معناه. فإن أصل الخَضْد الكسر، ويستعمل في القطع.
وقوله "شجرة" أي: ذات ساق، و"لا" زيدت لتأكيد معنى النفي، أي: لا يحل له أن يعضد. قال القرطبيّ: خص الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما ينبته الله تعالى من غير صنع آدمي، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي، فاختلف فيه. والجمهور على الجواز. وقال الشافعي: في الجميع الجزاء، ورجحه ابن قدامة. واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول، فقال مالك: لا جزاء فيه، بل يأثم وقال عطاء: يستغفر. وقال أبو حنيفة: يُؤخذ بقيمته هَدْيٌ. وقال الشافعيّ: في العظيمة بقرة، وفيما دونها شاة. واحتج الطبريّ بالقياس على جزاء الصيد، وتعقَّبه ابن القَّصّار بأنه كان يلزمه أن يجعل الجزاء على المحرِم إذا قطع شيئًا من شجر الحِل، ولا قائل به.
وقال ابن العَرَبيّ: اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم، إلَاّ أن الشافعي أجاز قطع السِّواك من فروع الشجرة، كذا نقله أبو ثَوْر وأجاز، أيضًا، أخذ الورق والثمر إذا كان لا يضرها ولا يهلكها. وبهذا قال عطاء ومجاهد وغيرهما. وأجازوا قطع الشوك لكونه يؤدي بطبعه، فأشبه الفواسق ومنعه الجمهور، لما في حديث ابن عباس "ولا يعضد شوكه" وصححه المتولي من الشافعية. وأجابوا بأن القياس في مقابلة النص، فلا يعتبر به حتى ولو لم يرد النص على تحريم الشوك، لكان في تحريم قطع الشجر دليل على تحريم قطع الشوك، لأن غالب شجر الحرم كذلك، ولقيام
الفارق أيضًا. فإن الفواسق المذكورة تقصد بالأذى بخلاف الشجر. قال ابن قدامة: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان، وانقطع من الشجر بغير صنع آدمي، ولا بما يسقط من الورق، نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافًا. قاله في "الفتح".
قلت: تستثنى عند المالكية ستة أشياء يجوز الانتفاع بها، وهي: الإذخر والسنى والعصا والسّواك، وقطع الشجر للبناء، والسكنى في موضعه، أو قطعه لإصلاح الحوائط.
وقوله "فإن أحدٌ ترخص لقتال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيها". أحدٌ فاعل لفعل مضمر يفسره ما بعده، لا مبتدأ، لأن إنْ من عوامل الفعل، وحذف الفعل وجوبا لئلا يجمع بين المفسّر والمفسَّر. وترخص مشتق من الرخصة، والمعنى إن قال أحد ترك القتال عزيمة، والقتال رخصة تتعاطى للحاجة، مستدلا بقتاله عليه الصلاة والسلام فيها. وفي رواية ابن أبي ذيب عند أحمد "فإن ترخَّص قد خص، فقال: أحلَّت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم". فإن الله أحلها لي، ولم يحلها للناس. وقوله "فقولوا" فقد أذن لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم خصيصة له. وقوله "وإنما أذن لي" بفتح الهمزة، والفاعل الله، وروي بضم الهمزة بالبناء للمجهول. وفي قوله "لي" التفاتٌ، لأن نسق الكلام وإنما أذن له، أي: لرسوله. وقوله "ساعةً من نهار" أي: مقدارًا من الزمان، وهو من طلوع الشمس إلى العصر. والمأذون فيه القتال لا قطع الشجر، ففي مسند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "لما فتحت مكة قال: كفُوُّ السّلاح إلَاّ خزاعة عن بكر، فأذن لهم حتى صلى العصر، فقال كفُوّا السلاح، فلقي رجلٌ من خزاعة رجلًا من بكر، من غدٍ بالمزدلفة، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقام خطيبًا فقال: إنَّ الله هو حرّم مكة" قال: ورأيته مسندًا ظهره إلى الكعبة. وفي حديث أبي شُريح عند أحمد "فما رأيته غَضب غضبًا أشد منه".
ويستفاد منه أنّ قتل من أذن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قتلهم كابن خَطَل، وقع في الوقت الذي أبيح له عليه الصلاة والسلام فيه القتال، خلافًا لمن حمل قوله "ساعة من النهار" على ظاهره، فاحتاج إلى الجواب عن قصة ابن خطل. وقوله "فعادت حرمته اليوم" أي الحكم الذي في مقابلة الإباحة المستفادة من الإذن في اليوم المعهود، وهو يوم فتح مكة، إذ عوْد حرمتها كان في يوم صدور هذا القول لا في غيره. وقوله "كحرمتها بالأمس" أي الذي قبل يوم فتح مكة.
وقد بين غاية التحريم في رواية ابن عباس الماضية، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وقوله "وليبلغ الشاهد الغائب" بنصب الغائب على المفعولية، ويجوز كسر لام ليبلغ، وتسكينها. قال ابن جرير: فيه دليلٌ على جواز قبول خبر الواحد، لأنه معلوم أن كل من شهد الخطبة قد لزمه الإِبلاغ، وأنه لم يأمرهم بإبلاع الغائب عنهم إلا وهو لازم له فرض العمل بما أبلغه، كالذي لزم السامع سواء، وإلا لم يكن للأمر بالتبليغ فائدة. وقوله "فقيل لأبي شُريح" ما قال عمرو يعني في جوابك.
قال في "الفتح": لم أعرف اسم القائل، وظاهر رواية ابن إسحاق أنه بعض قومه من خزاعة، وقوله "إن مكة لا تعيذ عاصيًا" بالمثناة الفوقية، والذَّال المعجمة، أي: لا تعصم عاصيًا من إقامة الحد عليه. وفي رواية "إنَّ الحرم لا يُعيذ عاصيًا" وقوله "ولا فارًا بدم" بالفاء وتثقيلِ الراء، أي هاربًا. والمراد من وجب عليه حد القتل ففر إلى مكة مستجيرًا بالحرم من إقامة الحد عليه. والباء في "بدم" للمصاحبة والملابسة، أي متلبسًا بدم وقوله "ولا فارًا بخَرْبة" أي بسبب خربة وهي بفتح المعجمة، ثم راء ساكنة، ثم موحدة، السرقةُ كما في رواية المستملي تفسيرها بذلك، وفي رواية الأصيليّ بضم الخاء، أي الفساد. وقيل: الفساد في الإِبل، وقيل: العيب، وقيل العورة، وقيل بالفتح: أصلها سرقة الإِبل، ثم استعملت في كل سرقة وخيانة. وقال الدَّمامينيّ: هي بكسر الخاء وسكون الراء، وضبطها
ابن العربي بكسر أوله وبالزاي بدل الراء والتحتانية بدل الموحدة، من الخزي، والمعنى صحيح، لكن لا تساعد عليه الرواية.
وأغرب الكرماني فأبدل الخاء المعجمة جيما، جعله من الجزية. وذكُر الدمّ والخربة بعد ذكر العصيان من ذكر الخاص بعد العام. ووقع عند البخاري في الحج والمغازي تفسيرُ الخربة بالبليَّة. وقد حاد عمرو عن الجواب، وأتى بكلام ظاهره حق، لكن أراد به الباطل، فإن أبا شريح الصحابي أنكر عليه بعثَ الخيل إلى مكة واستباحة حرمتها، ونصب الحرب عليها، فأحسن في استدلالهُ بالحديث. وحاد عمرو عن جوابه، وأجابه بأنه لا يُمنع من القصاص، وهو الصحيح، كما يأتي قريبًا. لكن ابن الزبير لم يجب عليه حدٌ فعاذ بالحرم فرارًا منه حتى يصح جواب عمرو، وكون عمرو يرى وجوب طاعة يزيد الذي استنابه، وكان يزيد أمر ابن الزبير أن يبايع له بالخلافة، ويُحضَر إليه في جامعة أي مغلولًا فامنتع ابن الزبير، وعمرو معتقد أنه عاص بامتناعه من امتثال أمر يزيد لا ينهض حجة، لأنه خطأ شديد، لأن ابن الزبير أولى بالخلافة من يزيد بن معاوية، كما قال مالك رحمه الله تعالى وغيره. وقد بويع له قبله، وهو صاحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وبهذا يظهر بطلان ما قاله الطَّيبيّ من أنه لم يحد عن الجواب، وإنما أجاب بما يقتضي القول بالموجب، كأنه قال له: صح سَماعُك وحِفْظُك، لكن المعنى المراد من الحديث الذي ذكرته ما فهمته منه. فإن ذلك الترخص كان بسبب الفتح، وليس بسبب قتل من استحق القتل خارج الحرم ثم استجار بالحرم. والذي أنا فيه من القبيل الثاني، فقد بينا بطلان ما قاله من كون ابن الزبير لم يجب عليه شيء الخ.
قال ابن حزم لا كرامة للطيم الشيطان أن يكون أعلم من صاحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وأغرب ابن بطِّال، فزعم أن سكوت أبي شُريح عن جواب عمرو بن سعيد دالٌ على أنه رجع إليه في التفصيل المذكور، ويرده ما وقع في رواية أحمد فإنه قال في آخرها: قال أبو شُرَيح:
فقلت لعمرو: قد كنت شاهدًا وكنت غائبًا، وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد بلغتُك. فهذا يدل على أنه لم يوافقه، وإنما ترك مناقشته لعجزِه عنه لما كان فيه من قوة الشّوكة.
وهذه المسألة التي وقع فيها الاختلاف بين أبي شُريح وعمرو، فيها اختلافٌ بين العلماء في تحريم القتل والقتال في الحرم. فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها. وخص الخلاف بمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم. وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجَوْزي واحتج بعضهم بقتل ابن خَطَل بها، ولا حجة فيه لأن ذلك كان في الوقت الذي أُحِلَّت فيه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما مر. وزعم ابن حزم أن مقتضى قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه لا يجوز القتل فيها مطلقًا، ونقل التفصيل عن مجاهد وعطاء.
وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم حتى يخرج إلى الحل باختياره، لكن لا يجالس ولا يكالم، ويوعظ ويذكر، حتى يخرج. وقال أبو يوسف: يُخْرج مضطرًا إلى الحل، وفعله ابن الزبير. وروى ابن أبي شيبة من طريق طاووس عن ابن عباس "من أصاب حدًا ثم دخل الحرم لم يُجالس ولم يُبايع". وعن مالك والشافعي يجوز إقامة الحد مطلقًا فيها، لأن العاصي هتك حرمة نفسه، فأبطل ما جعل الله له من الأمْن. وقال بعض العلماء: إن قوله في الحديث "إنّ الله حرم مكة" ظاهره أنَّ حكم الله تعالى بمكة أن لا يقاتل أهلها، ويؤمن من استجار بها، ولا يتعرض له، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67].
وأما القتال، فقال الماوَرْدِيّ: من خصائص مكة أن لا يحارَب أهلها، فلو بغوا على أهل العدل، فإن أمكن ردّهم بغير قتال لم يُجَزْ، وإن لم يمكن إلاّ بالقتال، فقال الجمهور: يُقاتلون، لأن قتالَ البُغاة من حقُوق الله تعالى، فلا تجوز إضاعتها. وقال آخرون: لا يجوز قتالُهم بل يُضيَّقُ عليهم
إلى أن يرجعوا إلى الطّاعة. قال النووي: والأول نصّ عليه الشافعي، وأجاب أصحابه عن الحديث بحمله على تحريم نصب القتال بما يعم أذاه. كالمنجنيق، بخلاف ما لو تحصّن الكفار في بلد فإنه يجوز قتالهم على كل وجه.
قلت: ما يعم أذاه لا يجوز قتال البُغاة الذين معهم النساء والذّرية به مطلقًا كانوا بمكة أو غيرها، فلا خصوصية لمكة بذلك، وعن الشافعي قول آخر بالتحريم، اختاره القَفَّال وجزم به في "شرح التلخيص" وقال به جماعة من علماء الشافعية والمالكية. قال الطبري: من أتى حدًا في الحل واستجار بالحرم فللإمام إلجاؤه إلى الخروج منه، وليس للإمام أن يَنصُب عليه الحرب بل يحَاصره، ويضيَّق عليه حتى يُذعن للطّاعة، لقوله عليه الصلاة والسلام "وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس" فعُلم أنها لا تحل لأحد بعده بالمعنى الذي حلت له به، وهو محاربة أهلها والقتل فيها. ومال ابن العربيّ إلى هذا.
وقال ابن المنير: قد أكّد النبي، عليه الصلاة والسلام، التحريم بقوله "حرمه الله" ثم قال:"فهو حرامٌ بحرمة الله"، ثم قال:"ولم تحل لي إلَاّ ساعة من نهار" وكان إذا أراد التأكيد ذكر الشيء ثلاثًا، فهذا نصٌ لا يحتمل التأويل. وقال القرطبي: ظاهرُ الحديث يقتضي تخصيصه، صلى الله تعالى عليه وسلم، بالقتال، لاعتذاره عما أبيح له من ذلك، مع أن أهل مكة كانوا إذْ ذاك مستحقين للقتال والقتل، لصدّهم عن المسجد الحرام وإخراجهم أهله منه، وكفرهم. وهذا الذي فهمه أبو شُريح، كما مرّ وقال به غير واحد من أهل العلم.
وقال ابن دقيق العيد: يتأكد القول بالتحريم بان الحديث دال على أن المأذون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيه، لم يُؤذن لغيره فيه، والذي وقع له إنما هو مطلق القتال، لا القتال الخاص بما يعم كالمنجنيق، فكيف يسوغ التأويل المذكور؟ وأيضًا، فسياق الحديث يدل على أنَّ التحريم لإظهار تحريم البقعة، بتحريم سفك الدماء فيها، وذلك لا يختص بما يستأصل.