الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] فإن قتل الأولاد ومضاعفة الربى والِإضلال في هذه الآيات، إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا اختصاص الحكم.
وقوله "فَلْيِلَج النار" جعل الأمر بالولوج سببًا عن الكذب، لأن لازم الأمر الإِلزام، والإِلزام بولوج النار سببه الكذب عليه، أو هو بلفظ الأمر، ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم عن غُنْدُر عن شعبة بلفظ "من يكذب عليَّ يلج النار" ولابن ماجة عن منصور قال "الكذب عليَّ يولجُ النار" أي: يُدخل. وقيل: دعاء عليه، ثم أخرج مخرج الذم.
رجاله خمسة:
الأول عليّ بن الجَعْد الجَوْهريّ، وقد مر تعريفه في الحديث السادس والأربعين من كتاب الإيمان، والثالث منصور بن المعتمد وقد مر تعريفه في الحديث الثاني عشر من كتاب العلم.
الرابع: رِبْعيّ بن حراش، وربعيّ بكسر الراء، وسكون الباء الموحدة، وكسر العين المهملة، وتشديد الياء آخر الحروف وحراش بكسر المهملة، على وزن كتاب، ابن جَحْش على وزن فَلْس، ابن عمرو بن عبد الله بن مالك بن غالب بن قُطَيْعة بن عَبْس بن بَغِيض بن رَيْث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، الغَطفانّي العبسَّي، الكوفيّ، أبو مريم، الأعور، مخضرم، روى عن عمر وعليّ فرْد حديث، وعن أبي مسعود عقبة وأبي ذر وأبي موسى. وروى عنه منصور، وعبد الملك بن عُمير، وأبو مالك الأشجعي، ونُعيم بن أبي هند.
قال العَجْلي: من خيار عباد الله، لم يكذب قط، وكان له ابنان عاصيان على الحجّاج، فقيل له: إن أباهما لم يكذب قط، فلو أرسلت إليه، فسألته عنهما، فأرسل إليه، فقال: هما في البيت، فقال: قد عفونا عنهما لصدقك، وحلف أن لا يضحك حتى يعلم أين مصيره إلى الجنة أم إلى النار، فما ضحك إلا بعد موته. وله أخوان مسعود، وهو الذي تكلم
بعد الموت، ورَبيع وهو أيضًا حَلَف أن لا يضحك حتى يعرف أفي الجنة أم لا، فقال غاسله: إنَّه لم يزل مبتسمًا على سريره حتى فرغنا.
وقال ابن المَدِينيّ: لم يُرْوَ عن مسعود شيء إلَاّ كلامه بعد الموت، وقال الكلبي: كتب النبي صلى الله عليه وسلم، إلى حراش بن جَحش، فحرق كتابه. وليس لرِبعْي عَقِب، والعَقب لأخيه مسعود. وقال أبو الحسن القابسي: إنَّ ربعيًّا لم يصح له سماعٌ عن علي غير هذا الحديث. وقدم على الشام، وسمع خطبة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بالجابية. قال العَجْليّ: تابعي ثقة، وقال اللَاّلْكَائيّ: مجمع على ثقته. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من عُبَّاد أهل الكوفة، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وقيل: توفي سنة أربع ومئة. وليس في الصحيحين حِراش، بالمهملة سواه، والرِبْعي بحسب اللغة، نسبة إلى الرِبْع، وحراش جمع الحرْش وهو الأثر وهو الذي قال فيه ناظم أنساب العرب.
ورِبعي أقسم أن لا يَضحكا
…
حتى يرى مصيرهُ فَنَسكا
ورثي يَضحكُ بُعيدَ القاصمة
…
وهكذا فليكُ حُسن الخاتِمة
والعبسيّ في نسبه مر في الأول من كتاب الإيمان، ومر الغطفانّي في الثاني منه.
والخامس: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي الهاشمي، المكي المدني، واسم أبيه أبي طالب عبد مناف، وقيل اسمه كنيته، والأول أصح، كان يقال لعبد المطلب شَيْبَة الحمد، واسم هاشم عمرو، واسم عبد مناف المُغيرة، واسم قُصَيّ زيد. وأم علي بن أبي طالب فاطمة ابنة أسد بن هاشم بن عبد مناف. وهي أول هاشمية ولدت لهاشميّ، توفيت مسلمةً قبل الهجرة، وقيل إنها هاجرت إلى المدينة، وتوفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليها ونزل في قبرها.
وهو أصغر أولاد أبي طالب، كما مر في تعريف عقيل أخيه في
الحديث الثامن من كتاب العلم، وكنية عليّ أبو الحسن، وأبو السَّبطين، وكنَّاه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أبا تُراب، وسبب تكنيته له بذلك هو أن عليًا، رضي الله عنه، دخل على فاطمة، عليها السلام، ثم خرج من عندها، ثم جاء النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أين ابن عمك؟ فقالت له: هو ذاك مضطجع في المسجد، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده قد سقط رداؤه عن ظهره، وخَلُصَ التراب إلى ظهره فجعل يمسح التراب من ظهره، ويقول:"أجلس أبا تُراب". قال سَهْل بن سَعْد السّاعديّ: فوالله ما كان اسمّ أحب إليه منه.
وهو أول خليفة من بني هاشم، واحد العشرة المبشرة بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد العلماء الربَّانيين، وأحد الشّجعان المشهورين، والزهّاد المذكورين، وأحد السابقين إلى الإِسلام، بل هو أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، من الرجال، بعد خديجة رضي الله عنها. وقد قال ابن عباس: لعليَّ أربع خصالٍ ليست لأحد غيره.
1 -
هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 -
وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف.
3 -
وهو الذي صبر معه يوم فرّ عنه غيره.
4 -
وهو الذي غسله وأدخله قبره. وروي مرفوعًا عن سَلْمان الفارسيّ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أول هذه الأمة ورودًا على الحوض، أولها إسلامًا عليُّ بن أبي طالب". وقد رُوي عنه، رضي الله عنه، أنه قال: صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يصلي معه غيري إلَاّ خديجة وأجمعوا على أنه صلى إلى القبلتين، وروي عن عَفِيف الكِنْديّ أنه قال: كنت رجلًا تاجرًا، فقدمتُ الحجٍ فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امرءًا تاجرًا، فوالله إني لعنده بمنىّ، إذ خرج رجلٌ من خباءٍ قريب، فنظر إلى الشمس، فلما رآها قد مالت، قام يُصلي، ثم
خرجتْ امرأةٌ من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غُلامٌ قد راهق الحلم من ذلك الخباء، فقام معها يصلي، فقلت للعباس: من هذا يا عباس؟ فقال: ذلك محمد بن عبد الله، ابن أخي. قلت من هذه المرأة؟ قال: هذه امرأته خديجة بنت خُوَيلد. قلت: من هذا الفتى؟ قال: علي بن أبي طالب ابن عمه. قلت: ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه فيما ادعى إلَاّ امرأته وابن عمه هذا الغلام، وهو يزعم أنه ستفتح له كنوز كسرى وقيصر.
وكان عفيفٌ لما أسلم بعد ذلك، وحسن اسلامه، يقول: لو كان الله رزقني الإِسلام يومئذ، فأكون ثانيًا مع علي. يقال: استنبىء النبي يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء. واختلف في سنه وقت إسلامه فقيل إنه ابن عشر سنين، وقيل ابن ثلاث عشرة سنة، وقيل ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل ابن خمس عشرة سنة، وقيل ابن ست عشرة سنة، وقيل ابن ثمان. وكان هو والزبير، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم، عِدادًا واحدًا ولما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار قال في كل واحدة منهما لعلي بن أبي طالب: أنت أخي في الدنيا والآخرة وآخى بينه وبين نفسه، فلذلك كان علي رضي الله عنه يقول: أنا عبد الله، وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقولها أحدٌ غيري إلَاّ كذاب.
قال الإِمام أحمد: لم يكُنْ لأحدٍ من الصحابة من المناقب ما نقل لعلي، وسبب ذلك بغض بني أمية له فكان كلُ من كان عنده علم بشيء من مناقبه يثبته، وكلما أرادوا اخماده وهددوا من حدث بمناقبه، لا يزداد ذلك إلا انتشارًا. ومن خصائص علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: لأدفعنَّ الراية غدًا إلى رجل يحبُّ الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غَدَوْا كلهم يرجو أن يعطاها، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقالوا: هو يشتكي عينيه، "فأتى به، وتفل في عينيه، فدعا له، فبرأ من حينه، فأعطاه الراية"، فوقع الفتح على يديه، فقال عمر: ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم، وقتل مرْحبًا ذلك اليوم، ضربه على هامته ضربةً عضَّ السيف من بيضة رأسه، وسمع المعسكر صوت ضربته، فما قام آخر الناس حتى فتح لهم.
وفي مسندٍ لعبد الله بن أحمد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما دفع له الراية يوم خيبر، أسرع، فجعلوا يقولون: ارفق، حتى انتهى إلى الحصن، فاجتذب بابه، فألقاه على الأرض، ثم اجتمع عليه سبعون رجلًا حتى أعادوه: وروي عن المطلب بن عبد الله بن حُنْطُب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوفد ثقيف لما جاءوا: لْتَسْلِمنُّ أو لأبعثَّن رجلًا مني، أو قال مثل نفسي، فليضربنَّ أعناقكم، وليَسْبُينَّ نساءكم وذراريكُم، وليأخُذَنَّ أموالكم؟ قال عمر: فوالله ما تمنّيت الإِمارة إلَاّ يومئذٍ، وجعلت أنصب صدري له رجاءَ أن يقولَ هو ذا، فالتفت إلي عليَّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، فأخذ بيده ثم قال:"هو هذا".
وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، إلا تبوك خلفه بعده على المدينة، وعلى عياله، فقال له علي: تتركني بين النساء والصبيان؟ قال له: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي. وزوجه صلى الله عليه وسلم، ابنته فاطمة، سيدة نساء أهل الجنة، سنة اثنتين من الهجرة. وقال:"زوجْتُك سيدًا في الدنيا، وفي الآخرة، وإنه لأول أصحابي إسلامًا، وأكثرهم علمًا، وأعظمهم حِلْمًا" قالت أسماء بنت عميس رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعا يدعو لهما، ولا يُشرك في دعائهما أحدًا، ويدعو له كما دعى لها. وروي عن جابر والبراء بن عازب وزيد بن أرقم "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاهُ وعادِ من عاداه".
وأخرج التِّرمْذي بسند قوي عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن معاوية
أمر سعدًا، فقال له: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثًا قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن تكون لي واحدةٌ منهن أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم، فلن أسبه. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وقد خلفه في بعض المغازي: تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة. وسمعته يقول يوم فتح خيبر: "لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، فتطاولنا لها، فقال:"ادعوا لي عليا" فأتاهُ وبه رمد، فبصق في عينيه، ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه.
ونزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا، وقال: اللهم هؤلاء أهلي" وفي مسلم عن علي قال: "لقد عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق" وقال جابر: ما كنا نعرف المنافقين إلَاّ ببغض علي بن أبي طالب. وعن عمران بن حُصين في قصة قال فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تريدون من علي؟ إنَّ عليًا مني وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن من بعدي". وفي مسند أحمد بسند جيد، عن علي قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من نؤمِّر بعدك؟ قال: إنْ تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينًا زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة، وإنْ تؤمروا عمر تجدوه قويًا أمينًا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليًا، ولا أراكم فاعلين، تجدوه هاديًا مهديًا، يأخذ بكم الطريق المستقيم".
وأخرج أحمد والنّسائي من طريق عمرو بن ميمون "إني لجالس عند ابن عباس إذ أتاه سبعة رهطٍ، فذكر قصة فيها قد جاء ينفض ثوبه، فقال وقعوا في رجل له عز" وقد قال صلى الله عليه وسلم "لأبعثن رجلًا لا يخزيه الله، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". فجاء وهو أرمد فبصق في عينيه، ثم هز الراية ثلاثًا، فأعطاه فجاء بصفية ابنة حُيَيْ، وبعثه يقرأ براءة
على قريش، وقال:"لا يذهب إلَاّ رجلٌ مني وأنا منه" وقال لبني عمه "أيكم يواليني في الدنيا والآخرة" فأبوا، فقال علي: أنا فقال: "إنه وليي في الدنيا والآخرة" وأخذ رداءه، فوضعه على عليّ وفاطمة وحسن حسين، وقال:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]، ولبس ثوبه، ونام مكانه، وكان المشركون قصدوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا رأوه فقالوا: أين صاحبك؟ وقال له في غزوة تبوك: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبيّ، إني لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي" وقال: "أنت ولي كل مؤمنٍ من بعدي" وسد الأبواب إلا بابَ علي فيدخل المسجد جنبًا، وهو طريقه ليس له طريق غيره. وقال:"من كنت مولاه فعلي مولاه" وأخبر الله أنه رضي عن أصحاب الشجرة، فهل حدثنا أنه سخط عليهم بعد؟.
وقال صلى الله عليه وسلم: "يا عمر، ما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وعن ابن عباس كان يقول: إذا جاءنا الثبت، عن علي، لم نعدل به. وقال أبو الطُّفْيل: كان علي يقول: سلوني، سلوني، سلوني عن كتاب الله تعالى، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بليل أو نهار، أو في سهل أو في جبل. وقال صلى الله عليه وسلم:"من أحب عليًا فقد أحبني، ومن ابغض عليًا فقد أبغضني، ومن آذى عليًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله". وقال: تفترق فيك أمتي كما افترقت بنو إسرائيل في عيسى". وقال له صلى الله عليه وسلم: "يا علي ألا أعلمك كلماتٍ إذا قلتهن غفر لك؟ مع أنك مغفور لك قال: قلت: بلى، قال: لا إله إلا الله الحليم العليم، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب العرش الكريم".
وقال صلى الله عليه وسلم "يهلك فيك رجلان محب مفرط وكذاب مفتر". ولما نزل قوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} [الأحزاب: 33] الخ. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليًا
وحسنًا وحسينًا رضي الله عنهم، في بيت أم سلمة، وقال:"اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب، اللهمَّ، عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرًا". وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه". وروي عن علي أنه قال: قيل لأبي بكر وعلي يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع أحدكما ميكائيل، وإسرافيل ملك يشهد القتال، ويقف في الصف. وقد روى أن ميكائيل وجبرائيل مع علي والأول أصح.
وقال ابن عباس: لقد أعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وايم الله لقد شاركهم في العشر الآخر. وقالت عائشة: من أفتاكم بصوم عاشوراء؟ قالوا: عليًا، قالت: عليّ أما إنه لأعلمُ الناس بالسنة. وقيل لعطاء: أكان في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد أعلم من علي قال: لا، والله ما أعلم. وقال معاوية لضرار الصَّدائي: يا ضرار صف لي عليًا، قال: اعفني يا أميرا المؤمنين، قال: لتصفنَّه. قال: أمّا إذْ لابدّ من وصفه، فكان، والله، بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، يتفجر العلمُ من جوانبه، وتنطق الحكمةُ من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصُر، ومن الطعام ما خَشُن، كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا نكاد نكلمه هيبة له. يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، واشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضًا على لحيته، يتململُ تملمُلَ السّليم، ويبكي بكاء الحزِين، ويقول: يا دنيا غُريّ غيري، إليَّ تعرضت أم إليّ تشوقت هيهاتَ هيهاتَ، قد باينتك ثلاثًا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك حقير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله، كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: بلغ حزن من ذُبح ولدها في حجرها. وكان معاوية يكتب فيما ينزل به ليسأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ذلك، ولما بلغه موته قال: ذهب الفقه بموت ابن أبي طالب، فقال أخوه عتبة: لا يسمع هذا منك أهل الشام، فقال له: دعني. وروى أبو سعيد الخدري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمرق مارقةٌ في حين اختلاف من المسلمين تقتلها أولى الطائفتين بالحق".
وقال طاووس: قيل لابن عباس: أخبرنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرنا عن أبي بكر. قال: كان والله خيرًا كله، على حدّة فيه، قلنا: فعمر، قال: كان والله كيِّسا حذرًا، كالطير الحذر الذي قد نصب له الشُرُك، فهو يراه ويخشى أن يقع فيه، مع العنف وشدة السير. قلنا: فعثمان، قال: كان والله صَوّامًا قوامًا من أجل غلبة رقته. قلنا. فعلي، قال كان والله قد ملىء علمًا وحلمًا من رجل غرته سابقته وقرابته فقلما أشرف على شيء من الدنيا إلَاّ فاته، فقيل: إنهم يقولون كان مجدودا، فقال: أنتم تقولون ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم في أصحابه "أقضاهم علي بن أبي طالب". وقال عمر بن الخطاب: علي أقضانا وأبي أقرأنا، وإنا لنترك أشياء من قراءة أبي. وقيل للشعبي: إن المغيرة يقول: والله ما أخطأ علي في قضاء قضى به قط، فقال الشعبي: لقد أفرط. وكان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن، ويقول: لولا علي لهلك عمر، وذلك بسبب المجنونة التي أمر برجمها. وفي التي وضعت لستة أشهر، فأراد عمر رجمهما، فقال له عليّ إن الله تعالى يقول:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] الآية، وقال:"إن الله رفع القلم عن المجنون" .. الحديث.
وروي أن رجلين جلسا يتغديان، مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة، فلما وضعا الغداء بين أيديهما، ومر بهما رجلٌ فسلم، فقالا: إجلس للغداء فجلس، وأكل معهما واستووا في أكلهم الأرغفة الثمانية فقام الرجل، وطرح إليهما ثمانية دراهم. وقال: خذا عوضًا عما أكلت لكما، فتنازعا وقال صاحب الأرغفة الخمسة: لي خمسة ولك ثلاثة. فقال صاحب الأرغفة الثلاثة: لا أرضى إلَاّ أن تكون الدراهم بيننا نصفين، وارتفعا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقصا عليه قصتهما، فقال لصاحب الثلاثة: قد عرض عليك صاحبك ما عرض وخبزه أكثر من خبزك، فارض بالثلاثة، فقال: لا والله، لا أرضى منه إلا بمر الحق. فقال علي رضي الله عنه: ليس لك في مر الحق إلا درهم واحد وله سبعة. فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين، هو يعرض عليّ ثلاثةً ولم أرض، وأشرت علي بأخذها ولم أرض، وتقول لي الآن أنه لا يجب لي في مر الحق، إلَاّ درهم واحد؟ فقال: عرفني بالوجه حتى أقبله له علي، عرض عليك صاحبك أن تأخذ الثلاثة صلحًا، فقلت: لم أرض إلَاّ بمر الحقَّ، ولا يجب لك بمر الحقّ إلا واحد؟ فقال الرجل عرفني بالوجه حتى اقبله، فقال علي رضي الله عنه: أليس للثمانية الأرغفة أربعة وعشرون ثلثًا أكلتموها وأنتم ثلاثة، ولا يعلم الأكثر منكم أكلًا، ولا الأقل، فتحملون في اكلكم على السواء؟ قال: بلى. قال: فأكلت أنت ثمانية أثلاثٍ، وإنما لك تسعةُ أثلاث، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث، وله خمسة عشر ثلثًا، أكل منها ثمانية، وبقي سبعة، وأكل لك واحدًا من تسعة، فلك واحد بواحدك وله سبعة بسبعة، فقال له الرجل: رضيت الآن. وقال سعيد بن عمرو بن سعيد بن أبي العاص: قلت لعبد الله بن عيَّاش بن ربيعة: يا عمِّ لم كان صفو الناس إلى علي؟ فقال: يا ابن أخي إنّ عليًا عليه السلام، كان له ما شئت من ضرسٍ قاطع في العلم، وكان له البسطة في العشيرة، والقدم في الإِسلام، والصهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفقه في السنة والنجدة في الحرب والجود في الماعون، وكان رضي الله عنه يسير في
الفيء سير أبي بكر الصديق في القسم، وإذا ورد عليه مال لم يبق منه شيئا إلا قسمه، ولا يترك في بيت المال منه إلا ما عجز عن قسمه في يومه ذلك، ويقول: يا دنيا غرّي غيري، ولم يكن يستأثر من الفيء بشيء، ولا يخص به حميمًا، ولا قريبًا ولا يخص بالولايات إلا أهل الديانات والامانات وإذا بلغه عن أحدهم خيانة، كتب إليه:{قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57]{أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 85، 86]، إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من أعمالنا حتى نبعث إليك من يستلمه منك. ثم يرفع طرفه إلى السماء فيقول: اللهم إنك تعلم أني لم آمرهم بظلم. ولا بترك حقك.
وقال مُجَمع التيمي: إنَّ عليًا قسَّم ما في بيت المال بين المسلمين، ثم أمر بكنسه فكُنس، ثم صلى فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة. وحدث عمرو بن العلاء عن جده قال: سمعت علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول: ما أصبت من فيئكم إلَاّ هذه القارورة، أهداها إلى الدُّهْقان، ثم نزل إلى بيت المال ففرق كل ما فيه، ثم جعل يقول: أفلح من كانت له قوْصَرة يأكلُ منها كل يوم مرة.
وأما تقشّفه في لباسه ومطعمه، فاشهر من هذا كله، فعن أبي الهُذَيل قال: رأيت عليًا خرج وعليه قميصٌ غليظ دارسٌ، إذا مد كم قميصه بلغ إلى الظفر، وإذا أرسله صار إلى نصف الساعد. وقال جُرْمُوز: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يخرج من مسجد الكوفة وعليه قطَريَّتان متزرًا بالواحدة مرتديًا بالأخرى، وازراه إلى نصف الساق، وهو يطوف في الأسواق، ومعه درَّة يأمرهم بتقوى الله، وصدق الحديث، وحسنُ البيع، والوفاء بالكيل والميزان. وعن أبي حيان التيميّ عن أبيه أنه قال: رأيت علي بن أبي طالب على المنبر يقول: من يشتري مني سيفي هذا، فلو كان عندي ثمن إزارٍ ما بعته، فقام إليه رجلٌ فقال: نُسْلِفك ثمن إزار. وكانت
بيده الدنيا كلها إلَاّ ما كان من الشام، وكان يأخذ في الجزية والخراج من أهل كل صناعة من صناعته وعمل يده، حتى يأخذ من أهل الإِبر الإِبر والمسالّ والخيوط والحبال، ثم يقسم بين الناس. وكان لا يدع في بيت المال مالا يبيت فيه حتى يقسمه إلَاّ أن يغلبه شغل فيصبح إليه. وكان يقول: يا دنيا لا تغريني وغرّي غيري، وينشد:
هذا جَنائي وخيَارُه فيه
…
وكل جانٍ يدهُ إلى فيه
وقد ثبت عن الحسن بن علي من وجوه أنه قال: لم يترك أبي إِلاّ ثمان مئة درهم أو سبع مئة درهم، فضلت عن عطائه كان يعدها لخادم يشتريها لأهله. قال ابن عبد البرّ: وأحسن ما رأيت في صفته أنه كان رَبْعَة من الرجال إلى القصر، هو أدعج العينين حسن الوجه، كأنه القمر ليلة البدر حسنًا، ضخم البطن، عريض المنكبين، شثن الكفين، عتدًا أغيد كأن عنقه إبريق فضة، أصلع ليس في رأسه شعر إلَاّ من خلفه، كبير اللحية، لمنكبيه مشاشٌ كمشاش السبع الضاري، لا يتبين عضده من ساعده، قد أدمجت إدماجًا، إذا مشى تكفأ، وإذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس، وهو إلى السِّمن ما هو، شديد السَّاعد واليد، إذا مشى إلى الحرب هرول ثَبْت الجنان، قويٌ شجاع منصورٌ على من عاداه بويع له بالخلافة يوم قُتِل عثمان، رضي الله عنه، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلف عن بيعته جماعة من الصحابة منهم طلحة والزبير وعائشة، فلم يهجهم ولم يكرههم، وكان تخلف هؤلاء في طلب دم عثمان فكان من وقعة الجمل ما اشتهر، ثم قام معاوية في أهل الشام، وكان أميرها لعثمان ولعمر قبله، فدعى إلى الطلب بدم عثمان، فكان من وقعة صفّين ما كان، وكان رأي علي أنهم يدخلون في الطاعة ثم يقوم ولي الدم فيدعى به عنده، ثم يعمل معه ما يوجبه حكم الشريعة المطهرة، وكان من خالفه يقول له: تتبعهم وتقتلهم، فيرى أن القصاص بغير دعوى ولا إقامة بينة لا يتجه، وكل من الفريقين مجتهد. وكان من الصحابة فريق لم يدخلوا في شيء من القتال، فكان علي يقول فيهم: أولئك قوم خذلوا الحق ولم
ينصروا الباطل. ثم ظهر بقتل عمار أن الحق كان مع علي، واتفق على ذلك أهل السنة بعد أن وقع فيه اختلاف في القديم، ثم خرجت عليه الخوارج، وكفروه وكل من كان معه إذ رضي بالتحكيم بينه وبين أهل الشام. وقالوا له: حكَّمْت الرجال في دين الله، والله تعالى يقول {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] ثم اجتمعوا وشقوا على المسلمين، ونصبوا راية الخلاف وسفكوا الدماء وقطعوا السبل. فخرج إليهم بمن معه، ورام مراجعتهم، فأبوا إلا القتال، فقاتلهم بالنهروان، فقتلهم واستأصل جمهورهم، ولم ينج إلا اليسير منهم، فانتدب له من بقاياهم عبد الرحمن بن مُلْجم، قيل التَّجوبيّ وقيل السُّكُوني وقيل الحِمْيريّ.
وتجوب رجل من حمير أصاب دمًا في قومه، فلجأ إلى مراد فقال لهم: جئت إليكم أجوب البلاد، فقيل له: أنت تجوب، فسمي به، فهو اليوم من مراد رهط عبد الرحمن الملعون هذا. فأصله من حمير، وهو حليف لمراد وعداده فيهم، وكان رجلًا فاتكًا ملعونًا، ويقال في سبب قتله له أنه خطب امرأة من بني عجْل بن نِجَيح، يقال لها قطام، كانت ترى رأي الخوارج، وكان علي رضي الله عنه قد قتل أباها وإخوتها بالنهروان، فلما تعاقد الخوارج على قتل علي وعمرو بن العاص ومعاوية، خرج منهم ثلاثة نفر لذلك، كان عبد الرحمن بن ملجم هو الذي شرط قتل علي رضي الله عنه، فدخل الكوفة عازمًا على ذلك واشترى لذلك سيفًا بألف، وسقاه السُّم فيما زعموا حتى لفظه، وكان في خلال ذلك يأتي عليًا رضي الله عنه، يسأله ويستحمله فيحمله، إلى أن وقعت عينيه على قطام، وكانت رائعةً جميلةً، فأعجبته ووقعت بنفسه فخطبها، فقالت: آليت أن لا أتزوج إلا على مهرٍ لا أريد سواه، فقال: وما هو؟ فقالت: ثلاثةُ آلافٍ وقتلُ علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. فقال: والله لقد قصدت لقتل علي والفتك به، وما أقدمني هذا المصر غير ذلك، ولكني لما رأيتك آثرت تزويجك. فقالت ليس إلا الذي قلت لك. فقال لها: وماذا يغنيك وما يغنيني منك قتل علي وأنا أعلم أني إن قتلته لم أفت. فقالت: إن قتلته ونجوت فهو الذي
أردت: تبلغ شفاء نفسي، ويهنك العيش معي، وإن قُتلت فما عند الله تعالى خيرٌ من الدنيا وما فيها. فقال لها لك ما اشترطت. فقالت له: إني سألتمس من يشد لك ظهرك، فبعثت إلى ابن عم لها يقال له وَرْدان بن مجاهد، فأجابها ولقي ابن ملجم شبيب بن نُجْيرة الأشجعيّ فقال له: يا شبيب هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما هو؟ قال: تساعدني على قتل علي بن أبي طالب. فقال له: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئًا إدًّا، كيف تقدر على ذلك؟ قال: إنه رجلٌ لا حرس له، ويخرج إلى المسجد منفردًا ليس له من يحرسه، فنكمن له في المسجد، فإذا خرج إلى الصلاة قتلناه، فإن نجونا نجونا، وإن قتلنا سعدنا بالذكر في الدنيا وبالجنة في الآخرة. فقال له: ويلك إن عليًا ذو سابقة في الإِسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، والله ما ينشرح صدري لقتله. فقال له: ويحك إنه حكَّم الرجال في دين الله عز وجل، وقتل إخواننا الصالحين، فنقتله ببعض من قتل فلا تشكن في دينك، فأجابه وأقبلا حتى دخلا على قطام وهي معتكفة في المسجد الأعظم، في قبة ضربتها لنفسها، فدعت لهم، وأخذوا سيوفهم وجلسوا قبالة السِّدَّة التي يخرج منها علي رضي الله عنه، فخرج لصلاة الصبح فبدره شبيب فضربه، فأخطأه وضربه ابن ملجم على رأسه، وقال: الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك، فقال علي رضي الله عنه: فزتُ ورب الكعبة لا يفوتنكم الطلب. فشد الناس عليه من كل جانب، فأخذوه وهرب شبيبٌ خارجًا من باب كندة وكان قتله في ليلة السابع عشر من شهر رمضان صبيحة يوم الجمعة سنة أربعين من الهجرة، ومدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهرٍ ونصف شهر، لأنه بويع بالخلافة بعد قتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
وكانت وقعة الجمل في جمادى سنة ستٍ وثلاثين. ووقعة صفين سنة سبعٍ وثلاثين ووقعة النَّهروان مع الخوارج في سنة ثمانٍ وثلاثين، ثم أقام سنتين يحرض على قتال البغاة، فلم يتهيأ ذلك إلى أن مات. واختلف في
صفة أخذ ابن ملجم، فلما أخذ قال علي رضي الله عنه: احبسوه، فإن مت، فاقتلوه ولا تمثلوا به، وإن لم أمت فالأمر إلى في القصاص وعدمه. واختلف أيضًا هل ضربه في الصلاة أو قبل الدخول فيها، وهل استخلف من أتم بهم الصلاة أو أتمها هو، والأكثر أنه استخلف جَعْدَة بن هبيرة، فأتمها بهم.
وقد روي عن صُهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "من أشقى الأولين؟ قال: الذي عقر الناقة؟ يعني ناقة صالح، قال: صدقت. فمن اشقى الآخرين؟ قال: لا أدري. قال: الذي يضربك على هذا، يعني يافوخة، حتى يخضب هذه، يعني لحيته. وكان علي رضي الله عنه يقول: والذي فلق الحبَّة وبرَأَ النَّسمة لتُخضبَن هذه، يعني لحيته، من هذا يعني رأسه، وجاء عبد الرحمن بن ملجم يستحمله فحمله ثم قال:
أريد حياتَه ويريدُ قتلي
…
عزيرك من خليلك من مراد
أما إنّ هذا قاتلي، قيل له: فما يمنعك منه؟ قال: إنه لم يقتلني بعد. وكان كثيرًا ما يقول: ما يمنع أشقاها، أو ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه من دم هذا، والله لتخضبن خضاب دمٍ لا خضاب عطرٍ وعبير.
وقيل له: إن ابن مُلْجم يسمُّ سيفه يقول: إنه سيفتك بك فتكة يتحدث بها العرب، فبعث إليه فقال له: لم تسمُّ سيفك؟ فقال: لعدوي وعدوك، فخلى عنه. وقال: ما قتلني بعد. وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه سمع أباه في ذلك السحر يقولُ له: يا بني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة في نومة نمتها، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، ماذا لقيت من أمتك من الاود واللَّدَدَ؟ فقال: ادع الله عليهم. فقلت: اللهم أبدلني بهم خيرًا منهم، وأبدلهم مني من هو شر مني. ثم انتبه، وجاءه مؤذنه يؤذنه بالصلاة، فخرج فاعتوره رجلان، فأما أحدهما فوقعت ضربته في الطاق، وأما أحدهما فضربه على رأسه. وكان قتادة رضي الله عنه يقول: قُتل علي رضي الله عنه على غير مال احتجبه
ولا دنيا أصابها. وقالت عائشة رضي الله عنها، لما بلغها موته: فلتصنع العرب ما شاءت، فليس لها أحد ينهاها. وفي قتله يقول شاعرهم عمران بن حطّان الخارجيّ:
يا ضربةَ من تقي ما أراد بها
…
إلَاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانًا
إني لأذكره حينًا فأحسبه
…
أوفى البرية عند الله ميزانًا
فأجابه أبو بكر بن حماد معارضًا له في ذلك بقوله:
قُل لابن ملجم والاقدارُ غالبةٌ
…
هدمت، ويلك للإِسلام أركانا
قتلتَ أفضل من يمشي على قدمٍ
…
وأول الناس إسلامًا وإيمانا
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما
…
سنّ الرسولُ لنا شرعًا وتبيانا
صهر النبي ومولاهُ وناصِرهُ
…
أضحت مناقبه نورًا وبُرهانا
وكان منهُ على رُغم الحسودِ له
…
ما كان هارونُ من موسى بن عمرانا
وكان في الحرب سيفًا صارمًا ذكرًا
…
ليثًا إذا لُقي الاقران أقرانا
ذكرتُ قاتِلَهُ والدّمعُ مُنحدِرُ
…
فقلتُ سبحانَ ربّ العرش سبُحانا
إني لأحبهُ ما كانَ من بشرٍ
…
يَخشى المعادَ ولكن كان شيطانا
أشقى مراد إذا عُدَّت قبائلها
…
وأخسر الناس عند الله ميزانا
كعاقر النّاقة الأولى التي جُلبت
…
على ثَمودَ بأرض الحِجْر خُسرانا
قد كان يخُبرنا أن سوف يخضبها
…
قبل المنية أزمانًا فأزمانا
فلا عَفى الله عنه ما تحمَّله
…
ولا سقى قبر عمران بن حطانا
لقوله في شقيّ ظلَّ مجُترِ مًا
…
ونالَ ما نالَه ظلمًا وعُدوانا
يا ضربة من تقي ما أرادَ بها
…
إلَاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا
بَل ضربةٌ من شقي أورثتْهُ لظىً
…
وسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأَنه لم يرِدْ قصدًا بضربتِهِ
…
إلا ليصلى عذابَ الخُلد نيرانا
وقال بعض الشعراء في قطام
فلم أر مهرًا ساقهُ ذو سماحة
…
كمهرِ قُطامٍ من فصيحٍ واعجم
ثلاثة آلافٍ وعبد وقينة
…
وضربُ عليّ بالحسام المسمم
فلا مهرٌ أعلى من عليّ وإنْ علا
…
ولا فَتْكُ إلاّ دونَ فتكِ ابن ملجم
وقيل فيه من المراثي ما لا يحصى، فمنها قول إسماعيل بن محمد الحميري:
سائِلْ قريشًا به إن كنتَ ذا عمه
…
من كان أثبتها في الدين اوتادًا
من كان أقدم إسلامًا وأكثرها
…
علمًا وأطهرها أهلًا وأولادا
من وحَّد الله إذ كانت مُكَذّبةً
…
تدعو مع الله أوثانًا وأندادًا
من كان يقدم في الهيجاء إن نكلوا
…
عنها وإن يبخلوا في ازمةٍ جادا
من كان أعدلها حكمًا وأبسطها
…
علمًا وأصدقها وعدا وإيعادًا
إنْ يصَدُقوكَ فلن يعدوا أبا حسنٍ
…
إنْ أنت لم تَلْق للأبرار حسادًا
إنْ أنتَ لم تلقَ أقوامًا ذَوي صلَفٍ
…
وذا عنادٍ لحق الله جُحادًا
ومنها قول الفضل بن عباس بن عُتْبة بن أبي لهب
ما كُنتُ أحسبُ أنَّ الأَمر مُنْصرفٌ
…
عن هاشمٍ ثم منها عن أبي الحسن
أليس أوّل من صلى لقْبلتِه
…
وأعْلَم الناسِ بالقرآنِ والسنن
وآخرُ الناسِ عهدًا بالنبي ومِنْ
…
جبريلُ عونًا له في الغُسلِ والكفنِ
مَن فيه ما فيهم لا تمترونَ بهِ
…
وليسَ في القومِ ما فيه مِن الحَسَنِ
إلى ما لا يحصى.
له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مئة حديث وستة وثمانون حديثًا، اتفقا منها على عشرين. وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر. روى عنه من الصحابة ولداه الحسن والحسين، وابن مسعود وأبو موسى، وابن عباس وأبو رافع، وابن عمر، وأبو سعيد، وصُهيب، وزيد بن أرقم، وجرير وأبو أُمامة، وأبو الطفيل، والبراء بن عازب، وآخرون. ومن التابعين والمخضرمين أو من له رؤية عبد الله بن شدّاد بن الهادي، وطارق ابن شهاب، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، ومسعود بن الحكم، ومروان بن الحكم وآخرون. ومن بقية التابعين عدد كثير من أجلهم أولاده محمد وعمر والعباس وقصرتُ في مناقبة لكثرتها.