الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترغيب في الفراغ للعبادة، والإقبال على الله تعالى
والترهيب من الاهتمام بالدنيا، والانهماك عليها
1 -
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ رَبُّكُمْ: يَا ابْنَ آدَمَ (1) تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي (2) أَمْلأْ قَلْبَكَ غِنَىً (3)، وأَمْلأْ يَدَكَ رِزْقاً (4). يَا ابْنَ آدَمَ لَا تَبَاعَدْ مِنِّي (5) أَمْلأْ قَلْبَكَ فَقْراً،
= يسألون عن الحشر أو ما وعدوا به من العذاب وإرسال الخسف والحصب. يهدد الله الكفار والطغاة والفسقة إن لم يسلموا أو يتوبوا [أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور (16) أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير (17) ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير (18) أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير (19) أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور (20) أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور (21)] من سورة الملك.
[من في السماء] الملائكة الموكلين على تدبير هذا العالم أن يزلزلوا الأرض بكم أيها العصاة فأسرعوا وتوبوا إلى الله [حاصباً] يرسل لكم وباء هالكاً وحمى فاشية مدمرة مميتة [الرحمن] الشامل رحمته كل شيء هيأهن للجري في الهواء بحكمته [أمسك رزقه] منع الأمطار فتجف الأنهار فلا زرع ولا ضرع ولم يهيئ أسباب المعيشة الرغدة [لجوا] تمادوا في عناد [ونفور]: أي شراد عن الحق لتنفر طباعهم عنه. إن شاهدنا كفر الكفار وعصيان المسلمين يسبب العذاب من الخالق الجبار إن لم يتوبوا.
ولأبي نواس في وصف النرجس واتخاذه دليلاً على التوحيد.
تأمل في نبات الأرض وانظر
…
إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات
…
بأبصار هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات
…
بأن الله ليس له شريك
لجين: فضة. السبيك؛ المسبوك: أي المذاب، والمعنى أن النرجس بأوراقه البيض المستديرة، وما في وسطه من الكرات الذهبية يشبه عيوناً من ذهب محيط بها إطار من فضة على قوائم خضر من الزبرجد، ليفكر العبد فيتوب إلى من صنع هذا ويعبده بإخلاص قال تعالى:[تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً (61) وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكروا أو أراد شكورا (62)] من سورة الفرقان.
[سراجاً] الشمس بالنهار والقمر يضيء بالليل [خلفة] يخلف كل منهما الآخر [يذكر] يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه فيعلم أنه لا بد من صانع حكيم يطيعه ويتوب إليه ويشكر الله تعالى على ما فيه من النعم بإظهار أنواع الطاعات. تبنا إلى الله.
(1)
يخاطب الله تعالى الإنسان الذي ركب فيه عقلاً يرشده إلى صالحه ومعاشه ومعاده وسعادته.
(2)
تخل لطاعتي والعمل لي وابذل طاقتك في رضاي ووقتك في خدمتي.
(3)
قناعة وبسطة ورخاء وسعة.
(4)
نعماً: أي أكثر عليك الخير وأوفر لك الحاجات الكثيرة التي يهمك أمرها في الدنيا فتشعر بكل سرور.
(5)
لا تباعد، كذا ط وع ص 315 جـ - 2 وفي ن د لا تتباعد: أي لا تعص أوامري ولا تستعمل الفجور والطمع.
وَامْلأْ يَدَكَ شُغْلاً (1). رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
2 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ (2) الآية. قالَ: يَقُولُ اللهُ: ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنىً، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَاّ تَفْعَلْ مَلأْتُ صَدْرَكَ شُغْلاً (3)، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ. رواه ابن ماجة والترمذي، واللفظ له، وقال: حديث حسن، وابن حبان في صحيحه باختصار إلا أنه قال: مَلأْتُ يَدَكَ شُغْلاً، والحاكم والبيهقي في كتاب الزهد، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
3 -
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَاّ بُعِثَ بِجَنْبَتَيْها مَلَكَانِ إِنَّهُمَا يُسَمِّعَانِ أَهْلَ الأَرْضِ إِلَاّ الثَّقَلَيْنِ (4): يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا (5) إِلى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى (6)، وَلَا غَرَبَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَاّ وَبُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكانِ يُنَادِيَانِ: اللَّهُمَّ عَجِّلْ لِمُنْفِقٍ خَلَفاً (7)، وَعَجِّلْ لِمُمْسِكٍ تَلَفاً (8).
رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم، واللفظ له، وقال: صحيح الإسناد، ورواه البيهقي من طريق الحاكم، ولفظه:
(1) اجعل أعمالك كثيرة بلا فائدة، وأسلط عليك الدنيا تسخر بجشعها.
(2)
الآية [من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب (20)] من سورة الشورى.
ثوابها، شبه بالزرع من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا، ولذلك قيل الدنيا مزرعة الآخرة، والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض ويقال للزرع الحاصل منه (نزد) نعطه بالواحد عشراً إلى سبعمائة فما فوقها (نؤته منها) أي من الدنيا شيئاً على حسب ما قسمناه له، وليس له في آخرته أجر على أعماله إذ الأعمال بالنيات أهـ بيضاوي وقال النسفي (نزد له في حرثه) بالتوفيق في عمله أو التضعيف في إحسانه أو بأن ينال به الدنيا والآخرة. وماله نصيب قط في الآخرة.
[الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز (19)] من سورة الشورى.
في إيصال المنافع وصرف البلاء من وجه يلطف إدراكه، وهو بر بليغ البر بهم قد توصل بره إلى جميعهم، وقيل هو من لطف بالغوامض علمه وعظم من الجرائم حلمه، أو من ينشر المناقب ويستر المثالب أو يعفو عمن يهفو أو يعطي العبد فوق الكفاية ويكلفه الطاعة دون الطاقة. وعن الجنيد لطف بأوليائه فعرفوه، ولو لطف بأعدائه ما جحدوه أهـ نسفي.
(3)
أعمالاً تفكر في أدائها بلا ثمرة.
(4)
الإنس والجن.
(5)
أقبلوا عليه بالطاعات.
(6)
شغل عن العبادة.
(7)
لجواد كريم عوضاً وسعة وبسطة رزق.
(8)
لبخيل شحيح خسارة وتلفا. النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن من ملائكة الرحمة اثنين يدعوان الله جل وعلا =
قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ شَمْسُهُ إِلَاّ وَكَانَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ مَا خَلَقَ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَليْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلى رَبِّكُمْ. إِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَلا آبَتِ الشَّمْسُ إِلَاّ وَكَانَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وَأَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً، وَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل في ذلِكَ قُرْآناً في قَوْلِ المَلَكَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلى رَبِّكُمْ في سُورَةِ يُونُسَ: [واللهُ يَدْعُو إِلى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (1)]، وَأَنْزَلَ اللهُ في قَوْلِهِمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفَا، وَأَعْطِ مُمْسِكَاً تَلَفاً:
= صباح مساء أن يخلف على الجواد ويعطي المحسن ويزيد في رزق المتصدق الكريم، ويبارك في نعمه وفي أولاده، ويعاقب البخيل بإقلال رزقه، وينزع البركة مما أعطى ويصيبه التلف والدمار والبوار، كما قال تعالى في حكاية رجلين من بني إسرائيل ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطروا فاشترى الكافر بها ضياعاً وعقاراً وصرفها المؤمن في وجوه البر، أو في أخوين من بني مخزوم: كافر، وهو الأسود بن عبد الأشد، ومؤمن وهو أبو سلمة عبد الله زوج أم سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم [واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا (22) إلى قوله تعالى وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً (42)] من سورة الكهف.
فالأول بخيل مقصر في حقوق الله وفي وجوه الإحسان فسلط الله عليه الآفات فأهلكت ثمراته. المثل الثاني بستان نضير وحديقة فيحاء غناء لرجل صالح بصنعاء على بعد فرسخين منها يكرم الفقراء لله تعالى فورثه بنوه فضنوا على المساكين وقالوا لو فعلنا كأبينا ضاق علينا الأمر وحلفوا بالله ليقطعن الثمرة مبكرين ولم يسندوا الأمر للرزاق الواحد القهار، كما قال تعالى في سورة القلم [إذا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين (17) ولا يستثنون (18) فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون (19) فأصبحت كالصريم (20)] من سورة القلم.
أي كالبستان الذي قطع ثماره بحيث لم يبق فيه شيء هذان مثلان في القرآن الكريم يضربهما الله للأغنياء أصحاب الثروة الواسعة رجاء أن يجودوا بمالهم وينفقوا في وجوه البر وتشييد الصالحات وإلا تسلب منهم هذه النعم وتفنى الأموال وتزول الثروة:
حليف الندى يدعو الندى فيجيبه
…
قريباً ويدعو الندى ويجيب
هو العسل الماذي لينا وشمعة
…
وليث إذا يلقى العدو غضوب
حليم إذا ماسورة الجهل أطلقت
…
حبى الشيب للنفس اللجوج غلوب
فتى أريحى كان يهتز للندى
…
كما اهتز ماضي الشفرتين قضيب
(1)
قال النسفي: درا السلام الجنة، أضافها إلى اسمه تعظيماً لها، أو السلام السلامة لأن أهلها سالمون من كل مكروه، وقيل لفشو السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم إلا قيلاً سلاماً سلاما (ويهدي) يرفق إلى السلام أو طريق السنة فالدعوة عامة على لسان رسول الله بالدلالة والهداية خاصة من لطف المرسل بالتوفيق والعناية، والمعنى يدعو العباد كلهم إلى دار السلام ولا يدخلها إلا المهديون (للذين أحسنوا الحسنى) للذين آمنوا بالله ورسوله المثوبة الحسنى وهي الجنة (وزيادة) رؤية الرب عز وجل، وقيل الزيادة المحبة في قلوب العباد، وقيل الزيادة مغفرة من الله ورضوان (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) ولا يغشى وجوههم غبرة فيها سواد ولا أثر هوان، والمعنى ولا يرهقهم ما يرهق أهل النار أهـ ..
[وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، والنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثَى (1) إِلى قَوْلِهِ: لِلْعُسْرَى].
4 -
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: تَفَرَّغُوا مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا مَا اسْتَطَعْتُمْ (2)، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّهِ (3) أَفْشَى اللهُ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ (4)، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ (5)
أَكْبَرَ هَمِّهِ جَمَعَ اللهُ عز وجل لَهُ أُمُورَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبِهِ (6)، وَمَا أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلى اللهِ عز وجل إِلَاّ جَعَلَ اللهُ قُلُوبَ المؤْمِنينَ تَفِدُ إِلَيْهِ (7) بِالْوُدِّ والرَّحْمَةِ، وَكَانَ اللهُ عز وجل إِلَيْهِ
(1)[إن سعيكم لشتى (4) فأما من أعطى واتقى (5) وصدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10)] من سورة الليل.
مساعيكم في الدنيا مختلفة. هذا يعمل لله، وذا للرياء. أعطى الطاعة واتقى المعصية وصدق بالكلمة الحسنى وهي ما دلت على حق الكلمة كتوحيد ووصلت إلى خير فسنهيء له طريق الجنة واليسر والسعادة. بخل بما أمر به وشح في الواجبات واستلذ بالشهوات وناء عن البر بجانبه بالموبقات وابتعد عن الصالحات الموصلة إلى حسن العقبى ونعيمها [العسرى] نوصله إلى ما يتمنى من العسر والضيق والشدة لميله إلى ملذاته.
(2)
بقدر استطاعتكم بكبح جماح النفس عن المعاصي وشره جمع المال بلا حق.
(3)
نهاية ما يرجو من كده وزع الله طلباته الجمة ونشر حاجاته وأكثر جشعه وشرهه.
(4)
مهما أعطى من المال يتخيل له الفقر والدعة والذل.
(5)
يوم القيامة فيعمل لحسابه كما قال تعالى: [من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحورا (18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا (20) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (21)] من سورة الإسراء.
[ما نشاء] بإرادة الله لا ما يشاء ذلك الطماع الشره. قال النسفي: أي من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد، فقيد المعجل بمشيئته والمعجل له بإرادته، وهكذا الحال. ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه، وكثيراً منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة، وأما المؤمن التقي فقد اختار غنى الآخرة فإن أوتي حظاً من الدنيا فبها، وإلا فربما كان الفقر خيراً له [يصلاها] يدخلها [مذموماً] ممقوتاً [مدحورا] مطروداً من رحمة الله [مؤمن] مصدق لله في وعده ووعيده [مشكورا] مقبولاً عند الله تعالى مثاباً عليه. عن بعض السلف: من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب وتلا الآية فإنه شرط فيها ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً إرادة الآخرة والسعي فيما كلف، والإيمان الثابت أهـ.
(6)
رزقه القناعة والرضى والسرور بكل ما ينال والاستبشار وانتظار الفرج ويزول عنه اليأس.
(7)
تقبل عليه وتزوره وتحبه وتجله وتساعده على مهام أموره فتروج تجارته ويذاع صيته وينتشر ذكره الطيب ويتبرك به وتهابه الحكام وتخشى سطوته الأشرار، وقد شاهدت رجلاً صالحاً عالماً احترمه الناس لعمله الصالح وبجلوه فاهتدوا بأنواره ووثقوا بأقواله وكان حجة ثبتاً نبراساً منيراً في دياجي الشبهات وحاول الأشرار =
بِكُلِّ خَيْرٍ أَسْرَعَ (1). رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي في الزهد.
5 -
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ كَانَتِ الدُّنيَا هَمَّهُ (2) فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ (3) جَمَعَ اللهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ (4). رواه ابن ماجة، ورواته ثقات، والطبراني، ولفظه:
قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ مَنْ تَكُنِ الدُّنْيَا نِيَّتَهُ يَجْعَلِ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَيُشَتِّتْ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَلَا يُؤْتِيهِ مِنْهَا إِلَاّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ تَكُنِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ يَجْعَل اللهُ غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَيَكْفِيهِ ضَيْعَتَهُ، وَتَأْتِيهِ الدُّنْيَا، وَهِيَ رَاغِمَةٌ. رواه في حديث بإسناد لا بأس به، ورواه ابن حبان في صحيحه بنحوه، وتقدم لفظه في العلم.
[قوله: شتت عليه ضيعته] بفتح الضاد المعجمة، وإسكان المثناة تحت: معناه فرق عليه حاله وصناعته ومعاشه، وما هو مهتم به، وشعّبه عليه ليكثر كدُّه، ويعظم تعبه.
6 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ
= أن يؤذوه وأطلقوا عليه من بنادقهم ناراً فحماه الله ووقاه ومرت الرصاصة بجوار أذنه سالماً، وبعد حين وقع المجرمون في حادثة بعيدة منه فنالوا جزاءهم وأخذوا عقابهم الصارم.
(1)
يوصل إليه أنواع البر والبركات بسرعة عاجلة.
(2)
جمع المال مقصده بلا إيجاد عمل صالح في سعيه.
(3)
نهاية ما يرجو في حياته فيكثر من طاعة الله ابتغاء ثوابه.
(4)
أقبلت عليه النعم الجمة مسافة منقادة، قال في النهاية: لما كان العاجز الذليل لا يخلو من غضب، قالوا ترغم إذا غضب وراغمه إذا غاضبه. وقد فسر حديث أسماء "إن أمي قدمت علي راغمة مشركة أفأصلها قال نعم" تريد أنها قدم علي غضبى لإسلامي وهجرتي متسخطة لأمري أو كارهة مجيئها إلي لولا مسيس الحاجة؛ وقيل هاربة من قومها من قوله تعالى [يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة]: أي مهرباً ومتسعاً أهـ ص 89.
فأنت ترى بشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم للصالح التقي المؤمن العابد أن يبسط الله له رزقه ويجعل عيشه رغداً وييسر أموره ويقضي آماله ويذلل له مصاعب الدنيا فتكون له سهلة:
إذا صح عون الخالق المرء لم يجد
…
عسيراً من الآمال إلا ميسرا
الدُّنْيَا إِلَاّ مَا قُدِّرَ لَهُ. رواه الترمذي عن يزيد الرقاشي عنه، ويزيد قد وُثق، ولا بأس به في المتابعات، ورواه البزار، ولفظه:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الآخِرَةَ جَعَلَ اللهُ تبارك وتعالى الْغِنَى في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ. وَنزَعَ الْفَقْرَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، فلَا يُصْبِحُ إِلَاّ غَنِيّاً، وَلَا يُمْسِي إِلَاّ غَنِيّاً، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا جَعَلَ اللهُ الْفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَلَا يُصْبِحُ إِلَاّ فَقِيراً، وَلا يُمْسِي إِلاّ فَقِيراً. رواه الطبراني بلفظ تقدم في الاقتصاد.
من انقطع إلى الله عز وجل كفاه الله كل مؤنة الحديث
7 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنِ انْقَطَعَ إلى اللهِ عز وجل كَفَاهُ اللهُ كُلَّ مُؤْنَةٍ، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ انْقَطَعَ إِلى الدُّنْيَا وَكَلَهُ اللهُ إِلَيْهَا (1). رواه أبو الشيخ بن حبان والبيهقي من رواية الحسن عن عمران، واختلف في سماعه منه.
8 -
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَنْ جَعَلَ الْهَمَّ (2) هَمَّاً وَاحِداً كَفَاهُ اللهُ هَمَّ دُنْيَاهُ (3)، وَمَنْ تَشَعَّبَتْهُ الْهُمُومُ (4) لَمْ يُبَالِ اللهُ في أيِّ أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا هَلَكَ. رواه الحاكم والبيهقي من طريقه وغيرها، وقال الحاكم: صحيح الإِسناد، ورواه ابن ماجة في حديث عن ابن مسعود.
(1) أي تركه بلا مساعدة لتشغله الدنيا وتسخره وتستخدمه.
(2)
الكد والتكفير لطلب شيء واحد وهو إرضاء الله جل وعلا وحده والسعي لطاعته والعمل له بإخلاص.
(3)
حفظه الله من جميع الهموم، ووقاه وأبعد عنه مشاغل الدنيا وأكدارها.
(4)
فرقته وشغلته كثرة الحاجيات، قال الشاعر أبو الحسن التهامي:
طبعت على كدر وأنت تريدها
…
صفواً من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
…
متطلب في الماء جذوة نار
فالعمر نوم والمنية يقظة
…
والمرء بينهما خيال سار
فالدهر يخدع بالمنى ويغض إن
…
هنا ويهدم ما بني ببوار
ليس الزمان وإن حرصت مسالماً
…
خلق الزمان عداوة الأحرار
ثوب الرياء يشف عما تحته
…
وإذا التحفت به فإنك عار
شيئان ينقشعان أول وهلة
…
ظل الشباب وخلة الأشرار
الدنيا كثيرة المناحي متفرقة الحاجات وهمومها جمة ودواؤها التقوى وحب العمل الصالح للآخرة كما قال تعالى [وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب (197)] من سورة البقرة.
9 -
وفي رواية له عن ابن مسعود أيضاً قالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمَّاً وَاحِداً هَمَّ الْمَعَادِ (1) كَفَاهُ اللهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ أَحْوَال الدُّنْيَا (2) لَمْ يُبَالِ اللهُ عز وجل في أَيِّ أَوْدِيَتِه هَلَكَ.
10 -
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ الدُّنْيَا (3) فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شَيْءٍ (4) الحديث رواه الطبراني.
11 -
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: مَنْ أَصْبَحَ حَزِيناً (5) عَلَى الدُّنْيَا أَصْبَحَ سَاخِطاً عَلَى رَبِّهِ (6).
رواه الطبراني.
(1) نشر الخلائق وجودهم للحساب، ولجرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
يعود الفضل منك على قريش
…
وتفرج عنهم الكرب الشدادا
وقد أمنت وحشتهم برفق
…
ويعيى الناس وحشك أن يصادا
وتدعو الله مجتهداً ليرضى
…
وتذكر في رعيتك المعادا
فسيدنا عمر يتقي الله ويعمل صالحاً ليوم القيامة ويخاف سؤال الله في الرعية التي يدبر أمورها.
(2)
تنتابه الوساوس وتكثر الأفكار المبعدة عن الله تعالى فيحرم من توفيق الله تعالى له فيضل ويخطئ ويسخره الشيطان للغواية.
(3)
حبها وجمع المال لشهواتها وزخارفها وزينتها.
(4)
فهو محروم من طاعة الله وليس له ثواب البتة.
(5)
كئيباً غضبان محملاً بأثقال الدنيا من كد وتعب من جراء حطامها وتقليل النعمة المتمتع بها والتكدير مما أصاب من خيرها وطلب الاستزادة وعدم القناعة.
(6)
غير راض عن فعله يائساً من فرجه وروحه غير مستسلم لقضائه وقدره، ففيه أن يقنع ويحمد الله على ما أعطى ويشكر له فضله ويطلب الهداية ووضع البركة فيما منح عاملاً بقول الإمام علي كرم الله وجهه:
وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غد
…
عسى نكبات الدهر عنك تزول
يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم المسلمين القناعة والرضا ومقابلة الشدائد بصدر رحب وثغر باسم، ولا يفكر في هموم الدنيا لحظة، فإن مع العسر يسراً:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
…
يكون وراءه فرج قريب
الثمرات التي يجنيها المطيع ربه سبحانه وتعالى
أولاً: يملأ الله فؤاده سروراً وغنى وقناعة (تفرغ).
ثانياً: يقيه عاديات الزمان ويبعد عنه هموم الدنيا.
ثالثاً: يكتسب رضا الله ودعوات الملائكة الصالحة (هلموا).
رابعاً: يبسط الله له رزقه ويمد له المعونة ويهب له الصحة التامة والنعمة العامة (كفاء الله).
خامساً: يزيد عنه الأكدار ويرضيه ويفتح له طرق السعادة والسيادة لأنه عبد [العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد (9)] من سورة البروج. =
[قال الحافظ]: وتقدم في الاقتصاد في طلب الرزق وغيره غير ما حديث يليق بهذا الباب، ويأتي في الزهد إن شاء الله تعالى أحاديث أخر.
= الآيات القرآنية الذامة الدنيا الحاثة علىطاعة الله
أ - قال الله تعالى: [قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77)] من سورة النساء.
[قليل] سريع التقضي ولا تنقضون أدنى شيء من ثوابكم فلا ترغبوا عنه.
ب - وقال تعالى: [ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا (126)] من سورة النساء.
جـ - وقال تعالى: [من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيرا (134)] من سورة النساء.
[ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنياً حميدا (121) ولله ما في السموات وما في الأرض. وكفى بالله وكيلا (122) إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين، وكان الله على ذلك قديرا (123)] من سورة النساء.
د - وقال تعالى: [زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضل والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله، والله بصير بالعباد (15) الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار (17)] من سورة آل عمران.
[المآب] أي المرجع وهو تحريض على استبدال ما عنده من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات الفانية: سبحانه يثيب المحسن ويعاقب المسيء، خبير بأحوال خلقه.
هـ - وقال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (20) سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (21) ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور (23) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد (24)] من سورة الحديد.
و- وقال تعالى: [إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم (65) فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (26)] من سورة التغابن.
ز - وقال تعالى: [بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى (17) إن هذا لفي الصحف الأولى (18) صحف إبراهيم وموسى (19)] من سورة الأعلى.
ح - وقال تعالى: [يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (33)] من سورة لقمان.
[لا يجزي] لا يقضي عنه [وعد الله] ثوابه وعقابه لا يمكن خلفه [الغرور] الشيطان بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجرئكم على المعاصي.