الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا لأني أحللت البيع وحرمت الربا، والأمر أمري والخلق خلقي أقضي فيهم ما أشاء وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي (1).
وأيضا لو كانت الزيادتان سواء لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين.
فالزيادة التي تؤخذ في معاوضة صحيحة خالية من أكل أموال الناس بالباطل هي زيادة حلال، والزيادة التي تؤخذ لأجل التأخير في الأجل إذا حل زيادة محرمة لأنها لا معاوضة فيها ولا مقابل لها فهي ظلم (2). وأيضا المعسر الذي لا يستطيع الوفاء عند حلول الأجل يجب إنظاره إلى ميسرة لا مضاعفة الدين عليه وإثقال كاهله بالغرامة فيزداد حملا على حمله.
(1) تفسير ابن جرير ص12 - 13 ج 6 ببعض زيادات توضيحية.
(2)
انظر تفسير المنار ص96 ج 3.
مسألة: (ضع وتعجل):
ويتعلق بهذه المسألة مسألة: (ضع وتعجل)، وهي أن يصالح عن الدين المؤجل ببعضه حالا - وهي عكس قلب الدين - لأن معناه: زد وأجل، وقد أجمع المسلمون على تحريمه كما سبق، وأما هذه المسألة (ضع وتعجل) فقد اختلف العلماء فيها على أقوال:
القول الأول:
تحريم ذلك وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والمشهور عن أحمد، ووجه ذلك:
أنه شبيه بالزيادة مع الإنظار المجمع على تحريمها؛ لأنه جعل للزمان مقدارا من الثمن بدلا منه في الموضعين جميعا، فهو في الصورتين جعل للزمان ثمنا لزيادته ونقصه؛ هذا
معنى ما علل به ابن رشد في بداية المجتهد. وعلل صاحب فتح القدير من الحنفية ذلك بقوله: لأن المعجل خير من المؤجل وهو غير مستحق بالعقد، فيكون بإزاء ما حطه عنه وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام. اهـ.
وهو بمعنى التعليل الذي قبله، وعلل صاحب مغني المحتاج من الشافعية لذلك بقوله:(لأن صفة الحلول لا يصح إلحاقها. . فإن لم يحصل الحلول لا يصح الترك) يعني أن صحة ترك البعض تنبني على صحة التعجيل، والتعجيل غير صحيح فالترك غير صحيح، وعلل ذلك صاحب المبدع من الحنابلة بقوله:(لأنه يبذل القدر الذي يحطه عوضا عن تعجيل ما في ذمته وبيع الحلول والتأجيل لا يجوز)، وهذا التعليل بمعنى ما علل به صاحب فتح القدير من الحنفية حيث يقول:(وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام)، وهما يتفقان مع قول ابن رشد:(لأنه جعل للزمان مقدارا من الثمن) فاتفقت كلمتهم على أن بيع الأجل لا يجوز وهو الذي من أجله منعوا مسألة: (ضع وتعجل):
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: (1). واحتج المانعون بالأثر والمعنى؛ أما الآثار ففي سنن البيهقي «عن المقداد بن الأسود قال: (أسلفت رجلا مائة دينار فقلت له: عجل تسعين دينارا وأحط عشرة دنانير).
فقال: نعم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أكلت ربا مقداد وأطعمته» وفي سنده ضعف. وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قد سئل عن الرجل يكون له الدين على رجل إلى أجل فيضع عنه صاحبه ويعجل له الآخر، فكره ذلك ابن عمر ونهى عنه، وصح عن أبي المنهال أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما فقال لرجل: علي دين، فقال لي: عجل لي لأضع عنك، قال: فنهاني عنه. وقال: نهى أمير المؤمنين - يعني عمر - أن يبيع العين بالدين. وقال أبو صالح مولى السفاح واسمه عبيد: بعت برا من أهل السوق إلى أجل ثم أردت الخروج إلى الكوفة فعرضوا علي أن أضع عنهم وينقدوني
(1) ص12 ج 2.
فسألت عن ذلك زيد بن ثابت فقال: (لا آمرك أن تأكل هذا ولا توكله) رواه مالك في الموطأ.
وأما المعنى فإنه إذا تعجل البعض وأسقط الباقي فقد باع الأجل بالقدر الذي أسقط وذلك عين الربا، كما لو باع الأجل بالقدر الذي يزيده إذا حل عليه الدين، فقال: زدني في الدين وأزيدك في المدة، فأي فرق بين أن تقول حط من الأجل وأحط من الدين، أو تقول: زد في الأجل وأزيد في الدين. . . قالوا: فنقص الأجل في مقابلة نقص العوض كزيادته في مقابلة زيادته، فكما أن هذا ربا فكذلك الآخر.
القول الثاني:
جواز الوضع والتعجل وهو رواية عن أحمد (1)، ونسب ابن رشد (2) وابن القيم القول بجوازه إلى ابن عباس وزفر من الحنفية، والقول بالجواز هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال في الاختيارات (3):(ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالا، وهو رواية عن أحمد وحكي قولا للشافعي)، واختار هذا القول أيضا ابن القيم وقال (4):(لأن هذا عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل فانتفع به كل واحد منهما، ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفا، فإن الربا الزيادة، وهي منتفية هاهنا، والذين حرموا ذلك قاسوه على الربا ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: (إما أن تربي وإما أن تقضي)، وبين قوله:(عجل لي وأهب لك مائة) فأين أحدهما من الآخر فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح. اهـ.
قال ابن رشد وقال (5) 55: وعمدة من أجازه ما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير جاء ناس منهم فقالوا: يا نبي الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس
(1) المبدع ص280 ج 4.
(2)
بداية المجتهد ص142 ج 2.
(3)
الاختيارات ص134.
(4)
الإعلام ص371 ج 3 ط محيي الدين عبد الحميد.
(5)
الإعلام ص371 ج 3 ط محيي الدين عبد الحميد.
ديون لم تحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا وتعجلوا.
القول الثالث:
يجوز ذلك في دين الكتابة ولا يجوز في غيره؛ لأن ذلك يتضمن تعجيل العتق المحبوب إلى الله، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولا ربا بين العبد وبين سيده، فالمكاتب وكسبه للسيد فكأنه أخذ بعض كسبه وترك بعضه (1).
والراجح:
هو القول الثاني وهو جواز ذلك مطلقا؛ لأنه ليس مع من منعه دليل صحيح، والأصل في المعاملات الصحة والجواز ما لم يدل دليل على التحريم، وقياسهم منع ذلك على منع زيادة الدين وتمديد أجله قياس مع الفارق؛ لأن منع الزيادة في مقابلة التمديد ملاحظ فيه منع إثقال كاهل المدين من غير استفادة تحصل له، بخلاف هذه المسألة فإن فيها تخفيفا عنه، فإن قيل: والمدين يحصل له في المسألة الأولى فائدة التمديد في الأجل.
فالجواب: أن التمديد في الأجل في هذه المسألة إن كان المدين معسرا فهو واجب على الدائن بدون مقابل، وإن كان المدين موسرا وجب عليه أداء الحق عند حلوله، ويبدي العلامة ابن القيم رأيا آخر في مسألة:(ضع وتعجل) فيقول (2): (ولو ذهب ذاهب إلى التفصيل في المسألة وقال: لا يجوز في دين القرض إذا قلنا بلزوم تأجيله ويجوز في ثمن المبيع والأجرة وعوض الخلع والصداق لكان له وجه، فإنه في القرض يجب رد المثل، فإذا عجل له وأسقط باقيه خرج عن موجب العقد، وكان قد أقرضه مائة فوفاه تسعين بلا منفعة حصلت للمقرض، بل اختص المقترض بالمنفعة فهو كالمربي سواء في اختصاصه بالمنفعة دون الآخر. وأما في البيع والإجارة فإنهما يملكان فسخ العقد وجعل العوض حالا أنقص مما كان، وهذا هو حقيقة الوضع والتعجيل لكن تحيلا عليه، والعبرة في العقود
(1) إعلام الموقعين ص371 ج 3.
(2)
إغاثة اللهفان ص14 ج 2.