المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ثم نقل المجد قول القاضي أبي يعلى: (. . . - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌تعليمات وإرشادات النسخ:

- ‌الاختلاف بين النسخ في كتابة الحروف والكلمات:

- ‌ثانيا: مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية في نظر من فعل ذلك ومناقشتها:

- ‌ثالثا: بيان الموانع التي تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لاتينية ونحوها وبيان ما فيها من الخطر:

- ‌رابعا: الخلاصة:

- ‌الفتاوى

- ‌ هدم مسجد قديم قائم ليبنى محله مكتبة عامة

- ‌ صلاة الجنازة على الميت طفلا أو كبيرا

- ‌ دفن الميت ليلا

- ‌ دفن غير المسلمين في مقابر المسلمين

- ‌ الصدقة عن الميت

- ‌ أخذ شيء من المقبرة لمصلحة الشارع

- ‌ صاحب القبر مختص بمكان قبره

- ‌ مرض والدي وكتب ثلث ماله وقفا

- ‌ جعل القبر في المسجد

- ‌ كتب في وصيته أنهما لا يرثان مما خلفه إلا أن يتوبا قبل وفاته

- ‌ الصلاة في المقبرة وفي المسجد الذي فيه قبر

- ‌ يؤخذ من المسجد شيء من مساحته ويضاف إلى البيت

- ‌حكم إخراج زكاة الفطر نقودا

- ‌دراسات فقهية

- ‌تعريف البيع لغة وشرعا:

- ‌حكم البيع:

- ‌الحكمة في مشروعية البيع:

- ‌المقارنة بين البيع والربا:

- ‌تعريف الربا:

- ‌تحريم الربا:

- ‌مقارنة بين الربا والميسر

- ‌متى حرم الربا:

- ‌ المقارنة بين الربا والصدقة:

- ‌ الحكمة في تحريم الربا:

- ‌ أنواع الربا:

- ‌ ربا النسيئة

- ‌مسألة: (ضع وتعجل):

- ‌ربا الفضل

- ‌ربا القرض:

- ‌القرض بالفائدة:

- ‌مقارنة بين ربا النسيئة وربا الفضل:

- ‌ الأشياء التي يجري فيها الربا:

- ‌ علة الربا في النقدين:

- ‌ علة الربا في بقية الأصناف المنصوصة وهي البر والشعير والتمر والملح

- ‌ تحريم الوسائل والحيل الربوية:

- ‌ماذا يفعل من تاب من الربا

- ‌الخاتمة والفهارس

- ‌المراجع

- ‌تعريف القسامة ووجودها قبل الإسلام:

- ‌دليل شرعية القسامة:

- ‌من الذي يحلف في القسامة:

- ‌ وجود ذكر بالغ حين الدعوى:

- ‌الخلاف في التعليل:

- ‌مذهب المعتزلة:

- ‌مذهب الأشاعرة:

- ‌مذهب الماتريدية:

- ‌مذهب الحنابلة:

- ‌الخلاصة:

- ‌أقسام القياس والمقبول منها والمردود لدى الحنابلة

- ‌أقسام القياس باعتبار العلة

- ‌تعريف القياس لغة واصطلاحا

- ‌حقيقة القياس عند الأصوليين:

- ‌أسباب اختلاف تعاريفهم:

- ‌شرح التعريف المختار:

- ‌العلة ووجوه الاجتهاد فيها

- ‌العلة - في الاصطلاح:

- ‌وجوه الاجتهاد في العلة:

- ‌حجية القياس أو التعبد به

- ‌تحرير محل النزاع:

- ‌مذاهب العلماء فيه

- ‌التنصيص على العلة

- ‌تحرير موضع النزاع:

- ‌النقل عن النظام:

- ‌حقيقة موقف الحنابلة في هذا الموضوع

- ‌قياس الشبه وموقف الحنابلة منه

- ‌دراساتتاريخية

- ‌جهاده:

- ‌في غزوة بدر الكبرى:

- ‌ في غزوة أحد:

- ‌ في الغزوات الأخرى:

- ‌ قائد سرية دومة الجندل:

- ‌في الغزوات الجديدة:

- ‌ جهاده بالمال:

- ‌المستشار الأمين

- ‌ مع الشيخين:

- ‌ مع الشورى:

- ‌ مع عثمان:

- ‌الإنسان:

- ‌ عمره:

- ‌ وصيته وتركته:

- ‌ إنفاقه:

- ‌ ورعه:

- ‌ علمه:

- ‌ صفته:

- ‌ أهله:

- ‌ جمل مزاياه:

- ‌القائد:

- ‌عبد الرحمن في التاريخ:

- ‌ تمهيد

- ‌الزواج فطرة:

- ‌الزواج في الإسلام:

- ‌ أحكام زواج الأجنبيات

- ‌تحديد وتعريف

- ‌بادرة:

- ‌زواج المشركة:

- ‌زواج حرائر الكتابيات:

- ‌المقصود بالكتابية في حل الزواج:

- ‌الكتابية الحربية والكتابية الذمية:

- ‌الكتابية إن غيرت دينها، والمرتدة:

- ‌عمر وابن عمر وزواج الكتابية:

- ‌نكاح الإماء الكتابيات:

- ‌آثار الزواج بالكتابية:

- ‌ داخل الأسرة:

- ‌ الآثار في المجتمع:

- ‌الرأي في الزواج من الأجنبيات:

- ‌مدى إمكانيةترجمة القرآن

- ‌مدى أهمية ترجمة القرآن

- ‌استحالة ترجمة القرآن:

- ‌اختلاف الدلالات اللغوية للنص القرآني:

- ‌شروط ضرورية للترجمة:

- ‌حكم ترجمة المستشرقين:

- ‌حديث شريف

الفصل: ثم نقل المجد قول القاضي أبي يعلى: (. . .

ثم نقل المجد قول القاضي أبي يعلى: (. . . المتردد بين الأصلين يجب إلحاقه بأحد الأصلين، وهو أشبههما به، وأقربهما إليه.

ثم قال المجد من قال: (. . . قياس غلبة الشبه كما فسره القاضي حجة) فلا كلام، لكن يرد عليه التسوية بين الشيئين في الحكم مع العلم بافتراقهما في بعض الصفات المؤثرة، وإنما فعلوه لضرورة إلحاق الفرع بأحد الأصلين، فألحقوه بالأشبه، كما تفعل القافة بالولد.

ومن قال: ليس بحجة فقد يحكم فيه بحكم ثالث مأخوذ من الأصلين، وهو طريقة الشبهتين، فيعطيه بعض حكم هذا وبعض حكم هذا، كما فعله أحمد في ملك العبد، وكذا مالك، وهذا كثير في مذهب مالك وأحمد - مثل تعلق الزكاة بالعين أو الذمة، والوقف هل هو ملك لله تعالى أو للموقوف عليه، ونحو ذلك. وطريقة الشبهين ينكرها كثير من أصحاب الشافعي وأحمد.

ثم قال: والأشبه أنه إن أمكن استعمال الشبهين، وإلا ألحق بأشبههما به (1).

فيمكن القول -إذن- بأن الحنابلة يأخذون بالقياس بأنواعه كالجمهور، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك ولكنهم في قياس الشبه -الذي هو نوع من أنواع القياس- لهم عن الإمام أحمد روايتان: الأول: أنه حجة ويعمل به. وهي التي انتصر لها القاضي أبو يعلى ورجحها، ومال إليها المجد ابن تيمية، وسماها (طريقة الشبهين).

الثانية: أنه ليس بحجة، وليس من القياس، لأنه ليس فيه أصل، لأنه متردد بين أصلين فلا تتحقق فيه التسوية بين الفرع والأصل.

طه جابر فياض العلواني

(1) وراجع المسودة: (374 - 376).

ص: 208

‌دراسات

تاريخية

ص: 208

صفحة فارغة

ص: 209

صفحة فارغة

ص: 210

الدكتور / محمد بن لطفي الصباغ

- ولد عام 1350هـ، وتلقى علومه الأولية على يد علماء بلده.

- عمل في التدريس الجامعي مدة تزيد على 22 سنة، ويعمل الآن في جامعة الملك سعود أستاذا لمادة علوم القرآن والحديث.

- له عدد من المؤلفات المطبوعة منها: الحديث النبوي، لمحات في علوم القرآن

ص: 211

صفحة فارغة

ص: 212

معركة شقحب

أو معركة مرج الصفر

بقلم: د. محمد بن لطفي الصباغ

لا تزال حادثة سقوط بغداد سنة ست وخمسين وستمائة غصة في صدر كل مسلم، وشجى في حلق كل مؤمن، إن ذكرها ليحدث رعشة في القلب، وإن جراحاتها ما تزال تنزف دما في أعماق أعماقنا.

ولا يستطيع دارس أحداث هذه العصور أن ينسى الآلام والمآسي التي تجرعها المسلمون في تلك الحقبة، فيكاد يذوب قلب المسلم أسفا وأسى وكمدا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ص: 213

ويحسن أن أورد هنا ما قاله ابن الأثير عن خروج التتار، فلقد تحدث حديثا مؤثرا عن خروجهم في سنة سبع عشرة وستمائة - ولم تكن بغداد قد سقطت - فقال ما سأورده فيما يأتي، فكيف يكون كلامه لو وقف على الفظائع التي قام بها هؤلاء الوحوش في بغداد سنة 656 هـ.

قال ابن الأثير: ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة: لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء علي تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.

ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله (بخت نصر) ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا؟ فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج.

وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1).

قال ابن كثير:

[وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة - يعني سقوط بغداد - فقيل: 800 ألف، وقيل: ألف ألف و800 ألف، وقيل: بلغت القتلى

(1) الكامل 12/ 358 طبع بيروت.

ص: 214

ألفي ألف نفس] (1).

وقال أيضا:

[وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد](2).

ولكن الشخصية المسلمة كانت ما تزال متماسكة، وأركان المجتمع كانت - على الأغلب - قائمة على معان أصيلة من الإسلام. . ولذلك فسرعان ما كان الثأر واسترداد الكرامة في معركة عين جالوت التي كانت سنة 658هـ، ولم يمض وقت طويل حتى دان الغزاة بدين أهل البلاد المغلوبين، دين الإسلام وإن لم يتخلوا عن همجيتهم وعدوانهم وشرهم.

ثم كانت معركة انتصر فيها المسلمون انتصارا عظيما، وربما كانت أقل شهرة من المعارك التي سبقتها، وهي معركة شقحب موضوع بحثنا هذا.

في اليوم الثاني من رمضان سنة اثنتين وسبعمائة للهجرة (الموافق للعشرين من نيسان (إبريل) سنة 1303م) وقعت هذه المعركة بين المسلمين والمغول. . . بين عسكر السلطان الناصر، وعسكر قطلوشاه.

وقد عرفت هذه المعركة باسمين هما: (موقعة مرج الصفر)، و (معركة شقحب)(3) وكان عدد الجيش المغولي الذي اشترك في هذه الموقعة كبيرا، يقدره بعضهم بخمسين ألف مقاتل، وهناك من يقول: إن عدده يصل إلى مائة ألف.

والفرق بين الرقمين يدل على أن التقدير غير دقيق، لكن الشيء الواضح من ذلك ضخامة عدد ذلك الجيش، وقد كان في عداد هذا الجيش فرقتان من الكرج والأرمن (4)

(1) البداية والنهاية 13/ 202.

(2)

((البداية والنهاية)) 13/ 203.

(3)

شقحب: عين ماء جنوب دمشق بعد قرية الكسوة على يمين الذاهب إلى حوران (انظر الخريطة).

(4)

الأرمن شعب نصراني يعيش في منطقة جبلية وعرة بين تركيا وإيران اليوم

ص: 215

أما جيش المسلمين فلم يذكر المؤرخون له عددا، وإن كان يرجح كثير من الباحثين أنه كان كبيرا أيضا، اعتمادا على قرائن عدة.

ولا بد من دراسة معركة شقحب على أنها حلقة من سلسلة الهجمات المغولية على ديار الإسلام.

لقد كان السبب الذي حرك المغول في معاركهم واحتلالاتهم واحدا، سواء كان فيما سبق سقوط بغداد أو كان بعدها.

فمن المعلوم أن بلاد المسلمين قد تعرضت إلى أخطار من جهة أوروبا النصرانية التي جيشت الجيوش، وسيرت الحملات الصليبية تلو الحملات، وجاءت هذه القوى الباغية المعتدية إلى ديار المسلمين، فعاثت في الأرض فسادا، وأهلكت الحرث والنسل، وانتهى بها الأمر إلى أن تقيم في قلب العالم الإسلامي دولا، منها إمارات الرها وأنطاكية، وبيت المقدس، وطرابلس.

واستمر وجود الصليبيين في بلاد المسلمين قرابة قرنين، وقد أدرك المسلمون خطورة بقاء هذه الإمارات الصليبية في بلادهم، واستيقظ وعيهم، فقامت حركة الجهاد، يذكيها علماء الأمة ومصلحوها، وتجاوب الناس معها، فكان توحيد الجبهة الإسلامية غرضا مهما وكان لنور الدين الشهيد محمود زنكي فضل كبير في تحقيق ذلك، وجاء من بعده صلاح الدين الأيوبي، فاستطاع أن يقطف ثمرة جهاد الرجل العظيم نور الدين، وانتصر في معركة حطين، واستطاع أن يطهر معظم بلاد الشام من رجس الصليبيين.

واسترد المسلمون بيت المقدس، وكل ما كان بأيدي النصارى من قلاع وحصون، ولم يبق للصليبيين إلا جيوب يسيرة في أنطاكية وطرابلس والساحل بين صور ويافا.

في هذا الوقت بالذات ظهرت حركة المغول في أقصى الشرق، بزعامة جنكيز خان.

ولقد ثبت بأدلة قاطعة أن حركة المغول هذه كانت بتحريض وتخطيط من الصليبيين المهزومين من ديار المسلمين، فقد كانت هناك اتصالات بين الفريقين قبل سنة 656هـ (1258م)، فقد أوفد البابا أنوسنت الرابع رجلا في مهمة سياسية إلى منغوليا سنة 642هـ (1245م).

ص: 216

ثم أوفد لويس التاسع المعروف ب (الناسك) بعد ذلك بثلاث سنوات رجلا آخر وقد كتب الدكتور مصطفى طه بدر كتابا عنوانه: (مغول إيران بين المسيحية والإسلام)، وقد قرر في هذا الكتاب تعاون النصرانية البابوية مع المغول، في اجتياح بلاد المسلمين لمصالح النصرانية، ومن أجل انتزاع الأراضي المقدسة عندهم من أيدي المسلمين، وأثبت ذلك بأدلة قوية.

إن الوجود النصراني في بلاد الشام تضعضع بتوفيق الله ثم بسبب اليقظة التي بدأت تظهر، ثم بسبب وجود بعض العمالقة من رجالاتهم السياسيين من أمثال نور الدين الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، ثم بسبب قيام عدد من رجال الفكر والعلم والتوجيه بواجبهم.

وانهار هذا الوجود النصراني بعد معركة حطين وغيرها، عند ذاك فكر النصارى بأسلوب أكثر قوة وأشد عودا وأشنع وحشية وبربرية، فلم يجدوا إلا التتار، يقول الدكتور مصطفى طه بدر: (ومع أن المغول هددوا المسيحية في أوروبا كما هددوا الإسلام في الشرق، واجتاحوا أراضيها في روسيا وبولندا، ووصلوا حتى هنغاريا، وقتلوا، ونهبوا، وسبوا، وأنزلوا الرعب في قلوب المسيحيين هناك، إلا أن المسيحية ما لبثت غير قليل، حتى صحت من غفوتها، وزالت عنها الدهشة التي تملكتها، وفارقها الخوف والفزع، وفكرت في الاستفادة من المغول، خصوصا بعد أن رأت أن تيارهم قد وقف ولم يستقر لهم حال إلا في روسيا.

وقد اتجهت المسيحية نحو المغول، راغبة في استمالتهم، وعقد أواصر الصداقة معهم لكسبهم إلى المسيحية أولا وللاستعانة بهم ضد أعدائها المسلمين ثانيا.

والتاريخ يذكر لنا الشيء الكثير عن العلاقات التي قامت بين حكام المغول الأول من أبناء جنكيز خان، وبين الدول المسيحية على اختلافها، تلك العلاقات التي كان أثرها رحلات يوحنا الكربيني ووليم الروبريكي).

ص: 217

وقال أيضا:

أما العلاقات بين البابوات والتتر فكانت مستمرة ولم تنقطع طول مدة حكم التتر في إيران.

وقد كان الرسل يترددون من وقت إلى آخر بين بلاط البابوات وبلاط التتار، ويحملون الرسائل التي تفيض بمظاهر الحب والعطف المتبادل.

ويقال: إن البابا إسكندر الرابع أرسل إلى هولاكو خان مؤسس دولة الإيلخانات كتابا مؤرخا في سنة 1260م - 658هـ) (1)، وقد ذكرنا في صدر هذا المقال أن الاتصالات بدأت مبكرة قبل هذا التاريخ، إذ أرسل البابا أنوسنت الرابع رجلا إلى زعماء المغول في سنة 642هـ (1245م).

وقال الدكتور مصطفى طه بدر:

(ولا يختلف المؤرخون في أقوالهم عندما يتناولون مسألة عطف الإيلخانات على المسيحيين من رعاياهم، ويؤيد بعضهم بعضا.

ويتضح من أقوالهم أن هولاكو كانت له زوجة مسيحية، وأنه بسببها عامل المسيحيين من رعاياه معاملة حسنة، ولما فتح (2) بغداد أعفى أهلها المسيحيين من القتل. . ولما فتح (3) المغول في عهده دمشق ودخلوها، تساهلوا مع المسيحيين من أهلها، حتى أصبحوا نتيجة لهذا التساهل يشربون الخمر علنا في رمضان، ويرشونها على المسلمين، كما صاروا يمرون في الطرقات وهم يحملون الصليب، ويجبرون المسلمين على القيام احتراما وإجلالا لهم) (4).

وقد أورد ابن العماد في (شذرات الذهب) قصيدة مؤثرة لتقي الدين بن أبي اليسر في رثاء بغداد يوم سقوطها في يد التتار وفيها قال:

(1)((مغول إيران)) صفحة 5 - 6

(2)

((مغول إيران)) صفحة 7

(3)

هذه الكلمة لا تستعمل بشأن الأعداء، فكان ينبغي أن يقول: دخل بغداد. . . دمشق.

(4)

((مغول إيران)) صفحة 10.

ص: 218

علا الصليب على أعلى منابرها

وقام بالأمر من يحويه زنار

وقبل هذا البيت يقول تقي الدين:

لسائل الدمع عن بغداد أخبار

فما وقوفك والأحباب قد ساروا

يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا

فما بذاك الحمى والدار ديار

تاج الخلافة والربع الذي شرفت

به المعالم قد عفاه إقفار

أضحى لعطف البلى في ربعه أثر

وللدموع على الآثار آثار

يا نار قلبي من نار لحرب وغى

شبت عليه ووافى الربع إعصار

علا الصليب على أعلى منابرها

وقام بالأمر من يحويه زنار (1)

لقد كان النصارى في أوروبا يأملون في أن يعتنق المغول المسيحية، وأن يتم التحالف بينهم، وأن يوجهوا ضربة قاصمة للإسلام، غير أن هذه الآمال لم تلبث أن تبددت بفضل من الله ثم بسبب جهود دولة المماليك في مصر والشام، وإنزال الهزيمة الساحقة بالمغول في معركة عين جالوت (في رمضان سنة 658 هـ) فتحطمت الأسطورة القائلة: إن المغول قوة لا تقهر.

يرى المؤرخ الأرمني (هيتون) أن السبب في سير هذه الحملة التي وقعت فيها معركة شقحب كان رغبة قازان في تحطيم سلطان المسلمين في مصر، واسترداد الأرض المقدسة، وتسليمها إلى النصارى، وأن قازان كان يريد السير بنفسه على رأس تلك الحملة، ولكن تهديد حدوده الشرقية أدى إلى أن ينيب عنه قطلوشاه، الذي تعاون مع النصارى، ولا سيما الأرمن الذين كانوا يشكلون قوة كبيرة في جيش قطلوشاه، وقد استولوا على عدد من مدن المسلمين، وقتلوا فيها ومثلوا ونهبوا، وفعلوا الأفاعيل البالغة في الفظاعة والشناعة.

كان الرعب الذي يرافق تحركات المغول شديدا، يملأ صدور الناس ويوهن من

(1)((شذرات الذهب)) 5/ 271 - 272 وهذا المذكور جزء من القصيدة، والزنار من شارات النصارى.

ص: 219

قواهم، فكلما سمع الناس قصدهم إلى بلد فروا من مواجهتهم. وقد سهل هذا الرعب لهؤلاء الغزاة المعتدين سبيل النصر والغلبة.

وكان الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر مقيمين في مصر - كما هو معلوم - ويبدو أن أخبار عزم التتار على تجديد حملاتهم لدخول بلاد الشام وإزالة دولة المماليك بلغ المسئولين في مصر، فعمل العلماء وأولو الفكر والرأي على إشراك الخليفة والسلطان في مواجهة هؤلاء الغزاة، وقام شيخ الإسلام ابن تيمية بمهمة جسيمة في هذا المجال.

ففي شهر رجب من سنة 702هـ قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتد خوفهم جدا كما يقول الحافظ ابن كثير (1)، وقنت الخطيب في الصلوات، وقرئ البخاري، وهذه عادة كانوا يستعملونها في مواجهة الأعداء، فيعمدون إلى قراءته في المسجد الجامع (2).

وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجيء العساكر المصرية عن إبانها فاشتد لذلك الخوف.

قال ابن كثير:

(وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة- أي قلعة دمشق - وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان بالعساكر من مصر لمناجزة التتار المخذولين. . . وفي ثامن عشر من شعبان قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين، فيهم كبار الأمراء من أمثال (ركن الدين بيبرس الجاشنكير وحسام الدين لاجين وسيف الدين كراي).

ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير السلاح وأيبك الخزندار.

فقويت القلوب في دمشق، واطمأن كثير من الخلق، ولكن الناس في الشمال سيطر

(1)((البداية والنهاية)) 14/ 22

(2)

انظر كتابي ((الحديث النبوي)) ط 4 صفحة 13 - 14.

ص: 220

عليهم الذعر، واستبد بهم الفزع، فنزح عدد عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي، وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص. . ثم خافوا أن يدهمهم التتار فنزلوا إلى المرج.

ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فسادا، وقلق الناس قلقا عظيما لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خوفا شديدا، وبدأت الأراجيف تنتشر وشرع المثبطون يوهنون عزائم المقاتلين ويقولون:

لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لقلة المسلمين وكثرة التتار.

وزينوا للناس التراجع والتأخر عنهم مرحلة مرحلة.

ولكن تأثير العلماء ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية كان يتصدى لهؤلاء المرجفين المثبطين، حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتصدي للتتار مهما كان الحال.

واجتمع الأمراء وتعاهدوا، وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم ورعاياهم، ونودي بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، فسكن الناس وهدأت نفوسهم، وجلس القضاة بالجامع يحلفون جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وتوقدت الحماسة الشعبية، وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أعظم التأثير في ذلك الموقف، فلقد عمل على تهدئة النفوس، حتى كان الاستقرار الداخلي عند الناس، والشعور بالأمن ورباطة الجأش.

ثم عمل على إلهاب عواطف الأمة، وإذكاء حماستها، وتهيئتها لخوض معركة الخلاص. . ثم توجه بعد ذلك ابن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم في القطيفة (1)، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون.

(1) بلدة على طريق القادم إلى دمشق من حمص - انظر الخريطة - وهي على بعد 40 كم من دمشق

ص: 221

فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله.

فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.

وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} (1) وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفت في عضد المحاربين للتتار، من نحو قولهم: كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام. . فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه. فرد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الشبهة قائلا:

هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية رضي الله عنهما ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين وهم متلبسون بالمعاصي والظلم.

فانجلى الموقف وزالت الشبهة، وتفطن العلماء لذلك، ومضى يؤكد لهم هذا الموقف قائلا:

إذا رأيتموني في ذلك الجانب - يريد جانب العدو - وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، (2) فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم.

وامتلأت قلعة دمشق والبلد بالناس الوافدين، وازدحمت المنازل والطرق، وخرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر، بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة كبيرة؛ ليشهد القتال بنفسه وبمن معه، فظن بعض الرعاع أنه خرج للفرار، فقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت ذا هارب من البلد. . . فلم يرد عليهم إعراضا عنهم وتواضعا لله، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة.

وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسوة.

ووصل التتار إلى قارة (3) وقيل: إنهم وصلوا إلى القطيفة فانزعج الناس لذلك،

(1) سورة الحج الآية 60

(2)

((البداية والنهاية)) 14/ 24

(3)

قرية في الطريق بين دمشق وحمص. (انظر الخريطة)

ص: 222

وخافوا أن يكون العساكر قد هربوا، وانقطعت الآمال، وألح الناس في الدعاء والابتهال في الصلوات وفي كل حال، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان. . . فلما كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بأن السلطان قد وصل وقت اجتماع العساكر المصرية والشامية.

وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب، ولم يدخلوا دمشق، بل عرجوا إلى ناحية تجمع العساكر، ولم يشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق وقالوا: إن غلبنا فإن البلد لنا، وإن غلبنا فلا حاجة لنا به.

ووقفت العساكر قريبا من قرية الكسوة، فجاء العسكر الشامي، وطلبوا من شيخ الإسلام ابن تيمية أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق، فسار إليه، فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر. فجاء هو وإياه جميعا، فسأله السلطان أين يقف معه في معركة القتال؟ فقال له الشيخ ابن تيمية: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم.

وحرض السلطان على القتال، وبشره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.

وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، وأفطر هو أيضا، وكان يدور على الأجناد والأمراء، فيأكل من شيء معه في يده؛ ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا به على القتال أفضل من صيامهم.

ولقد نظم المسلمون جيشهم في يوم السبت 2 رمضان (19 نيسان - إبريل) أحسن تنظيم، في سهل شقحب الذي يشرف عليه جبل غباغب.

وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء.

وقبل بدء القتال اتخذت الاحتياطات اللازمة، فمر السلطان ومعه الخليفة والقراء بين صفوف جيشه، بقصد تشجيعهم على القتال وبث روح الحماسة فيهم.

وكانوا يقرءون آيات القرآن التي تحض على الجهاد والاستشهاد، وكان الخليفة

ص: 223

يقول: دافعوا عن دينكم وعن حريمكم.

ووضعت الأحمال وراء الصفوف، وأمر الغلمان بقتل من يحاول الهرب من المعركة.

ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتا عظيما، وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف يريد إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، وصدق الله فصدقه الله.

وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي، وثمانية من الأمراء المقدمين معه.

واحتدمت المعركة، وحمي الوطيس، واستحر القتل، واستطاع المغول في بادئ الأمر أن ينزلوا بالمسلمين خسارة ضخمة، فقتل من قتل من الأمراء. . . ولكن الحال لم يلبث أن تحول بفضل الله عز وجل، وثبت المسلمون أمام المغول، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغير وجه المعركة، وأصبحت الغلبة للمسلمين، حتى أقبل الليل فتوقف القتال إلا قليلا، وطلع المغول إلى أعلى جبل غباغب، وبقوا هناك طول الليل، ولما طلع النهار نزلوا يبغون الفرار بعد أن ترك لهم المسلمون ثغرة في الميسرة ليمروا منها، وقد تتبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عددا كبيرا، كما أنهم مروا بأرض موحلة، وهلك كثيرون منهم فيها، وقبض على بعضهم. قال ابن كثير:

(فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتضرب أعناقهم)(1).

ثم لحق المسلمون أثر المنهزمين إلى (القريتين)(2) يقتلون منهم ويأسرون.

ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته، فلم يقدروا على العبور. . . والذي عبر فيه هلك، فساروا على جانبه إلى بغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة (3).

(1)((البداية والنهاية)) 14/ 26.

(2)

وهي بلدة على طريق المسافر بين بغداد ودمشق (انظر الخريطة

(3)

((خطط الشام)) لمحمد كرد علي 2/ 138.

ص: 224

وفي يوم الاثنين رابع رمضان رجع الناس من الكسوة إلى دمشق، فبشروا الناس بالنصر، وفيه دخل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له، وهنئوه بما يسر الله على يديه من الخير.

وفي يوم الثلاثاء خامس رمضان دخل السلطان إلى دمشق وبين يديه الخليفة، وزينت البلد، وبقيا في دمشق إلى ثالث شوال إذ عادا إلى الديار المصرية (1).

وكان فرح السلطان الناصر محمد بن قلاوون والمسلمين بهذه المعركة فرحا كبيرا، ودخل مصر دخول الظافر المنتصر، يتقدم موكبه الأسرى المغول، يحملون في أعناقهم رءوس زملائهم القتلى، واستقبل استقبال الفاتحين.

ولما كان ابن تيمية رحمه الله بطلا من أبطال هذه المعركة، أحببت أن يطلع القارئ الكريم على وصف رجال كانوا معه في المعركة، يحدثوننا عما شاهدوا مشاهدة عيان من مواقف الشيخ في هذه المعركة، وبطولاته الرائعة.

قال ابن عبد الهادي:

(وقد أخبرني حاجب أمير، ذو دين متين، وصدق لهجة، معروف في الدولة قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمرج الصفر وقد تراءى الجمعان: يا فلان! أوقفني موقف الموت.

قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم. ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك ما تريد. قال: فرفع طرفه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلا، ثم انبعث وأقدم على القتال.

وأما أنا فخيل لي أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة. . . ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر، وانحاز التتار

(1)((البداية والنهاية)) 14/ 26.

ص: 225

إلى جبل صغير عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين في تلك الساعة. . . وكان آخر النهار، وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضا على القتال، وتخويفا للناس من الفرار) (1).

وقال ابن عبد الهادي:

(وفي أول شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعمائة كانت وقعة شقحب المشهورة، وحصل للناس شدة عظيمة، وظهر فيها من كرامات الشيخ وإجابة دعائه، وعظيم جهاده وقوة إيمانه، وشدة نصحه للإسلام وفرط شجاعته، ونهاية كرمه، وغير ذلك من صفاته، ما يفوق النعت، ويتجاوز الوصف.

ولقد قرأت بخط بعض أصحابه - وقد ذكر هذه الواقعة - قال:

- واتفقت كلمة إجماعهم على تعظيم الشيخ تقي الدين ومحبته، وسماع كلامه ونصيحته، واتعظوا بمواعظه. . . ولم يبق من ملوك الشام تركي ولا عربي إلا واجتمع بالشيخ في تلك المدة، واعتقد خيره وصلاحه ونصحه لله ولرسوله وللمؤمنين.

قال:

- ثم ساق الله سبحانه جيش الإسلام العرمرم المصري، صحبه أمير المؤمنين والسلطان الملك الناصر، وولاة الأمر وزعماء الجيش وعظماء المملكة. . . سوقا حثيثا للقاء التتار المخذولين، فاجتمع الشيخ بالخليفة والسلطان وأرباب الحل والعقد وأعيان الأمراء عن آخرهم، وكلهم بمرج الصفر قبلي دمشق. . . وبقي الشيخ هو وأخوه وأصحابه ومن معه من الغزاة قائما. . . يوصي الناس بالثبات، ويعدهم بالنصر، ويبشرهم بالغنيمة والفوز بإحدى الحسنيين إلى أن صدق الله وعده، وأعز جنده، وهزم التتار وحده، ونصر المؤمنين، وهزم الجمع وولوا الدبر، وكانت كلمة الله هي العليا، وكلمة الكفار هي السفلى، وقطع دابر القوم الكفار، والحمد لله رب العالمين.

ودخل جيش الإسلام المنصور إلى دمشق المحروسة، والشيخ في أصحابه شاكيا سلاحه، داخلا معهم، عالية كلمته، قائمة حجته، ظاهرة ولايته، مقبولة شفاعته،

(1)((العقود الدرية)) لابن عبد الهادي صفحة 177 - 178.

ص: 226

مجابة دعوته، ملتمسة بركته، مكرما معظما، ذا سلطان وكلمة نافذة، وهو مع ذلك يقول للمداحين: أنا رجل ملة لا رجل دولة) (1).

وقد سجل الشعر هذه المعركة وتغنى الشعراء بنصر المسلمين فيها، وسأورد شيئا من ذلك فقد قال محمد بن إبراهيم الجزري يصف هزيمة المغول في هذه المعركة:

مضوا متسابقي الأعضاء ، فيهم

لا رؤسهم بأرجلهم عثار

إذا فاتوا الرماح تناولتهم

بأرماح من العطش القفار

وقال محمد البزار المنبجي:

إن البغاة بني خاقان أقدمهم

على هلاكهم الطغيان والأشر

راموا - وقد حشدوا - غلبا فما غلبوا

وحاولوا النصر تضليلا فما نصروا

يا وقعة المرج مرج الصفر افتخرت

بك الوقائع في الآفاق والعصر

رفعت بالنصر أعلام الهدى ولقد

جردت للشرك كسرا ليس ينجبر

وقال شرف الدين بن الوحيد:

ولما غزا قازان عقر ديارنا

وأعطاه من يعطي ومن يمنع النصرا

تمرد طغيانا وزاد تجبرا

ولم ينتبه بغيا ولم يستفق سكرا

وجاءت ملوك المغل كالرمل كثرة

وقد ملكت سهل البسيطة والوعرا

فأنصفت الأيام في الحكم بيننا

فكانت له الأولى ، وكانت لنا الأخرى

وكان نهار السبت بالنصر شاهدا

بصدق ، وكان الوقت قد زحم العصرا

فلله در الترك كم سفكت دما

وكم قطعت رأسا وكم نحرت نحرا

فولت ولاذت بالجبال تحصنا

ولولا تخاف القتل لاختارت الأسرا

وقال شمس الدين السيوطي يصف معركة شقحب:

يا مرج صفر بيضت الوجوه كما

فعلت من قبل (2) والإسلام يؤتنف

أزهر روضك أزهى عند نفحته

أم يانعات رءوس فيك تقتطف؟

(1)((العقود الدرية)) 175 - 177.

(2)

يشير إلى أن هذا الموضع كان له ذكر في فتوح الصحابة إذ كان فيه موقعة عظيمة مع الروم.

ص: 227

غدران أرضك قد أضحت لواردها

ممزوجة بدماء المغل تغترف

دارت عليهم من الشجعان دائرة

فما نجا سالم منها وقد زحفوا

ونكسوا منهم الأعلام فانهزموا

ونكصوهم على الأعلام فانقصفوا

ففي جماجمهم بيض الظبا زبر

وفي كلاكلهم سمر القنا قصف

فروا من السيف ملعونين حيث سروا

وقتلوا في البراري حيثما ثقفوا

فما استقام لهم في (اعواج)(1) نهج

ولا أجارهم من (مانع)(2) كنف (3)

هذا ومن المفيد أن نعرف بالخليفة الذي غامر بحياته وجاء مجاهدا في سبيل الله يحضر هذه المعركة ويحرض المؤمنين على القتال.

إنه أمير المؤمنين المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بن أحمد بن الحسن، ولد سنة 683هـ واشتغل بالعلم قليلا، وخطب له سنة 701هـ، وفوض جميع ما يتعلق به من الحل والعقد إلى السلطان الملك الناصر، وحصل بينه وبين الناصر نفور بعد أن كانت العلاقات بينهما على أحسن ما تكون العلاقات، فغضب عليه السلطان وسيره إلى قوص سنة 736هـ! وظل يخطب له حتى توفي بقوص في شعبان سنة 740 هـ.

قال ابن حجر: كان فاضلا جوادا حسن الخط جدا، يعرف بلعب الأكره ورمي البندق، وكان يجالس العلماء والأدباء (4).

ومن المفيد أيضا أن نعرف بالملك الناصر الذي كان له الفضل الكبير في هذه المعركة الفاصلة:

إنه محمد بن قلاوون بن عبد الله الصالحي أبو الفتح، من كبار ملوك دولة المماليك، ودولة المماليك مظلومة في أذهان كثير من مثقفي المسلمين، فهم يتصورون عهدهم عهد

(1) الأعوج: نهر يمر من قرية الكسوة (انظره في الخريطة).

(2)

المانع: جبل في تلك الناحية (انظره في الخريطة).

(3)

انظر ((خطط الشام)) 2/ 139.

(4)

انظر في ترجمته ((الدرر الكامنة)) 2/ 336 - 338 و ((تاريخ الخلفاء)) 484 - 487.

ص: 228

ظلم وتخلف وجهل وانحطاط، وليس هذا بصحيح على إطلاقه. . . لقد كانت هناك جوانب مضيئة إيجابية؛ من أهم هذه الجوانب أن هذه الدولة التي امتدت قرابة ثلاثة قرون (1) كانت هي المدافع الأول عن الإسلام. وقد استطاعت هذه الدولة أن تطهر بلاد المسلمين من بقايا الصليبيين، وأن تنهي أمر التتار إلى غير رجعة، وأن تدافع عن مذهب أهل السنة والجماعة وتمكن له، وكانت أيامها أيام نضج علمي، عمت فيها المدارس والجامعات الديار الشامية والمصرية.

وحبذا لو عولجت هذه الحقبة من وجهة نظر إسلامية، معالجة متأنية منصفة.

ولد الملك الناصر سنة 684 هـ وكانت إقامته في طفولته بدمشق، ولي سلطنة مصر والشام سنة 693هـ وكان عمره إذ ذاك تسع سنين، ثم خلع منها لحداثته سنة 694هـ فأرسل إلى الكرك وهي مدينة (2) مشهورة الآن في الأردن وكانت حصنا من أمنع الحصون. وكانت مركزا مهما من أقوى مراكز الدولة في بلاد الشام.

وأعيد للسلطنة بمصر سنة 698هـ وكان قد بلغ الرابعة عشرة من عمره ولم تكن لديه الخبرة ولا الدراية التي تمكنه من أن يسوس الأمور بنفسه مستقلا، فكانت أمور الدولة في يد الاستادار الأمير بيبرس الجاشنكير ونائب السلطنة الأمير سلار.

ولما أراد أن يتخلص من سيطرتهما رسم خطة، وأحكم تنفيذها، فقد تظاهر بأنه عازم على الحج، وأعلن ذلك في الدولة، وتوجه بأسرته وحاشيته ومماليكه وخيله. . وسار حتى بلغ الكرك، فنزل بقلعتها واستولى على ما فيها، وأعلن أنه قد عدل عن الحج واختار الإقامة في الكرك، وباشر حكمها وإدارة الأمور فيها، وترك السلطنة، وكتب بذلك إلى الأمراء في مصر.

فاجتمع هؤلاء ونادوا بالأمير بيبرس الجاشنكير سلطانا على مصر والشام سنة 708هـ ولقبوه بالملك المظفر.

(1) أي من 658 حتى 923هـ.

(2)

عرفت بالكرك وذكرت موقعها آنفا

ص: 229

وأمضى الناصر في الكرك قريبا من عام، ثم وثب فدخل دمشق وزحف إلى مصر، فقاتل المظفر بيبرس، وعاد إلى عرشه سنة 709 هـ وقتل بيبرس وشرد أنصاره، واستمر في سلطنته الأخيرة هذه اثنتين وثلاثين سنة وخمسة وعشرين يوما إلى أن مات، كان فيها الحاكم الحقيقي، وكانت له فيها سيرة محمودة، واعتنى بالعمران حتى أضحت القاهرة زينة الدنيا، واقتدى الناس به فتباروا في العمران. يقول المقريزي:(وكأنما نودي في الناس ألا يبقى أحد حتى يعمر وذلك أن الناس على دين ملوكهم). وقال الزركلي: (وأحدث من العمران ما ملأ ذكره صفحتين من كتاب المقريزي).

وكان كريما غاية في الكرم، وكان عف اللسان، فلم يضبط عليه أحد أنه أطلق لسانه بكلام فاحش في شدة غضبه ولا انبساطه، كانت عنده غيرة على الدين ورعاية لأحكامه.

قال ابن حجر (1) في (الدرر): كانت وقعة شقحب، وكان للناصر فيها اليد البيضاء من الثبات ووقع النصر للمسلمين.

وقال (2): كان مطاعا مهيبا عارفا بالأمور يعظم أهل العلم والمناصب الشرعية، ولا يقرر فيها إلا من يكون أهلا لها ويتحرى لذلك ويبحث عنه ويبالغ. وأسقط من مملكته مكس الأقوات، ومكس الأقوات هو الضريبة التي تفرض على الأقوات.

توفي بالقاهرة في ذي الحجة من سنة 741هـ رحمه الله رحمة واسعة.

وهكذا انتهت هذه المعركة بهزيمة التتار وانتصار المسلمين، وجدير بالذكر أن نشير إلى أن هذه الحملة الثالثة من حملات التتار كانت هي آخر الحملات الكبرى، التي قام بها هؤلاء المتوحشون، ينقضون على بلاد الإسلام الآمنة المطمئنة. ولقد كان هناك حلف واضح بين التتار والنصارى، كشفنا عن بعض جوانبه في الصفحات السابقة، وقد يكون من مقاصد هؤلاء التتار الاستيلاء على الأماكن التي يقدسها النصارى، ثم إعطاؤهم حق الإشراف عليها.

ولكن المسلمين ردوهم على أعقابهم خاسرين، فما حققوا لهم ما يريدون ثم إن

(1)((الدرر الكامنة)) 4/ 261 - 265.

(2)

المصدر السابق.

ص: 230

المغول دخلوا في دين الله العظيم، وكانت هذه معجزة للإسلام؛ فقد عهد التاريخ البشري أن المغلوب يدخل في دين الغالب، ولكن الإسلام العظيم غلب، وأصبح هؤلاء القوم بعد إسلامهم مددا لقوة الإسلام وتياره المستمر.

وبعد فما أشبه الليلة بالبارحة.

إن من يتأمل - على ضوء أحداث الماضي - أحوال المسلمين اليوم وكيف تتعرض بلادهم إلى الاحتلال والتقسيم، ليجد عبرة عظمى وموعظة بليغة.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (1).

محمد بن لطفي الصباغ

(1) سورة ق الآية 37

ص: 231

صفحة فارغة

ص: 232

عبد الرحمن بن عوف الزهري

حواري النبي صلى الله عليه وسلم

وقائد إحدى سراياه

بقلم اللواء الركن محمود شيت خطاب

اللواء محمود شيت خطاب

من أبرز الكتاب الإسلاميين العسكريين، اهتم بإلقاء الضوء على قادة صدر الإسلام.

له أكثر من خمسين كتابا في أشهر القادة المسلمين والمعارك الفاصلة. .

رأس اللجنة التي وضعت المعجم العسكري العربي في الستينات تحت إشراف الجامعة العربية.

ص: 233

صفحة فارغة

ص: 234

نسبه وأيامه الأولى

هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الله بن الحارث بن زهرة (1) بن كلاب بن مرة (2) بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة (3) القرشي الزهري، يكنى؛ أبا محمد، وكان اسمه في الجاهيلة: عبد عمرو، وقيل: عبد الكعبة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الرحمن (4).

وأمه: الشفاء بنت عوف بن عبد الله بن الحارث بن زهرة (5) بن كلاب بن مرة، وقتل أبوه عوف بالغميصاء، قتله بنو جذيمة (6).

يجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة، وينسب إلى زهرة بن كلاب، فيقال: القرشي الزهري (7)، وهو من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بني زهرة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم (8)، وآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة

(1) نسب قريش (265)، وجمهرة أنساب العرب (130 - 131).

(2)

طبقات ابن سعد (3/ 124)، والرياض النضرة (2/ 276).

(3)

المعارف (235).

(4)

أسد الغابة (3/ 312)، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 300).

(5)

الاستيعاب (2/ 844).

(6)

المعارف (253).

(7)

الرياض النضرة (2/ 376).

(8)

المعارف (166).

ص: 235

هي أم النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من بني زهرة (1).

ولد بعد عام الفيل بعشر سنين (2)، وكان عام الفيل سنة (571 م)(3) وهو عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم (4)، أي أن مولد عبد الرحمن بن عوف كان سنة (581 م)، فهو أصغر سنا من النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين.

أسلم قديما على يدي أبي بكر (5) الصديق رضي الله عنه قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم (6)، وكان أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذي أسلموا على يدي أبي بكر (7) وهم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله (8)، وقد كان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها، وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قريش يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه أولئك الخمسة الذين أصبح لهم في الإسلام شأن أي شأن، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا (9).

(1) سيرة ابن هشام (1/ 169).

(2)

أسد الغابة (3/ 313) والاستيعاب (2/ 822).

(3)

انظر كتابنا: ومضات من نور المصطفى (15).

(4)

سيرة ابن هشام (1/ 171).

(5)

البداية والنهاية (7/ 162)

(6)

طبقات ابن سعد (3/ 124)

(7)

أسد الغابة 3/ 313)

(8)

انظر التفاصيل في: سيرة ابن هشام (1/ 268).

(9)

سيرة ابن هشام (1/ 268).

ص: 236

ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم:«لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق؛ حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» ، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام وكان من أول من خرج من المسلمين من بني زهرة عبد الرحمن بن عوف (1)، وكان أحد العشرة الأوائل الذين هاجروا إلى أرض الحبشة من المسلمين.

وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيا، فكان عبد الرحمن أحد العائدين من أرض الحبشة إلى مكة (2).

وقد هاجر عبد الرحمن إلى أرض الحبشة من مكة الهجرتين جميعا (3)، وقال المسور بن مخرمة: (بينما أنا أسير في ركب بين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن قدامى عليه خميصة سوداء، فناداني عثمان: يا مسور! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! فقال: من زعم أنه خير من خالك في الهجرة الأولى وفي الهجرة الثانية، فقد

(1) سيرة ابن هشام (1/ 343 - 344)، وانظر الدرر (51)، وجوامع السيرة (56).

(2)

سيرة ابن هشام (1/ 388 - 389)، وانظر الدرر (61)، وجوامع السيرة (65).

(3)

طبقات ابن سعد (3/ 125)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 1).

ص: 237

كذب) (1) ويقصد بالهجرة الأولى الهجرة إلى أرض الحبشة، وبالهجرة الآخرة الهجرة إلى المدينة المنورة.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين أصحابه المهاجرين قبل الهجرة على الحق والمواساة وذلك بمكة، فآخى بين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فقال عثمان:(إن لي حائطين فاختر أيهما شئت) فقال عبد الرحمن: (بارك الله لك في حائطك، ما لهذا أسلمت، دلني على السوق)، فدله عثمان، فكان يشتري السمنة والأقيطة (2) والإهاب (3)، فجمع فتزوج.

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم الأنصار، وقال «إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» ، فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة (4).

وهاجر عبد الرحمن من مكة إلى المدينة، فنزل في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع الخزرجي (5).

وبعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار بعد بنائه المسجد، وقيل: إن المؤاخاة كانت والمسجد يبنى، على المواساة والحق، فكانوا

(1) طبقات ابن سعد (ص 3/ 125).

(2)

الأقيطة تصغير الأقط: وهو اللبن المحمض يجمد حتى يستحجر ويطبخ، أو يطبخ به.

(3)

الإهاب: الجلد غير المدبوغ.

(4)

سيرة ابن هشام (2/ 76).

(5)

سيرة ابن هشام (2/ 91)، وجوامع السيرة (89)، والدرر (84).

ص: 238

يتوارثون بذلك دون القرابات، حتى نزلت:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1)، فنسخت هذه الآية ما فرضته هذه المؤاخاة من التوارث، أما ما وراءها من الحق والمواساة، فقد ظلا قائمين، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخي بني الحارث بن الخزرج (2).

ومن الواضح أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين عثمان بن عفان في مكة، وبينه وبين سعد بن الربيع الخزرجي في المدينة، ولا تناقض بين المؤاخاة المكية والمؤاخاة المدنية، كما توهم قسم من المؤرخين وكتاب السير. فالأمر واضح لا لبس فيه.

لقد كان عبد الرحمن من المهاجرين الأولين إلى الحبشة وإلى المدينة (3).

ولما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع الخزرجي الأنصاري، قال سعد:(أخي! أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك). فقال عبد الرحمن: (بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق). فدلوه على السوق، فاشترى وباع فربح، فجاء بشيء من أقط (4) وسمن ثم لبث ما شاء الله أن يلبث، فجاء وعليه ردع (5) من زعفران، فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن أثر الطيب فيه، قال:«يارسول الله! تزوجت امرأة). قال: (فما أصدقتها؟) قال: (وزن نواة من ذهب). قال: (أولم ولو بشاة (6)» ). قال عبد الرحمن: (فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا رجوت أن أصيب تحته ذهبا أو فضة)(7).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خط الدور بالمدينة، فخط لبني زهرة في ناحية من مؤخر المسجد، فكان لعبد الرحمن الحش، والحش نخل صغار لا يسقى (8) كما تزوج امرأة من الأنصار على ثلاثين ألف درهم (9).

(1) سورة الأنفال الآية 75

(2)

سيرة ابن هشام (2/ 125)، وجوامع السيرة (96)، والدرر (97).

(3)

أسد الغابة (3/ 313).

(4)

أقط: لبن محمض يجمد حتى يستحجر ويطبخ، أو يطبخ به.

(5)

ردع الزعفران: أثر الزعفران، يقال: في الثوب ردع من هذا: شيء يسير في مواضع شتى.

(6)

صحيح البخاري البيوع (2049)، صحيح مسلم النكاح (1427)، سنن الترمذي البر والصلة (1933)، سنن النسائي النكاح (3373)، سنن أبو داود النكاح (2109)، سنن ابن ماجه النكاح (1907)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 205)، موطأ مالك النكاح (1157)، سنن الدارمي النكاح (2204).

(7)

طبقات ابن سعد (3/ 126)، وانظر أسد الغابة (3/ 314)، والرياض النضرة (2/ 384).

(8)

طبقات ابن سعد (3/ 126).

(9)

طبقات ابن سعد (3/ 126).

ص: 239

والتسابق في الخيرات، وبه تقام الأسرة التي جعلها الإسلام لبنة المجتمع، ومنه النسل المبارك الذي تباهي به أمة محمد، ويباهي به ر سول الله صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة. .

«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج (1)» .

وعن أنس بن مالك قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (2)» .

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة (3)» .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حقا على الله أن يعينهم: المجاهد في سبيل الله. . والناكح يريد أن يستعف. . والمكاتب الذي يريد الأداء (4)» .

«من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي (5)» . . . .

وعن ابن عباس رضي الله عنه " التمسوا الرزق بالنكاح "(6).

7 -

وأما أنه سبيل المتقين: فذاك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (7).

(1) البخاري الجامع الصحيح 6/ 117

(2)

البخاري الجامع الصحيح 6/ 117

(3)

ابن ماجه السنن

(4)

صحيح على شرط مسلم - المستدرك للحاكم 2/ 161

(5)

منتخب كنز العمال

(6)

منتخب كنز العمال

(7)

سورة النساء الآية 1

ص: 209