الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقترض ونفعه ليس مقصوده المعاوضة والربح، ولهذا شبه بالعارية حتى سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم منيحة ورق، فكأنه أعاره الدراهم ثم استرجعها منه لكن لم يمكن استرجاع العين فاسترجع المثل، فهو بمنزلة من تبرع لغيره بمنفعة ماله ثم استعاد العين (1)، فعلى هذا يكون القرض بالفائدة الذي تنتهجه البنوك في العصر الحاضر هو الربا الصريح الذي حرمه الله ورسوله وترتب عليه الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة، حيث تقوم تلك البنوك بعقد صفقات القروض بينها وبين ذوي الحاجات وأرباب التجارات وأصحاب المصانع والحرف المختلفة فتدفع لهؤلاء مبالغ من المال نظير فائدة محددة بنسبة مئوية وتزداد هذه النسبة في حالة التأخر عن السداد في الموعد المحدد فيجتمع بذلك ربا الفضل وربا النسيئة (2)، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3).
(1) مجموع الفتاوى الكبرى ص 146 - 147 ج 3.
(2)
بمعناه من المعاملات المصرفية وموقف الإسلام منها للشيخ سعود بن دريب ص51 - 52.
(3)
سورة النور الآية 63
مقارنة بين ربا النسيئة وربا الفضل:
1 -
ربا النسيئة ربا جلي وربا الفضل ربا خفي، وربا النسيئة هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فكان الدائن يؤخر الدين عن المدين ويزيده عليه، وكلما أخر زاد الدين حتى تصير المائة آلافا مؤلفة.
2 -
ربا النسيئة حرم قصدا لما فيه من الضرر العظيم، وهو إثقال كاهل المدين من غير فائدة تحصل له، وربا الفضل حرم لأنه وسيلة لربا النسيئة كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرما (1)» ، والرما هو الربا فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة، وذلك إذا باعوا درهما بدرهمين، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت بين النوعين إما في الجودة أو غيرها، فإنهم يتدرجون من الربح المعجل إلى الربح المؤخر وهو ربا النسيئة (2).
(1) إعلام الموقعين ص136 ج 2.
(2)
إعلام الموقعين ص136ج 2.
3 -
ربا النسيئة مجمع على تحريمه إجماعا قطعيا، وربا الفضل وقع فيه خلاف ضعيف كما سبق.
4 -
ربا النسيئة لم يبح منه شيء، وربا الفضل أبيح منه ما دعت الحاجة إليه، كذا يقول ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (1)، قال: لأن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد، وذكر من ذلك مسألتين:
المسألة الأولى: العرايا فإنها مستثناة من منع تحريم الرطب بالتمر الذي جاء النهي عنه في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال لمن حوله: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك (2)» ، فقد خصص من هذا الحديث بيع العرايا - وهي جمع عرية - فعيلة بمعنى مفعولة. وهي في اللغة: كل شيء أفرد من جملة، قال أبو عبيد: من عراه يعروه إذا قصده، ويحتمل أن يكون فعيلة بمعنى فاعلة من عري يعرى إذا خلع ثيابه، كأنها عريت من جملة التحريم - أي خرجت - وقال ابن عقيل هي في الشرع: بيع رطب في رءوس نخله بتمر كيلا - وهذا على الصحيح من مذهب الحنابلة: أن العرية مختصة بالرطب والتمر (3) - والدليل على تخصيص العرايا من حديث النهي عن بيع الرطب بالتمر هو حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة - بيع الثمر بالتمر - إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم (4)» ، وعن زيد بن ثابت:«أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا (5)» ، رواه أحمد والبخاري.
وفي لفظ: «رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا (6)» - متفق عليه (7) - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما العرايا فإن النبي صلى الله عليه وسلم استثناها مما نهى عنه من المزابنة أن يشتري الرطب في الشجر بخرصه من التمر (8)، ويشترط لإباحة
(1) إعلام الموقعين ص140 ج 2.
(2)
رواه الخمسة وصححه الترمذي / نيل الأوطار 5/ 211.
(3)
المطلع على أبواب المقنع ص241.
(4)
رواه أحمد والبخاري والترمذي نيل الأوطار 5/ 212.
(5)
صحيح البخاري البيوع (2188)، صحيح مسلم البيوع (1539)، سنن الترمذي البيوع (1300)، سنن النسائي البيوع (4539)، سنن أبو داود البيوع (3362)، سنن ابن ماجه التجارات (2269)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 182)، موطأ مالك البيوع (1307)، سنن الدارمي البيوع (2558).
(6)
صحيح البخاري البيوع (2191)، صحيح مسلم البيوع (1540)، سنن الترمذي البيوع (1303)، سنن النسائي البيوع (4543)، سنن أبو داود البيوع (3363).
(7)
نيل الأوطار 5/ 212.
(8)
مجموع الفتاوى 29/ 427.
بيع العرايا خمسة شروط هي:
1 -
أن يبيعها خرصا بمثل ما تؤول إليه إذا جفت كيلا لا جزافا؛ لأن الأصل اعتبار الكيل من الجانبين فسقط في أحدهما وأقيم الخرص مقامه للحاجة، فيبقى الآخر على مقتضى الأصل.
2 -
أن يكون مقدار العرية فيما دون خمسة أوسق لقول أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها فيما دون خمسة أو خمسة أوسق (1)» .
شك داود بن الحصين (2) أحد رواته فلا يجوز في الخمسة لوقوع الشك فيها.
والوسق: ستون صاعا بالصاع النبوي.
3 -
أن يكون المشتري محتاجا إلى الرطب لما ذكره الشافعي في اختلاف الحديث عن محمود بن لبيد قال: قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ قال: فلان وأصحابه شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يحضر وليس عندهم ذهب ولا فضة يشترون بها منه، وعندهم فضل تمر من قوت سنتهم فرخص لهم أن يشتروا العرايا بخرصها من التمر يأكلونها رطبا، قال الشافعي: وحديث سفيان يدل لهذا فإن قوله: (يأكلونها رطبا) يشعر بأن مشتري العرية يشتريها ليأكلها، وأنه ليس له رطب يأكله غيرها (3).
4 -
أن يكون مشتري العرية لا ثمن معه كما في حديث محمود بن لبيد المذكور.
5 -
حصول التقابض (4) بين البائع والمشتري، فالمشتري يقبض الرطب على النخلة بالتخلية، والبائع يقبض التمر بكيله وتسلمه من المشتري.
المسألة الثانية: مسألة بيع الحلي المصاغ بذهب زائد على وزنه، قال الشيخ تقي الدين في الاختيارات الفقهية (5): [ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير
(1) متفق عليه.
(2)
فتح الباري 4/ 388.
(3)
فتح الباري 4/ 392 - 393.
(4)
انظر هذه الشروط في حاشية العنقري على شرح الزاد 2/ 113، وكشاف القناع 3/ 211.
(5)
ص127.
اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة سواء كان البيع حالا أو مؤجلا ما لم يقصد كونها ثمنا]، ومعنى قوله:[ما لم يقصد كونها ثمنا] أي لم يقصد الثمنية في الحلي وإنما قصد كونه حليا يلبس كالثياب.
وقد أفاض العلامة ابن القيم في هذا الموضوع حيث قال (1): " وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها فإنه سفه وإضاعة للصنعة "، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه، فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها ألبتة بل يبيعها بجنس آخر وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع، وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع، فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس.
والنصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، إلى أن قال:" يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع وإن كانت من غير جنسها، فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي) إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل "، ومضى العلامة ابن القيم يبرر هذا الرأي حتى استغرق قرابة ست صفحات.
هذا حاصل رأي الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم في بيع الحلي من الذهب أو الفضة بجنسه مع زيادة -والمذهب أن ذلك لا يجوز - قال في الإقناع وشرحه (2): فلا
(1) إعلام الموقعين 2/ 140 - 141.
(2)
كشاف القناع عن متن الإقناع 3/ 206.