الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبيده (1) في أوقات الجد والعمل والعبادة، يعمل كما يعملون في أكثر جدية منهم، ويتعبد كما يتعبدون في أكثر ورعا وإيمانا منهم، ولكنه كان في أوقات الراحة وبين أهله وفي المناسبات يلبس البرد أو الحلة تساوي خمسمائة درهم أو أربعمائة درهم (2)، وهو يومئذ مبلغ ضخم، فقد كانت الشاة بنصف درهم.
وقد ارتحل عن هذه الحياة قبل الفتنة، فغبطه على رحيله علي بن أبي طالب الذي قال يوم مات عبد الرحمن:(اذهب ابن عوف! فقد أدركت صفوها، وسبقت رنقها)(3)، كما غبطه عمرو بن العاص الذي سمع يوم مات عبد الرحمن يقول:(أذهب عنك ابن عوف، فقد ذهبت ببطنتك ما تغضغض منها من شيء)(4)، فعصمه الله من الفتنة ومن معاناتها.
لقد كان أمينا نزيها، ما له ليس ماله، بل يبذل للفقراء والمساكين ما وسعه البذل، عالما في أمور الدين عالما في أمور الدنيا. ورعا أشد الورع، تقيا أعظم التقوى، متواضعا غاية التواضع، عاقلا متزنا حصيفا، عفيفا يعتمد على عمله، ويده دائما هي العليا، ناسكا في الليل بزازا (5) في النهار، يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، ويعمل لأخراه كأنه يموت غدا.
إنه مثال للمسلم الحق قي مزاياه، ولمزايا الإسلام في تطبيقها العملي: دنيا وآخرة، مادة وروح، عمل ومسجد، وليس دنيا وحدها ولا آخرة وحدها، ولا مادة بلا روح، ولا روحا بلا مادة، ولا عملا بلا مسجد، ولا مسجدا بلا عمل، وتلك هي مزايا الإسلام الخالدة، التي جعلته يصلح لكل زمان ومكان.
(1) الرياض النضرة (2/ 383)
(2)
طبقات ابن سعد (3/ 131)
(3)
الرنق: تراب في الماء من القذى ونحوه، والماء الكدر.
(4)
طبقات ابن سعد (3/ 135 - 136)
(5)
المعارف (575)
القائد:
أثبت عبد الرحمن بن عوف كفاية قتالية متميزة في كل غزوة خاضها تحت لواء
الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام، فأسر في بعض تلك الغزوات أسرى من المشركين، وقتل منهم قتلى، وباشر القتال في الصفوف الأمامية، وثبت مع عدد قليل من المسلمين ثبتوا إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم واستقتل في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصيب بأكثر من عشرين جرحا، أحدها في ثنيتيه فهتم، وفي رجله فعرج كل حياته، فكان أعرج بعد إصابته برجله يوم أحد شاهدا على ثباته العنيد ووساما على شجاعته وبطولته.
لقد أبلى بلاء حسنا في كل غزوة خاضها، وبخاصة غزوة أحد، وأبدى شجاعة نادرة في تلك الغزوة وفي غيرها من الغزوات، حتى أصبح معدودا من شجعان المسلمين المعدودين الذين يشار إليهم بالبنان، ويرشحون لقيادة السرايا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقيادة الجيوش بعد انتقاله عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى.
ولم يكن مجاهدا من الطراز الأول بنفسه فحسب، بل كان مجاهدا من الطراز الأول بماله أيضا، وقد ذكرنا جهاده بالمال نقدا وإبلا وخيولا، حتى نزلت فيه وفي عثمان بن عفان آية من آيات الذكر الحكيم كما ذكرنا ذلك في جهاده بالمال أيضا.
لقد كان ذكيا ألمعي الذكاء، آلفا مألوفا، يحب رجاله ويحبونه، ويثق بهم ويثقون به، ذا شخصية قوية متزنة، ملتزما بتعاليم الدين الحنيف في الحرب العادلة، فلا يغدر ولا يغل ولا ينقض عهدا ولا يقتل وليدا ولا امرأة ولا يعتدي على أحد، فكان يجاهد لإعلاء كلمة الله ولتكون كلمة الله هي العليا ولحماية الإسلام والمسلمين والدفاع عنهم وحماية حرية نشر العقيدة.
وكان ذا إرادة قوية ثابتة، يتحمل المسئولية ولا يلقيها على عواتق الآخرين أو يتهرب منها، له نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والهزيمة، عارفا بنفسيات رجاله وطاقاتهم وقدراتهم وكفاياتهم، له ماض ناصع مجيد.
وكان عارفا بمبادئ الحرب، مطبقا لها: يختار مقصده اختيارا دقيقا، وكان قائدا تعرضيا، يطبق مبدأ المباغتة على خصمه، ويحرمه من تطبيق هذا المبدأ على رجاله، يحشد