الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما النوع الثالث -وهو ما كان الأمر الأول فيه قطعيا والثاني ظنيا- فهو كقياس قضاء القاضي في حالة الجوع والعطش على قضائه - وهو غضبان، ليثبت للأول ما يثبت للثاني من عدم تمكينه من القضاء.
وقد أجمع العلماء على أن علة منع القاضي من القضاء -حالة الغضب- هو ذلك التشويش الذي يحصل نتيجة له، ومستند هذا الإجماع الحديث الصحيح «لا يقضي القاضي وهو غضبان (1)» .
وأما النوع الرابع -وهو ما كان الأمر الأول فيه ظنيا، والثاني قطعيا- فهو كقياس الكمثرى - مثلا على الشعير في حرمة التفاضل بعلة الطعم
(1) صحيح البخاري الأحكام (7158)، صحيح مسلم الأقضية (1717)، سنن الترمذي الأحكام (1334)، سنن النسائي آداب القضاة (5406)، سنن أبو داود الأقضية (3589)، سنن ابن ماجه الأحكام (2316)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 46).
مذاهب العلماء فيه
اختلف العلماء في القياس الشرعي وحكم العقل في التعبد به على مذاهب:
1 -
فذهب الجمهور - من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وجل الفقهاء وأكثر المتكلمين: إلى أن التعبد بالقياس جائز عقلا.
2 -
وذهب أبو الحسين البصري -من المعتزلة - والقفال الشاشي -من الشافعية - إلى أن التعبد به واجب عقلا.
3 -
وذهب الشيعة الإمامية والنظام وبعض الخوارج، وبعض معتزلة بغداد إلى أن العقل يحيل التعبد به.
4 -
ونقل الشيرازي عن أبي بكر الدقاق القول بوجوب العمل به شرعا وعقلا.
ومن حيث الوقوع:
انقسم الفريق الأول -القائلون بجواز التعبد به- إلى فريقين من حيث الوقوع:
5 -
ففريق قال بوقوعه.
6 -
وفريق قالوا: لم يقع، ولم يوجد -في السمع- ما يدل على التعبد به.
أما الفرق الأول -القائلون بالوقوع- فقد اتفقوا على أن السمع قد دل عليه، واختلفوا في أمور ثلاثة.
7 -
أولها: هل يدل العقل عليه؟ -أيضا- وقد تقدم في هذا مذهبان:
مذهب الجمهور القائلين بالجواز العقلي.
ومذهب البصري والشاشي القائلين بوجوب ذلك عقلا.
8 -
وثانيها في صفة دلالة الأدلة السمعية عليه.
9 -
فذهب الجماهير -من القائلين به-: إلى أن دلالة الأدلة السمعية عليه قطعية.
10 -
وزعم أبو الحسين البصري: أن دلالة الدلائل السمعية. عليه ظنية. ومن حيث العمل به انقسموا إلى فريقين:
11 -
فجماهير العلماء ذهبوا إلى العمل بسائر الأقيسة.
12 -
وذهب الفاشاني والنهرواني إلى العمل بالقياس في صورتين:
إحداهما: إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ أو بإيمائه.
والثانية: ما إذا كان قياسا في معنى الأصل: كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفف.
وانقسم الفريق الثالث القائلون بامتناع التعبد به عقلا - إلى فريقين:
13 -
أحدهما: النظام، حيث خصص ذلك المنع بشرعنا، قال: لأن مبنى شرعنا على الجمع بين المختلفات، والفرق بين المتماثلات، وذلك يمنع من القياس.
14 -
والثاني: بقية القائلين بامتناع التعبد به عقلا، وقد قالوا: بامتناع ذلك في جميع الشرائع ثم انقسموا إلى فرق ثلاث - من حيث دلالته:
15 -
الأولى: قالت بامتناع أن يكون القياس طريقا إلى العلم أو الظن.
16 -
الثانية: قالت بأنه يفيد الظن، ولكن لا تجوز متابعته لتردده بين الخطأ والصواب.
17 -
والثالثة: قالت بإفادته الظن - وجواز متابعة الظن، ولكن حيث يتعذر الحصول على نص فقط، كما في قيم المتلفات وأروش الجنايات والفتوى والشهادات، لأنه لا نهاية لتلك الصور: فكان التنصيص على حكم كل صورة منها متعذرا.
أما في غيرها - فإنه يمكن التنصيص عليها: فكان الاكتفاء بالقياس اقتصارا على أدنى البابين مع القدرة على أعلاهما. وهو غير جائز.
أما الأدلة ومناقشاتها فلا نود الإطالة بالتعرض إليها فهي طويلة (1) ويمكن الرجوع إليها في مواضعها من الكتب الأصولية التي ذكرناها.
فالذي يهمنا الآن - هو معرفة حقيقة موقف الحنابلة من حجية القياس.
قال المجد ابن تيمية: (اتباع القياس وجب بالشرع عند القائلين به، وهل يجب بالعقل؟) قال أبو الخطاب: (ثبت بالعقل أيضا وبالنقل) وفي موضع آخر قال: (القياس الشرعي كالقول في القياس العقلي، وحصول الاعتقاد به لا يتوقف على ما يدل من جهة الشرع على صحة القياس وأما وجوب النظر فيه، أو الاعتقاد به فبالشرع).
ثم نقل عن القاضي أبي يعلى ما قاله في كتاب (القولين): القياس الشرعي قد نص أحمد في مواضع على أنه حجة تعلق الأحكام عليه، فقال في رواية محمد بن الحكم:(لايستغني أحد عن القياس، وعلى الإمام والحاكم -يرد عليه الأمر- أن يجمع له الناس ويقيس) وكذلك نقل الحسين بن حسان: (القياس هو: أن يقيس على أصل إذا كان مثله في كل أحواله). وكذلك نقل أحمد بن القاسم: (لا يجوز بيع الحديد
(1) راجعها في نحو المحصول للفخر الرازي: (2 / ق2/ 31 - 163).
والرصاص متفاضلا قياسا على الذهب والفضة) (1).
كما نقل أبو الخطاب في التمهيد أقوال الإمام أحمد هذه، وأضاف أن الإمام قد ذكر القياس في كثير من مسائله (2).
وهذه النقول وكثير غيرها نجدها في كتب أصولي الحنابلة تؤكد احتجاج الإمام أحمد رحمه الله بالقياس شأنه في ذلك شأن جمهور أهل السنة فمن أين جاءت شبهة عدم الاحتجاج بالقياس التي نسبها البعض إلى الإمام أحمد؟.
لقد نقل أئمة الحنابلة عن الإمام أحمد قوله: (يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين المجمل والقياس)(3) وذلك في رواية الميموني كما نقل أبو الحارث عنه - وقد ذكر أهل الرأي وردهم للحديث، فقال:(ما تصنع بالرأي والقياس وفي الأثر ما يغنيك عنه)(4) هاتان العبارتان هما أصل شبهة أن الإمام أحمد لا يحتج بالقياس.
ونحن نرى أن هذين القولين لا يثيران خيالا فضلا عن شبهة أو ظن بأن الإمام أحمد لا يحتج بالقياس، وذلك لأن عبارته الأولى ظاهرة بأنها لا تعدو أن تكون نصيحة أوتوجيها منه رحمه الله لمن يتصدى للكلام في الفقه وإفتاء الناس أن يتجنب الكلام المجمل والكلام الذي يمكن القياس عليه عند المستفتي العامي لئلا يندفع العامة في هذا السبيل فيخرجون من القياس إلى الحكم بالتشهي لأدنى مشابهة.
وأما الثاني فظاهر في أنه في القياس الذي يكون في مسائل فيها سنة وأثر تغني عنه.
قال أبو الخطاب: (. . . وقد تأوله شيخنا على أن المراد به استعمال القياس في معارضة السنة والظاهر خلافه)(5).
وقال المجد (. . . وهذا لا يدل على أنه ليس بحجة، وإنما يدل على أنه لا يجوز استعماله مع النص، ولا يعارض الأخبار إذا كانت خاصة أو منصوصة)(6).
(1) راجع المسودة: (369، 371 - 372).
(2)
انظر التمهيد: (2/ 150 - آ) مخطوطة الظاهرية.
(3)
انظر المسودة: (372)، والتمهيد:(2/ 150 - آ).
(4)
المسودة الموضع السابق
(5)
انظر التمهيد الموضع السابق
(6)
المسودة: (373).