الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حافظ الحكمي. . نابغة الجنوب
1342 هـ- 1377 هـ
الدكتور: محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد:
فإن الإنسان إذا غرس شجرة، يبذل جهدا، ويتابع العمل ليرى أثر هذا الغرس ويتلذذ بحصيلة ذلك الجهد، والشيخ عبد الله القرعاوي الذي ساقه الله لمنطقة الجنوب: جازان وما حولها عام 1358 هـ، داعية ومعلما، كانت من ثمار غرسه رجال حملوا العلم بعد تعطش، وعرفوا فضله بعد أن ظهر النفع على من أخذوه، وكان الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، من أينع الثمار لغرس شيخه القرعاوي.
فقد أعجب الشيخ بالتلميذ قبل أن يراه، لما وهبه الله من ذكاء مفرط، ولما برز عليه من نبوغ مبكر في شتى العلوم الشرعية، مع قصر مدة الطلب. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولذا كان الحديث دائما عن الشيخ عبد الله القرعاوي، يرتبط بالتلميذ حافظ الحكمي، وكان استعراض سيرة التلميذ النابغة حافظ، يمتزج بعطر الثناء على الشيخ عبد الله.
فسيرة كل منهما- رحمهما الله- تلتزم التعريج على الآخر، لتلازمهما، ولأن التلميذ وفي فترة زمنية قصيرة، وشارك الأستاذ المهمة، وجلس معه للتدريس، فكان عضده الأيمن، ولكل منهما عرف الناس مكانته التي هو لها أهل، كما حفظ التلاميذ لهما هذه المنزلة: دعاء وثناء، وعرفانا بالدور الذي قاما به.
وكان من أبرز هؤلاء التلاميذ، الشيخ زيد بن محمد مدخلي، الذي حرص على التنويه بمكانتهما، ونشر آثار الشيخ حافظ العلمية، مع توضيح ما قد يكون خفي على الناس منها، وكذا ما اهتم به الشيخ علي بن قاسم الفيفي. . وغيرهما.
فمن هو الشيخ حافظ؟ وما هي آثاره العلمية؟. . هذا ما سوف نحاول الإلمام به هنا، حيث أولي الشيخ حافظا وشيخه القرعاوي، هذان الشيخان وغيرهما دراسة ومتابعة وتمحيصا.
مصادر سيرته:
من أعلا الله قدره، ومنحه علما وفهما، وأجهد نفسه في أداء حق هذا العلم، فإنه سبحانه يجعل له قبولا عند الناس، واهتماما بتتبع سيرته. وقد جرت العادة بأن أول من يهتم بالعالم طلابه الملتصقون به، وأبناؤه الذين تتلمذوا عليه، سواء جلسوا معه في حياته، أو عرفوه من مؤلفاته أو نقلا عن تلاميذه بعد وفاته.
فهؤلاء هم الذين يصلون ما انقطع من حياة العلم بعد موته، ويعترفون بمكانته ونشر علمه بعد وفاته؛ لأن للعلماء دورا
يجب أن يقدر، وأدبا يجب أن يؤدى، وعرفانا يجب أن ينشر، حيث يروى عن بعض السلف قوله: من علمني حرفا كنت له عبدا.
وما ذلك إلا أن بصيرة العالم العامل، تفتح لمن يأخذ عنه أبوابا، وتزيل كابوس الجهل، لأن النيات إذا صدقت، والأعمال إذا خلصت، فإن الأمة تسعد في دنياها، وتفلح في أخراها، وما ذلك إلا لأن العلماء هم ورئة الأنبياء، إذ لم يورثوا غير العلم، فمن أخذه أخذه بحقه، وحق العلم التبليغ والنشر.
وإذا كان رسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر في الحديث الصحيح: «أن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1)» ، فإن الله قد هيأ للشيخ حافظ اثنتين من هذه الثلاث، وقد تكمل الثالثة، وهي الصدقة الجارية، ببذل الجهد، من جراء توفر الخصلتين الباقيتين، إذ رزقه الله ولدا من صلبه، وولدا أخذ عنه العلم، فأدى حق الأستاذية؛ كما روي عن مالك بن دينار:(إن الله عوضني عن الولد من صلبي، بأولادي الذين أخذوا عني العلم)، فكان من ذخيرة الشيخ حافظ العلمية، ما يرجى له به النفع الدائم.
1 -
فالدكتور أحمد بن الشيخ حافظ، هو أحرص الناس على التعريف بوالده، منذ كان طالبا، إذ كتب عن حياته في " مجلة العرب " ج 3 س 7 رمضان عام 1392 هـ، مستدركا
(1) صحيح مسلم الوصية (1631)، سنن الترمذي الأحكام (1376)، سنن النسائي الوصايا (3651)، سنن أبو داود الوصايا (2880)، سنن ابن ماجه المقدمة (242)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 372)، سنن الدارمي المقدمة (559).
على د. جواد الطاهر في مقالاته عن معجم المطبوعات السعودية، وكان تعقيبه في خمس صفحات (1).
ثم ترجم لأبيه ترجمة وافية في كتابه- رحمه الله " معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد "، وهذه الطبعة صدرت عام 1404 هـ، وتقع الترجمة في 18 صفحة، ختمت بتصوير صفحات من مخطوط معارج القبول، بخط يد المؤلف الشيخ حافظ.
كما كتب في مجلة اليمامة في عام 1393هـ عن سيرة والده، وعن بعض ما جرى في حياته بالأعداد 241، 242، 243.
2 -
ولعل ما جاء عند عمر رضا كحالة في: " المستدرك على معجم المؤلفين " في الطبعة الأولى عام 1406هـ الموافق لعام 1985 م في باب الحاء، من ترجمة لحياة الشيخ حافظ الحكمي، مختصرة، وتعريف ببعض مؤلفاته، مأخوذة من كتابات ابنه أحمد عنه (2) 3 - ثم ما جاء لدى الشيخ زيد بن محمد مدخلي، وهو من أخص تلاميذ الشيخ حافظ، في كتابه:" الأفنان الندية شرح السبل السوية "، من تعريف بصاحب المنظومة في الجزء الأول (3)، يعتبر عرفانا من الشيخ زيد بفضل الشيخ
(1) من ص 229 إلى ص 233.
(2)
انظر: المستدرك ص 183، 184.
(3)
انظر: " الأفنان الندية " 1/ 5 - 26.
حافظ، وإعجابا بمكانته العلمية، حيث تتبع آثاره العلمية، واهتم به شخصيا، ورصد ما عرف عن سيرة حياته.
ثم بعد ما طلب النادي الأدبي بجازان، من الشيخ زيد مدخلي محاضرة اختار الشيخ حافظ الحكمي، موضوعا لمحاضرته، فقرن السيرة الذاتية، بالمعارف العلمية، والمكانة الأدبية، مما دفعه إلى تطوير تلك المحاضرة في كتاب عن الشيخ حافظ الحكمي، صدر في عام 1413 هـ.
4 -
والشيخ علي بن قاسم الفيفي عندما ألف عن الشيخ عبد الله القرعاوي ومدارسه، ربط ذلك بحديث عن الشيخ حافظ وسيرته الذاتية، وبجزء عن جهوده العلمية، وبعض أشعاره، ضمن كتابه:" السمط الحاوي ".
5 -
ومثل هذا الشيخ موسى بن حاسر السهلي، الذي يعتبر من أخص تلاميذ الشيخ القرعاوي، وأقرب الملتصقين بالشيخ حافظ، لما ألف كتابه عن شيخه عبد الله القرعاوي، ودعوته في جنوب المملكة، الذي صدر عام 1413 هـ، لم ينس التلميذ النجيب حافظ الحكمي، بل خصه بأوسع ترجمة، جاءت في الكتاب، بعد الشيخ القرعاوي.
6 -
وما دونه الشيخ عمر جردي في مخطوطته (1) عن شيخه القرعاوي، لم ينسه التعريج على أنبه تلاميذه وأخصهم وهو حافظ الحكمي، فخصه بجانب مهم عن سيرته الذاتية
(1) طبعت في كتاب باسم " النهضة الإصلاحية في جنوب المملكة العربية السعودية ".
ومكانته العلمية.
7 -
هذه المصادر علاوة على ما لدى طلبة العلم من تلك الناحية، دفعت الشيخ أحمد بن علي علوش مدخلي، إلى الاهتمام بهذا العالم، الذي أصبح- عند عارفيه- ملء السمع والبصر، لا في منطقة جازان، وعند أبناء القرى والقبائل، فحسب بل شهرته ونبوغه تجاوزت إلى أطراف المملكة، وتلمست الجامعات، من يجعله موضوعا علميا، فأقدم أحمد المذكور، على جعل كتاب حافظ:"أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة المنصورة "، رسالة ماجستير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وقد نوقشت هذه الرسالة في مدينة الرياض مساء الأربعاء 10/ 4 / 1412 هـ (1). وقد ترجم لحافظ في مقدمة طويلة خرجت في كتاب، عن مكتبة الرشد بالرياض باسم: حافظ الحكمي حياته ومنهجه في تقرير العقيدة ونشرها في منطقة الجنوب، خصص للسيرة الذاتية عن الشيخ حافظ ما يقرب من 57 صفحة، من هذا الكتاب، التي تبلغ صفحاته أكثر من 500 صفحة من القطع المتوسط مع الفهارس.
ولذا فإنني أعتبر كل من كتب أو حاضر عن الشيخ الحكمي، مدين لهذه المصادر، باعتبارها هي أول المصادر التي نشرت المعلومات عن الشيخ حافظ، وعرفت بمكانته وعلمه.
(1) انظر " الشيخ حافظ "، تأليف زيد مدخلي ص 45.
وهذا الاهتمام بالشيخ الحكمي ما جاء إلا متأخرا، بعد ما حرص ابنه الدكتور أحمد جاهدا في لفت النظر لمكانته، والتعريف بسيرته، فكان له فضل السبق، بإيقاد الجذوة، وإدمانه في قرع الأبواب، فأيقظ همما ساهمت ونشرت ما طوي في الصدور، وأخرجت ما حواه القمطر، فكان هذا حافزا في نشر ما كاد ينطوي عن سيرة هذا العالم الفذ، الذي يعتبر بحق نابغة الجنوب، بما عرف عنه من ذكاء فطري، مع قدرة على الحفظ والاستيعاب نادرة وعجيبة، إذ قلما يجود الزمن بمثل ما أفاء الله على حافظ، مع أن النوابغ في كل جيل وجهة قليل عددهم، ونادرة عملتهم، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.
مولده ونشأته:
اتفقت المصادر على أن الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي ولد في يوم 24 رمضان عام 1342 هـ الموافق لعام 1924 م في قرية السلام التابعة لمدينة المضايا، الواقعة في الجنوب الشرقي من مدينة جازان، حاضرة المنطقة على الساحل، قريبة منها، حيث تقيم قبيلته التي ينتسب إليها " الحكامية " بين السلام والمضايا حوالي خمسة كيلو مترات، على طريق جازان سامطة، أما المضايا فتبعد عن جازان قرابة عشرين كيلو مترا.
والحكمي نسبة إلى الحكم بن سعد العشيرة، بطن من مذحج من كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
انتقل مع والده أحمد إلى قرية الجاضع التابعة لمدينة سامطة
في نفس المنطقة، وهو ما يزال صغيرا لأن أكثر مصالح والده من أرض زراعية، ومواش كانت هناك، وإن بقيت أسرته الصغيرة تنتقل بين قريتي السلام والمضايا، لظروفهما المعيشية (1) وأسرة الحكمي أسرة عريقة بالمخلاف السليماني، اشتهر عدد منهم بالعلم والصلاح، ففي القرن السابع الهجري، بنى جدهم عريشا بمدينة أبي عريش للتعليم، ونسبت المدينة إليه (2) نشأ الشيخ حافظ مبارك العمر، إذ أنه لما شب عن الطوق، بدأ يتطلع إلى حياة العز في الدارين: حياة القيادة في الخير والبر والصلاح، فحقق الله له ما تطلع إليه، وعزم على نيله، وأعطاه ربه ما نواه وتمناه، فبدأ كما يقول الشيخ زيد مدخلي، في سن مبكرة بالعناية بالقرآن الكريم، تلاوة وحفظة، فأحسن تلاوته، وحفظ الكثير منه، وقد أوتي سرعة في الحفظ، وقوة في الفهم، وجودة في الخط بالقلم، وذكاء خارقا، امتاز به عن أقرانه آنذاك، تلك المحاولة الشريفة، كانت كالتمهيد والتوطئة للدخول في باب طلب العلم الشريف بصورة جادة ومنتظمة، بعد أن كان يشتغل برعي غنيمات لوالديه اللذين قد رسما له خير قدوة فيهما، من صحة العقيدة، والالتزام بالشعائر التعبدية.
استمر حافظ على تلك الحال، من رعي الغنم، وحمل المصحف، وبر الوالدين، حتى قدم من بلاد نجد إلى منطقة
(1) مقدمة " معارج القبول " بقلم ابنه أحمد ص: ن.
(2)
انظر كتاب: " الشيخ حافظ "، لأحمد علوش ص 38، وقد أورد أسماء مجموعة من العلماء من هذه القبيلة.
الجنوب، الإمام " المجدد، العالم العامل، الفذ التقي السخي، عالي الهمة، حسن النية، سلفي العقيدة الشيخ عبد الله القرعاوي، الذي اختار طلب العلم، ونشره منهجا، وجعل الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة له سبيلا، وفي عام 1359 هـ، شاء الله أن يلتقي هذا الداعية بالشيخ حافظ، فتعرف عليه، وعجب من ذكائه وحرصه، وصراحته في القول، ففرح الشيخ حافظ بما عرضه عليه الشيخ القرعاوي لرغبته العلم، إلا أن هذا العرض كان مشروطا بموافقة الوالدين، إلا أنهما لشدة حاجتهما لم يسمحا له بالذهاب إلى سامطة، كما هو طلب الشيخ القرعاوي، الذي رغب فيه، فظل يتعهده بالدروس والتوجيه حتى حل عام 1360 هـ، حيث توفيت أمه، ثم توفي أبوه، فلازم شيخه ملازمة مستمرة (1). إلا أن شاعر الجنوب: محمد بن علي السنوسي رحمه الله قال عنه: ولد حافظ عام 1343 هـ في قرية من قرى بني شبيل، تدعى الجاضع بينها وبين سامطة مسافة قريبة، وكان أبواه فقيرين أميين، فشب كما يشب أبناء البادية، بين مرابض الغنم، ومعاطن الإبل، ومنابت العشب، بعيدا كل البعد عن البيئات العلمية في أبسط مظاهرها (2) ولكن الصحة في تاريخ ومكان ولادته، ما ذكره الدكتور أحمد بن الشيخ حافظ، في تراجمه العديدة لوالده، وعنه أخذ كل
(1)" الأفنان الندية " 1/ 5 - 6.
(2)
" محمد السنوسي شاعرا "، لمحمود شاكر ص 10.
من كتب عن حافظ، حيث إن أصل ذلك نبذة بخط حافظ عن نفسه، عند أخيه محمد. . ومعلوم أن أصدق التراجم، وأوثقها ما كتبه الإنسان عن نفسه، لأنه أعرف من غيره، ومؤتمن، كما يقول النسابون: الناس مؤتمنون على أنسابهم.
والشيخ علوش يرى أن حافظة بقي في رعي الغنم حتى عام 1359 هـ، حيث التقى بشيخه: عبد الله القرعاوي فكان هذا اللقاء نقطة تحول في حياته، حيث ترك رعي الغنم، وتفرغ للدراسة بإذن والديه، وبعد موتهما عطف عليه الشيخ عبد الله، وآواه فأقام بالمدرسة في سامطة، وبها ختن عام 1360 هـ، وأؤلم له شيخه وليمة على ختانه، دعا لها أعيان سامطة، الطلبة المغتربين، وأعلن فيهم أن من رغب ختان ولده في المدرسة، فهو مستعد بالتكلفة.
وبذلك قضى الشيخ القرعاوي على عادة السلخ، وبعض المنكرات التي يحصل فيها اختلاط الرجال بالنساء في اللهو واللعب، وكانت نفقته من الشيخ القرعاوي.
وفي 8 محرم 1367 هـ زوجه شيخه عبد الله ابنته، وأنجب منها أحمد وعبد الله، وبعد زواجه استقر في قرية السلامة العليا، حتى شهر رجب عام 1368 هـ حيث انتقل إلى مدينة جيزان (1)، وبقي بها إلى نهاية عام 1373 هـ، حيث عاد إلى سامطة، واستقر
(1) يقول الأستاذ العقيلي في: " المعجم " الصحة: جازان، وإن درجت جيزان على ألسنة العامة.
بها إلى عام 1377 هـ حيث توفي (1) وجميع من ذكر ذلك أخذه من مذكرات الشيخ القرعاوي، ورسالته القرعاوية التي نشرها بالمنهل.
وعن خصاله التي جبلت عليها نفسه، منذ حداثة سنه، يتحدث ابنه أحمد باختصار مجملا ومبرزا ما عرف عن خصاله إذ قال: ونشأ حافظ في كنف والديه، نشأة صالحة طيبة، تربى فيها على العفاف والطهارة، وحسن الخلق، وكان قبل بلوغه يقوم برعي غنم والديه، التي كانت أهم ثروة لديهم، آنذاك جريا على عادة المجتمع في ذلك الوقت، إلا أن حافظا لم يكن كغيره من فتيان مجتمعه، فقد كان آية في الذكاء، وسرعة الحفظ والفهم، فلقد ختم القرآن، وحفظ الكثير منه، وعمره لم يتجاوز الثانية عشرة بعد، وكذلك تعلم الخط، وأحسن الكتابة منذ الصغر (2).
أما المعاصرون للشيخ حافظ فقد سمعت من بعضهم نماذج من شغفه بالعلم، فقد كان يستعير الكتب، فيحفظ ما يستطيعه، ويكتب ما يتيسر له، ثم يعيدها إلى أصحابها، وكان أخوه محمد الأكبر منه سنا، يهيئ له ذلك، ويعينه عليه، كما كان يتعلم الخط بالتقليد والمحاكاة، حتى كان خطه من أحسن أقرانه، ولئن كان يقال: من كان أستاذه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه، فإن الشيخ حافظا قد خالف هذه المقولة، فكان أغلب نبوغه: خطا وحفظا
(1) انظر كتابه: " حافظ الحكمي " ص 42، ولكنه أخطأ في ابنه محمد، فأمه ليست بنت الشيخ القرعاوي.
(2)
مقدمة " معارج القبول "، الطبعة الثالثة ص: س.
واهتماما جاء من كثرة شغفه بالكتب والقراءة.
وقد ذكرتني البداية العلمية لحافظ رحمه الله بما شاهدته في إحدى أسفاري إلى موريتانيا، فقد كنا نسمع عن حفظ أبناء تلك الديار النادر، وقدرتهم العجيبة على النظم في أي موضوع يريدون ترسيخه في الأذهان، وعن علمهم وذكائهم الفطري، مع أنهم عرب رحل، ينتجعون الكلأ خلف مواشيهم، فكان كل مهتم يتمنى أن يقف على مدارسهم، ويستمع إلى علمائهم، ويعرف طريقتهم في التلقين، ويطلع على مكتباتهم التي أنجبت أولئك العلماء، ويقف على منهجهم في التربية والتوجيه، حيث إن من يلتقي بالعالم منهم يتعجب من سعة علمه، وقدرته على الحفظ، واتساع مداركه الأدبية، مع استيعابه العلوم العديدة، وخاصة العربية منها، وبعد إتاحة رحلة خاصة إلى قرى عديدة هناك، هي مواطن البادية، ومراتع إبلهم وأغنامهم، حيث كانت أم القرى التي تبعد عن نواكشوط العاصمة 90 كم تقريبا هي النموذج، إذ هي مورد ماء لا مدر فيه، بل تقام الخيام مع غروب الشمس، حيث لا تهنأ الزيارة، إلا بعد أن يضرب الليل بغلالته، فإذا بهم لا يحلو سمرهم، إلا على لظى الجمر، ودخان الرمث والغضا، حيث كان سمرا علميا، جادا في استذكار ما حفظوه في المرعى، وفي عرض ما نظموه في العلوم التي لقنها لهم شيخهم، حيث ينتقل أثناء النهار، بين الرعاة، حاملا كتبه وألواح الكتابة في مؤخرة رحله، فهي حياة جادة، ورغبة علمية عارمة، وقفت عليها عن كثب، لا يصرف عنها رعي، ولا يحول دونها ملاحقة الغنم،
ولاهتمامهم بالشعر قولا وحفظا، اتجهوا لنظم العلوم التي يتلقون عن مشايخهم.
وإن من لا يعرف حالهم، يتصور أن مع كل واحد منهم كتابا، أو عدة كتب، يستذكرها ويأخذ منها، والحقيقة أن الكتاب، وغالبة هو مخطوط، ومصان في غلاف جلدي سميك، يحمله الشيخ في مزادة رحله، ولا يعود إليه، إلا عندما تشذ واردة في حفظه، أما مدرستهم التي يتلقون فيها العلم في المرعى، فهي ظل شجرة، أو فيء يسير عندما تشتد حرارة الشمس، وإلا ففي الهواء الطلق.
وللنابهين من الطلاب دور كبير في إعانة أقرانهم، كما هي الحال في سيرة الشيخ حافظ رحمه الله في التحصيل والتعليم، التي علمناها من استعراض سيرة حياته.
تذكرت هذه الصورة الحية، التي وقفت عليها في موريتانيا، وأنا أقرأ سيرة الشاب حافظ في جميع الكتب التي مر بنا ذكرها، فوجدت تشابها كبيرا مع بعد الدار بين موطن وموطن، فقد وهب الله حافظا: ذكاء فطريا، وحافظة هي من النوادر، مع رغبة جامحة في طلب العلم، وهو الذي لم يوجهه أب متعلم، ولم تدفعه نظرة اجتماعية، ولا مماراة أسرية، فكانت هاتان الحاستان، مما دفع حافظا إلى الجد في تلمس مداخل العلم، والحرص عليه، رغم مشقة الحصول على وسائله، لكنه اندفع بعد ما انفتح له الطريق، الموصل إلى الغاية المنشودة، كالظامئ
الذي رأى الماء بعد يأس.
وقد علل الشيخ زيد مدخلي، في كتابه عن الشيخ حافظ، لرغبته العلمية الجامحة بمبررات، وأورد أسبابا تسعة اعتبرها من أسباب نبوغه، وسر من أسرار تفوقه (1).
(1) انظر كتابه هذا ص 41، 42.
طلبه العلم:
لم يتضح لنا بأن للشيخ حافظ مشائخ تتلمذ عليهم، غير الشيخ عبد الله القرعاوي، ولذا حدب عليه واهتم به، لما رأى فيه من النباهة، وعلو الهمة، فكان نعم التلميذ لخير أستاذ.
وإذا كان التربويون يقولون: إن الهمة في طلب العلم غريزة تتكون في الإنسان منذ حداثته، ويوقد جذوتها الذكاء الفطري، وينمي هذه الغريزة، ما يتهيأ أمام الإنسان من أسباب مادية أو معنوية، وإلا خمدت الجذوة، فإن الذكاء كالسيف الأصيل، إن ترك في غمده تأكسد وصدئ، وإن استعمل وشحذ صار بتارا.
والأسباب التي تهيأ للإنسان تختلف من زمان إلى زمان، ومن بيئة إلى بيئة، وحافظ الحكمي نمت مع ترعرع جسمه الرغبة في طلب العلم، وقد ساعده على ذلك، ما امتن الله به عليه من ذكاء وقدرة عجيبة على الحفظ، فكان يحصل في الوقت القصير، ما يثقل كاهل أترابه في الزمن الطويل، وقد أجمل ابنه أحمد، صفات والده في طلب العلم، فقال: عندما بلغ حافظ من العمر
سبع سنين، أدخله والده مع لشقيقه الأكبر محمد، مدرسة لتعليم القرآن الكريم، بقرية الجاضع، فقرأ على مدرسه بها جزأي عم وتبارك، ثم واصل قراءته مع أخيه، حتى أتتم قراءة القرآن، قراءة مجودة خلال أشهر معدودة، ثم أكمل حفظه حفظا تاما بعيد ذلك.
اشتغل بعدئذ بتحسين الخط، فأولاه أكبر جهوده حتى أتقنه، وكان ينسخ من مصحف مكتوب بخط ممتاز، إلى جانب اشتغاله مع أخيه بقراءة بعض الكتب في الفقه والفرائض، والحديث والتفسير، والتوحيد، مطالعة وحفظا بمنزل والده، إذ لم يكن بالقرية عالم يوثق بعلمه، فيتتلمذ على يديه (1).
ومع رغبته العلمية، إلا أنه آثر عليها بر الوالدين، فكان ينتجع المرعى بغنيمات أهله، متجولا في الصحراء، فساق الله في عام 1358 هـ لمنطقة جازان عالما متحمسا، سمع ما كان فيها من الجهل، هو الشيخ عبد الله القرعاوي، الذي نذر نفسه مخلصا لله، بأن يقوم بالدعوة إلى دين الله الخالص، وتصحيح العقيدة الإسلامية في القلوب، وقد زار الشيخ القرعاوي قرية الجاضع، حيث حضر حافظ دروسه، ورغم أنه أصغر الحاضرين سنا، إلا أنه كان أسرعهم فهما، وأكثرهم حفظا واستيعابا، حيث أعجب به الشيخ القرعاوي، وقال في هذا: وهكذا جلست عدة أيام في الجاضع، وحافظ يأخذ الدروس، وإن فاته شيء نقله من زملائه،
(1) انظر: مقدمة " معارج القبول " ص: س.
فهو على اسمه حافظ، يحفظ بقلبه وخطه، والطلبة الكبار كانوا يراجعونه في كل ما يشكل عليهم في المعنى والكتابة، لأني كنت أملي عليهم إملاء، ثم أشرحه لهم (1).
وقد صدقت فراسة الشيخ القرعاوي في نباهة تلميذه، عندما وصلته رسالة من التلميذ حافظ، ذات خط جميل، يطلب فيها من الشيخ القدوم إلى قرية الجاضع، مع بعض تلاميذه، وقد صدر الرسالة بهذين البيتين:
إن الذي رقم الكتاب بكفه
…
يقري السلام على الذي يقراه
وعلى الذي يقراه ألف تحية
…
مقرونة بالمسك حين تراه
ثم يطلب منه إعارته كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وبعد إجابة الدعوة والانتجاع إلى الجاضع، وجد الشيخ تلميذه مثلما ظن أو أكثر، فأجلسه بجانبه، وأولاه عناية خاصة.
وقد توسع أحمد علوش، في تفاصيل حكاية لقاء الشيخ القرعاوي بتلميذه حافظ، في قرية الجاضع، الذي تم في يوم الخميس 11/ 8 / 1359 هـ، والدروس الأولية التي أخذها التلميذ عن أستاذه، إذ كان اليوم الدراسي يبدأ بعد صلاة الفجر، إلى صلاة العشاء، بقية شهر شعبان، حيث رجع الشيخ وتلاميذه إلى سامطة.
(1) انظر: مقدمة " معارج القبول " ص: ع.
" أما حافظ فقد استقر منذ عام 1360 هـ في سامطة، إذ وجد في كنف الشيخ القرعاوي، وفي مكتبته بغيته، وقرأ متون العلوم المختلفة في أمهات كتبها المعتبرة (1).
(1) راجع كتابه: "حافظ الحكمي " من ص: 46 إلى ص: 57 لمن يريد التوسع.
مسيرته العلمية:
لئن كان المهتمون بالتعليم في العصر الحاضر، قد وضعوا خطا منهجيا للتعليم: مادة وحجما وزمنا، فإن منهج السلف في حلقات العلم أسلم وأعم فائدة، حيث تبرز آثار الذكاء، ويتميز الأفذاذ، وهذا ما ظهرت آثاره في الشيخ حافظ، الذي قلب معايير ومقاييس التربويين التي رسموها للمدارس النظامية، بل إنه سبق إلى مفهوم ما يجب اتخاذه لغير الأسوياء في المنهج والزمن، ويقصدون بغير الأسوياء المتخلفين عقليا في سلم الهبوط، والأذكياء المتفوقين في سلم العلو، فإنه برز بروزا فائقا في خلال عشر سنوات، ونبغ في المعارف التي أخذها عن شيخه، بل زاد عليها بما ناله من علوم ومعارف، نتيجة الرغبة الملحة، وسعة الاطلاع مع نهم شديد بالقراءة، واستيعاب لما يقع عليه نظره.
فكانت الفترة القصيرة التي بدأت، عندما سمع عن الشيخ القرعاوي، بسامطة عام 1359 هـ، حيث كتب إليه رسالة مع أخيه محمد، يطلب فيها كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وعمره آنذاك سبعة عشر عاما، كما طلب منه أن
يقدم على قرية الجاضع، حيث تسكن أسرته، ولا يستطيع مفارقتها برا بوالديه، حتى يحظى بطلب العلم على يديه، وقد صدر رسالته بالبيتين اللذين تقدم ذكرهما (1).
كان هذا بداية اللقاء العلمي، للتلميذ حافظ مع شيخه، وبداية تحقق الميول لعلمي، بالجلوس للعلم، وأخذه من مصادره، حيث التقى الحلم بالواقع، فكانت هذه الفترة الزمنية القصيرة، وما تحقق لحافظ خلالها، إذا دخلت مقاييس التربية الحديثة، تجعل حافظا في قمة الأذكياء، ومنزلة النابهين (2).
ففي بداية التقاء الشيخ القرعاوي بتلميذه حافظ عام 1359 هـ في قرية الجاضع طلب الشيخ من والدي حافظ أن يرسلاه معه إلى سامطة ليطلب العلم، على أن يجعل لهما من يرعى غنمهما بدلا عنه، لكنهما رفضا طلب الشيخ أول الأمر، وأصرا على أن يبقى ابنهما الصغير في خدمتهما لحاجتهما الكبيرة إليه.
يقول أحمد بن حافظ: وتشاء إرادة الله أن لا تطول حياة والدته بعد ذلك، إذ توفيت في شهر رجب 1360 هـ، فيسمح له والده، ولأخيه محمد، بأن يذهبا إلى الشيخ القرعاوي في سامطة لمدة يومين أو ثلاثة في الأسبوع، ثم يعودا إليه، فكان حافظ لذلك يذهب إلى الشيخ في سامطة، فيملي عليه الدروس، ثم
(1) انظر: ص 272 من هذا البحث.
(2)
ارجع لمجلة: " المنهل " ج 5، جمادى الأولى عام 1367 هـ، ص 190.
يعود إلى قريته، وكان ملهما يفهم ويعي كل ما يقرأ أو يسمع من معلومات.
ولم يعمر والده بعد ذلك، إذ انتقل إلى جوار ربه، وهو عائد من حج عام 1360 هـ، فتفرغ حافظ للدراسة والتحصيل، وذهب إلى شيخه ولازمه ملازمة دائمة يقرأ عليه، ويستفيد منه.
وكان حافظ في كل دراساته على شيخه، مبرزا ونابغة، فأثمر في العلم بسرعة فائقة، وأجاد قول الشعر والنثر معا، ألف مؤلفات عديدة في كثير من العلوم والفنون الإسلامية، ولقد كان كما قال شيخه: لم يكن له نظير في التحصيل والتأليف، والتعليم والإرادة في وقت قصير (1).
أما أحمد علوش: فيعطي تفصيلا أكثر عن بداية المسيرة التعليمية، من جانب حافظ مع شيخه نقلا عن السيد محمد السنوسي، وكان مما قاله: فكان حافظ يقرأ على الشيخ في الجاضع، بعد صلاة الصبح حتى الضحى، ثم يغدو بغنمه يرعاها، فإذا توسطت الشمس كبد السماء، رجع إلى القرية، واستأنف الدراسة حتى صلاة العصر، فإذا صلى العصر ذهب بغنمه مرة أخرى يرعاها، فإذا آذنت بالمغيب روح بغنمه إلى الزريبة، ثم استأنفت الدراسة إلى صلاة العشاء. . وهكذا دواليك.
ثم قال: حدثني الشيخ القرعاوي قال: يا بني لقد كنت
(1) مقدمة " معارج القبول"، ط. 3، ص: ف.
أعلم حافظا وإخوانه، وألقي عليهم الدرس جميعا، فكان حافظ يحفظ الدرس من مرة واحدة، أما إخوانه فكنت أكرر عليهم المرة والثانية، والثالثة، فكنت إذا أردت أن أكرر الدرس عليهم، قال: يكفيني يا شيخ مرة واحدة، ثم يأتيني من غد، وقد حفظ درس الأمس، ما يخرم حرفا، ولا يتلجلج في لفظة، حتى شعر إخوانه بالخجل منه، فعادوا يقولون لا تكرر علينا الدرس، يكفي إذا سمعه حافظ أن يعلمنا هو (1).
ومع أن مكث الشيخ القرعاوي في قرية الجاضع كان قصيرا جدا، فهو لا يعدو عشرين يوما من شهر شعبان عام 1359 هـ، فقد قرأ حافظ القرآن، وأشبع الشيخ نهمته، حيث أحضر بعض المتون، في التجويد والحديث والفقه والفرائض، وبدأ حافظ في نقل بعض هذه المتون بخطه، فنقل تحفة الأطفال في التجويد وحفظها، ودرس على الشيخ الأربعين النووية وشرحها، وبلوغ المرام، والرحبية، وبعض مبادئ الفقه، وبعض مبادئ الحساب.
ثم في سامطة وجد حافظ بغيته، وتحقق ما يشبع جوعه العلمي، حيث سلمه الشيخ القرعاوي، خزانة كتب فيها الصحيحان، وسنن النسائي، وسنن أبي داود، وغيرها من أمهات الكتب، فأكب حافظ على قراءتها، وواظب على حضور دروس الشيخ القرعاوي، وكان إذا تأخر في خدمة أبويه أتاه الشيخ بنفسه
(1) انظر كتاب: " حافظ الحكمي "، ص 49، 50.
في الجاضع، وأملى عليه ما فاته من الدروس، وقد استمر الحال على هذا حتى عام 1360 هـ (1).
وفي الرسالة القرعاوية، التي أملاها الشيخ القرعاوي على محرر مجلة المنهل، ونشرت في عام 1367 هـ يقول: ثم دخلت سنة 1365 هـ، وفي هذه السنة تفرغ الأخ حافظ لطلب العلم بإذن أبويه، وطلب مني أهل سامطة، وهو فيهم أن أترك التجول لأتفرغ للتدريس، فوافقتهم على ذلك (2).
وهكذا أثر التلميذ في أستاذه، وصار له مساندا ومعاضدا في التدريس، فهو طالب ومدرس في آن واحد.
فقد استوعب في فترة وجيزة أمهات الكتب في الحديث والتفسير، والفقه وأصوله، والفرائض والنحو، وعلم الحديث والتوحيد، وغير هذا من المعارف التي يستوعبها بنهم شديد، وحرص أكيد، حتى قيل: إن حافظ الحكمي، كان يمر على الدرس ثلاث مرات، حيث كان يحضر شرحه للشيخ عبد الله القرعاوي، مع بقية الطلاب، ثم بعد ما يذهب الشيخ يعيده حافظ على تلاميذ الشيخ، ثم يعود للمكتبة فيقرأ ما شرح، وغير ما شرح، حتى تضلع من العلوم، واستمر على هذه الحال لا يخرج من المدرسة، ويقرأ فيها قرابة ثلاث سنوات، وكان شيخه يسكن في المدرسة، وربما تركه ونام عند القاضي إبراهيم العمودي،
(1) انظر كتاب: " حافظ الحكمي "، ص 50، 51.
(2)
المصدر: " مجلة المنهل "، ج 5، ص 190.
ولكنه لا يترك تلميذه، لا في الأكل، ولا في تقرير الدروس، واستمر على هذه الحال، إلى قرابة عام 1362 هـ، حيث تزوج شيخه، فآوى إليه تلميذه، فكان يسكن عند شيخه في المدرسة (1).
(1) انظر كتاب: " حافظ الحكمي "، ص 54.
آثاره العلمية: لقد كان من نباهة التلميذ حافظ، أن كان يستوعب ما يقع عليه بصره، ويحفظ ما يخطه قلمه، إلى جانب ما جبل عليه من براعة في قول الشعر: نظما وارتجالا، حيث قيل عنه بأنه لا تعوزه المطولات، وأن باستطاعته أن ينظم أكثر من أربعمائة بيت في ليلة واحدة لسهولة جريان الشعر على لسانه.
ففي عام 1362 هـ وهي السنة الثالثة من بداية دراسته على شيخه عبد الله القرعاوي، أراد الشيخ أن يختبر تلميذه، فأشار عليه بإنشاء منظومة في التوحيد، مستمدة من قراءته في كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، فنظم " سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد " حيث انتهى من التسويد في سنة 1362 هـ، وهي أرجوزة في أصول الدين بدأها بقوله:
أبدا باسم الله مستعينا
…
راض به مدبرا معينا
وهي باكورة إنتاجه العلمي، خرجت في 16 صفحة بطبعتها
الأولى بمكة المكرمة.
ثم توالت آثاره العلمية كالعقد المنفرط، لأن المعلومات تتزاحم في رأسه، والأفكار تتوارد في مخيلته، إذ لم يشغله الحرص في الأخذ عن شيخه، عن المشاركة له في التعليم والإدارة، مع الاهتمام بالتأليف في تبسيط ما أفاء الله عليه من علوم، ليكون نفعها شاملا لطلاب العلم، وقد أوضح ابنه الدكتور أحمد كتبه التي تمتاز بظاهرة السهولة حفظا وفهما، سواء كانت شعرا أو نثرا، على هيئة السؤال والجواب، فكانت كتبه المعروفة هي، بعد سلم الوصول:
2 -
معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، وهو في التوحيد، إذ هو استكمال للأول، ويقع في مجلدين كبيرين، وهو كتاب جامع في موضوعه، انتهى من تسويده في عام 1366 هـ يزيد في طبعته الأولى عن ألف ومائة صفحة.
3 -
أعلام السنة المنشورة، لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة، كتاب صغير الحجم يقع في 67 صفحة في طبعته الأولى، عظيم الفائدة، بسيط في عرضه جاء على هيئة السؤال والجواب، انتهى من تسويده في عام 1365 هـ طبع لأول مرة في مكة المكرمة.
4 -
اللؤلؤ المكنون في أحوال الأسانيد والمتون: منظومة مطلعها:
الحمد كل الحمد للرحمن
…
ذي الفضل والنعمة والإحسان
انتهى من نظمها في سنة 1366 هـ، وطبعت لأول مرة في مكة في 18 صفحة، وهي نظم في فن المصطلح وما اشتمل عليه من قواعد، وضوابط تتعلق بالسند والمتن والجرح، ومراتب التعديل وغير ذلك.
5 -
النور الفائض من شمس الوحي في علم الفرائض، وهي رسالة منثورة في علم الفرائض مختصرة، بيد أنها وافية بمسائله، وجامعة لما تفرق من مقرراته، أكثر فيها من الضوابط التي تعرف بها كيفية القسمة في المواريث، كما أكثر فيها من ضرب الأمثلة، وقد انتهى من كتابتها في 15/ 8 / 1365 هـ، وطبعت لأول مرة بمكة عام 1373 هـ في 46 صفحة.
6 -
الجوهرة الفريدة في تحقيق العقيدة، منظومة دالية مطلعها:
الحمد لله لا يحصى له عدد
…
ولا يحيط به الأقلام والمدد
وهي في إيضاح عقيدة أهل السنة والجماعة، سلفا وخلفا، والرد على الضلالات من أهل البدع، والعقائد الباطلة، خرجت طبعتها الأولى بمكة المكرمة عام 1373 هـ في 19 صفحة.
7 -
دليل أرباب الفلاح، لتحقيق فن الاصطلاح، وهو من أجود ما كتب في فن مصطلح الحديث، حيث استوعب فيه جوانب هذا العلم، بطريقة سهلة مبسطة، جاءت على طريقة السؤال والجواب، ظهرت الطبعة الأولى في مكة عام 1374 هـ في 174 صفحة.
8 -
السبل السوية لفقه السنن المروية، منظومة طويلة في الفقه وأبوابه، تقع في 2359 بيتا وهي أطول مؤلفاته، مطلعها:
أبدأ باسم خالقي محمدلا
…
محسبلا مكتفيا محوقلا
وقد خرجت في طبعتها الأولى في 134 صفحة، مطبوعة في مكة المكرمة، وقد انبرى فضيلة الشيخ زيد بن محمد هادي مدخلي، المدرس بمعهد سامطة العلمي، لشرحها وسماها: الأفنان الندية، شرح منظومة: السبل السوية لفقه السنن المروية، الطبعة الأولى عام 1409 هـ، والثانية عام 1413 هـ عن دار علماء السلف بالإسكندرية ج. م. ع في ستة مجلدات في 3034 صفحة مع الفهارس، أطلق على المجلد الأخير: السادس والسابع، وقد بذل الشيخ زيد جهدا كبيرا في الشرح والتحقيق والإيضاح.
9 -
وسيلة الحصول إلى مهمات الأصول، وهي منظومة في أصول الفقه، فصل فيها التعريفات بأصول الأحكام التكليفية، والأحكام الوضعية، وأصول أدلة الأحكام التي هي الكتاب والسنة، مطلعها:
الحمد للعدل الحكيم الباري
…
المستعان الواحد القهار
وقد انتهى من كتابتها عام 1373 هـ، وتقع في 640 بيتا، كانت طبعتها الأولى بمكة في 35 صفحة.
10 -
متن لامية المنسوخ، منظومة في الناسخ والمنسوخ، دقيقة في التعبير، واضحة في التمثيل، كانت طبعتها الأولى بمكة المكرمة في 10 صفحات مطلعها:
الحمد لله في الدارين متصل
…
هو السلام فلا نقص ولا علل
11 -
نيل السول من تاريخ الأمم وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: منظومة تاريخية تزيد أبياتها عن 950 بيتا مطلعها:
الحمد لله المهيمن الأحد
…
باري البرايا الواحد الفرد الصمد
ثم بدأها بذكر بدء الخلق، والحكمة من خلقهم، ثم بذكر إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء، ثم عرج على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تاريخ وفاته عليه الصلاة والسلام.
12 -
نصيحة الإخوان المشهورة بالتائية، وهي عن تعاطي القات والدخان والشمة، وقد عنون لها بقوله: هذا سؤال بشأن القات والدخان والشمة، وهي قصيدة مطلعها:
حمدا لمن أسبغ النعما وألهمنا
…
حمدا عليها بألطاف خفيات
وقد كان لها صدى، وردود فعل، بين أنصار القات المدافعين عنه، وردود معاكسه ممن يمقتها، وقد خرجت الطبعة الأولى بمكة عام 1374 هـ في 15 صفحة، وقد طبع معها رد عليها لواحد من أهل اليمن، ثم جواب الشيخ حافظ عليه، وفي الجواب فوائد جليلة.
13 -
المنظومة الميمية في الوصايا والآداب العلمية، وهي منظومة عظيمة النفع، تحث على طلب العلم، وترغب فيه، وتدعو إلى الإخلاص فيه، والدعوة إليه، والتمسك بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، طبعت لأول مرة في مكة في 14 صفحة مطلعها:
الحمد لله رب العالمين على
…
آلائه وهو أهل الحمد والنعم
14 -
قصيدة في الترغيب والترهيب، والحث على تقديم الآجلة على العاجلة، والاستعداد للقاء الله، بمجاهدة النفس، شرحها وحقق نسبتها للشيخ حافظ أحد تلاميذه: الشيخ زيد بن محمد المدخلي، وخرجت في طبعتين الأولى عن نادي حطين بسامطة، والثانية نشرتها دار علماء السلف بالإسكندرية عام 1414 هـ باسم القصيدة الهائية وتقع في 40 صفحة.
ويظهر أن الشيخ زيد شرحها لأول مرة في 1/ 4 / 1393 هـ حسبما دون في آخر صفحة بعد شرح آخر
بيت، وجميع أبياتها 38 بيتا.
وهذه الكتب مطبوعة، وجميعها بالقطع المتوسط، ولم يتيسر من يشرحها ويفصل معانيها غير ما اهتم به الشيخ زيد المدخلي، وهذه الرسائل قد جاءت في ثمانية موضوعات هي:
الأول: التوحيد وفيه أربع.
الثاني: المصطلح وفيه اثنتان.
الثالث: الفقه وهو كتاب واحد.
الرابع: أصول الفقه وفيه كتابان.
الخامس: الفرائض مؤلف واحد.
السادس: التاريخ والسيرة النبوية، وفيه مؤلف واحد.
السابع: النصائح والآداب العلمية والوصايا، وفيه منظومتان.
الثامن: الزهد وفيه منظومة واحدة.
كما يلاحظ المتتبع لآثار الشيخ حافظ العلمية: قدرته العلمية، وطول نفسه الشعري، حيث نظم في جميع الفنون بتوجيه من شيخه القرعاوي - كما أسلفنا- لأن هذا أسهل للحفظ، وأمكن في الرسوخ في أذهان الطلاب.
كما أن للشيخ حافظ آثارا علمية، ذكر أنها لا تزال مخطوطة وهي:
15 -
ما كان يمليه على طلابه في المعهد العلمي بسامطة في
السيرة النبوية، كانت لدى زيد بن محمد المدخلي، وذكر أنه سلمها لابن الشيخ حافظ الدكتور أحمد بعد ما طلبها منه.
16 -
مفتاح دار السعادة، بتحقيق شهادتي الإسلام، وهي منثورة.
17 -
شرح الورقات في أصول الفقه، لأبي المعالي الشيخ الجويني، وهي منثورة.
18 -
همزية الإصلاح، في تشجيع الإسلام وأهله، منظومة تبلغ أبياتها 214 بيتا، ركز فيها على التمسك بالعروة الوثقى التي اتفقت عليها دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
19 -
مجموعة خطب للجمع والمناسبات الدينية، وقد ذكر الشيخ زيد المدخلي، أنه قد جمع الكثير منها واستعان على كتابتها بأحد طلبته ثم طلبها منه الشيخ محمد الحكمي شقيق الشيخ حافظ للاطلاع عليها ومن ثم إعادتها لكن لم تعد. والأصل لدى أولاد الشيخ حافظ وقد ذكر الشيخ علي بن قاسم الفيفي أن للشيخ حافظ مخطوطات أخرى، ثم قال: وقد خطط في آخر حياته لمؤلف يجمع أحاديث الرسول، وبيان أطرافها وأحواله ا، ومن خرجها،
لكن عاجلته المنية قبل الشروع فيه (1).
يطلق بعض النقاد العرب على الأدب عبارة: إنه الأخذ من كل فن بطرف، وعلى هذا فإن العالم يكون أديبا، ولا يكون المفرغ للأدب عالما.
ولما كان للأدب شعبتان: الشعر والنثر، فإن حكمنا على الشيخ حافظ من هذا المنطلق يبين أنه أديب وإن لم يتفرغ للأدب، وكونه شاعرا وناثرا، جاء من موهبة فطرية، وسليقة عربية، لذا فإن ذكاءه الوقاد، وحافظته النادرة، وما حباه الله من مواهب عديدة، هذه الخصال جعلته يتجه للعلوم الشرعية، حيث وظف قدراته الأدبية في تبسيط وتوضيح العلوم الشرعية، وهذا منهج اختطه المسلمون منذ ملأت أنوار الإيمان قلوبهم، فسطعت لذلك قرائحهم الشعرية، لينطلق العامل النفسي: إيمانا ويقينا، مسيرا الغرض الأدبي: شعرا ونثرا.
فاتجه بذلك الأدب إلى منهج جديد، يتلاءم مع مبادئ دين الإسلام، وما تدعو إليه تعاليمه، وفق ما جاء في مصدري التشريع: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبذا تغيرت المفاهيم، وجدت الأغراض، التي انطلق منها الشعراء، وفق دلالة الآيات الكريمات في آخر سورة الشعراء، حيث سميت " السورة باسم ما ينبئ عنه المقصود بالمعنى في
(1) انظر: " السمط الحاوي" ص 121. وانظر كتاب الشيخ زيد المدخلي: " الشيخ حافظ الحكمي " ص 49.
الآيات: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (1){أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (2){وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} (3){إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (4)
ثم لما توسعت مدارس العلم للطلبة في البلاد، حرص القادرون على قول الشعر- لإدراكهم سهولة الحفظ- على نظم بعض العلوم، لأن النظم العلي في سبكه، وأسلوبه، يختلف عما يهتم به الشاعر، في الشعر، لأي غرض من الأغراض، واتبعوا منهج السابقين في نظم بعض العلوم، كما حصل في النحو بالألفيات العديدة: لابن مالك وابن معطي، وغيرهما والأجرومية في النحو، والرحبية في الفرائض، وبعض المنظومات في الفقه كعقد الفرائد لابن عبد القوي، وغير ذلك كثير، مما دفع بنقاد الأدب إلى محاولة إخراج من يسخر الشعر لتبسيط العلوم، عن دلالة الأدب، بأن قالوا: هؤلاء نظام، والشعر غير النظم، بحجة أن خيال الشاعر، ومحسناته اللفظية، والأغراض المعهودة لا تأتي في النظم العلمي.
لكن المؤكد أن من ينظم، فإن لديه قدرة شاعرية جيدة، وموهبة لا يستهان بها.
ولذا فإن الشيخ حافظا بما أعطاه الله من ملكة شعرية يصبح ناظما وشاعرا، إلى جانب كونه ناثرا، كما في خطبه العديدة،
(1) سورة الشعراء الآية 224
(2)
سورة الشعراء الآية 225
(3)
سورة الشعراء الآية 226
(4)
سورة الشعراء الآية 227
وكتاباته ووصاياه.
لكنه سخر أدبه: شعرا ونثرا لغرض إسلامي: في تبسيط العلوم، والترغيب في طلب العلم، والتزهيد في الدنيا، والتذكير بالآخرة، أو في المساجلة، وما إلى ذلك.
وهو في أي غرض يطرقه، يجده القارئ يشد النفس، إلى ما يعتمل في جوانحه من منهج إسلامي التزم به، حيث يسير في درب لا يحيد عنه، بدءا بحمد الله، وختاما بالصلاة على رسول الله، وتعريجا على الذكر والتسبيح، وتذكر الآخرة، وما فيها من سعادة أو شقاوة، ثم ينظر إلى موضوعه الذي قصده.
وقد قال عنه الشيخ زيد بن محمد المدخلي: وإن من جملة ما حبا الله الشيخ حافظا، موهبة قرض الشعر، فاستغلها في تقييد العلوم الشرعية، والقصائد الدعوية، التي تعالج مشكلات المجتمع، بل ومشكلات الأمم، بأسلوبه السهل الرصين، الذي يحمل في حروفه المعاني العظيمة، التي تتغذى منها الأرواح والقلوب، شعاره الصدق، والنصح والإخلاص، ودثاره السعي الحثيث في كل ما فيه نفع العباد والبلاد، وإذا كان الشعر المطبوع، ومنه المكتسب، فإن الشيخ حافظا، من أهل القسم الأول، فقد حفظت لنا وثائق التاريخ، أنه كان يقرض الشعر، قبل أن يدخل المدرسة السلفية، وقبل أن يلتقي بشيخه عبد الله القرعاوي.
ثم استشهد بالبيتين السابقين، حيث إنهما أول ما نسب عنه
في الشعر:
إن الذي رقم الكتاب بكفه. إلخ (1).
أما ابنه الدكتور أحمد: فقد اعتبره- عندما تحدث عن حياة والده وأدبه- من أقدر شعراء تهامة، حيث قال: يعد الشيخ حافظ، من أجل علماء منطقة تهامة، وأقدرهم على قول الشعر، فقد كان يعشق الشعر منذ صغره، ويحفظه ويقوله سليقة دون تكلف، فلا غرابة إذا رأيناه يخرج أغلب مؤلفاته نظما.
وعن الأغراض التي طرقها يقول: ولقد كان أكثر ما يقول الشعر، في غير ما كتبه من منظومات علمية، إما نصيحة، أو مساجلة لصديق، أو وصفا أو خاطرة، إلا أنه لم يدون جل ما قال، إن لم يكن كله، وما بأيدينا منه الآن إلا النزر اليسير جدا، حفظه عنه بعض تلاميذه.
وقد ضرب نموذجا بقصيدته الميمية، التي نظمها في الوصايا والآداب العلمية، وهي طويلة اعتبرها من أهم قصائد شعره، إذ طرق فيها أغراضا هي: وصف العلم، والترغيب في العلوم، ووصيته طلبة العلم بمساعدة غيرهم في تحصيله، والإخلاص في النية (2) فالشيخ حافظ، وإن كان قد اختط لنفسه أغراضا تتمشى مع منهجه العلمي، مثلما سار ابن القيم رحمه الله وأضرابه من
(1) انظر كتابه: " حافظ الحكمي "، ص 15.
(2)
مقدمة " معارج القبول "، ج 1، ص: ص، الطبعة الثالثة.
علماء السلف عند المسلمين، فإنه قد طرح أغراضا أخرى سائدة، لم يعرف عنه التطرق إليها، مثل: الغزل والهجاء، والمديح والرثاء، وإن كانت له قصائد أثنى فيها على الملك عبد العزيز، والملك سعود يرحمهما الله.
ولكنه بمديحه هذا، ينطلق من حماسته الدينية، حيث يرى لهما فضلا- بعد الله- في تجديد الدعوة، والحرص على نشر العلم، وتطبيق الشريعة.
وإذا كان الشعراء المجيدون، يهتمون بمطلع القصيدة، وبراعة الاستهلال، ويراعون حسن الاختتام، وفنية الانتقال من غرض لآخر، فإن الشيخ حافظا، قد وسم قصائده ومنظوماته بمطلع شبه ثابت، وهو حمد الله، والثناء عليه سبحانه، مهما كانت المناسبة إذ أن نفسه الشعري الطويل، وقدرته على النظم الفائقة، وتداعي المعاني عنده، كل هذا أعطاه قدرة في حسن التعريج على أغراضه واحدا بعد الآخر، بأسلوب سلس، وعبارة سهلة.
ومع هذا لا ينسى الالتزام بما أصبح سمة في شعره، حيث يظهر أمام المتابع لأشعاره أنه يختم كل قصيدة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن نماذج ذلك:
1 -
قال. في عام 1368 هـ قصيدة في حفل عيد الأضحى، الذي أقامه الأمير مساعد السديري، تبلغ واحدا وأربعين بيتا، مطلعها:
مني التحية والسلام عليكم
…
وأخص صدر الجمع ثم أعمم
الحمد لله الذي هو أهله
…
إذ كل أمر منه يخلو أجذم
وإليكم في العلم نظم صفاته
…
والعلم أعلى ما يقال وينظم (1)
2 -
وفي عام 1368 هـ أيضا أنشأ قصيدة بمناسبة تقسيم فلسطين، ركز فيها على وجوب الاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإقامة الجهاد، ورفع علمه، لتكون كلمة الله هي العليا، وتبلغ مائة وتسعة وتسعين بيتا، استعرض فيها تاريخ المسلمين الذين رفع الله بهم راية الإسلام، وقضوا على الشرك والبدع في أنحاء من الأرض، حيث بدأها بقوله:
حمدا بلا حد ولا إحصاء
…
لله والي الحمد والنعماء
ثم الصلاة على النبي محمد
…
من جاءنا بالملة السمحاء
والآل والصحب الكرام وتابع
…
لهمو بنهج السنة الغراء
(1) انظر القصيدة كاملة في كتاب الشيخ حافظ لزيد مدخلي ص 54 - 55.
اعلم بأن الله جل جلاله
…
قد ماز من يشقى من السعداء (1)
وهذه القصيدة تعتبر ملحمة تاريخية، سرد فيها تاريخا بدأه بالخلفاء الراشدين، ثم عصر ابن تيمية، وعصر محمد بن عبد الوهاب، ثم الغزو التركي وما تبعه من فتن.
3 -
وفي عام 1364 هـ بعث الملك عبد العزيز رحمه الله لجنة ملكية برئاسة الشيخ: صالح بن عبد الحميد، فنزلت من أبها، على طريق درب بني شعبة، وزارت المدارس، حتى انتهى بها المطاف إلى سامطة، وقد اطلعت على بعض مؤلفات الشيخ حافظ، وأعجبت بها، وكان الشيخ القرعاوي قد أقام حفل تكريم، وكان مما ألقي في هذه الحفل قصيدة للشيخ حافظ، تبلغ ستة وتسعين بيتا، كعادة شعره المليء بالمعاني الجزلة، والعبارات ذات الدلالة: تنويها بالدعوة، وبجهد الشيخ عبد الله القرعاوي، وما يلقاه من عون ومساعدة من الملك عبد العزيز رحمه الله وكان مطلعها:
لك الحمد يا من بالهداية أنعما
…
وللفضل أولى والمحامد ألهما
لك الحمد يا ربي كما أنت أهله
…
كثيرا دواما يملأ الأرض والسما
(1) انظر القصيدة كاملة في كتاب الشيخ حافظ لزيد مدخلي ص 56 - 63.
على نعم قد أسبغت كل لحظة
…
فسبحانك اللهم مولى ومنعما (1)
4 -
وفي عام 1368 هـ صدر أمر الملك عبد العزيز رحمه الله بمنع القات من المملكة: إنباتا وبيعا وشراء واستعمالا فقال الشيخ حافظ رحمه الله قصيدة في هذا، أنشأها وهو راكب على حماره في طريق السلامة العليا إلى جازان، أبانت رأيه في الدخان والقات والشمة، تقع في أربعة وأربعين بيتا، وهو وإن خالف فيها- على إحدى الروايتين- المطلع: بحمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قد اكتفى بذلك في مقدمته النثرية لهذه القصيدة، ثم انتقل إلى موضوعه قائلا:
بإقبال شهر الصوم أشرف ميقات
…
أتى النبأ المرسوم بالمنع للقات
وقلع جراثيم له من أصولها
…
وتهديد جلاب له بالعقوبات
بأمر الإمام المصلح احتاط غيرة
…
وحجرا على أموال أهل الإضاعات
ونفذه في الحال عماله كما
…
سيجزونه حسب الأوامر في الآتي
(1) انظر خبر اللجنة والقصيدة في كتاب السمط الحاوي للشيخ علي بن قاسم الفيفي ص 50 - 55.
فسر بذا أهل المروءة والنهى
…
وأهل النفوس الزاكيات الأبيات (1)
وفي الرواية الأخرى بدأها بمطلعه المعتاد في كل قصائده عندما قال:
حمدا لمن أسبغ النعما وألهما
…
حمدا عليها بألطاف خفيات
ولشغف الشيخ حافظ بالعلم، فإن المتتبع لآثاره الأدبية: شعرا ونثرا، يجده دائما يحث على العلم أخذا وأدبا، وترغيبا وتوضيحا لمكانته وآثاره، إذ نراه في ميميته يسهب في الوصايا والآداب العلمية حين يقول:
يا طالب العلم لا تبغي به بدلا
…
فقد ظفرت ورب اللوح والقلم
وقدس العلم واعرف قدر حرمته
…
في القول والفعل والآداب فالتزم
واجهد بعزم قوي لا انثناء له
…
لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم
والنصح فابذله للطلاب محتسبا
…
في السر والجهر والأستاذ فاحترم
(1) انظر خبر القات ومنعه والقصيدة كاملة في كتاب السمط الحاوي للشيخ علي بن قاسم الفيفي ص 61 - 65.
ومرحبا قل لمن يأتيك يطلبه
…
وفيهم احفظ وصايا المصطفى بهم
والنية اجعل لوجه الله خالصة
…
إن البناء بدون الأصل لم يقم (1)
وله مداعبات إخوانية، وردود وفوائد علمية، لا يلتزم فيها المطلع المعتاد عنده، كما أنه لا يلتزم ذلك النهج في كل ما يطرح، إذ قد يخرج عن هذه القاعدة، كما في قصيدته التي ألقاها في حفل افتتاح معهد سامطة العلمي، المقام على شرف الملك سعود رحمه الله يوم السبت 18/ 1 / 1374 هـ وتبلغ واحدا وسبعين بيتا، بدأ بهذا المطلع:
أهلا ففي ظلك الممدود والرحب
…
ومرحبا من بني بر بخير أب (2)
وإن أدب الشيخ حافظ: شعرا ونثرا، ليحتاج إلى وقفات وتأملات متأنية، يسير فيها المحلل لهذا الأدب خطوات مع أفكار هذا الأديب، ومؤثرات نفسه، ليبرز للقارئ ما وراء السطور من أفكار عميقة، وعبارات جزلة، وتوجيهات قيمة، هي منهج العلماء المخلصين.
ولما كانت تلك النصائح من قلب صادق- كما يقال في المثل: ما صدر من القلب استقر في القلب، وما كان من اللسان
(1) مقدمة سلم الوصول ص: ق.
(2)
انظر: " السمط الحاوي "، ص 110 - 113.
لا يتجاوز الآذان- فإنها قد أعطت نتائجها في طلابه الذين عرفوا لشيخهم هذا الإخلاص: ثناء مستمرا، وذكرا حسنا، وعرفانا بالفضل لأهله.
أعماله:
كان من إعجاب الشيخ عبد الله القرعاوي بتلميذه حافظ، أن أولاه ثقته، وأقامه مدرسا لزملائه الطلاب المستجدين من التلاميذ، حيث عهد إليه بإلقاء الدروس النافعة عليهم، فأفادتهم كثيرا، كما كان يعيد الدرس على الطلاب، بعد شيخه، كما يعمل المعيدون في بعض الجامعات، لأن الله وهبه حافظة قوية، وقدرة على استظهار ما فهم، فهو يعيد ما حفظه عن شيخه من أول مرة، ليريحه أولا، وليشرح لهم، ويبسط لهم ما خفي عليهم.
وفي عام 1363 هـ عينه شيخه القرعاوي مديرا لمدرسة سامطة السلفية، التي هي أول مدرسة، وأكبر مدرسة افتتحها الشيخ عبد الله القرعاوي، في المنطقة لطلاب العلم.
ثم أسند إليه الإشراف على مدارس القرى المجاورة.
وبعد أن اتسعت دائرة مدارس القرعاوي، في منطقتي تهامة وعسير، فإنه قد جعل في كل مدرسة واحدا من نجباء تلاميذه، ليقوم بالتدريس، ويتولى شئون إدارتها، ولذا أسند لتلميذه حافظ العمل مساعدا يتولى الإشراف على سير التعليم وأمور الإدارة أثناء تجوال الشيخ القرعاوي على مدارسه.
كما أسند إليه شيخه القيام بواجب التعليم والإشراف في عدة قرى: منها السلامة العليا، ومدينة بيش أم الخشب، وغيرهما من قرى ومدن المنطقة.
ثم عاد إلى سامطة مرة أخرى، يدير مدارسها، ويساعد شيخه في تحمل المسئولية خاصة وأن مدارس الشيخ القرعاوي قد أصبح لها كيان خاص، وتقدير من الدولة.
وفي عام 1373 هـ افتتحت وزارة المعارف مدرسة ثانوية بجازان عاصمة المنطقة فعين الشيخ حافظ أول مدير لها، حيث رشحه شيخه للمسئولين، وأسندت إليه إدارة التعليم لكنه رفضها.
ثم في عام 1374 هـ بعد أن افتتح في مدينة سامطة معهد علمي، عين الشيخ حافظ مديرا له، وكان مع ذلك يقوم بالتدريس فيه، ويملي على تلاميذه المذكرات الدراسية، للفنون التي لم يقرر لها كتب.
وقد توفي، وهو على رأس العمل مديرا للمعهد العلمي بسامطة. (1)
(1) انظر: مقدمة "سلم الوصول "، ص: ر- ش.
صفاته:
إن أولى الناس بالتحدث عن صفات الإنسان، هم المعاصرون به، ومن المعاصرين تأتي خصوصية المرتبطين بالإنسان: قرابة نسب، وقرابة سكن، ثم تلاميذه، الآخذون عنه،
لأن الأقرب رابطة، أقدر على معرفة سمات ذلك الإنسان من غيره، وكذا التعرف على طباع نفسه، وما جبلت عليه.
والشيخ حافظ نستطيع أن نأخذ صفاته مما رصده ابنه أحمد، نقلا عن عمه محمد، لأن محمدا هذا هو الأكبر من أخيه حافظ، وهو من الملازمين له، فقال: (ويكفي أن أورد هنا ما قاله عنه شقيقه الأكبر عمي- حفظه الله- في رسالة كتبها إلي إجابة لطلبي:
كان رحمه الله على جانب كبير من الورع والكرم، والعفة والتقوى، قوي الإيمان، شديد التمسك، صداعا بالحق، يأمر بالمعروف ويأتيه، وينهى عن المنكر ويبتعد عنه، لا تأخذه في الله لومة لائم.
وكانت مجالسه دائما عامرة بالدرس والمذاكرة، وتحصيل العلم، تغص بطلابه في البيت والمسجد والمدرسة، لا يمل المرء حديثه، ولا يسأم جليسه.
وكان جل وقته ملازما لتلاوة القرآن الكريم، ومطالعة الكتب العلمية، بالإضافة إلى التدريس، والتأليف والمذاكرة، وكان خفيف النفس، يحب الرياضة والدعابة، والمزاح مع زملائه وطلابه وزواره، مما يجذب قلوب الناس إليه، ويحبب إليهم مجالسته، والاستفادة منه) (1).
(1) انظر: مقدمة " معارج" القبول "، ط 3، ص: ث.
فهذه صفات خلقية تربت عنده بالأساس العلمي، والدربة على الاهتمام بما تدعو إليه تعاليم الإسلام، لأنه حريص على أن يعمل بما علم.
وإلى جانب ذلك، فإن فيه صفات خلقية، سماها الشيخ علي بن قاسم الفيفي ملامح وسمات، وهي كونه: ربعة أسمر اللون، مستدير الوجه، مفلج الأسنان، خفيف اللحية والعارضين، أقرن الحاجبين، يلبس الخشن من الثياب، يتمتع بخلق العربي الرفيع، من الكرم والشهامة، والحلم والتواضع، ولطف المعاشرة، يحب الدعابة والطرائف، وتعجبه النكتة المهذبة، مع نباهة وجد وقوة ملاحظة، وبعد نظر، ويمارس بعض الألعاب الرياضية الشعبية أحيانا مع زملائه وطلابه، ويتفوق عليهم في المسابقة على الأقدام، والمراصعة- وهي نوع من المصارعة- والمحاداة- نوع من القفز- وفي لعبة السيف.
وكان حاد الذهن، قوي الذاكرة، سريع القراءة والفهم والحفظ، حاضر البديهة، ثاقب الرأي، صادق الفراسة، حيييا ورعا، عابدا زاهدا، حازما في تصرفاته، صارما في اتخاذ القرار ذا صوت حسن بالقراءة، إلا أنها كانت تنتابه حساسية في الشعب الهوائية تسبب له عطاسا وبحة وخشونة في نبراته الصوتية (1).
وعنه أخذ الشيخ زيد مدخلي، إلا أنه أضاف عن زواجه بابنة شيخه عبد الله القرعاوي عام 1367 هـ وذكر أولاده من
(1) انظر: " السمط الحاوي "، ص 98.
زوجاته الثلاث (1).
وعن زهده وكرمه قيل: إنه كان يوزع ما يتوفر من مرتبه على الفقراء من الطلاب، ويفتح بابه للطلاب تعليما وضيافة، وقد ذكر أحمد علوش في شريط: أن الملك سعود رحمه الله لما تفقد منطقة جازان في جولاته بعد ما تولى الملك، مدحه الشيخ حافظ، بقصيدة جيدة، فأمر له بصلة، فأخفى الشيخ حافظ الورقة بأحد الكتب، ولم توجد إلا بعد وفاته.
(1) انظر كتابه: " الشيخ حافظ الحكمي"، ص 39، 40.
وفاته:
كان آخر عمل قام به الشيخ حافظ إدارة معهد سامطة، وفي عام 1377 هـ حج، وبعد انتهائه من أداء مناسك الحج، أصيب بضربة شمس حادة، انتقل على أثرها في يوم السبت 18/ 12 / 1377 هـ إلى الدار الآخرة، عن عمر يناهز الخامسة والثلاثين، وقد صلي عليه في المسجد الحرام، ودفن في مقبرة العدل، وكان لوفاته أثر عميق في نفس شيخه القرعاوي، وفي نفس كل من يعرف هذا الرجل سواء في الجنوب، أو في غيره (1).
وقد ظهر أثر ذلك جليا في طلاب معهد سامطة، حيث فقدوا أبا حانيا، وأستاذا قديرا، متواضعا، وقد أخذ الشيخ القرعاوي منهم مجموعة إلى الرياض ومكة، لتعزية المشايخ والعلماء في شيخهم، كما رثاه كثير من الشعراء العارفين لقدره،
(1) انظر: " السمط الحاوي "، ص 122.
ومنهم الدكتور زاهر عواض الألمعي بقصيدة مطلعها:
لقد دوى على المخلاف صوت
…
نعى النحرير عالمها الهماما
تفجعت الجنوب وساكنوها
…
على بدر بها يمحو الظلاما
وذاعت في الدنا صيحات خطب
…
فهزت من فجائعها الأناما
فكفكفت الدموع على فقيد
…
على الإسلام شمر واستقاما
وأحيا في الربوع بيوت علم
…
وواسى مقعدا ورعى يتاما (1)
كما رثاه أحد تلاميذه وهو الأستاذ إبراهيم بن حسن الشعبي بقصيدة تبلغ أحد عشر بيتا ختمها بقوله:
سلاح للمشاكل كنت قرما
…
ومصباح البحوث بكل واد
وفي كل العلوم مددت باعا
…
وهمتك العلية في ازدياد
بكتك منابر ، وبكتك كتب
…
وطرف الخل أمسى في سهاد
(1) انظر: " السمط الحاوي "، ص 123، وهي تبلغ 14 بيتا.