الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
حقيقة نية الاتباع التي يجب أن يلتزمها الولي أو الصوفي:
أولا: أساسيات:
1 -
إن الولي الحق، هو الذي يوالي الطاعة والعبادة، بنية لا يداخلها شرك، وعقيدة لا يتطرق إليها ضلال، ولا يتحقق هذا إلا بأمرين متكاملين: الإيمان من جهة، والتقوى من جهة أخرى، فمن استجمع هاتين الصفتين كان ممن قال الله تعالى فيهم:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1){الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (2).
والولي بهذه المثابة، يعرف أن الإسلام دين عمل لا استغلال، ودين توحيد لا شرك، ودين إخلاص لا مراءاة، ودين سر في العطاء، وعلانية في الرجاء، دين صلاح الفرد والجماعة، ودين ملازمة المسلمين في اتباع هدي رب العالمين، ولذا فإن الولي لا يسعى إلى تفريق المسلمين أو اختلاق ما يشتت جهود أهل السنة والجماعة، أو ابتداع ما يقضي على صفاء عقيدة التوحيد بينهم.
كذلك فإن من يزعم التصوف، عليه أن يتقي الله تعالى، وملاك الأمر بالنسبة له أن يعرف أن الصوفية في حد ذاتها، لا نص عليها في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والملاحظ أن الصوفية بأشكالها الحالية تنطوي على تصرفات حمقاء، وأعمال خرقاء، على نحو يثبت منها لكل ذي بصيرة
(1) سورة يونس الآية 62
(2)
سورة يونس الآية 63
أن دين الإسلام منها براء، ولذا فإن على من يكرسونها أن يتقوا الله في دينهم، وأن يعودوا إلى طريق أهل السنة والجماعة حيث لا فرق ولا طرق، وحيث يعبد الناس ربهم عبادة يقين لا عبادة المظهريين النفعيين، ولا يغالي الإنسان عندما يقول: إن الصوفية الحالية بما تكرسه من ابتداع إنما هي صورة من صور الجاهلية التي تجابه حياة المسلم في كثير من ديار الإسلام.
2 -
وليست الجاهلية هنا سوى جاهلية الأعمال والتصرفات والمفاهيم الخاطئة، ومنها جاهلية الحكم بغير ما أنزل الله وجاهلية التعصب المذهبي، وجاهلية علم الكلام، ثم جاهلية التصوف، وهذه الجاهلية الأخيرة ظهرت واشتهرت بعد انقضاء القرون الثلاثة المفضلة، وقد ظهرت بداية في البصرة على أيدي بعض العباد الذين عرفوا بالغلو في العبادة والزهد، وإذا كانت العبادة والزهد من الأمور الدينية المرغوب فيها، إلا أن المتصوفة غلفوا بهما تصوفهم كإطار شركي نفذوا منه إلى هدم الدين شأن ذلك شأن البدع المحرمة والمتعلقة بالاحتفال بالموالد التي ابتدعها الفاطميون تحت ستار محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل البيت، وهي في الحقيقة زيادة لا يقرها الدين، لا سيما وقد داخلتها شركيات بثها أهل البدع والزندقة
والمرتزقة، ولنتذكر فقط زندقة الحلاج الذي قتل لزندقته، وابن عربي، وابن الفارض، وابن عجيبة، وغيرهم ممن حرفوا الدين تحريفا ينقل من يصدقهم إلى مرتبة الكفر.
ودليل ذلك أنهم قسموا الدين الإسلامي إلى قسمين:
الأول: وهو الشريعة الواردة في الكتاب والسنة وهي تخص العوام لا الواصلين.
الثاني: الحقيقة - وهي في زعمهم الباطل أعلى من الحقيقة - ولا تخص العوام، وإنما تخص الواصلين من المتصوفة: أي الزنادقة.
فالتصوف هو: مجموعة من طقوس البوذية والهندوكية واليهودية، وهو لا يمت للإسلام بصلة، فالذكر فيه ليس صلة بين العبد وربه، وإنما هو حركات يطلب معها المدد من غير الله، وهذا من الشرك بالله، فهل المدد من الله الواحد الأحد أم من الطرق الشركية، كالقادرية والتيجانية والرفاعية والبرهامية والبرهانية والميرغنية وغير ذلك من طرق الهراء والشرك برب العالمين؟
إن الجنة لها مفتاح واحد هو الإيمان والتقوى بمنأى عن البدع والدروشة وطلب الغوث من الغوث الأعظم، أو القطب، أو من الأوتار، أو ما إلى هذه الأسماء التي تدل على الرغبة في ابتزاز الفقراء وادعاء الكهنوت في الدين، على نحو يصح معه القول مع الشيخ محمد أمان بن علي
الجامي: إن الطرق الصوفية المنتشرة اليوم في العالم الإسلامي قد اتخذت طرقا وأساليب تفسد عقيدة المسلمين السذج، لسلب أموالهم وتغيير مفاهيم الدين، ويكفي أن أصحاب هذه الطرق مختلفون فيما بينهم لاقتسام الغنائم ولا ينفقون إلا على محاربة شريعة الله، ولذا فقد آن الأوان لعودة المسلمين إلى طريق واحدة، هي طريق الله الواحد الذي لا اختلاف فيه، حيث يمكن لنا جميعا أن ننال رضوان الله، شريطة أن نكون من المؤمنين المتقين، لا من المتصوفين أو مدعي الولاية المبتدعين.
وسنلمح عما قليل النية كأساس لعقيدة التوحيد ونبذ البدع عند شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، الذي أعاد إلى الدين الإسلامي صفاءه ونقاءه اللذين ارتضاهما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأين من هذا مسلك أناس يكرسون السماع والطواف الشركي والبناء على القبور، وإذا نصحتهم، غصت أعينهم بدموع كاذبة، وقالوا: إنما نحن أولياء نقيم حلقات الذكر ونبكي فنطهر قلوبنا.
3 -
نعم للقلب أن يرق عند سماع القرآن، وللقلب أن يعتريه الوجل عند استشعار ما فيه من موجبات الإيمان، وللعين أن تدمع وللجلود أن تقشعر، فتلك علامات الخشية والإيمان،
ولم يقل الحق تبارك وتعالى إنها علامات التصوف، وإنما قال سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1)، وقال جل شأنه {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (2)، وقال تعالى:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (3). وفي أثر سماع القرآن على المتقين قال سبحانه: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (4).
فهذه أنوار اليقين تتلألأ في أفئدة المؤمنين، تجعلهم يزدادون من الله قربا بالطاعة، وعدم المعصية، ولا يشك عاقل أن المباهاة بالإيمان رياء مذموم، ومحاولة إظهار الفضل خطأ في حق المسلم، فإذا بكت العين أمام الناس وهي خاشعة لا متصنعة فهي في مرتبة علية عند الله، ولكن هذا لا يستلزم بناء مقام أو صنم لصاحبها فذلك شرك، أو نعته بأنه صوفي واصل فذلك حرام، ويبلغ الإثم مداه عندما يزكي الإنسان نفسه ليقال عنه: إنه شيخ طريقة أو صاحب مدرسة
(1) سورة الأنفال الآية 2
(2)
سورة مريم الآية 58
(3)
سورة المائدة الآية 83
(4)
سورة الإسراء الآية 109
صوفية: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (1).
4 -
إن الدين لا يطالب الناس بما لا يقدرون عليه، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالتقوى فقد قيدها بالاستطاعة، قال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2). وقال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3). وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (4)» . رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
لهذا فإن المسلم المتبع غير مطالب بأباطيل البشر ولا بتوجيهاتهم الخاطئة المليئة بالشركيات، فالديان حليم بعباده، وخير الكلام هو كلام الله سبحانه، وهو ينطوي على ما يبشر وما ينذر، وفيه من البشارة أكثر مما فيه من النذارة، وكل الأحكام تدور في فلك الاستطاعة (5).
وإذا كان كل شيء في الإسلام منوطا بالاستطاعة
(1) سورة النجم الآية 32
(2)
سورة التغابن الآية 16
(3)
سورة البقرة الآية 286
(4)
صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، صحيح مسلم الحج (1337)، سنن الترمذي العلم (2679)، سنن النسائي مناسك الحج (2619)، سنن ابن ماجه المقدمة (2)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 508).
(5)
إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، دار الكتب العربية الكبرى بمصر 1334 هـ ج 2 ص 274.
والقدرة، فإن هذا لا يمنع بعض خلق الله من الاجتهاد في الطاعة، فإن تقدم في طاعته واجتهاده حتى صار من السابقين المقربين فهنيئا له، وإن اقتصد وكان من أهل اليمين فسلام عليه، وإن أذنب هذا أو ذاك أو أخطأ فعليه المبادرة إلى التوبة، فخير الخطائين التوابون، الذين لا يتمادون في المعصية ولا يبارزون الله بها.
فإذا ما أطلق على هؤلاء اسم الصوفية ما زاد ذلك من قدرتهم شيئا، والأولى أن يأخذ هؤلاء بيد غيرهم تحت شعار واحد هو الإسلام، بلا فرق، ولا طرق، ولا طوائف، ولا تفرق. الإسلام ببساطته المعهودة، وكمالاته المشهودة، وأنواره الممدودة، فليس في الإسلام كهنة ولا كهنوت، وليس فيه تسيد ولا جبروت.
5 -
إن الإسلام هو دين النيات الحسنة، ولا مكان فيه للنيات السيئة، ومن حسن النية في الإسلام، ألا يعلن الإنسان عما يفوق غيره فيه من مراتب الإيمان، ولذا فإن الولي الحقيقي لا يتظاهر بالولاية أبدا، ولكن إذا شعر الناس بمكانته، بما شف عنه صادق عقيدته وتواضعه بين خلق الله، وأحسوا أنه مؤمن ورع، فلا يجوز لهما أن يرفعوه إلى مرتبة أعلى من مرتبة إنسانيته؛ لأن الغلو فيه شرك بالله، وإن كان هذا الغلو في سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم، فما بالنا بشخص
عادي، ثم إن كلمة الولي قد شاعت حتى ابتذلت، مع أنها لا تعني أي شخص، وإنما تعني: المؤمن من جهة، والمتصف بالتقوى من جهة أخرى.
فهل بلوغ الإنسان مرتبة عالية في الإيمان عند الديان يقتضي اعترافا من الناس؟ إننا في حاجة إلى معلمين للدين، لا إلى طرق الأولياء والمتصوفين.
6 -
وفي ضوء ما تقدم يتعين فهم ما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب (1)» . . . .
ففي ذلك يقول الإمام النووي رحمه الله: (المراد بالولي هنا: هو المؤمن، فمن آذى مؤمنا فقد آذنه الله، أي: أعلمه أنه محارب له، والله تعالى إذا حارب العبد أهلكه، فليحذر الإنسان من التعرض لكل مسلم).
لذا فإن إسباغ أوصاف الولاية على الناس، وبناء القبور والقباب لهم شرك، ويفضي إلى إيقاع عامة الناس وبسطائهم في الشرك، حيث يطوفون حول الأضرحة طوافا
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502).
شركيا، وتلك بدعة تخالف الشرع، بل تهدم أصول التوحيد وتنقضه.
وهذا يستلزم وقوف المسلم على حقيقة مفهوم النية حتى لا تنصرف إرادته إلى ما يخالف شرع الله، أو ينقض عقيدة التوحيد، أو يهدم أسس الإيمان، تحت دعاوى الولاية أو التصوف.
ثانيا: تعريف النية:
1 -
مدخل:
كثيرة هي المؤلفات التي عالجت موضوع النية، ومن تعريف الفقهاء للنية يمكن القول إن هذه النية لا بد أن تكون نية اتباع، ولا يجوز مطلقا أن تكون نية ابتداع.
ودليل ذلك أن الشرع خصص النية بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء مرضاة الله تعالى وامتثال حكمه (1)، وهذا أمر يرتبط ببواعث الإنسان (2)، فالنية إجابة للباعث، وكلما كان الباعث شريفا كانت النية نية اتباع لا نية ابتداع.
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر ط. 1 (الحلبي) ص 30 وما بعدها.
(2)
الغزالي، إحياء علوم الدين، المرجع السابق ج 4 ص 362.
وقد عالج الفقه علاقة النية بالإرادة، فقال: إن النية أخص من الإرادة، فليس كل من يريد ينوي، ولكن كل من ينوي يريد، ولكن النية أعم من العزم والقصد، والنية لا تتحرك إلا استجابة لباعث معين، والمسلم الصادق: هو الذي يجتهد في أن تكون بواعثه متفقة مع شرع الله، فلا يبتدع بل يتبع، إذ النية كما يمكن أن تنصرف لله عز وجل يمكن أن تنصرف لسواه (1)، فإن انصرفت لله وحده كانت النية اتباع حيث لا يقصد بها إلا الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل (2)، وهذا ما يرجوه كل مسلم صادق، سواء انصرف قصده إلى الله تعالى قبل الفعل أو قارنه.
2 -
التعريف:
ولنا بعد ما تقدم أن نعرف النية في عبارة بسيطة بأنها صورة خاصة من صور الإرادة وهي في حالة كمون في أعماق الإنسان، ومحل النية القلب، ولا حاجة لإظهارها في عبادات الإنسان إلا ما نص عليه، ولكن النية فيما عدا ذلك يجب أن تدل عليها أمارات خارجية تؤكد استجابة إرادة الإنسان لها، بحيث تقترن بالقصد في الفعل المقدور وبالعزم على الفعل المستقبل، سواء حركها باعث معين أو تحركت تلقائيا، وسواء نشدت من وراء ذلك غاية معينة أو
(1) الرعاية لحقوق الله تعالى، للمحاسبي ط. 1 ص 205.
(2)
حاشية ابن عابدين، الحلبي، ج 1 ص 105.
لم تنشدها، وهي في كل الأحوال ضرورية لتمييز العادات عن العبادات والارتفاع بالعادات إلى مرتبة القربات المثاب عليها، وتحديد درجة العبادة، سواء ألزم الشرع إظهارها أم اكتفى ببقائها في محلها وهو القلب دونما حاجة للتعبير عنها، ولو وقف مدعوا الولاية والتصوف عند هذه الحقائق لما كانت هناك طرق ولا فرق.
3 -
ما يترتب على التعريف:
(أ) النية لا تؤثر في الإخلاص، وإنما تتأثر النية بالإخلاص:
بحيث إنه إذا وجد الإخلاص، حسنت النية وأثيب المنتوي إذا تابع بها عقيدة الإسلام ونبي الإسلام، ولكن الدرجة تتفاوت، فهناك المخلص في بعض الأعمال؛ وهذا لا يكفي، وهناك المخلص في كل الأعمال، لأنه جمع بين جوانحه قلبا صالحا، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير الذي رواه البخاري ومسلم:«ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله (1)» . فإخلاص القلب وصلاحه يقيم دعائم نية سليمة لا تهدف إلا إلى الخير، ولا تتمثل غير التقوى، ولا تتغيا سوى الأمن التام في الآخرة:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} (2){إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (3).
(1) صحيح البخاري الإيمان (52)، صحيح مسلم المساقاة (1599)، سنن ابن ماجه الفتن (3984)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 270)، سنن الدارمي البيوع (2531).
(2)
سورة الشعراء الآية 88
(3)
سورة الشعراء الآية 89
والنية التي تتأثر بالإخلاص لا تتجه إلا إلى الله، لذا فإنها إذا لم تتجه في عملها من منطلق الإخلاص تخلفت النية ديانة، ولذا يقول ابن حزم:(فإن نوت النفس بالعمل الذي تصرف فيه الجسد وجها ما، فليس لها غيره، وصح أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل إلا ما أمر به، وقد أمر بالإخلاص له، فكل عمل لم يقصد به الوجه الذي أمر الله تعالى به فليس ينوب " أي ذلك العمل " عما أمر الله تعالى به "من عمل ")(1).
فمن توضأ تبردا، أو تيمم بغير نية، أو مشى بالمناسك دون نية، فإن ذلك لا يجزيه عن الوضوء، أو التيمم، أو الحج المأمور به أو المتطوع به لله تعالى؛ لأنه لم يخلص في كل ذلك لله عز وجل، ولا فعله ابتغاء مرضاته تعالى، ولا نوى به ما أمر به (2) ولانعدام التقوى التي محلها القلب، وانتفاء النية التي هي عمل القلب (3)، وتخلف الإخلاص، حيث إن المخلص: (هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس؛ من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل، ولا يحب أن
(1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ج 5 - 8 ص 706.
(2)
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ج 5 - 8 ص 706.
(3)
بدائع الفوائد لابن القيم ج 3 ص 229 (مطبعة القاهرة).
يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله) (1)(فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء) وإذا فكلما كان الإنسان مخلصا كلما كانت النية سليمة؛ لأن النية بغير إخلاص رياء، وفي سبيل التخلص من الرياء لا ينبغي للإنسان أن يترك العمل المشروع؛ لأن ذلك وقوع في مصايد الشيطان ومكايده، ولعل أعظم الأعمال الآن هي الجهاد في سبيل الله، ومعلوم أن:«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (2)» ، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى، الذي رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، أما من قاتل ليقال: إنه شجاع فنيته سيئة وهو في النار شأنه شأن المشرك بالله، والمرائي والمنافق، فهم أشد النيات سوءا، سواء كان الشرك في الربوبية كالشرك النافي للربوبية والمعطل لها، وصورته: قول من يقول بإفك فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) وإضافة آلهة أخرى مع الله. . . أو كان شركا في توحيد أسماء الله وصفاته كتشبيه الخالق بالمخلوق في السمع والبصر والاستواء، أو الإلحاد في أسماء الله، وكالشرك في توحيد الإلهية والعبادة،
(1) شرح حديث إنما الأعمال بالنيات لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 20
(2)
صحيح البخاري العلم (123)، صحيح مسلم الإمارة (1904)، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1646)، سنن النسائي الجهاد (3136)، سنن أبو داود الجهاد (2517)، سنن ابن ماجه الجهاد (2783)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 417).
(3)
سورة الشعراء الآية 23
كأن يجعل الناس لله أندادا يدعونهم ويسألونهم الشفاعة، وهو ما نراه كثيرا في أيامنا هذه من المسلمين الغافلين عن أنه لا معبود بحق سوى الله، وأنه لا ند لله، ومثل الشرك الأصغر الذي من صوره: الرياء اليسير، وطلب المنزلة والجاه عند الخلق، أما الرياء فإنه ينقسم إلى أنواع منها: أن يعمل الإنسان عملا صالحا، لا بنية طلب ثواب، وإنما بنية مراءاة الناس فهذا عمل حابط، وقد يقوم بالعمل الصالح طلبا للثواب في الدنيا، ومن يفعل ذلك فلا حظ له في ثواب الآخرة بحسب نيته، وأما النفاق فهو إن كان اعتقاديا فإنه يخرج صاحبه من ملة الإسلام، ويكون ممن قال الله تعالى فيهم من المكذبين بأصول الدين والكافرين:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1).
إنه إذا كان إظهار النية باللسان غير مطلوب في العبادات إلا ما نص عليه، فإن أفعال الشرك التي تكون امتناعا عما نهى الله ورسوله عنه، لا تحتاج في الصحيح إلى نية، وتحصل الإثابة على النية العامة، فقد أمرنا الشرع الحنيف باجتناب ما نهى الله ورسوله عنه جملة واحدة، ولا يلزم لذلك استحضار المنهي عنه واستذكاره، ثم إتباع ذلك بنية اجتنابه، ففي هذا من الحرج والمشقة ما لا يخفى، والدين يسر، وقد مثل لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:
(1) سورة النساء الآية 145
(وأما طهارة الخبث فإنها من باب التروك، فمقصودها اجتناب الخبث، ولهذا لا يشترط فيها فعل العبد ولا قصده، بل لو زالت بالمطر النازل من السماء حصل المقصود، كما ذهب إليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم)(1).
وقال القرافي في ذلك المعنى إن النواهي: (كلها يخرج الإنسان عن عهدتها بتركها وإن لم يشعر بها فضلا عن القصد إليها)(2)، كما قال جلال الدين السيوطي:(وأما الترك كترك الزنا وغيره فلم يحتج إلى نية لحصول المقصود منها وهو اجتناب المنهي عنه بكونه لم يوجد وإن لم يكن نية).
وبالجملة فكل ما لا يخطر بالبال من النواهي بحيث لا يفكر فيها المكلف وهو يجتنبها لا تحتاج إلى نية، ولكن المنهيات إذا قصد المكلف الكف عنها تقربا إلى الله فإنها
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 21 ص477.
(2)
القرافي، مخطوطة الأمنية في إدراك النية، لوحة 6.
تصير عبادة يثاب صاحبها ما دام قصد ذلك. .
وبالجملة فإن أقسام أعمال المكلفين من هذه الناحية قسمان: قسم يترتب المقصود منه بمجرد وقوعه، فلا يحتاج إلى نية؛ كأداء الديون والنفقات الواجبة وإقامة الحدود وإزالة النجاسات وغير ذلك من الأفعال التي يتحقق مقصودها ومرادها بنفس وقوع فعلها، وقسم آخر لا يحصل مراده بمجرده، بل يحتاج إلى النية (كالتلفظ بكلمة الإسلام، والتلبية في الإحرام، وكصورة التيمم، والطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة والصلاة والاعتكاف والصيام)(1) وعليه فإن المتعين من العبادات والحقوق لا يحتاج إلى نية التعيين وإنما يحتاج إلى نية القصد والإرادة (2).
ثانيا: حقيقة النية: حديث: «إنما الأعمال بالنيات (3)» قوامه الإخلاص الذي هو مقصد قرآني بين، وهدف إسلامي كبير، فلا قوام للنية الحسنة بغير الإخلاص، لذا كانت نية العبادة مقرونة به، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (4). وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (5){وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (6).
(1) بدائع الفوائد لابن القيم ج 3 ص 223.
(2)
الدكتور صالح بن غانم السدلان، الرسالة السابقة ج 1 ص 300.
(3)
صحيح البخاري بدء الوحي (1)، صحيح مسلم الإمارة (1907)، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647)، سنن النسائي الطهارة (75)، سنن أبو داود الطلاق (2201)، سنن ابن ماجه الزهد (4227)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 43).
(4)
سورة البينة الآية 5
(5)
سورة الزمر الآية 11
(6)
سورة الزمر الآية 12
وقال عز من قائل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1). ولا مراء في أن الإخلاص يمكن أن يحول عادات الإنسان من أكل وشرب وخلاف ذلك، إلى طاعة يثاب عليها الإنسان، والإخلاص يستلزم النية فلا تتحول العادات إلى عبادات إلا بالنية (2) وإذا كان ذلك هو شأن الإخلاص في العادات، فإن الإخلاص أكثر ضرورة في العقيدة، فلا إيمان بمجرد ترديد ذلك باللسان ما لم يملأ الاعتقاد القلب (3) ويطرد كل الشكوك، وإذا كان الإنسان ليس أهلا للنية فإنه لا تصح عبادته، فالمجنون لا صلاة له ولا عبادة أخرى، ولا تجب عليه الحدود، ولا تصح تصرفاته كبيعه ونكاحه (4) كما أن الإخلاص يستلزم معرفة الإنسان حكم العمل قبل أن يقدم عليه، فالنية تستلزم العلم بالمنوي، والقصد يستلزم العلم بالمقصود (5)، كما أن الإخلاص كاف لتحقق الثواب وإن لم يأت
(1) سورة الزمر الآية 2
(2)
شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد ص 66 (القاهرة تحقيق طه الزيني).
(3)
الملل والنحل للشهرستاني، ج 1 ص 145 - 154.
(4)
الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، ج 1، ص 151 (م. مؤسسة النور بالرياض).
(5)
د. صالح بن غانم السدلان، المرجع السابق ص 67.
الإنسان العمل الذي انتواه، ومن يعمل عملا دون إخلاص فإنه لا يثاب عليه، وقد ثبت في الصحيحين من أكثر من وجه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة (1)» ، ومن نوى عمل الخير ولم يستطع إكماله كان له أجره كاملا، ففي الصحيح - مما له شواهد كثيرة- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم (2)» ، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربك تبارك وتعالى رحيم، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت حسنة، فإذا عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ولا يهلك على الله تعالى إلا هالك (3)» .
وفي إطار الإخلاص تتحدد ماهية النية، فالنية هي أساس
(1) صحيح البخاري ج 7 ص 178 كتاب الرقاق، وصحيح مسلم ج 1 ص 118 كتاب الإيمان.
(2)
أخرجه الإمام البخاري عن أبي موسى الأشعري ج 4 ص 16.
(3)
أخرجه البخاري ومسلم وأحمد.