الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ب)
نقل ما كتبه الشيخ محمد رشيد رضا جوابا عن سؤال وجه إليه في موضوع البورصة، مع التعليق عليه:
ما قولكم دام فضلكم في رجل من المسلمين اشترى من القطن ألف قنطار مثلا موصوفة في ذمة البائع بثمن معلوم- في شهر المحرم مثلا- على أن يستلمها منه في أجل معلوم- شهر ربيع الأول- كذلك ودفع بعض الثمن عند التعاقد وأجل باقيه إلى الاستلام. فهل للمشتري قبل قبض المبيع وقبل حلول الميعاد أن يبيع ذلك القطن الموصوف في الذمة ويكون تمكين البائع للمشتري من البيع في أي وقت من أوقات الميعاد قبضا وتخلية حتى يكون ذلك البيع صحيحا؛ لأنه معرض للربح والخسران الذي هو قانون البيع، ويكون ما عليه المسلمون اليوم في تجاراتهم من المضاربة وبيع (الكنتراتات) جائزا في دين الله تعالى. أم يكون ذلك بيعا فاسدا وعملا باطلا مشابها للميسر كما يزعمه بعض الناس؟ وإذا كان باطلا فأي فرق بين قبضه بنفسه وبين إذن البائع له بالبيع في أي وقت وما السر في ذلك، وأين اليسر في قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) بل هو عين الحرج في البيع والشراء، وقد قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2). أم كيف يحرم
(1) سورة البقرة الآية 185
(2)
سورة الحج الآية 78
المسلمون من منفعة هذه التجارة العظيمة التي تعود على الكثير منهم، نطلب من حضرتكم الجواب الموافق لكتاب الله وسنة رسوله ودينه الصحيح من غير تقيد بمذهب من المذاهب، مفصلا مبينا فيه سند الجواز أو المنع على لسان مجلتكم الغراء التي أخذت على عاتقها خدمة الإسلام والمسلمين؛ لأن الإجابة على هذا السؤال بما يوافق الشرع أعظم شيء يستفيده التجار المسلمون من أمر دينهم، وكلهم بلسان واحد يطلبون من حضرتكم الإجابة في أقرب وقت على صفحات المنار سواء كانوا بالإسكندرية أو غيرها، وفيهم مشتركون في مجلة المنار الغراء، والكل مشتاق إليها اشتياق الظمآن للماء، ليطمئن الجميع، نسأل الله تعالى أن يعلي شأنكم ويعضد عملكم ويجعلكم ملجأ للقاصدين؟
ج: نهى الكتاب العزيز عن أكل أموال الناس بالباطل أي بغير حق يقابل ما يأخذه أحد المتعاوضين، وأحل التجارة واشترط فيها التراضي فقط، ومن أكل أموال الناس بالباطل ما ورد في الأحاديث من النهي عن بيع الغرر، وعن الغش، وعن بيع ما لا يملك لعله لا يقدر عليه.
وقد ورد في حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما «أنهم كانوا يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يحولوه، وفي رواية ينقلوه، (1)» وقال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (2)» ، وفي رواية
(1) صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1527)، سنن النسائي البيوع (4608)، سنن أبو داود البيوع (3494)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 21)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).
(2)
صحيح البخاري البيوع (2133)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4596)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1336)، سنن الدارمي البيوع (2559).
لأحمد: «من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه (1)» ، وروى أحمد ومسلم عن حديث جابر:«إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه " وهذه الأحاديث خاصة بالطعام وبالتجارة الحاضرة تدار بين التجار (2)» كما يدل عليه كونهم كانوا يفعلون ذلك في السوق وأمروا بالتحويل.
وفي حديث حكيم بن حزام عند أحمد والطبراني قال «قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه (3)» وهو عام. ولكن في سنده العلاء بن خالد الواسطي ضعفه موسى بن إسماعيل. وهناك حديث آخر عام في الطعام وغيره خاص بالسلع الحاضرة، وهو حديث زيد بن ثابت عند أبي داود وابن حبان والدارقطني والحاكم قال:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، (4)» وقد خص بعض العلماء النهي بالطعام واستدلوا على ذلك بأحاديث أخرى تدل على صحة التصرف بالمبيع قبل القبض، ومن هذه التصرفات ما هو مجمع عليه كالوقف والعتق قبل القبض (5) وقد علل ابن عباس النهي: بأن الشيء الحاضر إذا تكرر بيعه ولم يقبض كان ذلك بمنزلة بيع المال بالمال، أي: فإن المال ينتقل من يد إلى يد والشيء حاضر لا يمس كأنه غير محتاج إليه
(1) صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4604)، سنن أبو داود البيوع (3495)، سنن ابن ماجه التجارات (2226)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 111)، موطأ مالك البيوع (1335)، سنن الدارمي البيوع (2559).
(2)
ليس بصحيح لعموم أحاديث النهي، وما استدل به على التخصيص صور جزئية داخلة في عموم النهي لمجيئها على وفقه.
(3)
مسند أحمد بن حنبل (3/ 402).
(4)
صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4606)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).
(5)
الصور المجمع على جوازها ليست داخلة في عموم النهي؛ لأنها ليست بيعا.
ولا مراد، رواه الشيخان. قال مسلم: إنه قال لما سأله طاوس عن ذلك: ألا تراهم يبتاعون بالذهب الطعام مرجأ؟.
وحاصل هذا التعليل أن النهي لمنع الاحتيال على الربا، ولا بد في التجارة أن تكون السلع هي المقصودة فيها لا سيما إذا كانت حاضرة، فما معنى شراء فلان السلعة الحاضرة بعشر جنيهات وبيعها من آخر بخمس عشرة وهي حاضرة وهم حاضرون إلا الحيلة على الربا؟ وأي فائدة للناس في حل مثل هذا اللعب بالتجارة وإننا نعلم أن بيع البورصة ليس من هذا القبيل، ولكن أحببنا أن نورد أصل مآخذ العلماء في تحريم بيع الشيء قبل قبضه ليميز المسلم بين البيوع التي تنطبق عليها الأحاديث وغيرها.
ثم إن علماء المسلمين كافة يجيزون إرجاء الثمن أو إرجاء القبض (1) ولكن أكثرهم يمنع بيع الشيء قبل قبضه مطلقا فإن احتجوا بالأحاديث المذكورة آنفا فقد علمت أنها لا تدل على هذا الإطلاق، وإن قالوا إن بيع ما في الذمة لا يخلو من غرر وربما يتعذر تسليمه نقول: إن هذا رجوع إلى القواعد العامة التي وضعها الدين للمعاملات وكلها ترجع إلى حديث: «لا ضرر ولا ضرار (2)» ، فكل ما ثبتت مضرته ولم يكن في ارتكابه منع ضرر أكبر منه فهو محرم وإلا كان حلالا، وهذا ينطبق على قاعدة بناء
(1) هذا ليس على إطلاق فإنهم لم يقولوا ذلك في رأس مال السلم.
(2)
سنن ابن ماجه الأحكام (2340)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 327).
الشريعة على اليسر ودفع الحرج. ولا شك أن في مبايعات البورصة ما هو ضار وما هو نافع، وتحرير ذلك بعد العلم بأصول الأحكام التي ذكرناها متيسر للتاجر المتدين (1) وقد جاء في الصحيح «النهي عن بيع المحاضرة (2)»: وهو بيع الثمار والحبوب قبل بدو صلاحها، وذلك لما كثر تشاكيهم، ودعوى البائعين أن الآفات والجوائح أصابت الثمر قبل بدو صلاحه، وإنما هذا في ثمر شجر معين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ (3)» والحديث في البخاري. ولا يدخل في هذا بيع كذا قنطارا من القطن قبل بدو صلاحه إذا لم يعين شجر القطن.
ويدل على ذلك جواز السلم الذي يدخل في تجارة البورصة، فإن الكثير منها في معنى السلم، إلا أنه لا ينطبق على جميع شروطه وأحكامه المشروحة في كتب الفقه فنذكر حقيقة ما جاء فيه في الأحاديث الصحيحة فيه إثارة للموضوع، فإننا غير واقفين على تفصيل ما يجري في البورصة من البيوع (4) فنكتفي بالكلام فيها.
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن من حديث ابن عباس قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: "من أسلف فليسلف في كيل
(1) في هذا إجمال وحيدة عن جواب السائل.
(2)
صحيح البخاري الزكاة (1487)، سنن ابن ماجه التجارات (2216)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 395).
(3)
صحيح البخاري البيوع (2199)، صحيح مسلم المساقاة (1555)، سنن النسائي البيوع (4526)، موطأ مالك البيوع (1304).
(4)
إذا كان أمره كذلك وجب أن يؤخر الكلام في البورصة حتى يكون عن بينة من صورها.
معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1)». فالكيل المعلوم شرط؛ لأنهم كانوا يسلفون في ثمار نخيل بأعيانها وفيه غرر وخطر كما علم مما تقدم.
وأما الآجل فقال الشافعية: إنه ليس بشرط، وإن الجواز حالا أولى وهو الراجح، وإن خالفهم الجمهور. وأقل التأجيل عند المالكية ثلاثة أيام (2) وروى أحمد والبخاري من حديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا:«كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى قيل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك (3)» .
وفي رواية لأحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه «وما نراه عندهم (4)» أي المسلم فيه. وهو دليل على أنه لا يشترط في المسلم فيه أن يكون عند المسلم إليه. قال ابن رسلان: وأما المعدوم عند المسلم إليه وهو موجود عند غيره فلا خلاف في جوازه. وأجاز الجماهير السلم فيما ليس بموجود عند العقد خلافا للحنفية، ويدل عليه حديث ابن عباس السابق، فإن السلف في الثمار إلى سنتين نص فيه إذ الثمار لا تمكث سنتين.
وروى أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه
(1) صحيح البخاري السلم (2239)، صحيح مسلم المساقاة (1604)، سنن الترمذي البيوع (1311)، سنن النسائي البيوع (4616)، سنن أبو داود البيوع (3463)، سنن ابن ماجه التجارات (2280)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 358)، سنن الدارمي البيوع (2583).
(2)
هذا ليس في الموضوع لأن مضاربات البورصة كلها فيها أجل حتى الفورية.
(3)
صحيح البخاري السلم (2245)، سنن النسائي البيوع (4615)، سنن أبو داود البيوع (3466)، سنن ابن ماجه التجارات (2282)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 354).
(4)
سنن النسائي البيوع (4615)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 354).