الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
17 - بَابُ فَضْلِ الْمَدِينَةِ
(1)
890 -
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا (2) بَايَعَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإِسلام، ثُمَّ أَصَابَهُ وَعَك (3) بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَقِلْنِي (4) بَيْعَتِي، فَأَبَى (5)، ثُمَّ جاء فقال: أقلني
(1) قوله: أن أعرابياً، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في "ربيع الأبرار" أنه قيس بن أبي حازم، وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور، صرّحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن كان محفوظاً فلعله رجل آخر، وفي "الذيل" لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري.
(2)
قوله: أن أعرابياً، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في "ربيع الأبرار" أنه قيس بن أبي حازم، وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور، صرّحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن كان محفوظاً فلعله رجل آخر، وفي "الذيل" لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري.
(3)
قوله: وَعَك، بالفتح وبفتحتين، الحُمَّى، وكانت المدينة في أوائل الإِسلام ذا وباءٍ وحُمَّى شديدة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، بنقل حُمَّاها إلى الجُحْفة وكانت إذ ذاك مسكن اليهود وصارت المدينة أطيب البلاد أرضاً وهواءً وماءً ورد بذلك أخبار بسطها السيوطي في رسالته "كشف الغُمَّى عن فضل الحُمَّى".
(4)
من الإِقالة، أي رُدّ عليّ بيعتي فإني لست براضٍ به (قوله:(أقلني بيعتي) إنما كان ظناً منه أن البيعة كما كانت انعقدت به صلى الله عليه وسلم فكذلك انفساخها منوط بمشيئته وإرادته، ولم يكن الأمر كذلك بل المدار في ذلك على عقيدة المسترشد وإرادته إن ثبت على عهده الذي عقد فذلك وإلا انفسخ، وإنما أبى النبي صلى الله عليه وسلم إقالته ذلك الذي عهد لأنه كان ارتداداً من الإِسلام، فكيف لا ينكره النبي صلى الله عليه وسلم. الكوكب الدرّي 4/459) .
(5)
قوله: فأبى، وقيل: إنما استقاله من الهجرة، ولم يُرِدْ الارتداد عن
بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي؟، فَأَبَى، فَخَرَجَ (1) الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ (2) ، تَنْفِي خَبَثها وتَنْصع طِيبها.
18 -
بَابُ اقْتِنَاءِ (3) الْكَلْبِ
891 -
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصيفَة، أَنَّ السَّائِبَ بن
الإِسلام، ولو أراد الردّة لقتله هناك، وقيل: استقاله من القيام بالمدينة، وقيل كانت بيعته على الإِسلام إنْ كانت بعد (في الأصل:"قبل الفتح"، وهو تحريف. انظر شرح الزرقاني (4/221) الفتح فلم يُقِلْه، لأنه لا يحل الرجوع إلى الكفر، وإن كان قبله فهي على الهجرة والمُقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه الأصلي.
(1)
أي من المدينة إلى البدو.
(2)
قوله: إن المدينة كالكِير، بكسر الكاف المنفخ الذي يُنفخ به النار، أو الموضع المشتمل عليها. تَنْفي، بفتح الفوقية وسكون النون وبالفاء. خَبثَها، بفتحتين ما تبرزه النار من وسخ وقذر من الذهب والفضة، ويروى بضم الخاء وسكون الباء. وتَنْصَع، بفتح الفوقية، وفي رواية بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد من النصوع، بمعنى الخلوص أي يخلص ويميز. طِيْبها، بكسر الطاء وسكون الياء، شبّه المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد بالكير، وما يدور عليه بمنزلة الخبث فيذهب الخبث ويبقى الطيب، فكذا المدينة تنفي شِرارها (قال العيني: فإن قلت إن المنافقين سكنوا في المدينة وماتوا بها ولم تنفهم، قلت: كانت المدينة دارهم أصلاً ولم يسكنوها بالإِسلام ولا حبّاً له، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يُرِد صلى الله عليه وسلم بضرب المثل إلا من عقد الإِسلام راغباً فيه ثم خبث قلبه. عمدت القاري 10/246) بالبلاء وتطهّر خيارهم وتزكّيهم، كذا في "شرح الزرقاني.
يَزِيدَ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ (1) بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ وَهُوَ رجلٌ مِنْ شَنُوءَة، وَهُوَ (2) مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ (3) أُنَاسًا مَعَهُ، وَهُوَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنِ اقْتَنَى (4) كَلْبًا لا يُغني به
(3) قوله: سفيان بن أبي زُهير، بضم الزاء، قال ابن المديني وخليفة: اسم أبيه الفرد، وقيل: نمير بن عبد الله بن مالك، ويقال له النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن نصر بن زهران، نزل المدينة، وكان رجلاً من أَزْد بفتح الهمزة وسكون الزاء المعجمة، شَنُوءَة بفتح الشين وضم النون بعد الواو همزة مفتوحة ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سباء، قبيلة معروفة، كذا ذكره الزرقاني.
(1)
قوله: سفيان بن أبي زُهير، بضم الزاء، قال ابن المديني وخليفة: اسم أبيه الفرد، وقيل: نمير بن عبد الله بن مالك، ويقال له النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن نصر بن زهران، نزل المدينة، وكان رجلاً من أَزْد بفتح الهمزة وسكون الزاء المعجمة، شَنُوءَة بفتح الشين وضم النون بعد الواو همزة مفتوحة ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سباء، قبيلة معروفة، كذا ذكره الزرقاني.
(2)
هذا كلام أحد الرواة والظاهر أن قائله السائب بن يزيد.
(3)
أي سمع سفيان حال كونه يحدِّث عند باب المسجد النبوي.
(4)
قوله: من اقتنى، من الاقتناء، وهو من القِنْية بالكسر أي اتّخذ كلباً. لا يغني به، أي لا يحفظ صاحبه به أولا يحفظ الكلب بنفسه، أو لأجل صاحبه، وفي "موطأ يحيى": لا يغني عنه زرعاً، بالفتح أي حرثاً. ولا ضِرعاً، بالفتح المراد به المواشي أصحاب الضروع كالغنم والبقر. نقص من عمله، أي أجر أعماله وثواب عباداته كل يوم من أيام الاقتناء ما لم يتب. قيراط، قال الباجي: هو قدر لا يعلمه إلا الله يعني أن الاقتناء يكون سبباً لنقصان ثوابه وحرمانه، فإن من السيئات ما يحبط الحسنات، وقيل: المراد من النقص أن الإِثم الحاصل بقدر قيراط أو قيراطين فيوازن ذلك القدر من أجر عمله، وقيل: المراد أنه لو لم يتخذه لكان عمله كاملاً، فإذا اتخذه نقص من ذلك العمل. وسبب النقص إما امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه كلب أو ما يلحق المارِّين من الأذى أو عقوبة لمخالفة النهي عن الاتخاذ، وفي رواية ابن عمر نقص من عمله قيراطان، قال الزرقاني: قيل من عمل الليل قيراط، ومن عمل النهار قيراط، وقيل: من الفرض قيراط، ومن النفل قيراط، ولا يخالفه قوله في الحديث السابق: قيراط لأن الحكم للزائد أو يُنَزّل على حالين.
زَرْعًا وَلا ضَرْعًا نُقِص مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ. قَالَ (1) : قُلْتُ: أَنْتَ سمعتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إيْ (2) وربِّ الْكَعْبَةِ وربِّ هَذَا الْمَسْجِدِ.
قَالَ محمدٌ: يُكره (3) اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ لِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ، فَأَمَّا كَلْبُ الزَّرْعِ أَوِ الضَّرْعِ أَوِ الصَّيْدِ أَوِ الْحَرَسِ (4) فَلا بَأْسَ بِهِ.
892 -
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ (5) بْنِ مَيْسَرة، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
(1) أي السائب من سفيان طلباً لتحقيق روايته.
(2)
بالكسر (إي) حرف جواب بمعنى: ورب هذا المسجد، الواو للقسم، هكذا لفظ البخاري، وفي رواية سليمان بن بلال: ورب هذه القبلة، قال الحافظ: القسم للتوكيد وإن كان السامع مصدقاً، كذا في الأوجز 15/163) كلمة إيجاب أي نعم أنا سمعته منه.
(3)
قوله: يكره اقتناء الكلب لغير منفعة، هذا بالإِجماع، وأما بيعه فلا يجوز عند الشافعي مطلقاً، وبه قال أحمد، وعند بعض المالكية يجوز بيع الكلب المأذون بإمساكه، وعندنا يجوز مطلقاً إلا إذا كان عقورا لا يقبل التعليم والأدلّة مذكورة في الهداية وشروحها.
(4)
بالفتح أي حفاظة البيوت وغيرها.
(5)
قوله: عن عبد الملك بن مَيْسَرة، بفتح الميم وفتح السين بينهما ياء مثناة تحتية، كذا ضبطه في "المغني" وفي "تهذيب التهذيب" عبد الملك بن ميسرة الهلالي، أبو زيد العامري الكوفي، روى عن ابن عمر وأبي الطفيل وطاوس وسعيد بن جبير وغيرهم، وعنه شعبة ومسعر ومنصور، قال ابن معين والنسائي والعجلي: ثقة، وذكره البخاري في من مات في العشر الثاني من المائة الثانية.
النَّخَعي قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَهْلِ الْبَيْتِ الْقَاصِي (1) فِي الْكَلْبِ يَتَّخِذُونَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فَهَذَا (2) للحرَس.
893 -
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا - إِلا كلبَ ماشيةٍ أَوْ ضَارِيًا (3) - نُقِص مِنْ عمله كلَّ يوم قيراطان.
انتهى ملخصاً. وهناك ابن ميسرة آخر وهو عبد الملك بن أبي سليمان ميسرة العزرمي الكوفي، روى عن أنس وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير، وعنه شعبة والثوري والقطان وغيرهم، وثقه أحمد وابن معين والنسائي وابن مسعود وغيرهم مات سنة 145، ذكره في تهذيب التهذيب" أيضاً.
(1)
أي البعيد عن العمارة المحتاج إلى لحراسة.
(2)
قوله: فهذا، أي هذا الذي رخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل البيت القاصي كان للحفظ، فعُلم جوازه منه.
(3)
قوله: أو ضارياً، أي معلَّماً للصيد معتاداً له، ومقتضى هذه الرواية حصر الجواز في كلب الصيد وحفظ المواشي، وفي رواية أبي هريرة عند مسلم والترمذي وغيرهما إلا كلبَ حرث أو ماشية، ومدار الحصر على اختلاف المقامات واعتقاد السامعين، فالمقام الأول اقتضى إخراج كلب الصيد، والثاني استثناء كلب الزرع ولا تنافي في ذلك، كذا في: كواكب الدراري".
19 -
بَابُ مَا يُكره مِنَ الْكَذِبِ وَسُوءِ الظَّنِّ والتجسُّس (1) وَالنَّمِيمَةِ (2)
894 -
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ (3) عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْذِبُ (4) امْرَأَتِي؟ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خَيْرَ (5) فِي الْكَذِبِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أعِدُها (6) وأقولُ، قَالَ (7) رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا جُناح (8) عَلَيْكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فِي جِدّ (9) ولا هزل،
(1) قوله: عن عطاء بن يسار، ليس في "موطأ يحيى" ذكره، بل فيه مالك عن صفوان بن سليم أن رجلاً، الحديث، قال ابن عبد البر: لا أحفظه مسنداً بوجه من الوجوه، ورواه ابن عيينة عن صفوان، عن عطاء مرسلاً.
(2)
بحذف الاستفهام أي أأكذبُ من امرأتي؟.
(3)
قوله: عن عطاء بن يسار، ليس في "موطأ يحيى" ذكره، بل فيه مالك عن صفوان بن سليم أن رجلاً، الحديث، قال ابن عبد البر: لا أحفظه مسنداً بوجه من الوجوه، ورواه ابن عيينة عن صفوان، عن عطاء مرسلاً.
(4)
بحذف الاستفهام أي أأكذبُ من امرأتي؟.
(5)
أي بل هو شرّ كلّه من امرأته كان أو من غيرها.
(6)
قوله: أعِدُها، بحذف همزة الاستفهام أي أعِدُها من الوعدة. وأقولُ، أي لها بلساني أفعلُ لك كذا وكذا ولا يكون في نيّتي إيفاؤه.
(7)
في رواية "يحيى": فقال أي في جوابه.
(8)
قوله: لا جُناح، بالضم أي لا إثم عليك في ذلك، للفرق بين الكذب والوعد لأن ذلك ماضٍ وهذا مستقبل، وقد يمكنه تصديق خبره فيه، قاله الباجي في "شرح الموطأ".
(9)
قوله: في جِدّ، بكسر الجيم وتشديد الدال خلاف الهَزْل، والهَزْل
فَإِنْ وسعَ الْكَذِبُ (1) فِي شَيْءٍ فَفِي خَصْلة واحدةٍ أَنْ ترفَعَ عَنْ نَفْسِكَ أَوْ عَنْ أخيك مظلمة، فهذا نرجوا أَنْ لا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ.
895 -
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا أبو زناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ (2) والظنَّ، فإن الظنَّ أكذب (3) الحديث،
بالفتح إظهار ما ليس في قلبه وصدق همّته بلسانه لرضاء المخاطب وسروره ونحو ذلك.
(1)
قوله: وسع الكذب، اي إنْ جاز في صورة ففي صورة واحدة وهي أَنْ تَرْفَعَ عَنْ نَفْسِكَ أَوْ عَنْ أَخِيكَ مَظْلِمة بكسر اللام أي ظلماً بسبب الكذب، ومنه الكذب للإِصلاح بين الناس، وفيه إشارة إلى أن التعريض في مثل هذه الصور أحوط.
(2)
قوله: إياكم والظن، أي احذروا وقُوا أنفسَكم من الظنّ، أي ظَنّ السوء بالمسلم وهو تهمة يميل إليها (في الأصل إليه، وهو تحريف) القلب بلا دليل، ويركن إليها ولمراد به عقد القلب، وحكمه على غيره بالسوء بلا دليل، وهو حرام كسوء القول، وأما الخواطر وحديث النفس فعفو، كذا حققه الغزالي في "إحياء العلوم".
(3)
قوله: أكذب الحديث، أي حديث النفس لأنه يكون بوسوسة الشيطان في قلب الإِنسان، قال الخَطّابي: ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تُناط به الأحكام غالباً، بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضرّ بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بلا دليل، وقال عياض: استدل بالحديث قوم على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي، حمله المحققون على ظنٍّ مجرّدٍ عن دليل ليس مبنيّاً على أصل ولا تحقيق نظر.
وَلا تجسَّسُوا (1) وَلا تَنَافَسُوا (2) وَلا تَحَاسَدُوا (3) وَلا تَبَاغَضُوا (4) وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عبادَ (5) اللَّهِ إِخْوَانًا (6) .
896 -
أخبرنا مالك، أخبرنا أبو زناد، عن الأعرج، عن
(1) قوله: ولا تجسّسوا، من التجسّس، وهو البحث والتفتيش عن معائب الناس وسرائرهم، وفي رواية: بزيادة "ولا تحسّسوا" بالحاء مكان الجيم من التحسس، وهو بمعنى التجسس، ومنهم من فرّق بأن الذي بالحاء استماع حديث القوم، والثاني البحث عن العورات، وقيل غير ذلك، كما بسطه الزرقاني في "شرحه".
(2)
قوله: ولا تنافسوا، من المنافسة، الرغبة في الشيء وطلب الانفراد به، وعُلُوّه فيه، والمنهي عنه التنافس في أمور الدنيا لطلب العلوّ والفخر على الناس، وأما في أمور الخير فجائز، بل مستحب لقوله تعالى:(فليتنافس المتنافسون) سورة المطفّفين: الآية 26) .
(3)
قوله: ولا تحاسدوا، من الحسد وهو تمنِّي زوال ما أنعم الله على غيره أراده لنفسه أم لم يُرد، وأما تمنِّي مثله لنفسه من غير أن يزول عن غيره فهو غِبْطة بالكسرة جائزة.
(4)
قوله: ولا تباغضوا، أي لا تكسبوا أسباباً مفضية إلى البغض والعداوة، وهو مذموم إذا كان لغير الله، وأما إن كان في الله فهو مندوب، وكذا التدابر أي مهاجرة أخيه وترك السلام والكلام معه، كأنّ كلاًّ منهما يُوْلي دُبُره ويُعرض عن أخيه فإن لم يكن في الله فهو حرام، وإن كان لله كمهاجرة أهل البدع من حيث ابتداعُهم فهو مندب، كما بسطه السيوطي في رسالته "الزجر بالهجر".
(5)
أي عبيده الخوّاص الكاملين.
(6)
خبر بعد خبر أي متآخِين ومتحابِّين في ما بينهم.
أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: مِنْ شَرِّ النَّاسِ (1) ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي (2) يَأْتِي هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ.
20 -
بَابُ الاسْتِعْفَافِ (3) عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَالصَّدَقَةِ
897 -
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخُدري: أن ناساً (4) من الأنصار سألوا
(1) أي عند الله يوم القيامة.
(2)
قوله: الذي يأتي، تفسير لذي الوجهين وإشارة إلى أنه ليس المراد به تعدد الوجه حقيقة فما جعل الله لرجل من وجهين في جسده، بل المراد أنه يأتي قوماً بوجه وقوماً بوجه آخر، فيظهر عند كل أحد ما يخفيه عن الآخر كذباً وخداعاً، وإفساداً ونفاقاً.
(3)
قوله: أنّ أناساً، قال الحافظ ابن حجر: لم يتعيَّن لي أسماؤهم إلا أنّ في النسائي ما يدل أن أبا سعيدٍ الراوي منهم، وللطبراني عن حكيم بن حزام أنه خوطب ببعض ذلك لكنه ليس أنصاريَّاً إلا بالمعنى الأعمِّ، وردّه العيني بأنّ في النسائي عن أبي سعيد: سرَّحَتْني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة فأتيته فاستقبلني، فقال: من استغنى أغناه الله، الحديث وزاد فيه: من سأل وله أوقية فقد ألحف، فقلت: ناقتي خير من أوقية فرجعت ولم أسأله. وليت شعري أيّ دلالة هذا من أنواع الدلالات وليس فيه شيء يدل على كونه مع الأنصار في حالة سؤالهم.
(4)
قوله: أنّ أناساً، قال الحافظ ابن حجر: لم يتعيَّن لي أسماؤهم إلا أنّ في النسائي ما يدل أن أبا سعيدٍ الراوي منهم، وللطبراني عن حكيم بن حزام أنه خوطب ببعض ذلك لكنه ليس أنصاريَّاً إلا بالمعنى الأعمِّ، وردّه العيني بأنّ في النسائي عن أبي سعيد: سرَّحَتْني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة فأتيته فاستقبلني، فقال: من استغنى أغناه الله، الحديث وزاد فيه: من سأل وله أوقية فقد ألحف، فقلت: ناقتي خير من أوقية فرجعت ولم أسأله. وليت شعري أيّ دلالة هذا من أنواع الدلالات وليس فيه شيء يدل على كونه مع الأنصار في حالة سؤالهم.
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى أنفَذَ (1) مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: مَا يكنْ (2) عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَه (3) عَنْكُمْ، مَنْ يستعِفَّ (4) يَعُفَّه (5) اللهُ، وَمَنْ يستَغْن (6) يُغنه اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ (7) يُصَبِّرْه اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أحدٌ عَطَاءً هُوَ خيرٌ (8) ، وأوسعُ مِنَ الصَّبْرِ (9) .
898 -
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أباه (10)
(1) أي أفرغ وأفنى، ولم يبق منه شيء.
(2)
شرطية وفي رواية: ما يكون فما موصولة.
(3)
قوله: فلن أدّخره، بتشديد الدال المهملة أي لن أحفظه وأجعله ذخيرة معرضاً عنكم بل كل ما يكون عندي أعطيه لكم.
(4)
يتشديد الفاء وكسر العين أي يطلب العفة، ويكفّ عن السؤال.
(5)
قوله: يَعُفَّه، بفتح حرف المضارع وضم العين وفتح الفاء المشددة، أو من الإِعفاف أي يرزقه العفّة ويوفقه ما يمنعه عن الذِّلّة.
(6)
قوله: ومن يستغن، أي يُظهر الغنى بما عنده عن المسألة. يُغنه الله، من الإِغناء أي يمدّه بالغنى عن الناس فلا يحتاج إلى أحد.
(7)
قوله: ومن يتصبّر، بتشديد الباء أي يعالج صبراً ويتكلّفه مع الضيق. يُصَبِّره الله، أي يرزقه صبراً ويوفقه له.
(8)
في رواية خيراً بالنصب صفة عطاء.
(9)
لكونه جامعاً لمكارم الأخلاق.
(10)
قوله: أن أباه، أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وفي رواية أحمد بن منصور البلخي، عن مالك، عن عبد الله، عن أبيه، عن أنس.
أَخْبَرَهُ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ (1) رَجُلا مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهل (2) عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ سَأَلَهُ أَبْعِرَةً (3) مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ (4) : فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى عُرف (5) الغضبُ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ الغضبُ فِي وَجْهِهِ أَنْ (6) يَحْمَرَّ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي مَا (7) لا يَصْلُحُ لِي وَلا لَهُ، فَإِنْ منعتُه كرهتُ (8) المنعَ، وَإِنْ أعطيتُه أَعْطَيْتُهُ مَا لا (9) يَصْلُحُ لِي وَلا لَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لا أَسْأَلُكَ مِنْهَا (10) شَيْئًا أَبَدًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي أَنْ يُعطى مِنَ الصَّدَقَةِ (11) غنياً. وإنما نَرَى (12)
(1) أي جعله عاملاً وناظراً.
(2)
بالفتح وسكون الشين: بطن من الأوس.
(3)
قوله: أَبْعِرَة، بالفتح وسكون الباء وكسر العين جمع بعير، أي سأله عدداً من تلك الإِبل زيادة على قدر عمله.
(4)
أي الراوي.
(5)
أي بأثره وهو الحُمْرة.
(6)
لشدّة الغضب وكظمه الغيظ.
(7)
ومنه مال الصدقة.
(8)
لكونه جبلّته على الجود والكرم.
(9)
لعدم حِلّه لي وله.
(10)
أي من الصدقة.
(11)
أي إلا العامل عليها بقدر عمله.
(12)
أي نَظُنّ.
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذَلِكَ (1) ، لأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ غَنِيًّا (2) ، وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا لأَعْطَاهُ مِنْهَا.
21 -
بَابُ الرَّجُلِ يَكْتُبُ إِلَى الرَّجُلِ يَبْدَأُ (3) بِهِ
899 -
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَتَبَ (4) إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ يُبايعه (5) فَكَتَبَ (6) : بِسْمِ الله الرحمن الرحيم، أما بعد (7) ، لعبد
(1) أي ذلك الكلام الدالّ على الامتناع لذلك العامل.
(2)
قوله: كان عنيّاً، كما يفيده قوله إنْ أعطيتُه أعطيته بما لا يصلح لي وله، فلا يحلّ له من مال الصدقة إلا بقدر عمله لقوله تعالى:(إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَراءِ والمَسَاكِين وَالعَامِلِين عَلَيها) سورة التوبة: الآية 60) .
(3)
قوله: أنه كتب، في رواية البخاري، عن ابن دينار قال: شهدت ابن عمر حين اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، يعني بعد قتل عبد الله بن الزبير، وانتظام المُلْك له وتفرُّده به، ومبايعة الناس له.
(4)
قوله: أنه كتب، في رواية البخاري، عن ابن دينار قال: شهدت ابن عمر حين اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، يعني بعد قتل عبد الله بن الزبير، وانتظام المُلْك له وتفرُّده به، ومبايعة الناس له.
(5)
جملة حالية.
(6)
أعاده تفسيراً وتثبتاً.
(7)
قوله: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، هذه كلمة ينبغي استعمالها في صدور الكتب والرسائل، وقد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في صدور مكاتبته إلى كسرى
اللَّهِ (1) عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، سلامٌ عَلَيْكَ (2) ، فَإِنِّي أحمَد (3) إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلَاّ هُوَ وأُقِرُّ (4) لك بالسمع (5) والطاعة على
وهرقل وغيرهما، ويقال: أول من تكلم بها داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويُستحبُّ أيضاً البداية بالبسملة، وعليه كانت كُتُب النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت حكاية كتابة سليمان إلى مَلِكة سبأ بلقيس:"إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم"، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب أولاً باسمك اللَّهم، كما كان أهل الجاهلية يكتبونه حتى نزلت:(بسم الله مَجراها ومُرسها) سورة هود: الآية 41) فكتب بسم الله إلى أن نزلت: (قال ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) فكتب بسم الله الرحمن إلى أن نزلت آية كتاب سليمان، فكتب البسملة التامَّة، أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو عبيد عن الشعبي. وفي الباب، عن أبي مالك أخرجه أبو داود في "مراسيله"، وميمون بن مهران، أخرجه ابن أبي حاتم، وكذا عبد الرزاق وابن المنذر، عن قتادة، كما ذكره السيوطي في "الدرّ المنثور".
(1)
قوله: لعبد الله، أي هذا مكتوب لأجله أو اللام بمعنى إلى، ووصفه بعبد الله إشارة إلى أنه ينبغي له الخضوع وعدم الاغترار بالملك.
(2)
سلام عليك، بالتنكير وهو والتعريف فيه متساويان، وقيل: التنكير أوْلى اقتفاءً بما في القرآن: (سلامٌ على نوح) و (سلام على إبراهيم) وغير ذلك، وقيل عند الخطاب والمشافهة التعريف أَوْلى اقتداءً بالأحاديث الواردة به.
(3)
أي أُنهي (والأظهر أن يقال أحمد الله منتهياً إليك، كذا في الأوجز 15/115) إليك حمده.
(4)
من الإِقرار.
(5)
أي سمع ما تأمره وتنهاه، والإِطاعة فيه لقوله تعالى:(أطيعُوا اللَّهَ وأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأولي الأمرِ مِنْكُم) سورة النساء: الآية 59) .
سُنَّةِ اللَّهِ (1) ، وسُنَّة رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا اسْتَطَعْتُ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ إِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ إِلَى صَاحِبِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِصَاحِبِهِ (3) قَبْلَ نَفْسِهِ.
900 -
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّناد، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِعَبْدِ اللَّهِ مُعَاوِيَةَ أمير المؤمنين، من زيد بن ثابت (4) .
(1) قوله: على سُنَّة الله، أي على طريقته وطريقة رسوله وشريعته، أشار بذلك إلى ما ورد "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق"، أخرج الترمذيُّ نحوَه وغيره.
(2)
أي في ما قدرت (قال الباجي: على حسب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليهم من قوله: "فيما استطعتم"، وأنه إذا التزم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم بشرط الاستطاعة فبأن يشترط ذلك لغيره أَوْلى وأحرى. أوجز المسالك 15/264) فإن التكليف والاتِّباع ليس إلَاّ بحسب الوسع، وما هو خارج عنه.
(3)
أي يذكره قبل ذكره.
(4)
قوله: من زيد بن ثابت، تتمَّته: سلامٌ عليك أمير المؤمنين ورحمة الله، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلَاّ هو، أما بعد: فإنك كتبتَ تسألني عن ميراث الجَدّ والإِخوة، وإن الكلالة وكثيراً مما نقضي به في هذه المواريث لا يعلم مبلغها إلَاّ الله، وقد كنا نحضر من ذلك أموراً عند الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعينا منها ما شِئنا أن نعيَ، فنحن نُفتي بعدُ من استفتانا في المواريث، كذا أورده السيوطي في "الدر المنثور"، في آخر سورة النساء مسنداً إلى رواية الطبراني عن خارجة بن زيد.