الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها
إعداد
فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن البحث الذي طرحه مجمعنا الموقر للمناقشة وتشرفت باختياره للكتابة فيه هنا هو: (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) .
وهذا البحث على أهميته وخطورته اليوم في عالمنا المعاصر لم يفرده فقهاؤنا القدامى – رحمهم الله تعالى وأجزل مثوبتهم – بكتاب فيما أعلم، حتى ولا برسالة أو بحث منفرد على حدة، لا تقصيرًا منهم، بل لأن هذه المشكلة وهي مشكلة السكن لم تكن موجودة في عصرهم بشكلها الحالي المخيف، فلم تكن نازلة، بل الأمر عندهم كان أيسر مما نتصور، لذلك تجد أحكامًا للمساكن والدور والعقار بعامة مبثوثة هنا وهناك في طيات كتبهم ومدوناتهم وثنايا عباراتهم، هي على قصورها مفاتيح لبحثنا اليوم لا يستغنى عنها فجمعت هذا إلى ذاك وزدت من توفيق الله ما أفاد،
هذا، ولقد أقمت البحث هنا على مدخل ومقصد وخاتمة، ودونك التفصيل:
المدخل إلى البحث
يدخل التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها تحت كليات فقهية (ثلاث) هن على الترتيب التالي:
كلية الاستصناع عقدًا من العقود المسماة عند الحنفية وله شروطه وضوابطه.
كلية بيع العقار قبل قبضه وأقاويل العلماء فيه.
كلية التمويل المصرفي وضوابطه في الفقه الإسلامي.
ودونك التفصيل:
* أولا: (كلية الاستصناع) لدى الحنفية. وهو (التعاقد على صنع شيء معين)(1)(1)
وعرفه الأستاذ الدكتور وهبه الزحيلي فقال: " هو عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة "(2) .
وينعقد بالإيجاب والقبول من المستصنع والصانع، ويقال للمشتري (مستصنع) وللبائع (صانع) وللشيء (مصنوع) والراجح لدى الحنفية أنه بيع لا وعد ولا إجارة، وأن المعقود عليه هو العين الموصى بصنعها لا عمل الصانع، ويجوز عند الحنفية استحسانًا لتعامل الناس وتعارفهم عليه في سائر الأعصار من غير نكير فكان إجماعًا منهم على الجواز، ويصح الاستصناع عند الجمهور، المالكية والشافعية والحنابلة على أساس عقد السَّلَم وعُرف الناس. ويشترط فيه لديهم ما يشترط في السلم، ويصح عند الشافعية سواء حدد فيه الأحل لتسليم الشيء المصنوع أم لا بأن كان حالا.
أما شروط الاستصناع عند الحنفية فأبرزها:
بيان جنس المصنوع وقدره وصفته لأنه مبيع، فلا بد من أن يكون معلوما، والعلم يحصل بذلك.
أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس من أوان وأحذية وأمتعة الدواب ونحوها، ولا يجوز الاستصناع في الثياب لعدم تعامل الناس به، فإذا تعاملوا به وصار متعارفًا صح.
ألا يكون فيه أجل عند الإمام أبي حنيفة لأنه بتحديد الأجل انقلب سلمًا عنده، وقال الصاحبان ليس هذا بشرط، والعقد استصناع على كل حال حدد فيه أجل أم لم يحدد، لأن العادة جارية بتحديد الأجل في الاستصناع، ورجح الدكتور الزحيلي قول الصاحبين فقال:"ونرى أن قولهما هو المتمشي مع ظروف الحياة العملية فهو أولى بالأخذ "(1)(3) .
والراجح في صفة عقد الاستصناع هو قول الإمام أبي يوسف بأن العقد لازم إذا رأى المستصنع المصنوع ولا خيار له إذا جاء موافقًا للطلب والشروط، لنه مبيع بمنزلة المسلم فيه فليس له خيار الرؤية لدفع الضرر عن الصانع، ورجح الدكتور الزحيلي هذا القول الذي أخذت به المجلة فقال:" وفي تقديرنا أن هذا الرأي الذي أخذت به المجلة سديد منعًا من وقوع المنازعات بين المتعاقدين ودفعًا للضرر عن الصانع "، ثم قال " ولأن هذا الرأي يتفق مع مبدأ القوة الملزمة للعقود بصفة عامة في الشريعة الإسلامية، ويتناسب مع الظروف الحديثة التي يتفق فيها على صناعة أشياء خطيرة وغالية الثمن جدًّا كالسفن والطائرات، فلا يعقل أن يكون عقد الاستصناع فيها غير لازم "(2)(4) .
(1) البدائع: 5/2، فتح القدير: 5/354 والفتاوى الهندية: 4/504، والفقه الإسلامي وأدلته: 4/243.
(2)
الفقه الإسلامي وأدلته: 4/631 وما بعدها.
(3)
البدائع: 5/3، فتح القدير: 5/355، رد المحتار: 4/223، المبسوط: 129، والفقه الإسلامي وأدلته: 4/633.
(4)
المبسوط: 12/139، فتح القدير: 5/356، البدائع: 5/210، رد المحتار: 4/223، والفقه الإسلامي وأدليته: 4/634.
أما حكم الاستصناع في حق المستصنع إذا أتى الصانع بالمصنوع على الصنعة المشروطة فهو ثبوت الملك غير لازم في حقه، حتى يثبت له خيار الرؤية إذا رآه: إن شاء أخذه وإن شاء تركه.
وأما في حق الصانع فحكمه ثبوت الملك اللازم إذا رآه المستصنع ورضي به ولا خيار له، هذا كله إذا رأى المستصنع المصنوع، أما إذا لم يره فالعقد غير لازم قبل الصنع وبعد الفراغ من الصنع، ولكل من العاقدين الخيار في إمضاء العقد أو فسخه والعدول عنه قبل رؤية المستصنع للشيء المصنوع فلو باع الصانع المصنوع قبل أن يراه المستصنع جاز، لأن العقد غير لازم، والمعقود عليه ليس هو عين المصنوع وإنما مثله في الذمة، فإذا جاء الصانع بالمصنوع إلى المستصنع سقط خيار الصانع لأنه رضي بكونه للمستصنع حيث جاء به إليه (3)(1) . هذه هي الكلية الأولى.
* ثانياً: أما الكلية الثانية، وهي بيع العقار قبل فيضه وأقاويل العلماء فيه إلى اتجاهين:
الاتجاه الأول: يجوز بيع العقار قبل قبضه من المشتري عند الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف – رحمهما الله تعالى – بخلاف المنقول فلا يجوز بيعه قبل القبض أو التسليم، لأن المنقول عرضة للهلاك كثيرا بعكس العقار.
(ب) الاتجاه الثاني: وقال جمهور الفقهاء الإمام محمد من الحنفية والأئمة الثلاثة: لا يجوز بيع العقار قبل القبض من المشتري كالمنقول؛ لورود النهي عن بيع الإنسان ما لم يقبض. (1)(2) .
ثالثاً: وأما الكلية الثالثة، وهي التمويل المصرفي لبناء المساكن وشرائها.
فالذي يحصل في هذه الأيام في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر الهجري، بالنظر لأزمات السكن ومشكلاتها فهو حالة من الحالات الثلاث التالية. حصرًا بالاستقراء التام.
(1) الفقه الإسلامي وأدلته: 4/633.
(2)
انظر الفقه الإسلامي وأدلته: 4/48 وما بعدها.
* الحالة الأولى: التمويل لبناء المساكن وشرائها بالجهود الفردية أو شبه الفردية، مثل تجار تعمير العقارات والشركات الخاصة المؤسسة لهذا الغرض من مجموعة من الأفراد، أو جمعيات أسرية ليس لها طابع رسمي، هؤلاء يتعهدون تعمير العقارات بعد شرائهم الأرض وبيع أكثرهم المساكن على الخارطة قبل بنائها، وربما باعوا البناء كله قبل البدء بعمارته واستوفوا أرباحهم ثم عمروه من هذه الأرباح وأبقوا رأسمالهم إلى بناء جديد وهكذا، وربما احتاجوا إلى قرض من المصرف العقاري فأقرضهم بالفائدة مع كفالة.
* والحالة الثانية: التمويل لبناء المساكن وشرائها بالجهود الجماعية الرسمية لكن ليس من الدولة، بل بإشراف الدولة وترخيصها واطلاعها، بل ومحاسبة هذه المؤسسات التي تأخذ اسم (الجمعيات السكنية) ، وهي عبارة عن مجموعة أفراد مؤسسين يجب أن يبلغوا الثلاثين عدًّا في الأنظمة السورية المعمول بها حاليا، فما فوق، لا ما دون ذلك، ثم يتقدمون لوزارة الإسكان في قطرنا العربي السوري – وهي وزارة من وزارات الدولة – فإن حازوا الشروط والثقة أجيزوا على عملهم برخصة جمعية سكنية ينشئونها هم في مكان ما من المدينة أو الريف، ثم ينشرون ذلك في أجهزة الإعلام فيكتتب الناس بها تقسيطا وبعد اكتمال نصاب عدد معين يجتمع هؤلاء فينتخبون مكتبا إداريا له مدير ونائبه ومحاسب وأمين سر وما شابه، فإن وافقت عليهم السلطات المختصة ذهبوا إلى المصرف العقاري فأودعوا أسهم الاكتتاب التي دفعها الأعضاء المسهمون حتى يجدوا عقارا مناسباً فيأخذون ما أودعوا ويستقرضون من المصرف العقاري بالفائدة إن لزمهم الأمر، وهكذا حتى يقوم البناء، فيخصص كل عضو مكتتب بشقة أو مساحة طابقية حسب أسهم اكتتابه، فإذا خصص يخير هذا العضو بين طريق من طريقين:
الطريق الأول: أن يوافي الجمعية بالأموال التي تزيد على ما دفعه من أسهم الاكتتاب حتى يصل إلى السعر المقرر لدى الجمعية.
والطريق الثاني: أن يأذن للجمعية أن تستقرض على اسمه من البنك مبلغا مع الفائدة يوفيه هو من راتبه إن كان له راتب أو من دخله مع كفالة في بعض الحالات.
هذه خلاصة مكثفة لطريقة الجمعيات السكنية في قطرنا العربي السوري لتمويل المساكن وشرائها.
هذا، ولا يجوز للمشتري أن يبيع ما اشتراه من عقار إلا بعد مضي مدة معلومة حددتها الدولة كي لا تصير هذه المساكن تجارة لمن شاء أن يتجر بها.
* والحالة الثالثة: تمويل الدولة في قطرنا العربي السوري ومن سار على نهجه من الدول العربية في خطة ترسمها الدولة وتنفذها وزارة الإسكان أصولا، وبما أن المصارف كلها بيد الدولة فإن المصارف العقارية هي التي تمول هذه المشاريع السكنية مع وزارة الإسكان بقصد سد حاجة المواطن أولا ثم الاسترباح ثانيا (1)(1) .
(1) هذه المعلومات استقيتها من بعض المسئولين في وزارة الإسكان وهي معلومات دقيقة يمكن اعتمادها.
المقصد من البحث
أحكام التمويل العقاري المذكور آنفا لبناء المساكن وشرائها
في الفقه الإسلامي
على ضوء ما ذكرت من الكليات الثلاث، يجب أن نفرق بين التكييف الفقهي لهذا التمويل العقاري بالذات وبين ملابسات هذا التمويل من ربا وما شابه الربا (شبهة الربا) .
ودونك التفصيل:
(أ) التكييف الفقهي بالذات لهذا التمويل العقاري:
هلهذا العقد وهو بيع المساكن وشراؤها على الطريقة المذكورة آنفا (أي قبل بنائها) هل هذا العقد هل هو عقد صحيح مشروع أم لا؟
يدخل في هذه المسألة:
1-
أن نعتبره (أي هذا العقد) عقد استصناع ونشترط له ما اشترطه ففقهاء الحنفية للاستصناع، وهو التعامل بين الناس.
وأن نعتبره بيعا بالتقسيط إلى أجل.
فإذا اعتبرناه بيعا بالتقسيط إلى أجل جاز لدى جمهور الفقهاء بشرط جواز بيع التقسيط ليخلوا من شبهة الربا، وهو أن يخلو مجلس العقد عن السوم، فلا يقول له في مجلس العقد (إن كان نقدا فبكذا، وإن كان تقسيطا فبكذا) فينتج عن ذلك شبهة الربا، بل إذا حصل هذا الكلام في مجلس السوم فقط وخلا عنه مجلس العقد كان العقد صحيحا وخاليا عن شبهة الربا بأن يقول له قولا فصلا (بعتك هذا المبيع بكذا تقسيطا كل شهر بكذا) إلى سنة مثلا، لكن بقي أن هذا السعر الموضوع المقرر في مجلس العقد إذا كان البيع مقسطا - كما ذكرنا – سعر قطعي غير قابل للزيادة ولا للنقص، ولا يجوز اعتماد التكلفة على هذا الأساس مطلقا.
وإذا اعتبرناه عقد استصناع – وهو الأشبه – وجب أن يجري به التعامل بين الناس، وأن يتعارفوه بحيث تشتد إليه الحاجة العامة ويصبح من عموم البلوى، وإذا ضاق الأمر اتسع، وبهذا التخريج نُلْحِق هذا العقد الجديد (وهو البيع على الخارطة) بعقد الاستصناع، فنجيزه بشروطه.
وإننا اليوم أصبحنا في عصر تغيرت فيه أوضاع الناتس وأعرافهم، وتبدلت كثير من معالم التعامل بينهم، بحيث صار من الحرج الشديد اشتراط قيام المسكن لصحة بيعه وشرائه، بل ربما ألغي هذا الاعتبار بالكلية فلم يعد معمولا به، بل إن العكس هو المعمول به المعتبر بل وأصبح هو القاعدة وما عداه هو الاستثناء وفي ظل هذه الأعراف الجديدة والتحولات الجذرية التي غيرت وبدلت من أوضاع المعاملات المالية مما تعدى إلى المساكن بيعا وشراء من جريان التعامل اليوم على أساس البيع على الخارطة سواء كانت الجهة الممولة الدولة أو الجمعيات السكنية أو الأفراد، وجب النظر إلى هذه العقود نظرا جديدا بحيث نعدها (استصناعا) ونشترط لها ما نشترطه للاستصناع، ونلحق به أحكام الاستصناع آنفة الذكر في طالعة البحث، وهذا الذي يطمئن إليه القلب، وترتاح إليه النفس، وعلى هذا فالسعر مقطوع لا يخضع للتكلفة.
وقبل الرؤية والتخصيص كل مع البائع والمشتري غير ملزَم، فإذا تخصص المشتري بسكنه ورآه صار ملزَمًا إذا وافق عليه وجاء مطابقا للشروط والمواصفات المطلوبة وإلا – بأن كان مخالفا لما اشترطوه من شروط ومواصفات – فالمشتري غير ملزم وله حق خيار الوصف أو الرؤية.
وإذا لم نفعل ذلك نكون قد ضيعنا الناس ووضعناهم في متاهة الجهل ومتاهة الحرج، وإذا ضاق الأمر اتسع، وما جعل عليكم في الدين من حرج.
وتأسيساً على ما ذكرت، فالخلاف جارٍ في بيع العقار قبل القبض على ما نوهت به في طالعة البحث، والرأي لدي الراجح اليوم هو عدم جواز ذلك وهو ما أرجحه وهو قول الجمهور والإمام محمد من الحنفية لأن هذا يفتح علينا بابا من الفساد والذرائع الفاسدة يجب سده، حتى إذا حصل البيع وانتهى الأمر أخذنا بقول الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف من الحنفية بجواز ذلك تصحيحا للعقد من الإبطال ورحمة بالناس، ولا سيما المبتلين (1)(1) وهو استحسان مقبول.
(ب) وأما ملابسات هذا التمويل وما يصحبه أو يخالطه من الربا أو من شبهة الربا فمسألة أخرى هنا مجال بحثها ومن المعلوم أن العقد لا يكون محرما شرعا إذا خالطه محرم يمكن التنزه عنه، فكل العقود يمكن أن يخالطها الربا أو شبهته كالبيع والإجارة والمزارعة والمساقاة والوكالة وغير ذلك، فهل تصبح محرمة منهيًّا عنها لهذا الافتراض وحده؟ ! اللهم لا
…
(1) انظر كتابنا " نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة "، طبعة دار دمشق، بدمشق.
وفي التمويل العقاري الذي ألحقناه فيما ذكرنا بعقد الاستصناع استحسانا يدخل الربا أو شبهته في جميع الحالات في صوره المعاصرة حال غياب الفقه الإسلامي عن التعامل في الساحة العامة لدى المسلمين بعامة.
ولكن الربا ليس بشرط في تمام هذا العقد ولا في نشوئه فقها ولا قانونا، إذ بإمكاننا إقامة عقد استصناع في بناء المساكن وشرائها غير ربوي.
وقبل ذلك يجدر بنا أن نحصر الملابسة الربوية في العقود الجارية لبناء المساكن وشرائها في هذه الأيام في حالة الجمعيات السكنية في مشكلتين، إما الربا الصراح أو شبهة الربا.
فالربا الصراح هو أن تخصص الجمعية السكينة الدار بأحد المشتركين من أعضائها المكتتبين وليس معه ما يتمم ثمن الدار بعد دفع الأقساط المترتبة فيفوض هذا المشترك المكتب الإداري للجمعية بالاستقراض على اسمه من البنك الربوي بحيث يكون هو ذاته مسئولا عن تسديد هذا المبلغ من ماله الخاص بالتقسيط قولا واحدا، وبهذا يتسلم الدار ويتمم هو للبنك دفع الأقساط المترتبة عليه مع فوائدها، وهذا عين الربا وهو حرام، والعقد هنا حرم القيام به على هذه الصورة لأنه جاوره محرم وهو الربا فصار قبيحا لغيره.
وأما شبهة الربا فهي أن يدفع العضوالمشترك الأقساط المترتبة عليه حتى إذا خصصوه بدار وخيروه بين الاستقراض على اسمه بالتوكيل منه من البنك الربوي وبين دفع بقية الذمم المترتبة عليه من ثمن الدار من ماله، ففي هذه الصورة نجا العقد من حقيقة الربا، ولكن شابته شبهة الربا وهي كون البنك اقترض منه المكتب الإداري للجمعية سلفا باسم أعضائه ما نقصهم من المال وهو بنك ربوي، وهذه هي شبهة الربا، هي شبهة قوية تجعل العقد مكروها كراهة تجريمية لمخالطته شبهة محرمة شرعا.
فالحالة الأولى: وهي حقيقة الربا المخالطة للعقد لا تجوز إلا للضرورة القصوى بحيث لم يجد المبتلى من يقرضه ولا من يسكنه ولا من يدعمه حتى ولا بالأجرة ليسكن مع عائلته بوجه من وجوه الدعم فإما أن يبيت في الشارع العام يلتحف السماء ويفترش الأرض وإما أن يسلك هذا السبيل جاز له ذلك بقدر الضرورة، وبقدر ما يدفع الهلاك عن نفسه وعياله.
وأما الحالة الثانية: فتجوز لغير القدوة من العلماء والفهاء في حالة الحاجة والحرج وهي حالة دون الضرورة وفوق الحالة العادية، وبقدر ما يدفع الحرج والحاجة. . والله أعلم.
اقتراح من صاحب هذا البحث لحل مشكلة الربا وشبهته
في عقود الإسكان
ولقد فكرت مليا في هذا الأمر فوجدت أنه لا يجوز لنا نحن معاشر خدام هذه الشريعة وحملتها من أهل الفقه والاجتهاد في المسائل أن نترك هذه العقود الإسكانية الاستصناعية يتخللها الربا فيفسدها أو شبهته فيلوثها. . والناس اليوم في أزمات إسكانية في أنحاء العالم، لتفجر المشكلة السكانية، فالمشكلة في تزايد، والربا إذا دخل أفسد كل شيء ولوث بأوضاره كل شيء، فما هو الحل؟ 1!
أجد الحل يكمن في تخليص هذه العقود الإسكانية الاستصناعية بعد استكمال شروطها وضوابطها – في تخليصها من الربا ومن شبهته، وذلك يكون بأحد حالتين اثنتين ظهرتا لي الآن:
(أ) الحالة الأولى: في تسلم الدولة حصرا حل مشكلة الإسكان بالتزامها بإنشاء المساكن وبيعها للمواطنين بيعا على الخارطة دون اللجوء إلى بنوك ربوية أو ما شباه ذلك فالدولة بائع والمواطن مشتر والعقد استصناع مستكمل شروطه وضوابطه، والبيع هنا ولو كان بالتقسيط أو نقدا فهذا لا يهم ما دام المشتري لا علاقة له بالبنك توكيلا ولا قبضا ولا صرفا، لا سيما إذا كانت البنوك الربوية ملكا خالصا للدولة فإنها تلحق بالخزينة العامة، ويجب أن ينص على أن التعامل مع البنك الربوي ولو اضطرت إليه الدولة فهو بلا فائدة قطعا قرضا أو إقراضا لهذه المشكلة الإسكانية حصرا.
(ب) والحالة الثانية: وتعتمد قيام بنوك إسلامية غير متوفرة في بلادنا، فيتولى البنك الإسلامي غير الربوي هذه المشاريع الإسكانية ويشرف على عقودها إشرفا كاملا فيصبح بائعا والأفراد مشترين، ويكون ذلك كله عن طريق شركات المضاربه وينبغي أن ينص في وثائق تأسيس هذه البنوك على ذلك صراحة.
ولعل هناك حلولا أخرى لم أوفق إليها فأنا هنا باحث ولست مستقصيا، والمقصود هو تنقية هذه العقود من شوائب الربا ورجسه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لأن الأصل فيها أنها عقود غير ربوية، والربا أو شبهته أمران طارئان وليسا أصليين، فيستبعدان، ليبقى العقد صالحا للعمل ويرجع كما كان عقدا غير ربوي، هذا والله تعالى أعلم.
خاتمة
بتوفيق الله تعالى استطعت أن أجول في روضات الفقه الإسلامي وأقطف من زهوره ياسمينه ونسرينه ما يفي بالحاجة ويزيد، وتوصلت إلى نتائج جديدة لا أدعي أنها حكم الله في الواقعة، بل هي جهد، والمجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، وهو بحث معروض على المجمع الموقر، وقول المجمع هو القول الفصل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
أبرز مصادر البحث ومراجعه
في الفقه الإسلامي
1-
ابن عابدين (محمد أمين) : رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) ، ط. بولاق سنة 1272 هـ.
2-
الكساني (علاء الدين) : بدائع الصناع في ترتيب الشرائع (شرح نحفة الفقهاء للسمرقندي) .
3-
ابن الهمام (كمال الدين) : فتح القدير شرح الهداية مع تكملة الفتح للطوري.
4-
عالم كير (مجموعة من علماء الهند) : الفتاوى الهندية.
5-
السرخسي (شمس الأئمة) : المبسوط شرح الكافي، للحاكم الشهيد.
6-
الزحيلي (د. وهبه) : الفقه الإسلامي وأدلته، ط. دار الفكر بدمشق.
7-
الفرفور (د. محمد عبد اللطيف) : نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة، ط. دار دمشق.