المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القبض:صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد السادس

- ‌كلمةمعالي الأمين العاملمنظمة المؤتمر الإسلاميالدكتور حامد الغابد

- ‌كلمةمعالي رئيس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمةصاحب السمو الملكيالأمير ماجد بن عبد العزيز

- ‌كلمةمعالي الأستاذ خالد أحمد الجسار

- ‌كلمةمعالي الدكتور حامد الغابد

- ‌كلمةمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائهاإعدادسماحة الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي

- ‌التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائهاإعدادسعادة الدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائهاإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌الطرق المشروعة للتمويل العقاريإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌بيع التقسيطإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌بيع التقسيطإعدادفضيلة الدكتور محمد عطا السيد

- ‌بيع التقسيطإعدادفضيلة الدكتور إبراهيم فاضل الدبور

- ‌البيع بالتقسيط: نظرات في التطبيق العمليإعدادفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌تقسيط الدين في الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌بيع التقسيط: تحليل فقهي واقتصاديإعدادسعادة الدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم زيادة السعرفي البيع بالنسيئة شرعًاإعدادفضيلة الدكتور نظام الدين عبد الحميد

- ‌القبضصوره، وبخاصة المستجدة منها وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌القبض:صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌القبض:أنواعه، وأحكامه في الفقه الإسلامىإعدادفضيلة الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني

- ‌القبض:صوره وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادسعادة الدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌القبض:صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌القبضتعريفه، أقسامه، صوره وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌حُكم قبض الشيكوهل هو قبض لمحتواه؟إعدادفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌القبض الحقيقي والحكمي: قواعده وتطبيقاتهمن الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ نزيه كمال حماد

- ‌حكم إجراء العقود بوسَائل الاتصَال الحَديثةفي الفقه الإسلامي (موازَنًا بالفقه الوضعي)إعدادسعادة الدكتور إبراهيم كافي دونمز

- ‌الإسلام وإجراء العقودبآلات الاتصال الحديثةإعدادفضيلة الشيخ محمد الحاج الناصر

- ‌الأسواق المالية وأحكامها الفقهيةفي عصرنا الحاضرإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌أحكام السوق الماليةإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد الغفار الشريف

- ‌السوق الماليةإعدادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌الأسواق المالية والبورصة والتجربة التونسيةإعدادسعادة الدكتور مصطفى النابلي

- ‌السوق المالية ومسلسل الخوصصةإعدادسعادة الدكتور الحسن الداودي

- ‌الأدوات المالية الإسلاميةإعدادسعادة الدكتور سامي حسن حمود

- ‌الأدوات المالية الإسلاميةإعدادفضيلة الدكتور حسين حامد حسان

- ‌الأسواق الماليةمن منظور النظام الاقتصادي الإسلامي(دراسة مقارنة)إعدادسعادة الدكتور نبيل عبد الإله نصيف

- ‌الأدوات المالية الإسلاميةوالبورصات الخليجيةإعدادسعادة الدكتور محمد فيصل الأخوة

- ‌الأدوات المالية التقليديةإعدادسعادة الدكتور محمد الحبيب جراية

- ‌الأسواق الماليةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌تجلي مرونة الفقه الإسلاميأمام التحديات المعاصرةإعدادفضيلة الأستاذ محمد الأزرق

- ‌وثائقندوة الأسواق الماليةالمنعقدة بالرباط

- ‌زراعة خلايا الجهاز العصبي وبخاصة المخإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌زراعة خلايا الجهاز العصبي وخاصة المخإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌زراعة الأعضاء وحكمه في الشريعة الإسلاميةإعدادفضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر

- ‌زراعة خلايا المخمجالاته الحالية وآفاقه المستقبليةإعدادسعادة الدكتور مختار المهدي

- ‌إجراء التجارب علىالأجنة المجهضة والأجنة المستنبتةإعدادسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌الاستفادة من الأجنة المجهضة أو الزائدة عن الحاجةفي التجارب العلمية وزراعة الأعضاءإعدادسعادة الدكتور مأمون الحاج علي إبراهيم

- ‌حكم الاستفادة من الأجنة المجهضةأو الزائدة عن الحاجةإعدادفضيلة الدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌الاستفادة من الأجنة المجهضة والفائضةفي زراعة الأعضاء وإجراء التجاربإعدادسعادة الأستاذ الدكتور عبد الله حسين باسلامة

- ‌(أ) استخدام الأجنة في البحث والعلاج(ب) الوليد عديم الدماغمصدراً لزراعة الأعضاء الحيويةإعدادالدكتور حسان حتحوت

- ‌(أ) حقيقة الجنين وحكم الانتفاع به في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.(ب) حكم زراعة خلايا الدماغ والجهاز العصبي.إعداد فضيلة الدكتور محمد نعيم ياسين

- ‌حكم الانتزاع لعضومن مولود حي عديم الدماغإعدادفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌الاستفادة من الأجنة المجهضةأو الزائدة عن الحاجةفي التجارب العلمية وزراعة الأعضاءإعدادفضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر

- ‌زراعة الأعضاء من الأجنة المجهضةإعدادفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌حكم إعادة ما قطع بحد أو قصاصإعدادفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاصإعدادفضيلة حجة الإسلام محمد علي التسخيري

- ‌زراعة عضو استؤصل في حدإعدادفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌زراعة عضو استؤصل في حدإعدادفضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌حكم إعادة اليدبعد قطعها في حد شرعيإعدادفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌هل يجوز إعادة يد السارقإذا قطعت بصفة شرعية أم لا؟إعدادفضيلة الشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌زراعة الأعضاء البشريةالأعضاء المنزوعة من الأجنة المجهضة.الغدد والأعضاء التناسلية.زراعة عضو استؤصل في حد كإعادة اليد التي قطعت في حد السرقة.زراعة خلايا الجهاز العصبي.إعدادسعادة الأستاذ أحمد محمد جمال

- ‌إمكانية نقل الأعضاء التناسلية في المرأةإعدادسعادة الدكتور طلعت أحمد القصبي

- ‌أحكام نقل الخصيتين والمبيضين وأحكامنقل أعضاء الجنين الناقص الخلقةفي الشريعة الإسلاميةإعدادفضيلة الدكتور خالد رشيد الجميلي

- ‌نقل وزراعة الأعضاء التناسليةإعدادفضيلة الدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌زرع الغدد التناسلية والأعضاء التناسليةإعدادسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌زراعة الغدد التناسلية أو زراعةرحم امرأة في رحم امرأة أخرىإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌زراعة الأعضاء التناسلية والغدد التناسليةللمرأة والرجلإعدادسعادة الدكتورة صديقة علي العوضي

الفصل: ‌القبض:صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامهاإعدادفضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي

‌القبض:

صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامها

إعداد

فضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي

أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله

بكلية الشريعة – جامعة قطر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين. . وبعد:

فلا شك أن تكييف أوضاعنا – نحن المسلمين – على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يتطلب جهودًا كبيرة من المخلصين والمجامع والمراكز العلمية للوصول إلى حلول إسلامية نابعة من معينها الصافي، ومتصفة بالاتزان والدراسة المتأنية دون التسرع والخضوع للضغوط، حيث أثبتت التجارب التي مرت بها البشرية عظمة الحلول الإِسلامية وما تحققها من مصالح بعيدة المدى، ولا سيما بعد فشل الأنظمة الوضعية البشرية التي نرى تخبطها خبط عشواء، ونرى تراجعها على كافة المستويات، وهذا ما يدفعنا إلى المزيد من الجهود للإسراع بالبديل الإِسلامي الكامل لكل النظريات المطروحة على الساحة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.

وها نحن أولًا: نرى ثمار الجهود الجماعية المباركة – سواء كانت من خلال مجمع البحوث التابع للأزهر الشريف، أو من خلال مجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، أو لرابطة العالم الإِسلامي – حيث نراها قد تبنت البحث عن الحلول لجميع المشاكل المعاصرة، والمستجدات.

ومن هذه المستجدات كيفية القبض للصور الكثيرة للمعاملات التي ظهرت بسبب الاختراعات الحديثة، ولذلك كان اختياري لهذا الموضوع، وكان منهجي فيه هو الرجوع إلى المصادر المعتمدة حتى نستطيع تأصيل المسائل المستحدثة على ضوئها، ولذلك قمت بالبحث عن معاني القبض لغة واصطلاحًا، واختلاف الفقهاء في تعريفه ثم أدلة كل فريق مع المناقشة والترجيح، ثم ذكرت أنواع القبض، وما ذكره الفقهاء من صور كانت شائعة في عصرهم، ثم أتبعتها ببعض صور القبض في وقتنا المعاصر، ثم شرحت أركان القبض وشروطه بإيجاز وأثرت مدى احتمال اتحاد القابض، والمقبض، وكذلك شرحت بالتفصيل أثر القبض في العقود الصحيحة، والعقود الفاسدة، وتناولت موضوع مدى جواز البيع قبل القبض، كما ذكرت حكم المقبوض على سوم الشراء، أو النظر أو الرهن، ثم الخاتمة.

والله أسأل أن أكون قد وفقت فيما طرحته، وأن يجعل أعمالي كلها خالصة لوجهه الكريم.

* * * *

ص: 403

القبض لغةً واصطلاحًا

القبض لغةً مصدر: قبضه يقبضه قبضًا، وهو خلاف البسط، وفي أسماء الله تعالى:"القابض" أي هو الذي يمسك الرزق وغيره من الأشياء عن العباد وبلطفه وحكمته، ويقبض الأرواح عند الممات، ويقال: قبض المريض إذا توفي، وإذا أشرف على الموت، والقبض بمعنى الأخذ فيقال: قبضت مالي قبضًا، أي أخذته (1)، وقال ابن منظور: وأصله في جناح الطائر، قال الله تعالى {وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} [سورة الملك: الآية 19] .

وقبض الطائر جناحه: جمعه، وتقبضت الجلدة في النار: أي انزوت، والقُبْضة بالضم: ما قبضت عليه من شيء، يقال: أعطاه قُبضة من سويق أو تمر، أي كفًّا منه، وربما جاء بالفتح، ثم نقل عن الليث أن القبضة: ما أخذته بجمع كفك كله، فإذا كان بأصابعك فهي القبصة بالصاد، وقال ابن الأعرابي: القبض قبولك المتاع وإن لم تحوله، ثم قال ابن منظور: والقبض تحويلك المتاع إلى حيزك، والقبض: التناول للشيء بيدك ملامسة

، وصار الشيء في قبضي وقبضتي أي في ملكي (2) .

وخلاصة معانيه تدور حول: الإِمساك، وخلاف البسط، والموت، والأخذ، والجمع، وما أخذ باليد، وقبول المتاع وإن لم يحل إليه، وتحويل المتاع إلى الحيز، والتملك – ونحو ذلك.

وورد لفظ "قبض" ومشتقاته في القرآن الكريم تسع مرات منها قوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [سورة الفرقان: الآية 46]، قال المفسرون: أي أخذنا الظل بطلوع الشمس، قبضًا يسيرًا أي سريعًا، أو سهلًا، أو خفيًّا (3) ومنها قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} (4)[سورة البقرة: الآية 245] ، ومعنى القبض هنا خلاف البسط بدليل المقابلة، أي: يضيق على قوم، ويوسع على آخرين، فقال بعض المفسرين أي يقبض ويبسط في الرزق، وهذا قول الحسن، وابن زيد، وقال الزجاج يقبض الصدقات ويبسط في الجزاء. (5) . وبالمعنى السابق جاء قوله تعالى:{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [سورة التوبة: الآية 67] ، أي يمسكون أيديهم عن الإِنفاق في سبيل الله، أو عن كل خير، أو عن رفعها في الدعاء (6)

(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، ولسان العرب: مادة "قبض".

(2)

لسان العرب، ط دار المعارف: ص 3512 - 3514.

(3)

تفسير الماوردي، ط. وزارة الأوقاف الكويتية: 3/158.

(4)

راجع تفسير ابن عطية: 2/347، وتفسير الرازي: 6/268، وتفسير الماوردي: 1/262

(5)

تفسير الماوردي: 1/262، والمصادر السابقة.

(6)

تفسير الماوردي: 2/150 والمصادر السابقة.

ص: 404

ومنها قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الزمر: الآية 67] ، أي في يده، وتحت قدرته (1) قال ثعلب:" هذا كما تقول: هذه الدار في قبضتي ويدي، أي في ملكي، قال: وليس بقوي "(2) وقوله تعالى:

{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة: الآية 283] .

وورد لفظ "قبض" ومشتقاته في السنة كثيرًا، وهي تدور حول معانيه اللغوية السابقة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:((قبض الله عز وجل أرواحنا وقد ردّها إلينا)) . (3) أي أخذها، وروى البخاري تعليقًا بصيغة الجزم أن ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه (4) أي وضع كفه عليها، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((

ولم يكن قبض من ثمنها شيئًا فهي له)) (5) وغير ذلك كثير.

القبض في الاصطلاح:

إذا كان القبض في اللغة هو أخذ أي شيء، أو التمكن منه فإنه في الاصطلاح الفقهي أخص منه حيث هو مخصص بالمعقود عليه، لكنه ثار الخلاف بين الفقهاء في تحديد مفهومه تبعًا لوجهات نظرهم المختلفة في كيفية تمام القبض.

ثم إن أكثر الفقهاء لم يريدوا أن يضعوا تعريفًا جامعًا لجميع أقسام القبض، وإنما بينوه من خلال أنواعه، كما أنهم أرجعوا أمره كقاعدة أساسية إلى العرف، ولذلك ننقل نصوص الفقهاء بشيء من الإِيجاز للوصول إلى حقيقة القبض.

فعند الحنفية – كما يقول الكاساني -: "التسليم والقبض عندنا هو التخلية، والتخلي، وهو أن يخلي البائع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مسلمًا للمبيع، والمشتري قابضًا له، وكذا تسليم الثمن من المشتري إلى البائع"، وذكر ابن عابدين أن من شروط التخلية التمكن من القبض بلا حائل، ولا مانع، ولكن صاحب "الأجناس" اشترط شرطًا ثالثًا، وهو أن يقول "خليت بينك وبين المبيع"(6) .

(1) تفسير الرازي: 27/17، وتفسير الماوردي: 3/473.

(2)

لسان العرب: ص 3513. ونحن حقًّا لسنا مع التأويل في مثل هذه الآيات، وإنما نثبت لله تعالى ما أثبته لذاته العلية مع التنزيه، وعدم التشبيه.

(3)

مسند أحمد 4/91 عن ذي مخمر الحبشي.

(4)

صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب اللباس 10/349.

(5)

رواه ابن ماجه، كتاب الأحكام: 2/790، الحديث 2359.

(6)

بدائع الصنائع، ط. الإِمام بالقاهرة: 7/3248، ورد المحتار على الدر المختار، ط. دار إحياء التراث العربي: 4/42، والفتاوى الهندية، ط. دار إحياء التراث العربي: 3/15.

ص: 405

وعند المالكية أن القبض هو التخلية من حيث المبدأ (1) .

وعند الشافعية – كما يقول الشيرازي -: "والقبض فيما ينقل النقل

؟ ، وفيما لا ينقل كالعقار والثمر قبل أوان الجذاذ التخلية

". ويقول النووي: "قال أصحابنا الرجوع في القبض إلى العرف، وهو ثلاثة أقسام: أحدها العقار والثمر على الشجرة، فقبضه بالتخلية، والثاني ما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب، والحيتان ونحوها، فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به سواء نقل إلى ملك المشتري، أو موات، أو شارع، أو مسجد، أو غيره، وفيه قول حكاه الخراسانيون: إنه يكفي فيه التخلية

والثالث ما يتناول باليد كالدراهم والدنانير، والمنديل والثوب والإِناء الخفيف، والكتاب ونحوها، فقبضه بالتناول بلا خلاف، صرح بذلك الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، والمحاملي، والماوردي، والشيرازي

" وغيرهم (2) .

وعند الحنابلة – كما يقول ابن قدامة -: "وقبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلًا، أو موزونًا بيع كيلًا، أو وزنًا في مقبضه بكيله، ووزنه،

وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى: أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التميز، لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل، فكان قبضًا له كالعقار" (3) .

ويقول ابن حزم الظاهري: "

وإنما على البائع أن لا يحول بين المشتري وبين قبض ما باع منه فقط، فإن فعل صار عاصيًا، وضمن ضمان الغصب فقط" (4) ، فعلى هذا فالقبض هو التخلية فقط.

(1) يراجع: بداية المجتهد: 2/144، والفواكه الدواني، ط. الحلبي: 2/117، ويراجع: فتح الباري حيث أسند هذا الرأي إلى المالكية صراحة.

(2)

المهذب مع شرحه المجموع: 9/275-276.

(3)

المغني: 4/126.

(4)

المحلى: 9/345

ص: 406

وكذلك الأمر عند الإِمامية حيث إن القبض فيما لا ينقل كالعقار بالتخلية، وكذلك في غيره على الراجح عندهم (1) .

وعند الزيدية أن قبض غير المنقول بالتخلية اتفاقًا، وقبض المنقول به أيضًا عند جماعة منهم، وذهب بعضهم إلى أن قبضه بالنقل للتعارف بالتفرقة بينه وبين غير المنقول في القبض (2) .

ومن هذا العرض يتبين لنا أن اتجاهات الفقهاء تكاد تنحصر في اتجاهين:

اتجاه يرى عدم التفرقة بين جميع أنواع المعقود عليه حيث يتم قبضها بالتخلية فقط، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية وأحمد في رواية، وقول للشافعية حكاه الخراسانيون، والراجح عند الزيدية، والإِمامية، والظاهرية (3) وإليه مال البخاري وغيره (4) .

واتجاه آخر يرى التفرقة بين المنقول، وغيره، وأصحاب هذا الاتجاه وقعوا في خلاف طفيف بينهم، حيث يذهب بعضهم – وهم الشافعية – إلى أن أساس التفرقة هو كون الشيء منقولًا أو غير منقول، فالمنقول يتم قبضه بالنقل، وفي غيره التخلية.

في حين ذهب الحنابلة إلى اعتماد أساس آخر وهو كون الشيء مكيلًا أو موزونًا أو غيره، فما كان مكيلًا أو موزونًا فقبضه بكلية، أو وزنه وما كان غيرهما يكون قبضه بالتخلية (5) .

ومن هنا يتبين أن الجميع متفقون على أن القبض في العقار يكون بالتخلية فقط، وأما في غيره فيكون بالنقل، أو الكيل، أو الوزن أو التخلية، أو التناول

(1) المختصر النافع للحِلَّي، ط. أوقاف مصر: ص 148.

(2)

البحر الزخار، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت: 4/369.

(3)

المغني: 4/126، المحلى: 9/345، المختصر النافع للحِلَّي، ط. أوقاف مصر: ص 148، البحر الزخار، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت: 4/369.

(4)

فتح الباري شرح صحيح البخاري، ط. السلفية بالقاهرة: 4/334 - 335.

(5)

المغني: 4/126، المحلى: 9/345، المختصر النافع للحِلَّي، ط. أوقاف مصر: ص 148، البحر الزخار، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت: 4/369، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ط. السلفية بالقاهرة: 4/334 – 335.

ص: 407

الأدلة والمناقشة والترجيح:

استدل القائلون بالتفرقة في القبض بين ما يكال أو يوزن وبين غيره بالسنة والعرف.

أما السنة فقد ورد في ذلك عدة أحاديث:

1-

منها ما رواه البخاري تعليقًا عن عثمان رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((إذا بعت فكل وإذا ابتعت فاكتل)) (1) ، وقد وصله الدارقطني، وله طريق أخرى أخرجها أحمد وابن ماجه، والبزار (2) .

2-

ما رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري)) (3) .

3-

الأحاديث الواردة الدالة على أن القبض لا يتم فيما يباع بالجزاف إلا بالتحويل، فقد روى مسلم عن ابن عمر أنه قال:((كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه)) ، وفي لفظ:((كنا نبتاع الطعام جزافًا فبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه، قبل أن نبيعه)) ، وفي لفظ:((كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله)) ، والرواية الأخيرة رواها البخاري بلفظ: ((

حتى يؤوه إلى رحالهم)) . (4) .

(1) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع، ط. السلفية 4/343.

(2)

مسند أحمد: 1/62، 75، وفتح الباري: 4/344.

(3)

رواه ابن ماجه في سننه، كتاب التجارات: 2/750. في الزوائد: في إسناده أبو عبد الرحمن الأنصاري، وهو ضعيف.

(4)

صحيح مسلم، البيوع: (3/1160 – 1162، وصحيح البخاري – مع الفتح: 4/350.

ص: 408

4-

ما رواه الحاكم بسنده، عن ابن عمر، ((عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تباع السلع حيث تشترى حتى يحوزها الذي اشتراها إلى رحلة وإن كان ليبعث رجالًا فيضربونا على ذلك)) ، وقال: حديث صحيح على شرح مسلم، ووافقه الذهبي. (1)، وفي رواية أخرى له عن طريق ابن إسحاق: قال ابن عمر: "ابتعت زيتًا في السوق، فلما استوجبته لقيني رجلٌ، فأعطاني به ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يديه فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت إليه فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، ((فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) . (2) .

وأما العرف فهو جارٍ على هذا التقسيم يقول ابن قدامة، لأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإِحراز والتفرق، والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا (3) واستدل القائلون بأن القبض هو التخلية في المنقول وغيره بالسنة والآثار:

أما السنة فمنها:

1-

ما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني، فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر، ويردّه، ثم يتقدم فيزجره عمر ويردّه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: بعنيه، قال: هو لك يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعينه فباعه من رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت)) (4) .

وجه الاستدلال بهذا الحديث واضح حيث دخل الجمل في ملكية الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد العقد، مع أنه منقول، فلو كان النقل الفعلي شرطًا لأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم أولًا، ثم يهبه لابن عمر، وقد أشار ابن بطال وغيره أن الحديث حجة في أن البيع يتم بالعقد – مع شروطه – وأنه لا يحتاج إلى نقل المعقود عليه فعلًا، قال الحافظ ابن حجر: "وقد احتج به المالكية والحنفية في أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية، وإليه مال البخاري

" (5) .

2-

ما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن جابر، قال: "

ثم قال – أي النبي صلى الله عليه وسلم – ((أتبيع جملك؟)) قلت: نعم. فاشتراه مني بأوقية، واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي،

فجئنا إلى المسجد، فوجدته على باب المسجد، قال: الآن قدمت؟ قلت: نعم. قال: فدع جملك، فادخل، فصلَّ ركعتين، فدخلت فصليت، فأمر بلالًا أن يزن له أوقية

فانطلقت حتى وليت

ثم قال: خذ جملك، ولك ثمنه" (6) .

والحديث واضح في دلالته على أن البيع قد تم دون أن يتم تحويل الجمل – وهو من المنقولات – إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك ترجم له البخاري "باب

وإذا اشترى دابة، أو جملًا، وهو عليه، هل يكون ذلك قبضًا قبل أن ينزل؟ " وكذلك أورد بعض الحديث الأول تحته، وهذا مشعر بأن البخاري فهم من الحديثين أن القبض هو التخلية في المنقول وغيره (7) .

(1) المستدرك، وبهامشه التخليص للذهبي، ط. دار المعرفة ببيروت: 2/39 - 40.

(2)

المستدرك، وبهامشه التخليص للذهبي، ط. دار المعرفة ببيروت: 2/39 - 40.

(3)

المغني لابن قدامة: 4/126، والمجموع: 9/283.

(4)

صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع: 4/334.

(5)

فتح الباري: 4/335.

(6)

صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع: 4/320، ومسلم، المساقاة: 3/1221.

(7)

فتح الباري: 4/321 – 335.

ص: 409

3-

ما رواه البخاري وغيره عن عائشة في حديث الهجرة، وفيه أن أبا بكر قال:"إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما. قال: قد أخذتها بالثمن"(1) . قال الحافظ ابن حجر: " قال المهلب: وجه الاستدلال به أن قوله "أخذتها" لم يكن أخذًا باليد، ولا بحيازة شخصها، وإنما كان التزامًا منه لابتياعها بالثمن وإخراجها عن ملك أبي بكر

، وقال ابن المنير: مطابقة الحديث للترجمة من جهة أن البخاري أراد أن يحقق انتقال الضمان في الدابة ونحوها إلى المشتري بنفس العقد، فاستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:((قد أخذتها بالثمن)) وقد علم أنه لم يقبضها بل أبقاها عند أبي بكر (2) .

وهذا في المنقولات التي هي محل الخلاف، فيكون القبض هو التخلية مطلقًا.

4-

ما رواه الخمسة، والحاكم عن ابن عمر قال: كنا نبيع الإِبل بالنقيع – بالنون سوق المدينة، وبالباء مقبرتها – كنا نبيع بالذهب ونقضي الورق، ونبيع بالورق ونقضي الذهب، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:((لا بأس إذا كان بسعر يومه، إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)) (3) .

فالحديث دليل على أن القبض هو التخلية والتمكن من القبض، وليس النقل الفعلي، حيث إن ابن عمر كان يشتري من بائعه الذهب المستقر في ذمته بالفضة، مع أن بائعه لم يستلم بعد ذهبه الذي كان ثمنًا لإِبله، فهذا دليل على أن القبض هو التخلية والتمكن، وليس النقل الفعلي، ولكن العملية الثانية لما كانت من الربويات اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم القبض الفوري في المجلس.

* * *

(1) صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع: 4/351.

(2)

فتح الباري: 4/351-352.

(3)

الحديث حكم عليه الحاكم بأنه صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي: 2/44، ورواه أحمد: 2/33، 83، 84، 139، وابن ماجه: 2/760، وأبو داود – مع العون – البيوع: 9/203، والنسائي: 2/223 – 224، والترمذي مع التحفة: 4/443، والدارمي: 2/209، والطحاوي في مشكل الآثار: 2/69، وابن الجارود: 655، والدارقطني: 299، والبيهقي: 5/284، 315. وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل، ط. المكتب الإِسلامي: 5/174: ضعيف، ثم رجح وقفه، ولكن الحديث حكم عليه الحاكم بالصحة، ووافقه الذهبي، وذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوي: 29/510 أنه من السنة الثابتة.

ص: 410

المناقشة والترجيح:

ويمكن أن نناقش أدلة الفريق الأول بما يأتي:

* أولًا: نناقش الاستدلال بالحديث الأول بما يأتي:

1-

إنه ضعيف لا ينهض حجة، ولذلك ذكره البخاري تعليقًا بصيغة "ويذكر" دون الجزم، وقد وصله الدارقطني لكن في سنده منقذًا مولى ابن سراقة، وهو كما قال الحافظ "مجهول الحال"(1)، وقال أيضًا: "لكن له طريق أخرى أخرجها أحمد وابن ماجه

وفيه ابن لهيعة ولكنه من قديم حديثه

" (2) ، ومن المعروف أن عبد الله بن لهيعة مختلف في الاحتجاج به، فكثير من النقاد لا يحتجون بحديثه مطلقًا، وبعضهم يقبله إذا كان قبل احتراق كتبه، قال البخاري عن الحميدي كان يحيى بن سعيد لا يراه شيئًا، وقال ابن المديني عن ابن مهدي: لا أحمل عنه قليلًا ولا كثيرًا، وعن أحمد: ما حديث ابن لهيعة بحجة، ونقل عنه: أنه وصفه بالضبط والإِتقان، وقال أحمد بن صالح: " ابن لهيعة صحيح الكتاب " وقال ابن خراش: كان يكتب حديثه، فلما احترقت كتبه كان من جاء بشيء قرأه عليه، حتى لو وضع أحد حديثًا وجاء به إليه قرأه عليه، قال الخطيب: فمن ثم كثرت المناكير في روايته لتساهله، وذكر ابن حبان أنه سبّر أخباره قبل حرق كتبه وبعده فوجدها لا تصلح، حيث في روايات المتقدمين عنه تدليس عن المتروكين، وفي رواية المتأخرين عنه مناكير فوجب ترك الاحتجاج بها (3) .

2-

ولو سلم قبوله، فإنه لا يدل على المطلوب، وذلك لأنه لا يدل على أن القبض لا يتم في المكيل والموزون إلا بالكيل، وإنما يدل على وجوب الكيل والاكتيال مطلقًا، بل إن شراح الحديث فسروه بأنه أمر بالعدالة في الكيل والوزن، قال ابن القيم "والمعنى أنه إذا أعطى، أو أخذ لا يزيد، ولا ينقص أي لا لك، ولا عليك"(4) وقد فهم البخاري منه أن يدل على أن مؤنة الكيل على المعطي، ولذلك ترجم له: باب: الكيل على البائع والمعطي (5) ، وإذا لم يفسر هكذا فإن ظاهر الحديث يدل على وجوب الكيل في كل بيع، وهذا لم يقل به أحد – على ما نعلم – لجواز البيع جزافًا، وبالعدّ والوزن.

(1) فتح الباري: 4/344.

(2)

فتح الباري: 4/344.

(3)

تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني، ط. دار صادر، بيروت: 5/374 - 379.

(4)

فتح الباري: 4/345.

(5)

صحيح البخاري – مع الفتح: 4/343.

ص: 411

* ثانيًا: إن حديث ابن ماجه ضعيف، وذلك لأن في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو كما قال في الزوائد: ضعيف (1) ، وكان يحيى بن سعيد يضعفه، وأحمد يقول فيه: سيئ الحفظ مضطرب الحديث كان فقهه أحب إلينا من حديثه، وقال شعبة: ما رأيت أسوأ حفظًا من ابن أبي ليلى، وقال العجلي: كان فقهيًا صاحب سنة، جائز الحديث، وقال ابن معين: ليس بذاك، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: محله الصدق، كان سيئ الحفظ شغل بالقضاء فساء حفظه، لا يتهم بشيء من الكذب، إنما ينكر عليه كثرة الخطأ، يكتب حديثه، ولا يحتج به (2) .

فعلى ضوء ذلك لا يحتج بحديثه، ولا ينهض حجة في إثبات هذا الحكم. وبالإِضافة إلى ذلك فإن هذا الحديث في بيع الطعام قبل القبض، فلا يمكن تعميمه في جميع التصرفات، ولا في جميع أنواع المنقولات، فقد يكون النهي عن بيعه لخصوصية حيث إن البيع مبني على المساومة، وأن كلًا من العاقدين يريد الحصول على أحسن مكسب، فلو باعه قبل القبض وربح فيه فربما يفضي ذلك إلى أن يحاول البائع الوصول إلى الفسخ ولو ظلمًا، وإلى الخصام والنزاع، ولذلك قطع الشارع هذا الطريق، وسدَّ هذه الذريعة، ولذلك لا يقاس عليه غيره، ومن هنا أجازوا للمشترى إعتاقه قبل القبض (3) .

وكذلك إن للطعام خصوصية في نظر الشريعة، ولذلك منع من الاحتكار فيه دون غيره، وخصه مع النقود بأحكام لا تتوفر في غيرهما، ومن هنا فلا يقاس عليه غيره من المنقولات وغيرها (4) . ولذلك كله لم ينهض حجة على المطلوب فسقط الاستدلال به.

* ثالثًا: إن الأحاديث التي رواها مسلم خاصة بنهي البيع عن بيع الطعام الذي اشتري جزافًا قبل نقله وتحويله، فلا يعم ما هو قد اشتُري بالكيل والوزن، بدليل أن القائلين بالتفرقة بين المنقول وغيره في القبض يقولون: إن وزنه، أو كيله قبض حتى ولو كان في مكانه.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فالأحاديث كلها في بيع الطعام قبل القبض فلا يقاس على البيع غيره إلا بدليل معتبر، وكذلك لا يقاس على الطعام غيره لما ذكرنا آنفًا.

(1) الزوائد، المطبوع مع سنن ابن ماجه، ط. عيسى الحلبي: 2/750.

(2)

تهذيب التهذيب: 301-303.

(3)

شرح سنن أبي داود لابن القيم، المطبوع بهامش عون المعبود، ط. المكتبة السلفية بالمدينة المنورة: 9/384.

(4)

الفروق للقرافي، ط. دار المعرفة، بيروت: 3/281.

ص: 412

* رابعًا: حديث الحاكم كما أوضحته الرواية الثابتة أيضًا في الطعام، بدليل أن المحتجين به أنفسهم لا يقولون بأن جميع السلع يتم القبض فيها بالتحويل إلى الرحال، بل إن الإِمام النووي صرَّح بأن "حوزه إلى الرحال ليس بشرط بالإِجماع "، ولذلك احتاج إلى التأويل بأن المراد به أصل النقل، "وأما التخصيص بالرحال فخرج على الغالب، ودل الإِجماع على أنه ليس بشرط في أصل النقل"(1) .

ولا شك أن هذا التأويل يجعل التمسك بظاهر النص ضعيفًا، ويفتح باب التأويل في معنى النقل أيضًا بأن يفسر التخصيص به على الغالب، أو من باب الإِرشاد والنصح دون الوجوب والإِلزام.

* خامسًا: إن جميع الأحاديث في النهي عن البيع قبل القبض، وليس في القبض نفسه، فلا تكون نصًّا في المطلوب.

وأما القول بأن العرف قاضٍ بهذه التفرقة بين المنقول وغيره، أو بين ما يكال ويوزن وبين غيره فغير مسلم على إطلاقه، بل فيه تفصيل، وهو أننا إذا قصدنا به العرف العام فلن يستقيم المعنى بدليل الخلاف الكبير بين الفقهاء، وكلهم يلتجئون إلى العرف، ولو أردنا به العرف الخاص فلا يكون عرف بلد حجة على عرف بلد آخر، ولا عرف زمن معيَّن على عرف زمن آخر، فقد ذكر ابن عابدين في رسالته الشهيرة في العرف أن الناس لو تعارفوا على بيع شيء بالوزن مع أنه كان النص الوارد فيه على أنه يباع بالكيل فإن هذا العرف الأخير مؤثر عند أبي يوسف، وذلك "لأن النص في ذلك الوقت إنما كان للعادة، فحيث كانت العلة للنص على الكيل في البعض والوزن في البعض هي العادة تكون العادة هي المنظور إليها فإذا تغيرت تغير الحكم، فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص، بل فيه اتباع النص، وظاهر كلام المحقق ابن الهمام ترجيح هذه الرواية، وعلى هذا فلو تعارف الناس بيع الدراهم بالدراهم، أو استقراضها بالعدد كما في زماننا لا يكون مخالفًا للنص

" (2) .

* * *

(1) المجموع: 9/283.

(2)

نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، المطبوع ضمن رسائل ابن عابدين، طبعة الآستانة: 2/118.

ص: 413

ويمكن أن نناقش أدلة الرأي الثاني بما يأتي:

* أولًا: يمكن الجواب عن حديث ابن عمر في البكر الصعب بأنه يحتمل أن يكون ابن عمر كان وكيلًا في القبض قبل الهبة وهو اختيار البغوي (1) .

وأجاب بعضهم بأنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ساقه، أي ساق الجمل – بعد العقد

وسوقه قبض له، لأنه قبض كل شىء (2) .

ولا يخفي أن هذين الاحتمالين بعيدان جدًّا لا يمكنهما التأثير في ظاهر الحديث الدال على أن القبض يتم بمجرد التخلية والتمكُّن من القبض دون الحاجة إلى التحويل والحيازة الفعلية.

* ثانيًا: يمكن مناقشة حديث جابر بالاحتمالين السابقين، ولكن يجاب عنهما بالسابق.

* ثالثًا: يمكن مناقشة حديث عائشة بأنه لا يدل على أن القبض قد تم بل كل ما يدل عليه هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذها بالثمن، ولا يلزم منه تمام القبض.

* رابعًا: وأما حديث ابن عمر في بيع الذهب بالفضة في الذمة ففيه مقال حيث قال فيه الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر "(3) وسماك هذا قال فيه ابن حزم: "ضعيف يقبل التلقين، شهد عليه بذلك شعبة، وأنه كان يقول له: حدثك فلان عن فلان؟ فيقول: "نعم" (4) .

وقد تبع الشيخ الألباني ابن حزم وحكم بضعف الحديث، ورجح كونه موقوفًا وأتى لذلك ببعض شواهد حسنة تجعل هذا الأثر الموقوف قويًّا (5) .

ويمكن الإجابة على ذلك بأن الحديث قد حكم عليه الحاكم بالصحة وأنه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (6) ووصفه شيخ الإِسلام ابن تيمية بأنه من السنَّة الثابتة (7) .

(1) فتح الباري: 4/335 - 336.

(2)

فتح الباري: 4/335 - 336.

(3)

سنن الترمذي – مع التحفة – البيوع: 4/442.

(4)

المحلى: 9/566.

(5)

إرواء الغليل: 5/173 - 175.

(6)

المستدرك مع تلخيص الذهبي: 2/44.

(7)

مجموع الفتاوى: 29/510.

ص: 414

ومن جانب آخر أنهم ضعَّفوا الحديث بأمرين:

* أحدهما: أن في سنده سماك بن حرب وهو ضعيف، وهذا غير مسلم على إطلاقه، بل إن بعض النقاد وصفوه بأنه يمكن تلقينه، ولا سيما في أحاديثه عن طريق عكرمة، أما أحاديثه عن طريق سعيد بن جبير – مثل الحديث الذي معنا – وغيره فأكثر النقاد وثقوه، وحكموا له بالضبط، بل إن جماعة منهم قبلوا حديثه مطلقًا، وقال ابن عدي: وأحاديثه حسان، وهو صدوق، وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: سماك أصبح حديثًا من عبد الملك بن عمير، وقال ابن معين: ثقة وكان شعبة يضعفه، وقال العجلي بكري: جائز الحديث إلا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء، وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، وقال يعقوب: وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المثبتين، ومن سمع منه قديمًا مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم، والذي قال ابن المبارك – من أنه ضعيف – إنما نرى أنه فيمن سمع منه بآخره، وربما هذا التقويم الأخير هو المعتمد، والجامع بين الأقوال المختلفة حوله، وهذا الحديث هو ما رواه عنه حماد، وهو من متقدمي الرواة عنه، وقد تابعه إسرائيل بن يونس، ومهما قلنا في هذا الحديث فإنه لا ينزل إلى درجة الحديث الحسن، وهو ينهض حجة، وكيف لا، وقد حكم بصحته بعض النقاد مثل الذهبي، والحاكم، كما سبق؟

* ثانيهما: أنه موقوف. ويمكن أن يناقش بأنه وإن كان موقوفًا لكنه في حكم المرفوع، ولا سيما من ابن عمر الذي كان شديد التمسك بالآثار، ولا يخوض في الرأي إلا نادرًا ولا سيما في مثل القضايا الربوية.

ومن جانب آخر إذا كان للحديث طريقان طريق مرفوع، وطريق موقوف، فالرفع هو المرجح، ولا سيما أن الأئمة الخمسة قد رفعوه (1) .

الترجيح:

الذي يظهر لنا رجحانه بعد هذه الأدلة والمناقشة أن القبض هو التخلية، والتمكن من التسلّم دون التسلّم الفعلي فيما عدا الطعام حيث تدل الأحاديث على أن له نوعًا من الخصوصية والعناية والاهتمام لم توجد لغيره، فبالتحقيق لا يمكن إهمال هذه الأحاديث الدالة على وجوب قبض الطعام وكيله، أو وزنه إذا كان قد بيع بالكيل أو الوزن، ووجوب نقله وتحويله إذا كان قد بيع جزافًا، وأما فيما سوى الطعام فالأدلة ظاهرة ومتعاضدة في أنه لا يحتاج إلى النقل والتحويل، فقد رأينا أحاديث صحيحة دلت على أن القبض في الإِبل – مثلًا – قد تم بمجرد العقد، حيث قام الرسول صلى الله عليه وسلم بهبتها بعد العقد مباشرة دون النقل والتحويل، ولذلك لا يقاس على الطعام غيره من المنقولات.

(1) تهذيب التهذيب: 4/232 - 234.

ص: 415

وفي جميع الأحوال لا يشترط أن يتسلم المشتري بالفعل المعقود عليه حتى في الطعام، حيث نرى أن البائع إذا كالَهُ له، أو وزنه له، أو حوله إليه، أو أودعه في سيارته، أو سفينته فإن القبض قد تم، وأما في غير الطعام فمجرد التخلية يكفي، وذلك لأننا لو اشترطنا – حتى في الطعام – التسلم الفعلي من المشتري فإنه قد يتعسف في استعمال حقه فلا يتسلمه، وقد أبرز الكاساني هذا المعنى بصورة رائعة فقال:"فأما الإِقباض فليس في وسعه – أي البائع–، لأن القبض بالبراجم (1) فعل اختياري للقابض، فلو تعلق وجوب التسليم به لتعذر عليه الوفاء بالواجب، وهذا لا يجوز"(2) .

ثم إن القبض لغة قد جاء بمعنى التمكين والتمكن دون التسلم الفعلي، ولا نجد دليلًا في الشرع على تقييده غير الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أو استيفائه، أو تحويله، وهذه الأحاديث – في الواقع – ليست شرحًا للقبض، ولا تقييدًا له، وإنما هي في عدم جواز البيع قبل القبض، لكنه مع ذلك يدل على نوع خصوصية الطعام، حيث يقول القرافي في الفرق بين الطعام وغيره في هذه المسألة:"إن الطعام أشرف من غيره لكونه سبب قيام البنية، وعماد الحياة فشدد الشرع على عادته في تكثير الشروط فيما عظم شرفه كاشتراط الولي والصداق في عقد النكاح دون عقد البيع "(3) .

وعلى ضوء ذلك تبقى القاعدة العامة هي أن القبض والتسليم هو التخلية والتمكن من التسلم وليس التسلم الفعلي باليد يقول الكاساني: ولنا أن التسليم في اللغة عبارة عن جعله سالمًا خالصًا، يقال: سلم فلان لفلان أي خلص له، وقال الله تعالى:{وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [سورة الزمر: الآية 229] . أي سالمًا خالصًا لا يشركه فيه أحد، فتسليم المبيع إلى المشتري، هو جعل المبيع سالمًا للمشتري، أي خالصًا بحيث لا ينازعه فيه غيره، وهذا يحصل بالتخلية، فكانت التخلية تسليمًا من البائع، والتخلي قبضًا من المشتري وكذا هذا في تسليم الثمن إلى البائع، لأن التسليم واجب، ومن عليه الواجب لا بد وأن يكون له سبيل الخروج عن عهدة ما وجب عليه، والذي في وسعه هو التخلية، ورفع الموانع" (4) .

فعلى ضوء ذلك إن جميع الأحكام المترتبة على القبض تترتب على التخلية والتمكن من القبض، لكنه لا يجوز بيع الطعام قبل استيفائه وتحويله أو كيله ووزنه، وبهذا يتم الجمع والتوافق بين جميع الأدلة، ويكون للعقد أيضًا أثره دون أن يلغى أي دليل، والقاعدة الأصولية تقضي بأن الجمع بين الأدلة أولى من إلغاء أحدها.

(1) البراجم جمع برجمة، وهي رءوس السلاميات من ظهر الكف إذا قبض الشخص كفه نشزت وارتفعت، والسلامي هي عظام الأصابع وقال قطرب: هي عروق ظاهر الكف والقدم. يراجع: المصباح المنير 1/48، 307.

(2)

بدائع الصنائع: 7/3248.

(3)

الفروق، ط. دار المعرفة، ببيروت 3/281.

(4)

بدائع الصنائع: 7/3249.

ص: 416

التعريف المختار للقبض:

بعد هذا العرض لأقوال الفقهاء، وترجيح رأي القائلين: بأن القبض هو التخلية حسب العرف إلا في الطعام للأدلة الدالة عليه حيث لا يجوز بيعه إلا بعد كيله، أو وزنه، أو نقله وتحويله أو استيفائه، وذلك لأن "القبض" ورد في الشرع اعتباره، ولم يرد تفسيره فيه، وكذلك لا نجد له في اللغة معنى خاصًّا محددًا، بل وجدناه تدور معانيه حول: الأخذ والقبول للمتاع وإن لم يحول – كما قاله ابن الأعرابي – والتداول، والتمكن، والقدرة على الشيء كما سبق.

ومن هنا فالمرجع في ذلك إلى العرف، وعلى ضوء ذلك يمكن أن نقول في تعريفه المختار: هو: التخلية بين العاقد والمعقود عليه على وجه يتمكن من التسلم بلا مانع ولا حائل حسب العرف.

هذه هي حقيقة القبض في نظرنا لكن الدليل – كما قلنا – قام بخصوص الطعام فقيد جواز تصرف المشتري قبل تحويله ونقله إن كان قد بيع جزافًا، وقبل كيله أو وزنه إن كان قد بيع كيلًا أو وزنًا.

ما يشترط فيه القبض الفوري:

ثم إن كان العقد في الصرف (والنقود) فلا بد من القبض داخل المجلس، حيث إنه جامع المتفرقات.

ثم إن الجمهور – أي الحنفية، والشافعية، والحنابلة – لم يشترطوا الفورية في الصرف ما دام المجلس باقيًا (1) ، ولذلك كان بإمكان أحد العاقدين فيها أن سلم الثمن أو المثمن في آخر المجلس حتى ولو عقده في أول المجلس، حتى قال ابن قدامة وغيره: "ولو تماشيا مصطحبين إلى منزل أحدهما، أو إلى الصراف فتقابضا عنده جاز

"، لأنهما لم يفترقا قبل التقابض، فأشبه ما لو كانا في سفينة تسير بهما

وقد دل على ذلك حديث أبي برزة الأسلمي للذين مشيا في جانب العسكر، "وما أراكما افترقتما"(2) .

غير أن المالكية اشترطوا القبض الفوري في الربويات قال ابن رشد: ((إن تأخر القبض في المجلس بطل الصرف وإن لم يفترقا

)) وسبب الخلاف ترددهم في مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا هاء وهاء)) (3) وذلك أن هذا يختلف بالأقل والأكثر، فمن رأى أن هذا اللفظ صالح لمن لم يفترق من المجلس – أعني أنه يطلق عليه أنه باع ((هاء وهاء)) – قال: يجوز التأخير في المجلس، ومن رأى أن اللفظ لا يصح إلا إذا وقع القبض من المتصارفين على الفور قال: ((إن تأخر القبض عن العقد في المجلس بطل الصرف

)) (4) .

(1) حاشية ابن عابدين: 4/182، والغاية القصوى: 1/465، والروضة: 3/378، والمغني لابن قدامة: 4/59.

(2)

المغني: 4/59-60.

(3)

جزء من الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح -: 4/379 –383، ومسلم: 3/1208.

(4)

بداية المجتهد: 2/197، وبلغة السالك: 2/369، والموطأ: ص 393.

ص: 417

والراجح هو رأي الجمهور، وذلك لما روى البخاري ومسلم بسندهما عن مالك بن أوس أنه التمس صرفًا بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا، حتى اصطرف مني، فأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله: " الذهب بالذهب إلا هاء وهاء

" (1) وجه الاستدلال أن عمر فسر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((إلا هاء وهاء)) بأن لا يتفرقا في المجلس، قال ابن الأثير: "هاء وهاء" هو أن يقول كل واحد من المتابعين: هاء فيعطيه ما في يده كالحديث الآخر: "يدًا بيد" يعني مقابضة في المجلس (2) . وذكر المزني أن حديث عمر هذا وإن كان يحتمل القبض الفوري والقبض في المجلس، لكن تفسيره من خلال قوله لمالك بن أوس: "لا تفارق حتى تعطيه ورقه أو ترد إليه ذهبه" يدل على أن المراد به التقابض في المجلس (3) .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((يدًا بيد)) (4) فلا يدل على اشتراط القبض الفوري بعد العقد مباشرة حتى وإن ظل المجلس قائمًا، وكذلك لا يدل على اشتراط القبض باليد، وإنما المقصود به أن يتم القبض الفعلي في المجلس، قال الخطابي في شرح هذه الأحاديث:"فيه بيان أن التقابض شرط في صحة البيع في كل ما يجري فيه الربا من ذهب وفضة وغيرهما من المطعوم وإن اختلف الجنسان"، وقال شراح الحديث:"يدًا بيد"، أي: حالًّا مقبوضًا في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر (5) .

بل إن جماعة من شراح الحديث فسروا "يدًا بيد" أي: عينًا بعين، بدليل رواية لمسلم بلفظ "عينًا بعين"(6) بدل ذلك، أي لا يكون عينًا بدين أو دينًا بدين، لأن ذلك ربا.

(1) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع: 4/377 ومسلم، المساقاة: 3/1209.

(2)

فتح الباري: 4/380.

(3)

مختصر المزني بهامش الأم: 2/138.

(4)

روى مسلم في صحيحه: 3/1211، وغيره بلفظ "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلًا بمثل، يدًا بيد

".

(5)

عون المعبود شرح سنن أبي داود: 9/199، وتكملة المجموع لابن السبكي: 10/96.

(6)

صحيح مسلم، المساقاة: 3/1210.

ص: 418

وقد حصر الحنفية اشتراط القبض في المجلس على الصرف فقط (والنقود) ، أما غيره من الربويات فلا يشترط فيه إلا التعيين في المجلس، جاء في الدر المختار:"والمعتبر تعيين الربوي في غير الصرف – ومنه مصوغ ذهب وفضة – بلا شرط تقابض، حتى لو باع بُرًّا ببُرٍّ بعينهما وتفرقا قبل القبض جاز"(1)، قال ابن عابدين: "لأن غير الصرف يتعين بالتعيين، ويتمكن من التصرف فيه فلا يشترط قبضه، قياسًا على الثياب ونحوها،

، والتقابض قبل الافتراق بالأبدان ليس بشرط لجوازه إلا في الذهب، والفضة" (2) .

وأما الشافعية والحنابلة (3) فاشترطوا التقابض في المجلس في كل الربويات سواء بيعت بجنسها أم بغير جنسها، وأما المالكية فقط اشترطوا الفورية في جميع الربويات (4) .

ورأي الشافعية ومن معهم هو الراجح لورود أحاديث ثابتة متفق عليها تدل بوضوح على اشتراط كون البيع في الربويات "يدًا بيد" سواء كان في مختلفي الجنس، أو متفقيه (5) .

وأما غير الربويات (الصرف وغيره من المطعومات ونحوها) ، فلا يشترط فيه القبض الفوري، ولا القبض في المجلس (6) .

ويمكن تلخيص ما قلناه بأن العقود بالنسبة إلى التقابض على أربعة أقسام:

منها: ما يجب فيه التقابض قبل التفرق بالإِجماع، وهو الصرف.

ومنها: ما لا يجب بالإجماع كبيع المطعومات وغيرها من العروض بالنقدين الذهب والقضة.

ومنها: ما يشترط فيه التقابض عند الشافعي ومالك وأحمد خلافًا لأبي حنيفة وهو بيع الطعام بالطعام.

ومنها: ما يشترط فيه التقابض الفوري عند مالك، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، وأحمد (7) .

(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 4/182-183.

(2)

الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 4/182-183.

(3)

الروضة: 3/378، والغاية القصوى: 1/465، والمغني: 4/11.

(4)

الموطأ: ص 401.

(5)

انظر صحيح البخاري – مع الفتح -: 4/379-383، ومسلم: 3/1208-1212، والموطأ: ص 401، ومسند الشافعي: ص 48، وأحمد: 3/4، 5/49، والمستدرك: 2/43، والسنن الأربع وغيرها.

(6)

الروضة: 3/378، والغاية القصوى: 1/465، والمغني: 4/11، الموطأ: ص 401، صحيح البخاري – مع الفتح -: 4/379-383، ومسلم: 3/1208-1212، والموطأ: ص 401، ومسند الشافعي: ص 48، وأحمد: 3/4، 5/49، والمستدرك: 2/43، والسنن الأربع وغيرها.

(7)

تكملة المجموع لابن السبكي: 10/93.

ص: 419

أنواع القبض، وصوره القديمة والمعاصرة:

لقد أفاض فقهاؤنا الكرام في ذكر أنواع القبض، وكيفية، والصور المتداولة في عصورهم، والمسائل الكثيرة التي لا تسمح طبيعة بحثنا بالخوض فيها، ولذلك نذكر أهمها، ثم نعقبها بذكر بعض الصور المعاصرة.

فقد قسَّم الكاساني الحنفي القبض إلى قبض تامٍّ، وقبض ناقص، حيث قال: "إن أصل القبض يحصل بالتخلية في سائر الأموال، واختلفوا في أنها: هل هي قبض تامٌّ فيها أم لا؟ (1) .

ومعنى كون التخلية قبضًا تامًّا أنه يترتب على التخلية جميع الأحكام المترتبة على العقد بالكامل من انتقال الضمان إلى المشتري، وجواز التصرف له في المبيع قبل نقله، أو كيله، أو وزنه، أو عدِّه.

ومعنى كون التخلية قبضًا ناقصًا أن المشتري لا يجوز له بيع المبيع قبل نقله، أو كيله، أو وزنه، وإن كانت التخلية تؤدي باتفاق الحنفية في الجميع إلى نقل الضمان من البائع إلى المشتري، ونحن نذكر هنا بإيجاز متى تكون التخلية قبضًا تامًّا، ومتى لا تكون كذلك:

1-

التخلية قبض تامٌّ فيما يأتي:

(أ) في كل ما ليس له مثل من المذروعات، والمعدودات المتفاوتة، حيث التخلية فيه قبض تام بلا خلاف عند الحنفية، حتى لو اشترى مذروعًا مذارعة، أو معدودًا معاددة ووجدت التخلية يخرج عن ضمان البائع، ويجوز بيعه، والانتفاع به قبل الذرع والعدّ.

(ب) وفيما له مثل لكنه بيع مجازفة، لأنه لا يعتبر معرفة القدر في بيع المجازفة.

(ج) وفي المعدودات المتقاربة إذا بيعت عددًا لا جزافًا عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة تعتبر التخلية فيها قبضًا ناقصًا.

وجه قول أبي حنيفة أن القدر في المعدود معقود عليه كالقدر في المكيل والموزون، ولذلك لو عدَّه فوجده زائدًا لا تطيب له الزيادة بلا ثمن، بل يردها أو يأخذها بثمنها، ولو وجده ناقصًا يرجع بقدر النقصان كما في المكيل والموزون، وهذا دليل على أن المقدار معتبر في العقد، ولما كان احتمال الزيادة والنقصان في عدد المبيع ثابتًا فلا بد من معرفة قدر المعقود عليه، وامتيازه عن غيره، ولا يعرف قدره إلا بالعدّ، ولذلك لا يجوز بيعه قبل عدَّه (2) .

(1) بدائع النصائع: 7/3250، وحاشية ابن عابدين: 4/43، والفتاوى الهندية: 3/16.

(2)

البدائع: 7/3250.

ص: 420

ووجهة نظر الصاحبين أن العددي ليس من أموال الربا كالمذروع، ولهذا لم تكن المساواة فيها شرطًا لجواز العقد، كما لا تشترط في المذروعات، فكان حكمه حكم المذروع (1) .

2-

كون التخلية قبضًا ناقصًا فيما له مثل لكنه بيع مكايلة، أو موازنة في المكيل والموزون، حيث لا يجوز للمشتري أن يبيعه قبل الكيل والوزن، وكذا لو اكتاله المشتري، أو اتزنه من بائعه ثم باعه مكايلة أو موازنة من غيره لم يحل للمشترى منه أن يبيعه، أو ينتفع به حتى يكيله أو يزنه، ولا يكتفي باكتيال البائع أو اتزانه من بائعه وإن كان ذلك بحضرة هذا المشتري.

غير أن الحنفية اختلفوا في علة حرمة البيع قبل الكيل أو الوزن، فذهب بعضهم إلى أن العلة انعدام القبض بانعدام الكيل أو الوزن، وذهب آخرون بأن السبب هو وجود النص الدال على ذلك فقط، لأنه غير معقول المعنى مع حصول القبض بتمامه بالتخلية حيث إن معنى التسليم والتسلم يحصل بالتخلية، لأن المشترى يصير سالمًا خالصًا للمشتري على وجه يتهيأ له تقليبه، والتصرف فيه على حسب مشيئته وإرادته (2) .

غير أن الحنفية صرحوا بأنه لو كاله البائع، أو وزنه بحضرة المشتري كان ذلك كافيًا ولا يحتاج إلى إعادة الكيل، لأن المقصود يحصل بكيله مرة واحدة بحضرة المشتري (3) .

وبالإضافة إلى كون التخلية قبضًا فإن هناك أمورًا أخرى تعتبر بمثابة القبض من حيث الحكم عند الحنفية، وهي أن يكون المبيع لا يزال في يد البائع ولم يمكن من القبض أيضًا لكن المشتري يقوم بإتلافه، فيعتبر هذا الإِتلاف من قبله قبضًا، يقول الكاساني: لأن التخلية تمكين من التصرف في المبيع، والإِتلاف تصرف فيه حقيقة، والتمكين من التصرف دون حقيقة التصرف (4) .

(1) بدائع الصنائع: 7/3250 -3252.

(2)

بدائع الصنائع: 7/3250 -3252.

(3)

بدائع الصنائع: 7/3250 -3252.

(4)

بدائع الصنائع: 7/3253.

ص: 421

وكذلك يعتبر بمثابة القبض كل تصرف من قِبَل المشتري يؤدي إلى تعييب المعقود عليه، أو نقصه سواء بقطع جزء منه أو نحو ذلك، لأن هذه الأفعال تدل على التمكين أكثر من التخلية.

وكذلك لو فعل البائع، أو غيره ذلك بإذن المشتري، أو أمره. ويعتبر قبضًا ما إذا جنى شخص على المبيع فاختار المشتري اتباع الجاني بالضمان حيث يكون اختياره بمنزلة القبض عند أبي يوسف، وكذلك لو استبدل المشتري الضمان ليأخذ مكانه من الجاني شيئًا آخر عنده، وكذلك عند أبي يوسف إذا كان المبيع مصوغًا من فضة اشتراها بدينار مثلًا فاستهلك المصوغ أجنبي قبل القبض فاختار المشتري أن يتبع الجاني بالضمان، ونقد الدينار البائع فافترقا قبل قبض ضمان المستهلك لا يبطل الصرف بينهما عند أبي يوسف، لأن اختياره تضمين المستهلك بمنزلة القبض، وعند محمد يبطل الصرف لعدم القبض، وعلى هذا يخرج ما إذا أسلم في قفيز حنطة، فلما حل الأجل أمر رب السلم المسلم إليه أن يكيله في وعاء المسلم إليه أو دفع إليه وعاءه وأمره أن يكيله فيها ففعل فذلك قبض ما دام رب السلم حاضرًا، وإذا لم يكن حاضرًا فلا يصير قابضًا، لأن حقه في الدين وليس في العين (1) .

وذكر الحنفية مسائل جزئية وفرعية أخرى:

منها: ما لو باع قطنًا في فراش، أو حنطة في سنبل، وسلم كذلك فإن أمكن المشتري قبض القطن، أو الحنطة من غير فتق الفراش، أو دق السنبل صار قابضًا له لحصول معنى القبض، وهو التخلي والتمكن من التصرف، وإن لم يمكنه إلا بالفتق والدق لم يصر قابضًا له، لأنه لا يملك الفتق أو الدق، لأنه تصرف في ملك البائع، وهو لا يملك التصرف في ملكه فلم يحصل التمكن والتخلي فلا يصير قابضًا، ولذلك تقع أجرة الفتق والدق على البائع إذا كان المشتري لا يمكنه القبض إلا به.

ومنها: ما لو باع الثمرة على الشجرة وخلى بين المشتري وبينها صار قابضًا، لأنه يمكن الجذاذ من غير تصرف في ملك البائع فحصل التخلي بتسليم الشجر فكان قبضًا، ولذلك تقع أجرة الجذاذ على المشتري (2) .

(1) بدائع الصنائع: 7/3254، 3257.

(2)

بدائع الصنائع: 7/3254، 3257.

ص: 422

ومنها: لو باع رجل خلًّا في دَنٍّ – وعاء الخل – في بيت البائع فخلى بينه وبين المشتري فختم المشتري على الدَّنِّ وتركه في بيت البائع فهلك بعد ذلك فإنه يهلك من مال المشتري في قول محمد وعليه الفتوى، لأن القبض قد تمَّ (1) .

ومنها: إذا باع مكيلًا في بيت مكايلة، أو موزونًا موازنة، وقال خليت بينك وبينه، ودفع إليه المفتاح، ولم يكله ولم يزنه صار المشتري قابضًا، ولم لم يقل ذلك لا يكون قابضًا إلا بكيله، أو وزنه مرة أخرى (2) .

وهذا جمع طيب بين من اشترط من الحنفية أن يقول ذلك، وبين من لم يشترط ذلك منهم حيث حمل الاشتراط على ما إذا لم يتم الوزن، أو الكيل، في حين حمل عدمه على ما إذا تم الوزن، أو الكيل فعلًا.

ومنها: ما لو قال البائع للمشتري: خذ البضاعة فهو قبض إذا كان يصل إلى أخذه ويراه، كذا في الذخيرة (3) .

ومنها: ما لو اشترى ثوبًا، وأمره البائع بقبضه فلم يقبضه حتى غصبه إنسان، فإن كان حين أمره البائع بالقبض أمكنه أن يمد يده ويقبض من غير قيام صح التسليم، وإلا فلا. كذا في فتاوى قاضيخان (4) .

ومنها: ما إذا باع دارًا وسلمها إلى المشتري، وفيها متاع قليل للبائع لا يصح التسليم حتى يسلمها إليه فارغة، فإن أذن البائع للمشتري بقبض الدار والمتاع صح التسليم، لأن المتاع صار وديعة عند المشتري، وكذلك الأمر في الأرض التي فيها زرع للبائع.

وهناك تفصيلات كثيرة تعود في الواقع إلى العرف السائد في عصورهم.

(1) الفتاوي الهندية: 3/16-17.

(2)

الفتاوي الهندية: 3/16-17.

(3)

الفتاوي الهندية: 3/16-17.

(4)

بدائع الصنائع: 7/3254، 3257، الفتاوي الهندية: 3/16-17.

ص: 423

المعقود عليه في يد المشتري:

وهذه المسائل كلها مترتبة على أن المعقود عليه في يد البائع، أما لو كان في يد المشتري وقت العقد فهل يصبح قابضًا بمجرد العقد، أم يحتاج فيه إلى تجديد القبض؟

يقول العلامة الكاساني: "فالأصل فيه أن الموجود وقت العقد إن كان مثل المستحق بالعقد ينوب منابه، وإن لم يكن مثله أمكن تحقيق التناوب، لأن المتماثلين غيران ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد مسدّه، وإن كان أقوى منه يوجد فيه المستحق وزيادة، وإن كان دونه لا يوجد فيه إلا بعض المستحق فلا ينوب عن كله".

ثم فصل ذلك في مسائل لخصها في أن يد المشتري قبل الشراء إما أن تكون يد ضمان، وإما أن تكون يد أمانة.

فإذا كانت يد المشتري قبل الشراء يد الضمان بنفسه مثل إن كان غاصبًا له ثم اشتراه منه فإنه يصير قابضًا للمبيع بالعقد نفسه، دون الحاجة إلى تجديد القبض: سواء أكان المبيع حاضرًا أو غائبًا، لأن المغصوب مضمون بنفسه، والمبيع بعد القبض مضمون بنفسه فتجانس القبضان، فناب أحدهما عن الأخر.

أما إذا كانت يده يد الضمان لغيره كيد المرتهن، مثل إن باع الراهن المرهون للمرتهن فإنه لا يصير قابضًا إلا أن يكون الرهن حاضرًا، أو يذهب إلى حيث الرهن ويتمكن من قبضه، لأن المرهون ليس مضمونًا بنفسه بل بغيره وهو الدين، والمبيع مضمون بنفسه فلم يتجانس القبضان فلم يتشابها فلا ينوب أحدهما عن الآخر، ولأن الرهن أمانة في الحقيقة فكان قبضه قبض أمانة، وإنما يسقط الدين بهلاكه لمعنى آخر، لا لكونه مضمونًا، وحينئذ لا يكون قبض الأمانة كافيًا في قبض الضمان الذي يتم بقبض المبيع بصفة البيع (1) .

(1) بدائع الصنائع: 7/ 3258.

ص: 424

وأما إذا كانت يد المشتري قبل الشراء يد أمانة كيد الوديعة والعارية فلا يصير قابضًا إلا أن يكون بحضرته، أو يذهب إلى حيث يتمكن من قبضه بالتخلي، لأن يد الأمانة ليست من جنس يد الضمان فلا يتناوبان (1) .

ثم إن الحنفية أجمعوا – كما في الفتاوي الهندية – على أن التخلية في البيع الجائز الصحيح تكون قبضًا – على التفصيل السابق – لكنهم ثار بينهم خلاف في أنها هل هي قبض أم لا؟ على روايتين، والصحيح أنها قبض (2) .

وقد ذكر النووي أن الرجوع فيما يكون قبضًا إلى العادة، ويختلف بحسب اختلاف المال، وتفصيله أن المبيع نوعان:

* النوع الأول: ما لا يعتبر فيه تقدير إما لعدم إمكانه، وإما مع إمكانه فينظر: إن كان مما لا ينقل كالأرض والدور، فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري، وتمكينه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه، ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه، ويشترط كونه فارغًا من أمتعة البائع، فلو باع دارًا فيها أمتعة البائع توقف التسليم على تفريغها، وكذا لو باع سفينة مشحونة بالقماش.

أما لو جمع البائع متاعه في غرفة من المنزل، وخلى بينه وبين المشترى، فقد تم القبض فيما عدا تلك الغرفة.

وقد ذكر الشافعية أن في معنى الأرض الشجر الثابت، والثمرة المبيعة على الشجر قبل أوان الجذاذ.

وإن كان المبيع من المنقولات فالمذهب والمشهور أنه لا يكفي فيه التخلية، بل يشترط النقل والتحريك، وفي قول رواه حرملة: يكفي، وفي وجه: يكفي لنقل الضمان إلى المشتري، ولا يكفي لجواز تصرفه، ثم رجح النووي أنه لا يكفي استعمال الدابة، وركوبها بلا نقل (3) .

(1) بدائع الصنائع: 7/3258.

(2)

الفتاوى الهنديّة: 3/16.

(3)

الروضة: 3/515، والغاية القصوى: 1/483، والمجموع: 9/275-282.

ص: 425

وإذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع كموات ومسجد، وشارع، أو في موضع يختص بالمشتري فالتحويل إلى مكان منه كافٍ.

وإن كان في بقعة مخصوصة بالبائع فالنقل من زاوية منه إلى زاوية، أو من غرفة من داره إلى غرفة أخرى بغير إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف، ويكفي لدخوله في ضمانه، وإن نقل بإذنه حصل القبض، وكأنه استعار ما نقل إليه.

ولو اشترى الدار مع أمتعة فيها صفقة واحدة فخلى البائع بينها وبينه حصل القبض في الدار، وأما الأمتعة ففيها وجهان، أصحهما: يشترط نقلها كما لو أفردت، والثاني يحصل فيها القبض تبعًا، وبه قطع الماوردي، وزاد فقال: لو اشترى صبرة ولم ينقلها حتى اشترى الأرض التي عليها الصبرة وخلى البائع بينه وبينها حصل القبض في الصبرة أيضًا.

ولو جاء البائع بالمبيع فقال المشتري: ضعه، فوضعه بين يديه حصل القبض، وإن وضعه بين يديه ولم يقل المشتري شيئًا، أو قال، لا أريده فوجهان: أحدهما يحصل به القبض، والثاني لا يحصل القبض، كما لا يحصل الإِيداع، وأصحهما: يحصل، لوجوب التسليم، كما لو وضع الغاصب المغصوب بين يدي المالك يبرأ من الضمان، فعلى هذا للمشتري التصرف فيه، ولو تلف فمن ضمانه.

ولو وضع المدين الدين بين يدي مستحقه ففي حصول التسليم خلاف مرتب على المبيع، بل هو أولى بعدم الحصول، لعدم تعين الدين فيه.

ولو دفع المشتري ظرفًا إلى البائع وقال: اجعل المبيع فيه ففعل لا يحصل التسليم، إذ لم يوجد من المشتري قبض، والظرف غير مضمون على البائع، لأنه استعمله في ملك المشتري بإذنه، وفي مثله في السلم يكون الظرف مضمونًا على المسلم إليه، لأنه استعمله في ملك نفسه، ولو قال للبائع: أعرني ظرفك، واجعل المبيع فيه ففعل لا يصير المشتري قابضًا.

* النوع الثاني: ما يعتبر فيه تقدير بأن اشترى ثوبًا، أو أرضًا مذارعة أو متاعًا موازنة، أو صبرة مكايلة، أو معدودًا بالعدد فلا يكفي للقبض ما سبق في النوع الأول، بل لا بد من ذلك من الذرع، أو الوزن، أو الكيل، أو العدّ.

وكذا لو أسلم في أصوع طعام، أو أرطال منه يشترط في قبضه الكيل والوزن.

ولو قبض جزافًا ما اشتراه مكايلة دخل المقبوض في ضمانه، وأما تصرفه فيه بالبيع ونحوه فإن باع الجميع لم يصح، لأنه قد يزيد على المستحق، أما لو باع ما تيقن أنه له ففيه خلاف رجح جمهور الشافعية عدم صحته.

وإذا باع ما اشتراه كيلًا بالوزن، أو وزنًا بالكيل فهو كقبضه جزافًا (1) .

(1) الروضة: 3/514-518، الفتاوى الهنديّة: 3/16، الروضة: 3/515، والغاية القصوى: 1/483، والمجموع: 9/275-282.

ص: 426

والخلاصة

أن الشافعية أيضًا متفقون مع غيرهم في أن المرجع في القبض إلى العرف ولكنهم مع ذلك وضعوا هذه الضوابط التي كانت محكومة بأعراف زمانهم، يقول الشيرازي:"إن القبض ورد به الشرع وأطلقه، فحمل على العرف، والعرف فيما ينقل النقل، وفيما لا ينقل التخلية "(1) . ولكن النووي عقب عليه بأن قبض الدراهم والدنانير (النقود) والمنديل والثوب والإِناء الخفيف، والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول بلا خلاف بين الشافعية (2) .

وذكر ابن قدامة أن قبض كل شيء في المذهب الحنبلي بحسبه، فإن كان مكيلًا أو موزونًا وقد بيع كيلًا أو وزنًا فقبضه بكيله ووزنه، وإن كان المبيع دراهم، أو دنانير فقبضها باليد، وإن كان ثيابًا فقبضها نقلها، وإن كان حيوانًا فقبضه تمشيته من مكانه، وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري بدون حائل.

وقد علل ابن قدامة لذلك "بأن القبض مطلق في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإِحراز والتفرق، والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا"(3) .

ونرى مثل هذا التعليل، والرجوع إلى العرف في أغلب الكتب الفقهية – إن لم يكن في جميعها – مما يدل على أن مسائل القبض محكمة بالعرف، وحينئذٍ يمكن حمل كثير من التفصيلات الفهقية على أعراف أزمنة الفقهاء وعوائدها (4) .

(1) المهذب مع المجموع: 9/275.

(2)

المهذب مع المجموع: 9/275 - 276.

(3)

المغني 4/125-126.

(4)

الروضة: 3/514-518، المهذب مع المجموع: 9/275 ، 9/276، المغني 4/125-126.

ص: 427

صُور القبض المعاصرة

قبل أن نخوض في تفصيلات هذه الصور المعاصرة للقبض يمكننا أن نضع لها ضابطة وهي أن مبنى القبض وأساس مسائله وصوره قائم على العرف، حيث إن الشرع أطلقه فيكون الرجوع فيه إلى العرف، ومن هنا فكل ما عدّه العرف قبضًا في أي عصر من العصور فهو قبض، ما دام لا يصطدم مع نص شرعي ثابت صريح، وكذلك لا يجب الالتزام بجزئيات القبض وصوره في عصر ما بالنسبة للعصر الذي يليه ما دام العرف قد تغير، لأن ما هو مبني على العرف يتغير بتغيره، يقول العلامة ابن القيم: "

فمهما تجدد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك، والمذكور في كتبك" ثم نقل عن المحققين من العلماء قولهم "فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين

وما جرت به العادة

واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفًا متبادرًا إلى الذهن من غير قرينة

حمل عليه

ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان" (1) .

وقد أكد على مثل ذلك العلامة ابن عابدين في رسالته القيمة فقال: "اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، فقالوا تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة

وقال في القنية: ليس للمفتي ولا للقاضين أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف" بل ذكر أن النص المبني على اعتبار عرف ما مثل النصوص الواردة في اعتبار الحنطة والشعير ونحوهما من المكيلات لا يدل على عدم جواز بيعها بالوزن إذا تغير العرف وأصبحت تباع بالوزن أيضًا "فالنص في ذلك الوقت إنما كان للعادة

فإذا تغيرت العادة تغير الحكم – أي هذا الحكم الجزئي – فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص، بل فيه اتباع النص" (2) .

(1) نقلت ذلك مع طوله لأهميته ولا سيما في موضوعنا هنا. إعلام الموقعين عن رب العالمين، ط. عبد السلام شقرون بالقاهرة: 3/78.

(2)

نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، ضمن رسائل ابن عابدين، ط. آستانة: 2/115-118.

ص: 428

وهذه الضابطة تسهل كثيرًا من صور القبض المعاصرة ما دامت لا تتعارض مع نصوص الشريعة الثابتة الواضحة.

وعلى ضوء ذلك نقول: إن عملية القبض (التسلم والتسليم) في عصرنا الحاضر ليست في جميع صورها حديثة، بل إن كثيرًا من صورها لا تزال باقية، مثل قبض العقار سواء كان أرضًا أم بناء، وكذلك قبض الأشياء التي لا يمكن نقلها دون تغيير في شكلها كالمصانع فهذه الأمور لا يختلف فيها القبض في عصرنا عما كانت عليه في السابق، فيكون قبضها بالتخلية كما قال فقهاؤنا الكرام.

وأما المنقولات فهذه التي يمكن الاختلاف فيها حسب العصور والأزمان، حيث جدّت معاملات حديثة، وتطورت كيفية القبض، ولا سيما في نطاق السلع والنقود (الصرف) .

فعلى نطاق السلع الحاضرة أو التي رآها المشتري سابقًا يتم فيها القبض بعد العقد بمجرد التخلية ما عدا الطعام حيث لا يجوز بيعه إلا بعد نقله، أو كيله أو وزنه – كما سبق -، ويعتبر تسليم البضاعة وإدخالها في السفينة، أو الطيارة، أو السيارة بعد إرسال (بوليصة الشحن) تخلية وقبضًا.

وأما السلع الغائبة فإما أن يتم العقد فيها بين المستورد والمصدر مباشرة، وذلك بأن يبعث المستورد طلبًا بالبضاعة ومواصفاتها المطلوبة، ويوافق عليها المصدر، ثم يبعثها عن طريق البر، أو البحر، أو الجو، ففي هذه الحالة فإن العقد لا يلزم إلا بعد وصول البضاعة إلى المشتري ومطابقتها للمواصفات المذكورة في العقد، وحينئذ لا يتم القبض فيها إلا بعد وصولها والتأكد من التطابق (1) ، ولا يخفى أن رؤية الوكيل البضاعة مثل رؤية الموكل، ومن المعلوم فقهًا أن رؤية البعض قد تغنى عن رؤية الكل.

(1) يراجع في أحكام البيع الغائب: المجموع للنووي: 9/288-307، وبدائع الصنائع: 6/3053، والفواكه الدواني: 2/154.

ص: 429

وقد يتم العقد عن طريق البنوك من خلال الاعتمادات المستندية (CREDIT) ، وهي تعني توفير الضمان للبائع ليحصل على ثمن بضاعته، وللمشتري ليحصل على البضاعة التي تعاقد على شرائها، حيث يتعهد البنك فاتح الاعتماد بناء على طلب عميله وتعليماته: بأن يدفع الأمر المستفيد (البائع) مبلغًا معينًا من المال في غضون مدة محدودة، مقابل قيام المستفيد بإرسال البضاعة (موضوع البيع) أو نحوها، وتسليم مستندات معيّنة مطابقة للشروط المبينة في خطاب الاعتماد (1) .

والاعتماد نوعان: اعتماد استيراد يفتحه المستوردون لصالح المصدّرين الأجانب لاستيراد سلع أجنبية، واعماد تصدير لصالح المصدّرين المحليين لسلع محلية (2) .

والاعتماد المستندي إما أن يكون مغطي غطاء كليًّا، حيث يدفع طالب الاعتماد بتغطية مبلغه بالكامل للمصرف حتى يقوم المصرف بتسديد ثمن البضاعة بالكامل لدى وصول المستندات الخاصة بالبضاعة إليه، أما إذا كان مغطي غطاء جزئيًّا، فحينئذ يدفع المصرفي الباقي من ماله الخاص (3) .

فالعناصر المشتركة في الاعتماد المستندي هي:

1-

المستورد الذي طلب فتح الاعتماد، ويتم بينه وبين البنك فاتح الاعتماد عقد تضمن النقاط التي يطلبها المستورد من المصدّر.

2-

المصرف الذي فتح الاعتماد للمستورد بعد الموافقة على شروطه.

3-

المصرف الذي يرسل إليه مبلغ الاعتماد، وهو إما أن يقوم بدور الوسيط بين المصرف الفاتح، وبين المصدّر دون أي التزام عليه، وإما أن يقوم بتبليغ الاعتماد إلى المستفيد، ويضيف إليه تعزيزه، وحينئذٍ يكفل دفع القيمة للمصدّر بشرط أن تكون هذه المستندات مطابقة لشروط الاعتماد.

(1) إدارة الأعمال المصرفية للدكتور زياد رمضان، نشر الجامعة الأردنية 1977م ص 143، والمصارف الإِسلامية لنصر الدين فضل المولى، ط. دار العلم بالسعودية ص 167، والتجارة الدولية ودور الاعتمادات المستندية، ط. جدة 1402 هـ ص 15، ود. عبد الله عبد الرحيم: موقف الشريعة من المصاريف الإِسلامية المعاصرة، ط. المكتبة العصرية بصيدا، ص 299، ود. على السالوس: المعاملات المالية المعاصرة، ط. دار الفلاح، الكويت ص 120.

(2)

إدارة الأعمال المصرفية للدكتور زياد رمضان، نشر الجامعة الأردنية 1977م ص 143، والمصارف الإِسلامية لنصر الدين فضل المولى، ط. دار العلم بالسعودية ص 167، والتجارة الدولية ودور الاعتمادات المستندية، ط. جدة 1402 هـ ص 15، ود. عبد الله عبد الرحيم: موقف الشريعة من المصاريف الإِسلامية المعاصرة، ط. المكتبة العصرية بصيدا، ص 299، ود. على السالوس: المعاملات المالية المعاصرة، ط. دار الفلاح، الكويت ص 120.

(3)

إدارة الأعمال المصرفية للدكتور زياد رمضان، نشر الجامعة الأردنية 1977م ص 143، والمصارف الإِسلامية لنصر الدين فضل المولى، ط. دار العلم بالسعودية ص 167، والتجارة الدولية ودور الاعتمادات المستندية، ط. جدة 1402 هـ ص 15، ود. عبد الله عبد الرحيم: موقف الشريعة من المصاريف الإِسلامية المعاصرة، ط. المكتبة العصرية بصيدا، ص 299، ود. على السالوس: المعاملات المالية المعاصرة، ط. دار الفلاح، الكويت ص 120.

ص: 430

4-

المستفيد المصدّر.

والذي يهمنا في هذه القضية أن المصرف إذا دخل كوكيل فإن تسلمه البضاعة عن طريقه مصحوبة بكافة سندات الشحن يعتبر قبضًا، وهذه الحالة إنما تتم في الغالب حينما يكون الاعتماد المستندي مغطى غطاء كليًّا.

وكذلك يعتبر تسلمه البضاعة – مع توفر الشروط – قبضًا إذا دخل كشريك في الصفقة، وهذا يتم في الغالب عندما يكون الاعتماد المستندي مغطي غطاء جزئيًّا.

أما إذا دخل البنك كمرابح (بيع المرابحة) فحينئذٍ يكون قبضه للبضاعة قبضًا للبنك، ولا يتم القبض للعميل إلا إذا وصلت البضاعة إلى الميناء المطلوب، ويتم العقد بينهما، ثم يراها، ويخلي بينه وبينها حسب العرف التجاري، وحينئذ يتم القبض.

وأما القبض في النقود في عصرنا الحاضر فلا بد أن يتم فيه القبض في المجلس، لأن الإِجماع على ذلك قائم، يقول ابن المنذر:"وأجمعوا: أن المتصارفين إذا تفرقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد"(1) وقد ذكرنا أن الجمهور لم يشترطوا الفورية، بل قيدوا التقابض بالمجلس سواء طال أم قصر، في حين أن المالكية اشترطوا الفورية، وقد رجحنا مذهب الجمهور.

وإذا كان هذا محل إجماع لا ينبغي أن يمس، فإن العرف يمكن أن يتحكم في بعض صور القبض المعاصرة فيحكم عليها بالقبض ولذلك سنلقي بصيصًا من الضوء على كيفية الصرف في البنوك مع بيان حكم كل نوع منها.

فالبنوك (أو محلات الصرافة) إما أن تتعامل بالنقود مناجزة حالَّة حيث يدفع العميل النقود التي يريد بيعها، ويأخذ في مقابلها العملة التي يريدها، فهذا لا إشكال فيه ما دام التقابض قد تم في مجلس العقد حتى وإن طال المجلس – كما سبق -.

وإما أن تتعامل معه على غير هذه الصورة، وحينئذ تكون أمامنا الصور الآتية:

1-

يدفع العميل للمصرف الإسلامي مبلغًا من النقود على أن يسجله في حسابه الجاري، أو الاستثماري (المضاربة، أو الشركة) فيقبله المصرف، وبذلك يصبح المصرف مدينًا في حالة تسجيله في حسابه الجاري، ومضاربًا، أو شريكًا في حالة المضاربة أو المشاركة.

(1) الإِجماع لابن المنذر: تحقيق د. فؤاد عبد المنعم، ط. دار الدعوة ص 92، ويراجع تكملة المجموع لابن السبكي: 10/69، والمغني 4/177.

ص: 431

2-

يدفع العميل للمصرف مبلغًا من النقود (ريالات) على أن يسجله لحسابه الخاص بالدولار، فيتسلمه المصرف ويجري عملية التحويل مباشرة، ثم يدخل في حسابه الخاص ما يقابله من الدولارات، ويعطيه إيصالًا بذلك، فهذا أيضًا جائز، لأنه من قبيل المصارفة في الذمة التي أجازها جماعة من الفقهاء (1) ويدل على جوازه حديث ابن عمر الثابت حيث كان على ذمته دراهم، ويدفع دنانير، وبالعكس، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم بشرط أن يتم ذلك قبل التفرق – كما سبق -.

وقد أكد ذلك مؤتمر المصرف الإِِسلامي بدبي، حيث جاء في توصياته:"يرى الاستمرار في المعاملة الخاصة لبيع وشراء العملات، وذلك على الصورة الموضحة في بيان أعمال البنك، لأنها من قبيل المصارفة، وتطبق عليها أحكام الصرف المحدودة في فقه الشريعة الإِسلامية"(2) .

3-

عملية التحويل سواء كانت للنقود مباشرة، أو عن طريق الشيكات.

فالأول: مثل أن يدفع العميل مبلغًا من النقود ليحولها المصرف بعملة البلد المحول إليه فيدخله في حساب المحول إليه أو يأخذه، فهذا أيضًا جائز، لأن أخذ العميل ورقة التحويل وتثبيت المقدر المحول بمثابة قبض، ثم قيام المصرف بتحويله إلى الآخر بمثابة السفتجة (3) ، وهي جائزة عند جماعة من الفقهاء (4) ، وكذلك يشتمل على المصارفة في الذمة إن حول عملة العميل مباشرة إلى العملة التي يريدها، وهي أيضًا جائزة، كما سبق.

والثاني: وهو عن طريق الشيكات – له عدة صور منها:

(أ) أن يتقدم العميل بشيك مسحوب على فرع البنك الذي يقوم بتحصيله، وفي هذه الحالة يقوم الفرع بعملية التسوية بين الساحب والمستفيد حيث ينقص من حساب الأول، ويضيف إلى حساب الثاني بقيمة الشيك، أو يسلمه القيمة نقدًا دون إضافتها في الحساب (5) .

(1) المغني لابن قدامة: 4/53، وبداية المجتهد: 2/200، وحاشية ابن عابدين: 4/210، وتكملة المجموع لابن السبكي: 10/98.

(2)

توصيات المؤتمر: ص 16.

(3)

يقول النووي في تهذيب الأسماء واللغات، ط. دار الكتب العلمية ببيروت: 1/149، السفتجة لفظة أعجمية: كتاب يكتبه المستقرض للمقرض إلى نائبه ببلد آخر ليعطيه ما أقرضه.

(4)

يراجع: الأم 3/30، والمغني لابن قدامة: 4/354، حث رجح القول بجوازها، لأنها مصلحة لهما من غير أن يؤدي إلى الضرر أحدهما، بالإضافة إلى أن الأصل الإِباحة.

(5)

المصارف الإسلامية لنصر الدين ص 196.

ص: 432

وهذا جائز لأن القبض قد تم بصورة صحيحة حيث تم التسلم والتسليم بين العميل والمصرف.

(ب) أن يتقدم العميل بشيك مسحوب على فرع آخر من فروع البنك، فيقوم هذا الفرع بتسوية علاقة المديونية القائمة بين الساحب والمستفيد بالطريقة السابقة نفسها.

وهذا أيضًا جائز، وذلك لأن الذمة المالية للبنك واحدة في كل فروعه، ومن هنا كان القبض قد تم بصورة مشروعة.

(ج) أن يتقدم العميل بشيك مسحوب على بنك آخر، فيقوم البنك بإيداع قيمة الشيك في حساب العميل، ثم يقوم بتحصيل قيمة الشيك من المصرف الآخر في غرفة المقاصّة، أو بالعكس، بحيث يطالبه المصرف الآخر إذا كان الشيك صادرًا منه (1)

وقد كيّف الباحثون المعاصرون عملية تحصيل الشيك على الوكالة حيث يقوم المستفيد بتوكيل المصرف المحصل في قبض الدين الذي حصل له بمقتضى الشيك، ومن هنا أجازوا للمصرف أن يأخذ الأجرة بناء على عقد الوكالة المستقل (2) .

وقد يقوم المصرف الذي تعامل معه العميل بتحويل المبلغ النقدي أو المسحوب بالشيك يحوله إلى مصرف آخر، أو شخص آخر في أي بلد، سواء كان عن طريق التحويلات الخطابية، أو عن طريق التلكس، أو البرق، أو التليفون، أو نحو ذلك، فهذه العمليات كُيِّفت على أساس (السفتجة) – كما سبق – حيث أجازها جماعة من الفقهاء (3) وقد يأخذ العميل مقابل نقوده شيكات مصرفية أو سياحية، فلا يخفى أن قبض الشيك المصرفي، أو السياحي بمثابة القبض. والله أعلم.

(1) هذه الصور الثلاث تتعامل بها المصارف الإسلامية، نقلناها عن المصدر السابق، وأسندها إلى التعامل الجاري في مصر فيصل الإسلامي السوداني. ص 196-198.

(2)

المصارف الإِسلامية للدكتور غريب الجمال، ط. مؤسسة الرسالة، ص 71-72، والمراجع السابقة،.

(3)

موقف الشريعة من المصارف المعاصرة، المصارف الإِسلامية للدكتور غريب الجمال، ط. مؤسسة الرسالة ص 71-72، ص 336

ص: 433

أركان القبض وشروطه:

لا يخفى أن القبض باعتباره تصرفًا من التصرفات فله أركانه وشروطه، ونحن في هذه العجالة نوجز القول فيها بقدر الإِمكان.

فأركانه هي القابض، والمقبض، والمقبوض، ويشترط في المتقابضَيْن ما يشترط في العاقدين من ثبوت الأهلية لهما، وفي جريان الخلاف بين الفقهاء في قبض الصبي المميز (1) ، والسفيه (2) .

ويؤكد ذلك ما ذكره علماء الشروط والوثائق من التأكيد على ثبوت الأهلية الكاملة للقابضَيْن، حيث نجد في وثائقهم: "أقرّ فلان في صحة بدنه وعقله، وجواز أمره طائعًا أنه قبض واستوفى من فلان كذا

" (3) .

ولكن هناك استثناءات حيث يتساهل في القبض مالا يتساهل في العقد، فعلى سبيل المثال إن العقد لا يصح ألبتة عند الشافعية من الصبي – سواء كان مميِّزًا أم غير مميز – في حين يصح منه القبض، يقول الزركشي: "تعتبر فيه – أي القبض والإِقباض – الأهلية إلا في صور:

منها: إذا قال مالك الوديعة سلمها لهذا الصبي ففعل برئ، كما لو قال: ألقها في البحر، وكذلك لو وكله في إقباض الزكاة لمعين

ومنها: لو ثبت للسفيه دين فقبضه بإذن وليه فوجهان: رجح الحناطي الصحة

ومنها: ما لو باع سلعته من رجل ثم جن المشتري فقبض البائع منه صح وإن قبض من مجنون قاله البغوي في التهذيب

" (4) .

(1) حيث ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز تصرفات الصبي المميز وعقوده في الجملة وإن اختلفوا في التفصيلات، وذهب الشافعية والظاهرية، وأبو ثور إلى عدم صحة تصرفاته مطلقًا، يراجع في تفصيل ذلك: بدائع الصنائع: 6/2987، وفتح القدير: 7/310، والدسوقي: 3/294، وبداية المجتهد: 2/282، والإِنصاف: 5/518، والأم: 3/191، وفتح العزيز: 8/105، والغاية القصوى: 1/513، 2/697، والمحلى: 9/170.

(2)

ذهب الجمهور إلى الحجر على السفيه، وبالتالي عدم صحة تصرفاته المالية، وذهب أبو حنيفة إلى عدم الحجر عليه إذا بلغ رشيدًا ثم عاوده السفه، أو بلغ عمره 25 سنة. يراجع في تفصيل ذلك: فتح القدير: 7/314، وبداية المجتهد 2/280، والروضة: 4/518، والمغني لابن قدامة: 4/518، والمحلى: 9/193، ومبدأ الرضا في العقود: 1/318.

(3)

كتاب الشروط والوثائق لأبي نصر السمرقندي (ت 619هـ) ، تحقيق محمد جاسم الحديثي، ط. دار الحرية ببغداد ص 137-159.

(4)

المنثور في القواعد للزركشي، ط. وزارة الأوقاف، تحقيق د. تيسير فايق 3/57.

ص: 434

اتحاد القابض والمقبض:

ومما يتعلق بهذا الموضوع ما أثاره الفقهاء حول مدى إمكانية اتحاد القابض والمقبض، أو بعبارة أخرى هل يمكن أن يقوم بهذا الدور شخص واحد؟

الذي يفهم من نصوصهم أن الأصل هو اشتراط الاختلاف وعدم اتحادهما، ولكنه مع ذلك توجد عدة استثناءات في هذا الباب.

يقول الزركشي: - يمتنع – أي اتحاد القابض والمقبض – إلا في صور:

1-

الوالد يتولى طرفي القبض في البيع وفي النكاح إذ أصدق في ذمته، أو في مال ولد ولده لبنت ابنه.

2-

وفي صورة الخلع إذا خالعها على طعام في ذمتها بصفة السلم وأذن لها في صرفه لولده منها فصرفته له من غير توسط قبض صاحب المال، فإنها تبرأ إلا في احتمال لابن الصباغ من اتحاد القابض والمقبض.

3-

ونقل الجوري – أي القاضي أبو الحسن الجوري – عن الشافعي: " أن الساعي يأخذ من نفسه لنفسه، وقد يستشكل ذلك لأن قسمة المال المشترك لا يستقل به أحد الشريكين حتى يحضر الآخر، أو يرفع الأمر إلى القاضي إلا أن يعتذر بأنه أمين من جهة الشرع ".

4-

وكذلك من وجب عليه كفارة يمين فقال لغيره،: أطعم عني عشرة مساكين فأطعم يسقط الفرض عنه وإن كانت الهبة لا بد فيها من القبض ويجعل قبض المساكين كقبضه.

5-

إذا وكل الموهوب له الغاصب، أو المستعير، أو المستأجر في قبض ما في يده من نفسه وقبل صح، وإذا مضت مدة يتأتى فيها القبض برئ الغاصب والمستعير من الضمان.

6-

لو أجر دارًا بدراهم معلومة، ثم أذن المؤجر للمستأجر في صرفها في العمارة فإنه يجوز.

7-

لو كان له في ذمة شخص مال فأذن له في إسلامه في كذا قال ابن سريج يصح والمذهب المنع

(1) .

وقد ذكر السيوطي السبب في أن الأصل عدم اتحاد القابض والمقبض وهو أنه إذا كان قابضًا لنفسه احتاط لها، وإذا كان مقبضًا وجب عليه وفاء الحق من غير زيادة، فلما تخالف الغرضان والطباع مجبولة على الأثرة وحب مصالح النفس

امتنع الجمع كقاعدة عامة (2) .

ثم ذكر مسائل أخرى خلافية منها: ما لو امتنع المشتري من قبض المبيع ناب عنه القاضي، فإن فقد، ففي وجه – أي للشافعية – أن البائع يقبض من نفسه للمشتري فيكون قابضًا ومقبضًا، فعلى ضوء هذا الوجه يصبح المعقود عليه بعد ذلك أمانة في يدي البائع، ولكن المشهور في المذهب أنه من ضمان البائع كما كان، فحينئذ لا يعتد بهذا القبض (3) .

(1) المنشور في القواعد: 1/89-90، ويراجع الأشباه للسيوطي: ص 306.

(2)

الأشباه: ص 306، وراجع: الغاية القصوى: 1/484.

(3)

الأشباه: ص 306، وراجع: الغاية القصوى: 1/484.

ص: 435

أثر القبض في العقود الصحيحة:

ليس العقود بالنسبة للقبض على سنن واحدة، فهناك بعض العقود يكون القبض شرطًا لصحتها، وبعضها يكون القبض شرطًا للزومها، ولاستقرارها، وبعضها يلزم ويستقر دون القبض، ولذلك نجد الفقهاء يقسمون العقود باعتبار اشتراط القبض إلى أربعة أقسام:

* القسم الأول: ما لا يشترط فيها القبض، لا في صحته، ولا في لزومه، ولا في استقراره مثل النكاح، والحوالة، والوكالة، والوصية، والجعالة.

* القسم الثاني: ما يشترط القبض في صحته مثل الصرف وبيع الأموال الربوية بعضها ببعض سواء كانا متحدي الجنس، أو مختلفين، وذلك للحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل ولا تشفوا بعضًا على بعض

ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) ، وفي حديث صحيح آخر:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء عينًا بعين، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) . (1) .

وقد توقف الظاهرية عند هذه الأنواع الستة ولم يقس عليها غيرها في حين ذهب جمهور الفقهاء إلى قياس بعض الأنواع عليها لكنهم اختلفوا في العلة الجامعة المؤثرة هل هي الطعم، أو الاقتيات، أو كون الشيء مكيلًا أو موزونًا

مع اتحاد الجنس؟ (2) .

فهذه الأنواع الستة وما يقاس عليها لا يجوز بيع بعضها ببعض – سواء كانا متحدين في الجنس، أو مختلفين – إلا مع قبض البدلين في المجلس، وإذا لم يتم القبض فقد بطل العقد أو فسد بالاتفاق (3) .

وكذلك يجب تسليم الثمن (رأس مال السلم) في مجلس العقد عند جمهور الفقهاء، خلافًا للمالكية حيث أجاز أكثرهم تأخيره إلى ثلاثة أيام ما دام لم يشترط في العقد، أما إذا اشترط التأخير في العقد فقد فسد العقد بالاتفاق (4)

* القسم الثالث: ما يشترط القبض في لزومه كالرهن والهبة عند جمهور الفقهاء.

(1) وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا الموضوع فراجعها في صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع: 4/377 – 384، ومسلم، المساقاة: 3/1208- 1219، ومسند الشافعي: ص 48، وأحمد: 3/4، 5/49، والمستدرك: 2/43، وسنن أبي داود – مع العون -: 9/189، وابن ماجه: 2/757، والترمذي: 1/233، والنسائي: 7/240، والسنن الكبرى: 5/276.

(2)

يراجع: فتح القدير: 5/274، وبدائع الصنائع: 7/3115، والبحر الرائق: 6/137، والدر المختار: 5/171، والدسوقي على الشرح الكبير: 3/47، وبداية المجتهد: 2/13، والروضة: 3/377، ونهاية المحتاج: 4/428، والمغني لابن قدامة: 4/3-8.

(3)

يراجع: فتح القدير: 5/274، وبدائع الصنائع: 7/3115، والبحر الرائق: 6/137، والدر المختار: 5/171، والدسوقي على الشرح الكبير: 3/47، وبداية المجتهد: 2/13، والروضة: 3/377، ونهاية المحتاج: 4/428، والمغني لابن قدامة: 4/3-8.

(4)

شرح الخرشي: 5/203، وبلغة السالك: 2/538، وتراجع حاشية ابن عابدين: 4/208، والغاية القصوى: 1/497، والمغني لابن قدامة: 4/328.

ص: 436

أولًا – الرهن:

اختلف الفقهاء في أثر القبض في الرهن على أربعة آراء:

الرأي الأول: يرى أن الرهن لا يصح ولا يجوز إلا بالقبض. وهذا ما ذهب إليه الظاهرية حيث قال ابن حزم: " ولا يجوز الرهن إلا مقبوضًا في نفس العقد"(1) ، وبه قال زفر، وعلى هذا يكون القبض ركنًا (2) .

الرأي الثاني: يرى أن الرهن يتم ويلزم بمجرد العقد، ثم يجبر الراهن على الإِقباض إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة حتى يفلس الراهن، أو يمرض، أو يموت، وهذا ما ذهب إليه المالكية وأحمد في رواية، وعلى هذا فالقبض شرط للتمام فقط (3) .

الرأي الثالث: يرى أن الرهن ينعقد بالعقد، لكنه لا يصبح لازمًا إلا بالقبض، حيث يكون له حق الرجوع قبل القبض، وهذا رأي الحنفية – ما عدا زفر – والشافعية، والحنابلة على الراجح عندهم (4) .

الرأي الرابع: التفرقة بين ما كان مكيلًا أو موزونًا، وبين غيره، حيث ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أن ما كان مكيلًا أو موزونًا لا يلزم رهنه إلا بالقبض، وفيما عداهما روايتان: إحداهما لا يلزم إلا بالقبض، والأخرى: يلزم بمجرد العقد كالبيع.

وقد حرر ابن رشد النزاع في اللزوم وعدمه، حيث قال: "فأما القبض فاتفقوا بالجملة على أنه شرط في الرهن

واختلفوا هل هو شرط تمام أو شرط صحة؟

" (5) .

(1) المحلى لابن حزم ط. مكتبة الجمهورية العربية: 8/481.

(2)

بدائع الصنائع، ط. زكريا علي يوسف: 8/3720.

(3)

بداية المجتهد، ط. مصطفى الحلبي: 2/274، والمغني: 4/364.

(4)

بدائع الصنائع: 8/3720، وحاشية ابن عابدين ط. دار إحياء التراث العربي: 5/308، والروضة: 4/65، وفتح العزيز: 10/62، حيث ذكر أنه ركن للزوم العقد.

(5)

بداية المجتهد: 2/274.

ص: 437

وقد استدل كل فريق على ما ذهب إليه بأدلة نوجز القول فيها، حيث استدل الرأي الأول على دعواه بأنَّ الله تعالى وصف الرهن بأنه مقبوض فقال تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة: الآية 283] . قال الجصاص (1) : وقوله تعالي: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يدل على الرهن لا يصح إلا مقبوضًا من وجهين:

أحدهما: أنه عطف على ما تقدم من قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ

} [سورة البقرة: الآية 282] . فلما كان استيفاء المذكور والصفة المشروطة للشهود واجبًا وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط له من الصفة، فلا يصح إلا عليها كما لا تصح شهادة الشهود إلا على الأوصاف المذكورة، إذ كان ابتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضي للإِيجاب، (أي بعبارة أخرى قياس القبض في الرهن على العدالة في الشهود) .

والوجه الثاني: أن حكم الرهن مأخوذ من الآية، والآية إنما أجازته بهذه الصفة فغير جائز إجازته على غيرها، إذ ليس ههنا أصل آخر يوجب جواز الرهن غير الآية ويدل على أنه لا يصح إلا مقبوضًا أنه معلوم أنه وثيقة للمرتهن بدينه، ولو صح غير مقبوض لبطل معنى الوثيقة، وكان بمنزلة سائر أموال الراهن التي لا وثيقة للمرتهن فيها، وإنما جعل وثيقة له ليكون محبوسًا في يده بدينه فيكون عند الموت والإِفلاس أحق به من سائر الغرماء، ومتى لم يكن في يده كان لغوًا لا معنى فيه، وهو وسائر الغرماء فيه سواء

(2) .

(1) يفهم من كلامه هذا أنه يرى أن القبض شرط لصحة الرهن، في حين أن مذهب الحنفية ما عدا زفر على أنه شرط للزوم.

(2)

أحكام القرآن للجصاص، ط. دار الفكر، بيروت: 1/523.

ص: 438

ثم أضاف الجصاص توضيحًا وتنويرًا لرأيه فقال: "ألا ترى أن المبيع إنما يكون محبوسًا بالثمن ما دام في يد البائع؟ فإن هو سلمه إلى المشتري سقط حقه، وكان هو وسائر الغرماء سواء فيه"(1) بالإِضافة إلى قياسه على الهبة، لأنه عقد تبرع في الحال (2) .

واستدل الرأي الثاني بأن الإِيجاب والقبول يكفيان، إذ هما شطرا العقد وركناه الأساسيان، وإذا تما فقد انعقد الرهن ولزم لقوله تعالي:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: الآية 1] . ثم حينما ينعقد العقد يجبر الراهن على تسليم الرهن، حاله في ذلك حال بقية العقود التي تترتب عليها الآثار، فالبيع مثلًا يلزم بالإِيجاب والقبول، ثم يترتب عليه أثر من انتقال الملكية وتسليم الثمن والمثمن، وإذا امتنع العاقد عن تنفيذ ذلك فإنه يجبر عليه قضاء.

واستدل الرأي الثالث بالآية السابقة نفسها: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} حيث وصف الله تعالى الرهان بكونها مقبوضة، ومن هنا لا يجوز أن يلغي هذا الوصف بل لا بد من اعتباره شرطًا وليس ركنًا.

إذن فأصحاب هذا الرأي يحتاجون إلى الاستدلال على أمرين: الأمر الأول كونه شرطًا، والأمر الثاني: كونه ليس بركن.

أما الأمر الأول فيدل عليه وصف الله تعالى الرهان بأنها مقبوضة قال الكاساني: "وصف سبحانه وتعالى الرهن بكونه مقبوضًا فيقتضي أن يكون القبض فيه شرطًا صيانةً لخبره تعالى عن الخلف، ولأنه عقد تبرع للحال فلا يفيد الحكم بنفسه كسائر التبرعات"(3) .

وأما الأمر الثاني فيدل عليه أنه لو كان ركنًا لما كان هناك حاجة لذكر: "مقبوضة"، قال الكاساني:"ولو كان القبض ركنًا لصادر مذكورًا بذكر الرهن، فلم يكن لقوله تعالى عز شأنه: "مقبوضة" معنى، فدل ذكر القبض مقرونًا بذكر الرهن على أنه شرط وليس بركن"(4) ، وقاس ابن قدامة الرهن في ذلك على القرض حيث إنه لا يلزم إقباضه، ولا يجبر عليه بمجرد العقد (5) .

وأما الرأي الرابع فقد استند على التفرقة بين المنقول وغيره، حيث إن التوثقة في المنقول لا تتم إلا من خلال القبض على عكس العقار.

المناقشة والترجيح:

ويمكن أن يناقش القول الرابع بأن الآية الكريمة عامة في المنقول وغيره، ولم يرد في السنة الثابتة على تخصيصها بالمنقول، فعلى هذا فتخصيصها تحكم وترجيح بلا مرجح.

هذا من جانب، ومن جانب آخر أن العلامة ابن قدامة قد أوضح أن هذه التفرقة في المذهب الحنبلي غير صحيحة، بل المروي عن أحمد روايتان مطلقتان بخصوص لزوم الرهن بالعقد وحده أم مع القبض، وكذلك كلام الخرقي محمول على ذلك، لكن القاضي أبا يعلى حمل كلام الخرقي مع عمومه على الفرق بين المكيل والموزون، وبين غيرهما، حيث قال: "

وليس بصحيح، فإن كلام الخرقي مع عمومه قد أتبعه بما يدل على إرادة التعميم

" (6) .

بالإِضافة إلى أن هذه التفرقة التي ذكرها أصحاب هذا الرأي تعود في الواقع إلى طبيعة القبض في المنقول والعقار مع أن الخلاف في القبض مطلقًا هل هو شرط أم لا؟

ولذلك فهذا الرأي في الواقع ليس له دليل ينهض حجة، ولا مستند له وجاهته واعتباره.

ويمكن أن نناقش أدلة الرأي الأول بأن الآية وإن كانت قد وصفت الرهان بكونها مقبوضة لكنها لا تدل على جعل هذا الوصف ركنًا للرهن، بل لو كان القبض ركنًا له لكان جزءًا من ماهيته وحينئذ لما احتاج إلى الذكر، كما لا يحتاج لفظ البيع أن يوصف بالإِيجاب والقبول، ومن هنا فلا تدل الآية على أكثر من كون القبض مطلوبًا، وهذا يتحقق بجعل القبض شرطًا للزوم – كما هو رأي الجمهور – أو شرطًا للتمام ولكنه يجبر عليه – كما هو رأي المالكية -.

(1) أحكام القرآن للجصاص، ط. دار الفكر، بيروت: 1/523.

(2)

بدائع الصنائع: 8/3720.

(3)

بدائع الصنائع: 8/3721.

(4)

بدائع الصنائع: 8/3721.

(5)

المغني: 4/364.

(6)

المغني: 4/364.

ص: 439

وأما قياس القبض في الرهن على العدالة في الشهادة فقياس مع الفارق من حيث الدلالة والماهية، وذلك لأن دلالة {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [سورة الطلاق: الآية 2] . على اشتراط العدالة واضحة من الآية، بل هي موجهة إلى وجود هذا الوصف، بل إنه بدونه لا تكون شهادة، لأن الغرض منها كشف الحقيقة، وبيان الصدق فيها، وذلك لا يتحقق إلا مع وجود العدالة، وأما الرهن فالآية الدالة على كونه مقبوضًا لا تدل على أن القبض ركن وجزء من ماهيته، كما أنه لا يفهم من طبيعته كونه مقبوضًا، ومن جانب آخر لا يستلزم من هذا الوصف في الآية كون القبض ركنًا، أو شرطًا للصحة، بدليل أن الآية نفسها قد علقت الرهن على السفر مع أن الرهن جائز في الحضر بالاتفاق ما عدا مجاهدًا (1) .

ويمكن أن نناقش الرأي الثاني، بأن ما نقوله مسلم لكن وصف الرهان بكونها مقبوضة في الآية الكريمة لو لم يدل على كون القبض شرطًا لأصبح بدون فائدة، وهذا لا يجوز في كلام رب العالمين.

ويرد على الرأي الثالث أنه لا يلزم من القول بعدم اشتراط القبض كون "مقبوضة" في الآية لغوًا بدون فائدة، إذ أن ذكره له فائدة عظيمة وهي أن الرهن لا يكتفي فيه بمجرد العقد بل لا بد من التسليم، ولذلك يجبر على ذلك، فلو لم تكن هذه الصفة لكان بالإِمكان الاكتفاء بالعقد اللفظي مع إبقاء المال المرهون في يد الراهن، وأيضًا إن قياس الرهن على الهبة قياس مع الفارق، لأنه في مقابل التزام مالي دونها بالإِضافة إلى الهبة أيضًا محل الخلاف.

وبعد هذه المناقشة فالذي يظهر لنا رجحانه هو ما ذهب إليه مالك وأحمد في رواية، ،ذلك لأن الآية الكريمة {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} لا تدل على التعمق على كون القبض ركنًا ولا شرطًا للصحة، وإنما تدل على اعتباره، وهذا يتحقق في جعل القبض شرطًا للتمام والاستقرار وليس للصحة واللزوم، إذ على ضوء اعتباره ركنًا يؤدي إلى إلغاء الإِيجاب والقبول الصادرين من الراهن والمرتهن ما دام لم يصحبه القبض، وكذلك لو جعلناه شرطًا للصحة، وأما على ضوء اعتباره شرطًا للزوم فإنه يؤدي إلى أن العاقدين لهما حق الرجوع قبل القبض، وعلى ضوء ذلك فلو قبض الراهن الدّين، وتم الإِيجاب والقبول للرهن، فإن بإمكانه أن لا يسلمه لأنه غير ملزم، وفي هذا إجحاف كبير بحق المرتهن في حين أنه على ضوء مذهب مالك يجبر على تسليمه فيكون فيه صون لكلام العاقل من اللغو والإِلغاء، فالذي يدعمه الدليل أن الإِنسان ملزم بالعقد الذي التزم به، ولا يحتاج بعد ذلك إلى شيء آخر من قبض ونحوه، لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

} – كما سبق – بالإِضافة إلى أن السنة جعلت مخالفة الوعد – ناهيك عن العقد – من علامات النفاق (2) ، فالرهن عقد يترتب عليه التزامات في مقابل التزامات مالية فينبغي أن يلزم بمجرد الإِيجاب والقبول – مع بقية الشروط – كسائر العقود، وهناك تفاصيل حول قبض العدل، ورهن المشاع لا تسمح طبيعة البحث بالخوض فيها.

(1) قال ابن المنذر في الإشراف: 1/69: " ولا نعلم أحدًا خالف ذلك في القديم والحديث إلا مجاهدًا فإنه قال: ليس الرهن إلا في السفر".

(2)

روى البخاري في صحيحه، كتاب الإِيمان – مع الفتح -: 1/89، ومسلم في صحيحه، كتاب الإِيمان 1/78 بسندهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب

وإذا وعد أخلف

) .

ص: 440

ثانيًا – الهبة (وسائر التبرعات) :

وقد ثار الخلاف في أثر القبض في الهبة، ونحوها على ثلاثة آراء:

الرأي الأول: هو أن القبض شرط للزوم الهبة، فلا تلزم إلا بالقبض، فعلى هذا يكون الموهوب قبل القبض على ملك الواهب، يتصرف فيه كيفما شاء وهذا رأي جمهور الفقهاء منهم الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، وهذا قول إبراهيم النخعي وسفيان الثوري والحسن بن صالح وعبيد الله بن الحسن، وهو مروي عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعليه إحدى الروايتين عن أحمد (3) ، فعلى ضوء ذلك فالواهب بالخيار قبل القبض، بل لا يصح قبضها إلا بإذنه، حتى لو قبضها بدون الإِذن لم يصح القبض.

الرأي الثاني: أن القبض يتم ويلزم بالإِيجاب والقبول، وإذا امتنع الواهب بعد ذلك فيجبر عليه، وهذا هو رأي مالك (4) ، والشافعي في القديم، وأبي ثور، والحسن البصري، وكذلك قال حماد بن أبي سليمان في هبة الرجل لزوجته: إذا علمت (5) غير أن الإِمام مالكًا قال: "فإن تأني الموهوب له عن طلب القبض حتى أفلس الواهب أو مرض بطلت الهبة

". قال ابن رشد: وله – أي لمالك – إذا باع تفصيلٌ: إن علم فتوانى لم يكن له إلا الثمن، وإن قام في الفور كان له الموهوب"(6) وفي الموطأ تفصيلٌ: حيث إذا أعطى أحدًا عطية لا يريد ثوابها فأشهد عليها فإنها ثابتة للذي أعطيها إلا أن يموت المعطي قبل قبضها

، وإن لم يرد ثوابها ثم مات المعطى فورثته بمنزلته، وإن مات المعطي قبل القبض فلا شيء له (7) .

الرأي الثالث: التفرقة بين ما يكال ويوزن حيث لا تلزم الهبة فيه إلا بالقبض، وبين غيره حيث تلزم بمجرد العقد، وهذا ما عليه أحمد في الرواية المشهورة عنه (8)، ومن الجدير بالتنبيه عليه أن هذا الخلاف نفسه وارد في صدقة التطوع لكن ابن أبي ليلى فرق بينها وبين الهبة فقال:"تجوز الصدقة إذا أعلمت وإن لم تقبض، ولا تجوز الهبة ولا التخلي إلا مقبوضة"(9) .

(1) بدائع الصنائع: 8/3688.

(2)

روضة الطالبين، والغاية القصوى.

(3)

الإِشراف لابن المنذر، تحقيق محمد نجيب سراج الدين، ط. إدارة إحياء التراث بقطر: 1/389 – 390، والمغني: 5/649 - 653.

(4)

الموطأ مع شرحه المنتقى: 6/94، وبداية المجتهد: 2/329، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/103 وذكر له تفصيلًا فليراجع.

(5)

الإِشراف 1/389 – 390، وفتح الباري، ط. السلفية: 5/233.

(6)

بداية المجتهد: 2/329.

(7)

الموطأ، كتاب الأقضية: ص 469.

(8)

المغني لابن قدامة: 5/649.

(9)

بدائع الصنائع: 8/3688.

ص: 441

الأدلة:

استدل أصحاب الرأي الأول بالإِجماع والآثار، والرأي، أما الإِجماع فهذا ما ادعاه ابن قدامة، حيث قال:"ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن ما قلناه مروي عن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما ولم يعرف لهما من الصحابة مخالف"، ومثله قال الكاساني (1) .

وأما الآثار فهي كثيرة، فقد قال المروزي: اتفق أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ: على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة" (2) .

وقد روى مالك، وعبد الرزاق، والبيهقي، وابن سعد بسندهم عن عائشة قالت: "لما حضرت أبا بكر الوفاة قال: أي بنية! ليس أحدٌ أحب إليّ غنًى منك ولا أعز عليّ فقرًا منك، وإني كنت قد نحلتك جداد عشرين وسقًا من أرضي التي بالغابة، وإنك لو كنت حزتيه كان لك، فإذ لم تفعلي فإنما هو للوارث، وإنما هو أخواك، وأختاك

" (3) .

ورووا أيضًا عن عمر بن الخطاب يقول: ما بال أقوام ينحلون أبناءهم، فإذا مات الابن قال الأب: مالي، وفي يدي، وإذا مات الأب قال: قد كنت نحلت ابني كذا وكذا. لا نحل إلا لمن حازه، وقبضه عن أبيه" (4) .

ورويا بسندهما عن عثمان قال: "نظرنا في هذا النحول: فرأينا أن أحق من يحوز على الصبي أبوه"(5) .

وروى عبد الرزاق عن شريح، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز، وابن شبرمة، وعثمان البتي، أنهم كانوا لا يجيزون الهدية، ولا يجعلونها لازمة إلا بعد القبض (6) . وكذلك الصدقة حتى تقبض"، وروي مثله عن شريح، ومسروق، والشعبي: أنهم كانوا لا يجيزون الصدقة حتى تقبض – أي لا تلزم إلا بالقبض (7) .

فكل هذه الآثار تدل على أن السلف الصالح قد شاع بينهم هذا الحكم حتى أصبح مجمعًا عليه – كما قال ابن قدامة، والكاساني (8) .

(1) المغني: 5/649، وبدائع الصنائع: 8/3688.

(2)

المغني: 5/649، وبدائع الصنائع: 8/3688.

(3)

الموطأ، كتاب الأقضية: ص 486، والمنصف بتحقيق الأعظمي: 9/101، والسنن الكبرى: 6/178، وطبقات ابن سعد: 3/194، وفتح الباري: 5/215.

(4)

المنصف: 9/102، والسنن الكبرى: 6/170، والموطأ: ص 469.

(5)

المصنف: 9/103، والسنن الكبرى: 6/170.

(6)

المصنف: 9/103-104.

(7)

المصنف: 9/121 - 122.

(8)

المغني: 5/649، وبدائع الصنائع للكاساني: 8/3688.

ص: 442

وأما الرأي والتعليل فهو ما عبر عنه الكاساني بقوله: ولأنها عقد تبرع فلو صحت بدون القبض لثبت للموهوب له ولاية مطالبة الواهب بالتسليم، فتصير عقد ضمان، وهذا تغيير المشروع" (1) .

واستدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والآثار والقياس:

أما السنة فهي الأحاديث الصحيحة الدالة على حرمة الرجوع عن الهبة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:((ليس لنا، مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه)) (2)، وقوله:((العائد في هبته كالعائد في قيئه)) . (3)، وقد عقد البخاري له بابًا سماه:"باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته "(4)، وعلق عليه الحافظ فقال: كذا بتّ الحكم في هذه المسألة لقوة الدليل عنده فيها" (5) ، ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث في الدلالة على حرمة الرجوع واضح، فكما أن القيء محرم، ولا يجوز أكله فكذلك الهبة، يقول الحافظ: "ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك، وأدل على التحريم بما لو قال مثلًا:"لا تعودوا في الهبة"(6) ، وهذه الأحاديث مطلقة ليس فيها ذكر القبض فتبقى على إطلاقها، وحينئذ تكون الهبة ملزمة بمجرد العقد دون الحاجة إلى القبض.

وأما الآثار في ذلك فواردة عن بعض الصحابة والتابعين، حيث روى عبد الرزاق بسنده عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما حيث كانا يجيزان الصدقة وإن لم تقبض، وكذلك روى مثله عن إبراهيم وسفيان (7) .

وأما القياس فهو قياس الهبة ونحوها من الصدقة على الوصية في أنها عقد تبرع بتمليك شيء مع أنها تفيد الملك قبل القبض وتلزم بعد الموت وإن لم يقبض الموصى به ما دام الإِيجاب والقبول قد صدرا من العاقدين (8) .

واستدل أصحاب الرأي الثالث بأن الهبة بلا شك من عقود التمليك وإن كانت بدون مقابل، ولذلك كان منها ما لا يلزم قبل القبض، ومنها ما يلزم قبله كالبيع حيث إن فيه ما لا يلزم قبل القبض وهو الصرف وبيع الربويا، ومنه ما يلزم قبله وهو ما عدا ذلك (9) .

واستدل ابن أبي ليلى ببعض الآثار الواردة عن بعض الصحابة مثل عمر، وعلي رضي الله عنهم حيث أجازوا الصدقة قبل القبض، ولم يجيزوا الهبة إلا مقبوضة (10) .

(1) بدائع الصنائع: 8/3688.

(2)

صحيح البخاري – كتاب الهبة – مع الفتح: 5/234-235.

(3)

صحيح البخاري – كتاب الهبة – مع الفتح: 5/234-235.

(4)

صحيح البخاري – كتاب الهبة – مع الفتح: 5/234-235.

(5)

فتح الباري: 5/235.

(6)

فتح الباري: 5/235.

(7)

المصنف: 9/122 – 123.

(8)

يراجع: بدائع الصنائع: 8/3688.

(9)

المغني لابن قدامة: 5/653.

(10)

بدائع الصنائع: 8/3688، والمصنف لعبد الرزاق: 9/120، 122 - 123.

ص: 443

المناقشة:

ويمكن أن يرد على ابن أبي ليلى من عدة وجوه:

الوجه الأول: إذا كان هناك بعض الآثار عن بعض الصحابة بهذه التفرقة بين الهبة والصدقة، فإن هناك آثارًا أخرى عن جماعة كثيرة منهم بعدمها، وإن الصدقة والهبة ونحوها لا تتم إلا بالقبض، وأقوال الصحابة لا يكون بعضها حجة على البعض ما دامت مختلفة.

الوجه الثاني: ما قاله الكاساني: "وما روي عن سيدنا عمر، وسيدنا علي رضي الله عنهما محمول على صدقة الأب على ابنه الصغير، وبه نقول، حيث لا حاجة هناك إلى القبض. حملناه على هذا توفيقًا بين الدلائل صيانة لها عن التناقض

" (1) ، ولا شك أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما.

الوجه الثالث: أن الصدقة لا تختلف عن الهبة، إذ أنها عقد تبرع فلا يفيد الحكم بنفسه كالهبة، يقول ابن قدامة:" إن الهبة والصدقة والهدية والعطية معانيها متقاربة، وكلها تمليك في الحياة بغير عوض، واسم العطية شامل لجميعها"(2) .

ويمكن أن نناقش أدلة الرأي الأول (الجمهور) بما يأتي:

أولًا: إن دعوى الإِجماع غير مسلمة وذلك بخلاف بعض الصحابة والتابعين، وبعض المذاهب في هذه المسألة، فقد ذهب إلى عدم حاجة الهبة والتبرعات إلى القبض الإِمام مالك والشافعي في القديم وأبو ثور والحسن البصري، وكذلك ذهب إلى لزوم الصدقة وإن لم تقبض. علي وابن مسعود، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، فكيف ينعقد الإِجماع مع خلاف هؤلاء الفقهاء؟!

ثانيًا: أما الآثار الواردة عن الصحابة فليست حجة ما دامت المسألة خلافية بينهم، فأقوال الصحابة والتابعين لا يكون بعضها حجة على الآخر، بل الحجة في كتاب الله، وسنة رسوله، والإِجماع.

ثالثًا: وأما ما ذكروه في الدليل العقلي فليس فيه حجة، إذ أنه على ضوء ما ذهب إليه مالك ومن معه يُمَلَّك الموهوب له ولاية المطالبة، وليس فيه تغيير للمشروع، إذ أن الواهب أصبح ملزمًا بالتزامه بمجرد صدور الإِيجاب منه، وقبول الآخر.

(1) بدائع الصنائع: 8/3689.

(2)

المغني: 5/649.

ص: 444

ويمكن أن نناقش أدلة الرأي الثاني بما يأتي:

أولًا: إن الأحاديث التي ذكروها لا تدل على الدعوى المطلوبة، وذلك لأن محل النزاع في مدى لزوم الهبة قبل القبض في حين أن دلالة تلك الأحاديث ليست ظاهرة في حرمة الرجوع قبل القبض، بل سياقها يدل بوضوح على أنها في الرجوع بعد القبض، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((العائد في هبته كالعائد في قيئه)) ظاهر في أن المراد به الهبة بعد القبض، وذلك لأن التمثيل الذي ذكره يدل على ذلك، فالقيء سواء كان من إنسان أو من كلب قد خرج منه ووقع على الأرض – مثلًا – فالعودة إليه محرمة بالنسبة للإِنسان، وكذلك الحديث يدل على أن هذه البشاعة إنما تتحقق إذا رجع الواهب أو المتصدق بعد القبض، أما قبل القبض وإن كان مستنكرًا لكنه لا يصل إلى هذه الدرجة عرفًا وشرعًا.

ويدل على هذا الفهم أن الخلفاء الراشدين وأكثر الصحابة ذهبوا إلى أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فلو كان المراد بالحديث السابق الهبة قبل القبض لما قالوا مثل ذلك.

ومن جانب آخر إن الحديث السابق في بيان شناعة الرجوع عن الهبة والصدقة ذوقيًا وسلوكيًا، وذم ذلك وحرمته دينيًا، وفيما بينه وبين الله، ولا يستلزم من ذلك اللزوم القضائي، وبعبارة أخرى إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن شناعة هذا العمل من خلال تلك الصورة المجسمة الخطيرة المقززة التي لا يرضى بها كل ذوق سليم، كل ذلك للزجر من الرجوع وبيان أن ذلك لا يتناسب مع أخلاق المؤمن وسموه وعزته وكرامته، لكنه لو رجع قبل القبض، أو بعد القبض عند بعض العلماء (1) لما ترتب عليه حكم قضائي ملزم.

(1) فتح الباري: 5/235، 236.

ص: 445

بالإِضافة إلى أن بعض العلماء قالوا: لا يفهم من الحديث السابق التحريم وإنما التغليظ في الكراهة، وذلك لأن التمثيل بالكلب الذي يعود إلى قيئه وهو غير مكلف يدل على عدم التحريم، غير أن هذا التأويل بعيد عن فهم الحديث، وغير مقبول، ولا يتفق مع بقية الأحاديث التي ورد التمثيل فيها بالعائد إلى قيئه، وهذا محرم بالإِجماع، بالإِضافة إلى أن عرف الشرع في مثل هذه الأشياء يريد به المبالغة في الزجر والشدة في التحريم، مثل قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ

} [سورة الحجرات: الآية 12] .

وكقوله صلى الله عليه وسلم: ((من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير)) (1) .

وأما الآثار فهي معارضة بالآثار الكثيرة الواردة بخلاف ذلك فلم تنهض حجة.

وأما قياس الهبة والصدقة على الوصية فقياس غير مستقيم من وجهين:

أحدهما: أن الوصية عقد تمليك بعد الموت وهما من عقود التمليك في الحياة.

ثانيهما: أن الوصية قبل موته غير ملزمة أيضًا إذ الموصي له حق الرجوع، ومن هنا كان قياسهم في هذه المسألة في جزء منها، وليس في جميعها، بل يمكن أن نقول: إن قياسهم الهبة على الوصية قياس مقلوب عليهم فيصبح دليلًا لنا وليس علينا، وذلك بأن نقول: إن الهبة مثل الوصية قبل الموت في عدم اللزوم، فالفقهاء متفقون على أن الموصي – وإن صدر منه الإِيجاب – له حق الرجوع، وإنما تلزم بالموت ثم القبول إن كانت لمعين لأن احتمال الرجوع قد انتهى بموته، وحان وقت القبول (2) .

ويمكن أن نناقش الرأي الثالث: بأن هذه التفرقة لا نجد لها دليلًا له وجاهته واعتباره، وما قالوه لا ينهض حجة، فقياس الهبة على البيع قياس مع الفارق فهو تمليك بعوض في حين أن الهبة تمليك بلا عوض، في حين أن الهبة تمليك بلا عوض، وأحكام الصرف لا تنطبق على الهبة، وإلَاّ لما انعقدت في الربويات إلا بالقبض مع أنها تنعقد فيها حتى عندهم، وإن كانت لا تلزم.

(1) الحديث رواه مسلم، كتاب الشعر: 4/1770، وأحمد: 5/352، 357.

(2)

مراتب الإِجماع: ص 112، والمغني: 6/133، 134.

ص: 446

الترجيح:

الذي يظهر لنا رجحانه هو أن العطيات – أي الهبة والهدية، وصدقة التطوع – تنعقد بالإِيجاب والقبول، ولكنها لا تلزم قضاء إلا بالقبض – ما عدا هبة الوالد لولده حيث له الرجوع حتى بعد القبض عند جمهور الفقهاء - (1) .

ولكن إذا تم الإِيجاب والقبول بحيث قال الواهب، أو المصدق أعطيتك كذا فقال الآخر قبلت، فإن الواهب يجب عليه ديانة أن يفي بقوله وإلَاّ يأثم، وبعبارة أخرى يحرم عليه أن يخالف مقتضى عقده، أو وعده، للأحاديث الدالة على حرمة مخالفة الوعد، - ناهيك عن العقد– والأحاديث الدالة على حرمة الرجوع في الهبة ونحوها.

وهناك تفاصيل في شروط القبض، وكيفيته لا تسمح طبيعة البحث بالخوض فيها هنا (2) .

* القسم الرابع: ما يشترط القبض في استقراره.

ومعنى كون القبض شرطًا للاستقرار أن العقد يتم ويلزم بمجرد الإِيجاب والقبول – مع توفر الشروط المطلوبة – ولكنه يحتاج في استقراره إلى القبض، وبعبارة أخرى: إن ملكية العاقدين للمعقود عليه لا تستقر تمامًا إلا بالقبض، وهذا مثل البيع – في غير الربويات – والسلم بالنسبة للمسلم فيه، والإِجارة، والصداق، ونحوها (3) .

فعلى ضوء ذلك إذا تم البيع – مثلًا – ولم يتم القبض فإنه قد يترتب عليه عدة آثار من أهمها ما يأتي:

الأثر الأول: أن المبيع يكون على ضمان البائع عند جماعة من الفقهاء ما دام لم يقبض، فعلى هذا لو هلك يضمنه البائع، ويسترجع المشتري حينئذٍ ثمنه، وذهب بعض الفقهاء إلى التفرقة بين الطعام وغيره، بحيث إذا تلف الطعام المبيع قبل قبضه يكون من مال البائع، وأما غيره إذا تلف قبل القبض يكون من مال المشتري، ثم إذا كان التلف قبل القبض – فيما يشترط فيه القبض – بآفة سماوية بطل العقد، ورجع المشتري بالثمن، وإن تلف بفعل المشتري استقر الثمن عليه، وإن أتلفه أجنبي لم يبطل العقد، ويثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن وبين البقاء على العقد ومطالبة المتلف بالمثل إن كان مثليًا، وذهب فريق ثالث منهم (الظاهرية) إلى أن الضمان على المشتري مطلقًا (4) .

الأثر الثاني: اشتراط القبض قبل التصرف في المبيع ونحوه عند جماعة. وبعبارة أخرى عدم جواز بيع المبيع ونحوه قبل القبض يقول ابن رشد: "واختلف من هذه المسألة في ثلاثة مواضع: أحدها: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات، والثاني في الاستفادات

والثالث في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلًا وجزافًا" (5) .

وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة اختلافًا كبيرًا يمكن حصر اتجاهاتهم في ثلاثة اتجاهات عامة تتمثل في الرفض مطلقًا، والإِجازة مطلقًا، والتوسط القائم على التفصيل وهي:

الاتجاه الأول: يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقًا سواء أكان المعقود عليه طعامًا أم غيره، وسواء أكان مكيلًا أو موزونًا، أو عقارًا أو منقولًا.

(1) فتح الباري: 5/211، مراتب الإِجماع: ص 112، والمغني: 6/133، 134.

(2)

مراتب الإِجماع: ص 112، والمغني: 6/133، 134، فتح الباري: 5/211.

(3)

المنثور في القواعد: 2/408، والأشباه للسيوطي: ص 305، 306.

(4)

يراجع في تفصيل ذلك، وما دار فيه من خلاف: حاشية ابن عابدين: 4/42، ومختصر الطحاوي: ص 78، 79، وبداية المجتهد: 2/185، وحاشية الدسوقي: 3/70، والفواكه الدواني: 2/130، والروضة: 3/499، والغاية القصوى: 1/485، والمغني: 4/121، والمحلى: 9/343، ويراجع: المصنف لعبد الرزاق: 8/46.

(5)

بداية المجتهد: 2/144، ولا تسمح طبيعة البحث في الخوض في كل تفاصيل هذه المسألة.

ص: 447

وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه (1) ، وأحمد في رواية (2) ، ومحمد بن الحسن وزفر من الحنفية (3) ، والظاهرية (4) ، والزيدية (5) ، ورواية الإِمامية (6) ، والإِباضية في المشهور عنهم (7) ، وروي ذلك عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب في رواية عنه، وسفيان الثوري (8) .

الاتجاه الثاني: يرى جواز بيع المبيع وكل تصرف فيه مطلقًا، وهذا رأي عطاء بن أبي رباح، وعثمان البتي (9) ورأي للإِمامية (10) .

الاتجاه الثالث: يرى التوسط والتفصيل، وأصحاب هذا الاتجاه مختلفون فيما يجوز بيعه قبل القبض، وفيما لا يجوز.

فذهب أكثرهم إلى عدم جواز بيع الطعام قبل قبضه، وإلى جوازه في غيره وهذا رأي مالك في المشهور عنه (11) ، وأحمد في رواية عنه (12) ، واختيار أبي ثور، وابن المنذر (13) ، والإِمامية في وجه لهم (14) . (وفيه تفصيل في التوفية

) .

(1) الأم: 3/60، وجاء في المهذب مع شرحه المجموع للنووي 9/264: "ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإِجارة والصداق، وما أشبهها من المعاوضات قبل القبض.

(2)

المغني لابن قدامة: 4/121، 123، وشرح ابن القيم على سنن أبي داود، المطبوع مع عون المعبود: ط. السلفية بالمدنية 9/353....

(3)

بدائع الصنائع: 7/3100 حيث قال: "وعند محمد وزفر والشافعي لا يجوز قياسًا"، وحاشية ابن عابدين: 4/162، والمبسوط: 14/3، وفتح القدير: 7/22.

(4)

المحلى لابن حزم: 9/592.

(5)

البحر الزخار: 4/311.

(6)

المختصر النافع للحلي: ط. وزارة الأوقاف بمصر، ص 148.

(7)

شرح النيل: 8/59.

(8)

المصنف: 8/38 – 44، حيث رواه عن جابر، وعن ابن عباس أنه قال:"فأحسب كل شيء بمنزلة الطعام"، وشرح معاني الآثار: 4/39، والمحلى: 9/594، والمغني: 4/121.

(9)

المحلى: 8/597 ، حيث أسند إلى عطاء قوله:" جائز بيع كل شيء قبل أن يقبض " والمغني:4/220 ، أسند مثل هذا القول إلى عثمان البتي ، وشرح ابن القيم ، على سنن أبي داود:9/382.

(10)

قال الحلي في المختصر النافع: ص 148: " ولا بأس ببيع ما لم يقبض، ويكره فيما يكال، أو يوزن

".

(11)

المدونة: 9/90.

(12)

المغني: 4/120، 121، ومجموع الفتاوى: 29/398، شرح ابن القيم على سنن أبي داود: 9/382.

(13)

المختصر النافع: ص 148.

(14)

المغني: 4/121، والمحلى: 9/596، والمجموع: 9/264، 265، والمنصف لعبد الرزاق: 8/43، حيث رواه عن ابن سيرين، وعن ابن المسيب، وابن شبرمة.

ص: 448

وذهب فريق ثانٍ منهم إلى عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضهما، وإلى جوازه فيما عداهما، وهذا مروي عن عثمان بن عفان، وابن سيرين وابن المسيب والحسن والحكم وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي وربيعة والنخعي (1) .

وذهب فريق ثالث إلى إلحاق ما يباع بالوزن بالمكيل والموزون في عدم جواز بيعه قبل القبض، وهذا اتجاه أحمد في رواية وجماعة من أصحابه (2) وأبي حنيفة، واختاره جماعة من أصحابه ما دام يراعي فيه العدُّ (3) .

وذهب فريق رابع إلى إلحاق ما يباع بالذراع (المتر ونحوه) بالمكيل والموزون وهذا اتجاه أبي حنيفة إذا أفرد لكل ذراع ثمن (4) .

وذهب فريق خامس إلى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه إذا كان منقولًا، وجوازه إذا لم يكن منقولًا كالعقار، وهذا اتجاه جمهور الحنفية.

ومن الجدير بالتنبيه عليه أن المنقول يشمل المكيل والموزون والمعدود، والمذروع (على تفصيل فيه)(5) .

وذهب فريق سادس إلى التفرقة في الطعام بين ما يباع بالكيل أو الوزن على التوفية، وبين ما يباع منه جزافًا، فمنع الأول قبل القبض، وأجاز الثاني، حيث ذهب أكثر أصحاب مالك إلى جواز بيع الطعام قبل قبضه ما دام قد اشتراه جزافًا، فيكون له الحق في البيع دون نقله عن موضعه، غير أنه قيده مالك بأن لا يكون في بيع العينة (6) ، وإذا كان بالعينة فلابد أن لا يكون بأكثر من ثمن المثل (7) .

وبعض العلماء جعلوا هذا المعيار عامًا فقالوا: كل ما بيع بالكيل، أو الوزن، أو العد، أو الذراع، لا يجوز بيعه قبل قبضه وكل ما بيع جزافًا يجوز سواء كان طعامًا أو غيره (8) .

(1) المغني: 4/121، 123.

(2)

بدائع الصنائع: 8/3251، وحاشية ابن عابدين: 4/162، 164، وتبيين الحقائق: 4/81، والمبسوط: 14/3، وفتح القدير: 7/22.

(3)

بدائع الصنائع: 8/3251، وحاشية ابن عابدين: 4/162، 164، وتبيين الحقائق: 4/81، والمبسوط: 14/3، وفتح القدير: 7/22.

(4)

بدائع الصنائع: 8/3251، وحاشية ابن عابدين: 4/162، 164، وتبيين الحقائق: 4/81، والمبسوط: 14/3، وفتح القدير: 7/22.

(5)

بدائع الصنائع: 8/3251، وحاشية ابن عابدين: 4/162، 164، وتبيين الحقائق: 4/81، والمبسوط: 14/3، وفتح القدير: 7/22.

(6)

العينة هي: أن يبيع رجل بضاعة لآخر بثمن، ثم يشتريها منه بثمن مؤجل أقل من الثمن الأول، فهذا حرام، لأنه وسيلة إلى الربا عن طريق التحايل. انظر مبدأ الرضا في العقود: ط. دار البشائر 2/1225.

(7)

المدونة: 9/88، 89، وشرح الخرشي: 5/164.

(8)

المجموع: 9/264، 271، المدونة: 9/88، 89، وشرح الخرشي: 5/164.

ص: 449

الأدلة والترجيح (بإيجاز) :

من المعهود في البحث العلمي أن نذكر أدلة كل فريق ثم المناقشة ثم الترجيح، غير أن ذلك في هذه المسألة الفرعية يتطلب كتابة عشرات الصفحات وهذه لا تتفق مع طبيعة البحث، وحينئذٍ كنت بين أمرين، إما ترك الترجيح، أو استعراض الأدلة في بحث يكون أشبه بكتاب، فآثرت أن أذكر الراجح – في نظري – مع أدلته، والرد على أدلة المخالف بإيجاز.

والذي يظهر لي رجحانه هو أن منع التصرف في المبيع ونحوه قبل القبض محصور في الطعام، وأن العلة هي الطعام لا غير، وعلى هذا تدل الأحاديث الصحيحة، منها الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم بسندهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) ، وفي رواية لهما: ((

حتى يقبضه)) ، ورويا بسندهما أيضًا عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) . قال ابن عباس: " وأحسب كل شيء مثله"، ورويا عن ابن عمر، أنهم كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا، أن يبيعوه في مكانه، حتى يحولوه (1) ولا شك أن تخصيص الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه دليل على مخالفة غيره له.

والواقع أن قول ابن عباس: "وأحسب كل شيء مثله" اجتهاد محض منه لا يكون حجة على اجتهاد غيره، ولذلك أورده البخاري مع أنه ترجيح للباب "باب بيع الطعام قبل أن يقبض

" (2) بل إن بعض روايات الحديث جاءت بالحصر (3) .

وهذا الحصر على الطعام هو الذي يؤدي إلى الجمع بين الأدلة الواردة بهذا الشأن بحيث تحمل عليه الأحاديث الخاصة بالنهي عن البيع قبل القبض، وتحمل الأحاديث الواردة الدالة على جواز التصرف في المبيع ونحوه قبل القبض على غير الطعام، وهذا هو الذي سار عليه الإِمام البخاري حيث أورد: باب إذا اشترى متاعًا، أو دابة فوضعه عند البائع، أو مات قبل أن يقبض. وقال ابن عمر رضي الله عنهما :"ما أدركت الصفقة حيًّا مجموعًا فهو من المبتاع". ثم أورد حديث عائشة في قصة الهجرة، وفيها:"قال أبو بكر: يا رسول الله، إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما. قال: "قد أخذتها بالثمن" (4) .

(1) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض 4/349، 350، ومسلم، البيوع: 3/1159، الحديث: 1525، 1526، 1527، 1528، 1529، وأحمد (1/56، 270، 2/22، 64، 3/392) .

(2)

صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض 4/349، 350، ومسلم، البيوع: 3/1159، الحديث: 1525، 1526، 1527، 1528، 1529، وأحمد (1/56، 270، 2/22، 64، 3/392) .

(3)

صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع: 4/349، حيث روي عن ابن عباس يقول:(أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض) ، فهذا الحصر دليل على ما قلناه.

(4)

صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع: 4/351.

ص: 450

قال ابن المنير: "مطابقة الحديث للترجمة من جهة أن البخاري أراد أن يحقق انتقال الضمان في الدابة ونحوها إلى المشتري بنفس العقد، فاستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:((قد أخذتها بالثمن)) وقد علم أنه لم يقبضها بل أبقاها عند أبي بكر، ومن المعلوم أنه ما كان ليبقيها في ضمان أبي بكر، لما يقتضيه مكارم أخلاقه حتى يكون الملك له، والضمان من غير قبض ثمن، ولا سيما في القصة ما يدل على إيثاره لمنفعة أبي بكر حيث أبى أن يأخذها إلا بالثمن (1) .

وأيضًا يدل على ذلك ما رواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم عن ابن عمر، حيث يدل على أن ما يدرك العقد حيًّا مجموعًا – أي لم يتغير عن حالته – فهو من ضمان المشتري، وهذا رأي ابن عمر، قال الطحاوي: "ذهب ابن عمر إلى أن الصفقة إذا أدركت شيئًا حيًّا فهلك بعد ذلك عند البائع فهو من ضمان المشتري فدل على أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال

" (2) .

ومن الجدير بالإِشارة إلى أن أكثر القائلين بجعل التفرقة في البيع قبل القبض بين ما يكال، أو يوزن، وبين غيره أول كلامهم وحمل على الطعام وغيره، يقول ابن قدامة:"ويحتمل أنه أراد المكيل والموزون، والمعدود من الطعام الذي ورد النص بمنع بيعه"، ثم علق على هذا الحمل فقال:"وهذا أظهر دليلًا، وأحسن"(3) .

وقد استدل المخالف بأدلة لا يخلو جميعها إما من ضعف في سندها، أو أنها ليست نصًّا في دلالتها على منع المبيع غير الطعام، فمثلًا استدل القائلون بالمنع مطلقًا بالحديث الذي رواه أحمد والبيهقي عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:((يا ابن أخي إذا ابتعت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه)) (4) ، فهذا الحديث لا ينهض حجة، لأن جميع طرقه لا تخلو من مقال وضعف (5) ولا سيما أن الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن ابن عباس قد رواه بطريق الحصر حيث يقول:"أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض"(6) ، فلو كان ابن عباس – وهو من هو – لو وصله خبر ثابت لما حصره هذا الحصر.

(1) فتح الباري: 4/351، 352.

(2)

صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع: 4/352، وذكر الحافظ أن هذا التعليق وصله الطحاوي والدارقطني.

(3)

انظر: مسند أحمد: 3/402، والسنن الكبرى: 5/313.

(4)

انظر: مسند أحمد: 3/402، والسنن الكبرى: 5/313.

(5)

ونصب الراية: 3/32، والمحلى: 9/593، 594، وراجع: جوهر النقى على السنن الكبرى حيث حكم بضعفه 5/313، وقال: "كيف يكون حسنًا، وابن عصمة متروك

وفي الأحكام لعبد الحق: ضعيف".

(6)

صحيح البخاري – مع الفتح – 4/349، ومسند الشافعي: 1252، والطحاوي: 2/218.

ص: 451

وهناك أحاديث أخرى ثابتة لكنها لا تدل على هذه الدعوى بوضوح منها: ما رواه أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، بسندهم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن)) ، وفي بعض الروايات: ((لا يحل سلف وبيع

ولا ربح ما لم يضمن)) (1)، وقد فسروا هذا الحديث بأنه يعني: الربح الحاصل من بيع ما اشتراه قبل أن يقبضه، وينتقل من ضمان البائع إلى ضمانه، فإن بيعه فاسد (2) .

ولكن الحديث صريح في النهي عن ربح ما لم يضمنه، تطبيقًا لقاعدة "الخراج بالضمان "(3) ، وهذا إنما ينطبق على مسألتنا إذا كان القائلون بجواز بيع المبيع غير الطعام – أو غير المكيل والموزون، أو غير المنقول – لا يذهبون إلى أن المشتري ضامن بالعقد، في حين أن هؤلاء يذهبون إلى أن الضمان ينتقل في غير هذه الأشياء إلى المشتري بمجرد العقد، وحينئذٍ لم يكن الدليل في محل الدعوى فيصادر عليه فلا يقبل، يقول الخرقي:"وما عداه – أي ما عدا المكيل والموزون – فلا يحتاج إلى قبض. وإن تلف فهو من مال المشتري" وعلق عليه ابن قدامة فقال: "ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم ((الخراج بالضمان)) وهذا المبيع نماؤه للمشتري فضمانه عليه، وقول ابن عمر: "مضت السنَّة أن ما أدركته الصفقة حيًّا مجموعًا فهو من مال المبتاع" – أي المشتري – ولأنه لا يتعلق به حق توفية، وهو من ضمانه قبل قبضه، فكان من ضمانه قبله كالميراث، وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه دليل على مخالفة غيره له (4) .

(1) النسائي، البيوع: 7/295، الحديث: 4630، والترمذي – مع شرحه تحفة الأحوذي: 4/431، الحديث: 1252، وابن ماجه: 2/738، الحديث: 2188، والحاكم في المستدرك: 2/17، وقال: صحيح، ووافقه الذهبي.

(2)

تحفة الأحوذي: 4/431.

(3)

رواه أحمد في مسنده: 6/49، 208، 237، والترمذي في سننه – مع تحفة الأحوذي – 4/507، والنسائي: 7/223، وابن ماجه: 2/754، وأبو داود في سننه – مع عون المعبود – 9/415، 417، 418. قال الترمذي: 4/508، وهذا حديث صحيح

والعمل على هذا عند أهل العلم.

(4)

المغني: 4/124، 125.

ص: 452

بل إن هذا الاستدلال في محل الخلاف نفسه، فأصل هذه المسألة يعود إلى مدى اشتراط القبض، ومدى جواز التصرف قبل القبض، والتفصيل فيه، يقول ابن حبيب:"اختلف العلماء فيمن باع عبدًا واحتبسه بالثمن فهلك في يديه قبل أن يأتي المشتري بالثمن، فقال سعيد بن المسيب وربيعة: هو على البائع، وقال سليمان بن يسار: هو على المشتري، ورجع إليه مالك بعد أن كان أخذ بالأول، وتابعه أحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال بالأول الحنفية والشافعية، والأصل في ذلك اشتراط القبض في صحة البيع، فمن اشترطه في كل شيء جعله من ضمان البائع، ومن لم يشترطه جعله من ضمان المشتري والله أعلم"(1) .

وهكذا لو استعرضنا جميع أدلتهم التي وفقت في الاطلاع عليها لوجدناها إما ضعيفة لا تنهض حجة، أو أنها ليست نصًّا في الدعوى، والقاعدة المعروفة تقول:"والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال".

ومن جانب آخر، أن الأدلة الصحيحة تدل على جواز إجراء بعض العقود على المبيع قبل القبض، منها ما رواه البخاري وغيره بسندهم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر

فقال النبي لعمر: "بعنيه" قال: هو لك يا رسول الله. . قال رسول الله "بعنيه فباعه"

فقال: "هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت" حيث يدل الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشترى الجمل، وأهداه قبل القبض، لأن ابن عمر الذي كان راكبًا عليه بأمر والده كان ولا يزال على جمله فلم تتم التخلية، ومع ذلك أهداه إليه، يقول الحافظ ابن حجر: " لأن النبي صلى الله عليه وسلم تصرف في البكر بنفس تمام العقد

واستفيد من الحديث أن المشتري إذا تصرف في المبيع ولم ينكر البائع كان ذلك قاطعًا لخيار البائع كما فهمه البخاري، والله أعلم، وقال ابن بطال: أجمعوا على أن البائع إذا لم ينكر على المشتري ما أحدثه من الهبة والعتق أنه بيع جائز "، وعلق عليه الحافظ فقال: " وليس الأمر على ما ذكره من الإِطلاق، بل فرقوا بين المبيعات، فاتفقوا على منع بيع الطعام قبل قبضه. . واختلفوا فيما عداه

" (2) .

(1) فتح الباري: 4/352، النسائي، البيوع: 7/295، الحديث: 4630، والترمذي – مع شرحه تحفة الأحوذي: 4/431، الحديث: 1252، وابن ماجه: 2/738، الحديث: 2188، والحاكم في المستدرك: 2/17، وقال: صحيح، ووافقه الذهبي، تحفة الأحوذي: 4/431، رواه أحمد في مسنده: 6/49، 208، 237، والترمذي في سننه – مع تحفة الأحوذي – 4/507، والنسائي: 7/223، وابن ماجه: 2/754، وأبو داود في سننه – مع عون المعبود – 9/415، 417، 418. قال الترمذي: 4/508، وهذا حديث صحيح

والعمل على هذا عند أهل العلم، المغني: 4/124، 125.

(2)

فتح الباري: 4/335، ودعوى الاتفاق على منع بيع الطعام قبل قبضه غير دقيقة لما ذكرنا فيه الخلاف.

ص: 453

ويقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: "والدليل على ذلك أن الثمن يجوز الاعتياض عنه قبل قبضه بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر: "كنا نبيع الإِبل بالنقيع – بالنون سوق المدينة، وبالباء مقبرتها – كنا نبيع بالذهب ونقضي الورق، ونبيع بالورق، ونقضي الذهب، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا بأس إذا كان بسعر يومه، إذا تفرقتما وليس بينكما شيء" (1) ، فقد جوَّز النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتاضوا عن الدين الذي هو الثمن بغيره مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينتقل إلى ضمان البائع، فكذلك المبيع الذي هو دين السلم يجوز بيعه، وإن كان مضمونًا على البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري"(2) ، فعلى ضوء ذلك لا مانع من وجود الضمان على البائع مع جواز بيع المبيع قبل قبضه، ولذلك أجاز جماعة من الفقهاء بيع الثمرة على الشجرة بعد بدو صلاحها مع أنها لا تزال على الشجرة وفي ضمان البائع، واستدلوا بحديث مسلم، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا)) (3)، يقول ابن القيم في هذه المسألة:"لأنها ليست في حكم المقبوض من جميع الوجوه، ولهذا يجب عليه تمام التسليم بالوجه المحتاج إليه، فلما كانت مقبوضة من وجه غير مقبوضة من وجه رتبنا على الوجهين مقتضاها، وهذا من ألطف الفقه "(4) .

(1) مجموع الفتاوى: ط. السعودية 29/505، 510.

(2)

مجموع الفتاوى: ط. السعودية 29/505، 510.

(3)

مجموع الفتاوى: ط. السعودية 29/505، 510.

(4)

شرح ابن القيم على سنن أبي داود، المطبوع بهامش عون المعبود: 9/410 ....

ص: 454

وقد ذكر العلامة ابن القيم اثني عشر عقدًا أجاز فيها الفقهاء المانعون أيضًا بيع الشيء قبل قبضه وهي:

1-

بيع الميراث قبل قبض الوارث له.

2-

إذا أخرج السلطان رزق رجل فباعه قبل أن يقبضه.

3-

إذا عزل سهمه فباعه قبل أن يقبضه.

4-

ما ملكه بالوصية، فله أن يبيعه بعد القبول وقبل القبض.

5-

غلة ما وقف عليه، حيث له أن يبيعها قبل قبضها.

6-

الموهوب للولد إذا قبضه، ثم استرجعه الوالد، فله أن يبيعه قبل قبضه.

7-

إذا أثبت صيدًا، ثم باعه قبل القبض جاز.

8-

الاستبدال بالدين من غير جنسه هو بيع قبل القبض، ويدل عليه حديث ابن عمر (1)، قال ابن القيم:"نص الشافعي على الميراث، والرزق يخرجه السلطان، وخرج الباقي على نصه".

9-

بيع المهر قبل قبضه جائز، وقد نص أحمد على جواز هبة المرأة صداقها من زوجها قبل قبضه.

10-

إذا خالعها على عوض جاز التصرف فيه قبل قبضه، حكاه صاحب المستوعب وغيره، وذكر أبو البركات في المحرر أنه لا يجوز.

11-

إذا أعتقه على مال جاز التصرف فيه قبل قبضه، حكاه صاحب المستوعب.

12-

إذا صالحه عن دم العمد بمال جاز التصرف فيه قبل قبضه، وكذلك إذا أتلف له مالًا، وأخرج عوضه – ومنع صاحب المحرر من ذلك كله.

وقد ذكر كذلك جواب المانعين عن هذه الصور والفرق بينها وبين التصرف في المبيع قبل القبض بأن الملك فيه غير مستقر، فلم يسلط على التصرف في ملك مزلزل، بخلاف هذه الصور حيث إن الملك فيها مستقر غير معرض للزوال (2) .

(1) روى أحمد: 2/33، 83، وابن ماجه: الحديث 2262، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي: 2/44 بسندهم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نبيع الإِبل بالنقيع – بالنون سوق المدينة، وبالباء مقبرتها – كنا نبيع بالذهب، ونقضي بالورق

فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا بأس إذا كان بسعر يومه، إذا تفرقتما وليس بينكما شيء) .

(2)

شرح ابن القيم على سنن أبي داود: 9/386-388، الفروق: 3/282، 283، وبدائع الصنائع: 8/3101، والمجموع شرح المهذب: 9/270، 271، والمغني لابن قدامة: 4/121.

ص: 455

ونقصد بذكر هذه الصور أن مسلك هؤلاء المانعين منعًا مطلقًا ليس عامًّا، وسائرًا على طريقة واحدة، فهم كلهم، أو بعضهم أجازوا هذه الصور أو بعضها مما يضعف مسلكهم، بل إن تعليلهم يضعف الملك قبل القبض، وحتى لا يؤدي إلى توالي الضمانين ليس مقنعًا، ولا مسلمًا على إطلاقه، وأنه لا يوجد في الشرع، ولا في العقل مانع من كون الشيء مضمونًا على الشخص بجهة، ومضمونًا له بجهة أخرى، ولذلك يقول مالك وأحمد في المشهور من مذهبه: ما يمكن المشتري من قبضه وهو المتعين بالعقد فهو من ضمان المشتري، وحينئذٍ له الحق في التصرف فيه، بالإِضافة إلى أن جواز التصرف ليس ملزمًا للضمان (1) .

ثم إن الذي تقتضيه القواعد العامة لشريعتنا الغراء هي أن العقود – ولا سيما المالية – تتم، وتلزم بالإِيجاب والقبول – مع بقية الشروط المطلوبة – وبالتالي تترتب عليها الآثار الشرعية فلا ينبغي الاستثناء منها إلا ما يدل الدليل الصحيح الصريح على استثنائه، وفي نظرنا فهذا محصور في الطعام فلا يجوز بيعه ولا التصرف فيه قبل القبض، وفيما عداه يبقى على القاعدة العامة والله أعلم. ثم إن لفظ "الطعام" قد ثار حوله الخلاف في بيان ماهيته وحقيقته، حيث ذهب بعضهم إلى أن المراد به هو الحنطة فقط وذهب آخرون إلى أن المراد به هو ما يعد في العرف للأكل والاقتيات، يقول ابن منظور: "وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البر خاصة

وقال ابن الأثير: الطعام عام في كل ما يقتات من الحنطة، والشعير، والتمر وغير ذلك، وذهب بعضهم إلى أن المراد به التمر فقط" (2) ، وقد ورد لفظ "طعام" في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري في مقابل "شعير" مما يدل على أنه غيره حيث قال: "كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب" (3) . قال الحافظ:"حكى الخطابي أن المراد بالطعام هنا الحنطة، وأنه اسم خاص له، قال: ويدل على ذلك ذِكرُ الشعير وغيره"(4) ، لكن ابن المنذر رد عليه، واستشهد بقول أبي سعيد الخدري:"كنا نُخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعًا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأَقِط والتمر"(5) ولذلك فالراجح هو أن الطعام يشمل كل ما يعد للقوت سواء أكان حنطة أم غيرها.

(1) شرح ابن القيم على سنن أبي داود: 9/386، الفروق: 3/282، 283، وبدائع الصنائع: 8/3101، والمجموع شرح المهذب: 9/270، 271، والمغني لابن قدامة: 4/121.

(2)

لسان العرب، ط. دار المعارف ص 2673، مادة (طعم) .

(3)

صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب الزكاة: 3/372.

(4)

يراجع تفصيله في فتح الباري: 3/373، 375.

(5)

صحيح البخاري – مع الفتح – 3/375.

ص: 456

وإذا كنا نحن رجحنا جواز التصرف في المبيع قبل القبض في غير الطعام فإن ذلك مقيد بقدرة المشتري على إيصال الحق إلى صاحبه الجديد، وبعبارة أخرى، التمكن من القبض، وإن لم يتم القبض، يقول ابن القيم: "وأما مالك وأحمد في المشهور من مذهبه فيقولان: ما يمكن المشتري من قبضه وهو المتعين بالعقد فهو من ضمان المشتري، ومالك وأحمد يجوزان التصرف فيه، ويقولان: الممكن من القبض جار مجرى القبض على تفصيل في ذلك، فظاهر مذهب أحمد أن الناقل للضمان إلى المشتري، هو التمكن من القبض لا نفسه

" (1) .

ولذلك علل الشافعية وغيرهم في تجويزهم بيع الأرزاق التي يخرجها السلطان قبل قبضها بأن يد السلطان يد حفظ، فتكون مثل يد المقر له، ويكفي ذلك لصحة البيع (2) . ولهذا السبب أيضًا يجوز بيع الضال والمغصوب لمن يقدر على انتزاعه، ولا يجوز لغيره (3)، ولهذا السبب نفسه يقول ابن القيم: "فإن قيل: فأنتم، للمغصوب منه أن يبيع المغصوب لمن يقدر على انتزاعه من غاصبيه، وهو بيع ما ليس عنده؟

قيل: لما كان البائع قادرًا على تسليمه بالبيع، والمشتري قادرًا على تسلمه من الغاصب، فكأنه قد باعه ما هو عنده، وصار كما لو باعه مالًا، وهو عند المشتري وتحت يده، وليس عند البائع، والعندية هنا ليست عندية الحس والمشاهدة، فإنه يجوز أن يبيعه ما ليس تحت يده ومشاهدته، وإنما هي عندية الحكم والتمكين

(4) .

وقد أثار بعض الفقهاء العلة في التفرقة بين الطعام وغيره فذكر بعضهم أنها تعبدية، وذكر الآخرون بأنها معللة بأن غرض الشارع سهولة الوصول إلى الطعام، ليتوصل إليه القوي والضعيف، ولذلك منع فيه الاحتكار وشدد فيه الإِسلام دون غيره. فلو جاز قبل قبضه لربما أخفى بإمكان شرائه من مالكه، وبيعه خفية فلم يتوصل إليه الفقير (5) .

(1) شرح سنن أبي داود: 9/388.

(2)

المجموع: 9/267.

(3)

الغاية القصوى: 1/460، حاشية الدسوقي: 3/11.

(4)

شرح ابن القيم على سنن أبي داود: 9/412.

(5)

الفواكه الدواني: 2/117.

ص: 457

وذكر الإِمام أبو محمد المنبجي الحنفي أن المعنى الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل القبض لأجله هو غرر انفساخ العقد بهلاك المعقود عليه قبل القبض، والهلاك في العقار نادر (1) .

وقد اعترف شيخ الإِسلام ابن تيمية بغموض هذه المسألة وعلتها ولذلك كثر فيها تنازع الفقهاء، ومال أكثرهم إلى التمسك بظاهر النصوص دون الركون إلى العلة (2) .

والذي يقتضيه مجموع الأدلة هو الوقوف عند ما ورد فيه النص الصحيح الخالي عن المعارضة وهو منع بيع الطعام قبل قبضه وجوازه في غيره لما ذكرنا.

وقد أجاب القرافي عن أدلة المانعين عن بيعه قبل القبض مطلقًا، حيث حمل أحاديثهم على بيع ما ليس ملكًا لبائعه، لأنه غرر، أما المعقود عليه فقد حصل فيه ملك بالعقد، وبالتالي فما دام متمكنًا من القبض فما المانع من التصرف فيه؟ ثم بيّن الفرق بين الطعام وغيره فقال: "إن الطعام أشرف من غيره لكونه سبب قيام البنية وعماد الحياة فشدد الشرع على عاداته في تكثير الشروط فيما عظم شرفه كاشتراط الولي والصداق في عقد النكاح دون عقد البيع، وشرط في القضاء ما لم يشترطه في منصب الشهادة، ثم يتأكد ما ذكرناه بمفهوم نهيه عليه السلام عن بيع الطعام حتى يستوفى، ومفهومه أن غير الطعام يجوز بيعه قبل أن يستوفى، وقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (3) .

(1) اللباب في الجمع بين السنَّة والكتاب، تحقيق د. محمد فضل، ط. دار الشروق: 2/528.

(2)

مجموع الفتاوى: 29/403، 404.

(3)

الفروق للقرافي: 3/281، 282.

ص: 458

وقد رد ابن تيمية في مسألة بيع ما لم يضمن على وجود التلازم بين الضمان، وجواز التصرف، وقال:"وأصول الشريعة توافق هذه الطريقة، فليس كل ما كان مضمونًا على شخص كان له التصرف فيه كالمغصوب، والعارية، وليس كل ما جاز التصرف فيه كان مضمونًا على المتصرف كالمالك له أن يتصرف في المغصوب والمعار فيبيع المغصوب من غاصبه وممن يقدر على تخليصه منه وإن كان مضمونا على الغاصب، كما أن الضمان بالخراج فإنما هو فيما اتفق ملكًا ويدًا، وأما إذا كان الملك لشخص، واليد لآخر فقد يكون الخراج للمالك، والضمان على القابض"، كما ذكر عدة أمثلة أخرى في باب الإِجارة، وبيع الثمار، ونحوهما، كما ذكر أن النصوص خاصة ببيع الطعام قبل قبضه، أو توفيته، ومن هنا تبقى بقية التصرفات على الإباحة، حيث يقول: "وأيضًا فليس المشتري ممنوعًا من جميع التصرفات، بل السنَّة إنما جاءت في البيع خاصة، ولو أعتق العبد المبيع قبل القبض فقد صح إجماعًا

" (1) .

ثم إن جميع التصرفات ليست كالبيع، لأن النص وارد فيه فقط، وتبقى بقية التصرفات على الجواز، يقول ابن بطال:"أجمعوا على أن البائع إذا لم ينكر على المشتري ما أحدثه من الهبة والعتق أنه جائز، واختلفوا فيما إذا أنكر ولم يرض، فالذين يرون أن البيع يتم بالكلام دون اشتراط التفرق بالأبدان يجيزون ذلك، ومن يرى التفرق بالأبدان لا يجيزونه والحديث – أي حديث ابن عمر في البخاري – حجة عليهم "(2) . ويقول شيخ الإٍسلام ابن تيمية: "وأيضًا فليس المشتري – أي قبل القبض – ممنوعًا من جميع التصرفات، بل السنة إنما جاءت في البيع خاصة، ولو أعتق العبد المبيع قبل القبض فقد صح إجماعًا

" (3) .

ومن جانب آخر أن هذا المنع خاص بالمبيع عند جمهور الفقهاء، أما الثمن فيجوز التصرف فيه – من غير الصرف – قبل القبض عندهم (4) ، هذا أيضًا تضييق لدائرة المنع، وحصر لها فيما ورد فيه النص وهو المبيع دون الثمن، وهذا يؤكد على أن الأصل الحل، فجاء النص الصريح الثابت فمنع من بيع الطعام قبل القبض، وبقيت بقية التصرفات على الحل والإِباحة والله أعلم.

(1) مجموع الفتاوى: 29/401.

(2)

فتح الباري: 4/335.

(3)

مجموع الفتاوى: 29/401.

(4)

فتح الباري: 4/335، مجموع الفتاوى: 29/401 ويراجع الفتاوى الهندية 3/13.

ص: 459

أثر القبض في العقود الفاسدة

(1)

لا خلاف بين الفقهاء في أن العقود الفاسدة لا يترتب عليها قبل قبض المعقود أي أثر شرعي غير أن الحنفية ذهبوا إلى أن العقود الفاسدة إذا أعقبها القبض فإنه يترتب عليه بعض الآثار الشرعية، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن جمهور الفقهاء يرتبون على القبض في العقود الفاسدة بعض الآثار من حيث الضمان ونحوه (2) .

والفرق بين الجمهور وبين الحنفية في هذه المسألة: أن الحنفية جعلوا الآثار التي تترتب على القبض في العقد الفاسد من آثار العقد نفسه، في حين أن الجمهور لم ينظروا إلى العقد الفاسد، وإنما رتبوها على القبض والرضا من الطرفين به.

ونحن نذكر هنا آراء الفقهاء في هذه المسألة، وبعض نصوصهم التي توضح المراد.

فالحنفية وسعوا في أثر القبض في العقد الفاسد على تفصيل ذكره فقهاؤهم، جاء في الدر المختار: "وإذا قبض المشتري المبيع برضا بائعه صريحًا، أو دلالة – بأن قبضه في مجلس العقد دون أن ينهاه – في البيع الفاسد ملكه إلا في ثلاث: في بيع الهازل، وفي شراء الأب من ماله لطفله، أو بيعه له كذلك فاسدًا لا يملكه حتى يستعمله

وإذا ملكه تثبت كل أحكام الملك إلا خمسة لا يحل له أكله، ولا لبسه، ولا وطؤها، - أي إذا كانت جارية – ولا أن يتزوجها منه البائع، ولا شفعة لجاره

ولا شفعة بها" (3) .

(1) ذهب الحنفية إلى التفرقة بين العقد الباطل والعقد الفاسد، فقالوا: الباطل: هو ما لم يشرع لا بأصله ولا بوصفه، والفاسد هو الذي شرع بأصله دون وصفه، وأما الجمهور فقالوا بترادفهما، والجميع متفقون على أن العقد الباطل لا يترتب عليه أثر شرعي من آثار العقد – كقاعدة عامة – وأن الحنفية متفقون مع الجمهور في أن العقد الفاسد بمجرده لا يترتب عليه أثر شرعي، غير أن الحنفية قالوا: إذا تم القبض في العقد الفاسد فإنه يترتب عليه بعض الآثار منها انتقال الملكية في البيع، وقالوا: ومع إتمام القبض يظل الفسخ واجبًا في الشرع، لإزالة الفساد إلى أن يتعذر ذلك، وأما الإِثم فيبقى على العاقدين في كل الأحوال ما داما لم يفسخا. انظر في تفصيل هذه المسألة من حيث تحرير محل النزاع، ومنشأ الخلاف، وهل الخلاف لفظي أو معنوي: تيسير التحرير لأمير بادشاه: 2/234، والتوضيح على التلويح: 1/218، والمستصفى: 1/94، والمنثور في القواعد للزركشي 2/303، والتمهيد للأسنوي: ص 59، وتخريج الفروع: ص 76، ورسالتنا في مبدأ الرضا في العقود: 1/155.

(2)

ذهب الحنفية إلى التفرقة بين العقد الباطل والعقد الفاسد، فقالوا: الباطل: هو ما لم يشرع لا بأصله ولا بوصفه، والفاسد هو الذي شرع بأصله دون وصفه، وأما الجمهور فقالوا بترادفهما، والجميع متفقون على أن العقد الباطل لا يترتب عليه أثر شرعي من آثار العقد – كقاعدة عامة – وأن الحنفية متفقون مع الجمهور في أن العقد الفاسد بمجرده لا يترتب عليه أثر شرعي، غير أن الحنفية قالوا: إذا تم القبض في العقد الفاسد فإنه يترتب عليه بعض الآثار منها انتقال الملكية في البيع، وقالوا: ومع إتمام القبض يظل الفسخ واجبًا في الشرع، لإزالة الفساد إلى أن يتعذر ذلك، وأما الإِثم فيبقى على العاقدين في كل الأحوال ما داما لم يفسخا. انظر في تفصيل هذه المسألة من حيث تحرير محل النزاع، ومنشأ الخلاف، وهل الخلاف لفظي أو معنوي: تيسير التحرير لأمير بادشاه: 2/234، والتوضيح على التلويح: 1/218، والمستصفى: 1/94، والمنثور في القواعد للزركشي 2/303، والتمهيد للأسنوي: ص 59، وتخريج الفروع: ص 76، ورسالتنا في مبدأ الرضا في العقود: 1/155.

(3)

الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/123-128.

ص: 460

وقد فصل الحنفية في هذه المسألة وفرقوا بين بعض أنواع الفاسد، فقالوا مثلًا إن العقد الفاسد بسبب الإِكراه إذا تم فيه القبض برضا المكره – بفتح الراء – فقد زالت عنه جميع آثار الفساد، أما لو تم القبض فيه بدون رضاه، ثم باعه المشتري إلى شخص آخر، أو وهبه، أو أعتقه فإن هذه التصرفات كلها تنقض، أما إذا كان الفساد بغير الإِكراه وباعه المشتري بيعًا صحيحًا باتًّا لغير بائعه أو وهبه وسلم، أو أعتقه بعد قبضه، أو وقفه، أو رهنه، أو أوصى به، أو تصدق به نفذ البيع الفاسد في جميع ما مرّ، وامتنع الفسخ لتعلق حق العبد به، أما قبل هذه التصرفات، فإنه يمكن لكل واحد من الطرفين أن يفسخه، كما أنه لا يبطل حق الفسخ بموت أحدهما (1) .

وقد لخّص العلامة علاء الدين السمرقندي (ت 539 هـ) أحكام القبض في العقد الباطل والفاسد في المذهب الحنفي تلخيصًا جيدًا يحسن ذكره، فقال: "إن كان الفساد من قبل المبيع بأن كان محرمًا نحو الخمر، والخنزير، وصيد الحرم والإِحرام فالبيع باطل لا يفيد الملك أصلًا، وإن قبض، لأنه لا يثبت الملك في الخمر، والخنزير للمسلم بالبيع، والبيع لا ينعقد بلا مبيع

وإن كان الفساد يرجع للثمن

كما إذا باع الخمر

فإن البيع ينعقد بقيمة المبيع، ويفيد الملك في المبيع بالقبض

وكذلك إذا كان الفساد بإدخال شرط فاسد، أو باعتبار الجهالة، ونحو ذلك، وإن ذكر المبيع، والثمن فهو على هذا يفيد الملك بالقيمة عند القبض.

ثم في البيع الفاسد إنما يملك بالقبض إذا كان بإذن البائع، فأما إذا كان بغير إذنه فهو كما لو لم يقبض

، وذكر محمد في الزيادة: إذا قبضه بحضرة البائع فلم ينهه، وسكت أنه يكون قابضًا ويصير ملكًا له.

ثم المشتري شراء فاسدًا هل يملك التصرف في المشتري، وهل يكره ذلك؟ فنقول: " لا شك أنه قبل القبض لا يملك تصرفًا ما لعدم الملك.

وأما بعد القبض فيملك التصرفات المزيلة للملك من كل وجه، أو من وجه، نحو الإِعتاق، والبيع، والهبة، والتسليم

".

وأما الكراهة فقال الكرخي: يكره التصرفات كلها، لأنه يجب عليه الفسخ لحق الشرع، وفي هذه التصرفات إبطال حق الفسخ، أو تأخيره فيكره، وقال بعض مشايخنا: لا يكره التصرفات المزيلة للملك، لأنه يزول الفساد بسببها، فأما التصرفات التي توجب تقرير الملك الفاسد فإنه يكره، والصحيح الأول.

(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/123-128.

ص: 461

وأما المشتري شراء فاسدًا إذا تصرف في المشترى بعد القبض، فإن كان تصرفًا مزيلًا للملك من كل وجه كالإِعتاق والبيع والهبة فإنه يجوز، ولا يفسخ، لأن الفساد قد زال بزوال الملك، وإن كان تصرفًا مزيلًا للملك من وجه أو لا يكون مزيلًا للملك فإن كان تصرفًا لا يحتمل الفسخ كالتدبير، والاستيلاد والكتابة، فإنه يبطل حق الفسخ، وإن كان يحتمل الفسخ كالإِجارة فإنه يفسخ (1) .

وأما جمهور الفقهاء فعلى الرغم من أنهم لم يعترفوا بالتفرقة بين العقد الباطل والعقد الفاسد من حيث المبدأ لكنهم رتبوا بعض الآثار على القبض في العقد الفاسد، يقول ابن رشد: "اتفق العلماء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت ولم تفت بإحداث عقد فيها أو نماء: أن حكمها الرد أعني رد البائع الثمن، والمشتري المثمن واختلفوا إذا قبضت وتصرف فيها بعتق، أو هبة، أو بيع، أو رهن، أو غير ذلك من سائر التصرفات. هل ذلك فوت يوجب القيمة وكذلك إذا نمت أو نقصت؟ فقال الشافعي: ليس ذلك فوتًا، ولا شبهة ملك في البيع الفاسد، وأن الواجب الرد، وقال مالك: كل ذلك فوت يوجب القيمة إلا ما روى عنه ابن وهب في الربا: أنه ليس بفوت

" (2) .

فمذهب مالك في هذه المسألة هو أن البيوع الفاسدة عنده تنقسم إلى محرمة، ومكروهة، فأما المحرمة فإنها إذا فاتت بعد القبض مضت بالقيمة وأما المكروهة فإنها إذا فاتت بعد القبض صحت عنده، قال ابن رشد:"وربما صح عنده بعض البيوع الفاسدة بالقبض لخفة الكراهة عنده في ذلك"(3) .

وجاء في رسالة القيرواني (ت 386 هـ) وشرحه للنفراوي: "وكل بيع فاسد – لفقد شرط، أو وجود مانع – فضمانه من البائع، لبقائه على ملكه حيث لم يقبضه المبتاع، فإن قبضه المبتاع قبضًا مستمرًا، فضمانه من المبتاع من زمن قبضه، قال العلامة خليل: وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض

، لأنه قبضه على جهة التملك، لا على جهة الأمانة، فإن لم يقبضه فلا ضمان ولو مكنه البائع من قبضه، وقيدنا القبض بالمستمر للاحتراز عما إذا اشترى سلعة شراء فاسدًا فقبضها، ثم ردّها إلى البائع على وجه الأمانة، أو غيرها فهلكت، فإن ضمانها من بائعها، لأن هذا القبض بمنزلة العدم" (4) .

(1) تحفة الفقهاء: 2/83-88.

(2)

بداية المجتهد: 2/193.

(3)

الفواكه الدواني، ط. مصطفى الحلبي: 2/129 - 130.

(4)

بداية المجتهد: 2/193، الفواكه الدواني، ط. مصطفى الحلبي: 2/129 - 130.

ص: 462

وقد اعتبر مالك تغير حال السوق – بأن تغير ثمنه بزيادة أو نقص بنسبة الربع – أو تغير المعقود عليه بصغر وكبر بعد القبض كالهلاك، فعلى هذا إذا قبض المشتري – في العقد الفاسد – المعقود عليه ثم تغير ثمنه أو ذاته فلا يحق له أن يرده على بائعه، لانتقال ملكه إليه بهذا التغيير الذي هو بمثابة الفوات، بل عليه قيمته يوم قبضه إذا كان قيميًّا، وعليه مثله إن كان مثليًّا كالمكيل والموزون، وأما العقارات فلا تؤثر فيها حوالة الأسواق كالمثلي، بل لا بد من ردها لفساد بيعها (1) .

وقد ذكر العلامة النفراوي عدة أمور هامة حول هذه المسائل منها أن كلام القيرواني يشعر بأن المبيع في العقد الفاسد بعد قبضه يحل تملكه، وذلك لأنه جعل الضمان على المشتري بعد قبضه، وهذا على عكس بيع الميتة والزبل، والكلب فلا ضمان على المشتري ولو قبضه وأدى ثمنه كما قاله ابن القاسم.

ومنها أن الضمان في البيع الصحيح عن الضمان في البيع الفاسد حيث إن العقد الفاسد وحده دون القبض لا يؤدي إلى ترتيب الضمان على المشتري، في حين أن العقد الصحيح فيما ليس فيه توفية يجعل الضمان على المشتري حتى قبل القبض.

ومنها الإِشكال الذي ذكره الفاكهاني حول نقل الضمان في العقد الفاسد بعد القبض إلى المشتري، فقال: "جعل الضمان من البائع صريح في أن الفاسد لم ينقل الملك، وجعل الضمان بعد القبض من المشتري يقتضي أن الفاسد ينقل

فأجاب النفراوي بأنه لا ملازمة بين نقل الملك والضمان، إذ قد يوجد الضمان من غير تقدم ملك، كمن أتلف شيء غيره من غير تقدم سبب ملك، فإنه يضمن لتعديه، والمشتري هنا متعد بقبض المشتري شراء فاسدًا

، فيكون ضمانه لتعديه بالقبض لما يجب فسخ عقده قبل فواته، ولذلك يضمن بعد القبض حتى ولو هلك بآفة سماوية، إذن فلا حاجة إلى بناء الضمان بعد القبض على القول بأن الفاسد ينقل الملك.

ومنها أنه إذا ردت السلعة بسبب الفساد، فإن المشتري يفوز بغلتها للحديث الصحيح ((الخراج بالضمان)) (2) ، وأما كلفتها فإن تساوت مع الغلة فلا شيء له، وإن زادت، أو لا غلة له فإنه يرجع على البائع بقدرها، لأنه قام عن البائع بما لا بد له منه (3) .

(1) بداية المجتهد: 2/193، الفواكه الدواني، ط. مصطفى الحلبي: 2/129 - 130.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

الفواكه الدواني: 2/129-131، والخرشي: 5/88.

ص: 463

بل إن الشافعية صرحوا بأن فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه بعد العقد. يقول الزركشي: "ومعنى ذلك أن ما اقتضى صحيحه الضمان بعد التسليم كالبيع والقرض، والعمل، والقراض، والإِجارة، والعارية فيقتضي فاسده الضمان، لأنه أولى بذلك، وما لا يقتضي صحيحه الضمان بعد التسليم كالرهن والعين المستأجرة والأمانات كالوديعة، والتبرع كالهبة والصدقة لا يقتضيه فاسده أيضًا"(1) ، غير أنه استثنى من هذه القاعدة عدة صور منها أن الهبة الصحيحة لا ضمان فيها على المشتري، والفاسدة تضمن على وجه نقل ترجيحه عن الشرح الصغير، ومنها إعارة الدراهم والدنانير، قال الغزالي: "فإن أبطلناها ففي طريقة العراق أنها مضمونة، لأنها إعارة فاسدة، وفي طريق المراوزة: أنها غير مضمونة

لأنها باطلة (2) .

وذكر الزركشي أن القبض الفاسد لا أثر له إلا فيما وقع في ضمن إذن فيبرئ، إلغاءً للفاسد، وإعمالًا للصحيح، ولذلك صور: منها لو كان لشخص طعام مقدر على زيد، وكان عليه مثله لعمرو فقال لعمرو: أقبض من زيد ما لي عليه لنفسك، ففعل فالقبض فاسد، ومع ذلك تبرأ ذمة الدافع عن دين الآخر في الأصح. ومنها: إذا فسدت ولاية العامل (الأمير) وقبض المال مع فسادها برئ الدافع، لأن الإِذن يبقى وإن فسدت الولاية، نعم لو نهاه عن القبض بعد فسادها لم يبرأ الدافع بالدفع إليه إن علم بالنهي، فإن لم يعلم فوجهان

(3) .

(1) المنثور في القواعد للزركشي: 3/8-12.

(2)

الوسيط مخطوطة بدار الكتب الرقم 312 – فقه الشافعي) ورقة: 100، والتمهيد للإِسنوي ص 60، والمنثور: 3/9.

(3)

المنثور في القواعد: 3/16-17.

ص: 464

والشافعية صرحوا أن العقد الفاسد لا يملك فيه شيء ويلزمه الرد ومؤنته، وليس له حبسه لقبض البدل، ولا يرجع بما أنفق إن علم الفساد، وكذا إن جهل على الأصح (1) .

والحنابلة كذلك يوجبون الضمان على المشتري في العقد الفاسد بعد القبض. قال ابن رجب الحنبلي: "كل عقد يجب الضمان في صحيحه يجب الضمان في فاسده

فالبيع والإِجارة والنكاح موجبة للضمان مع الصحة فكذلك مع الفساد، والأمانات كالمضاربة، والشركة والوكالة والوديعة، وعقود التبرعات كالهبة لا يجب الضمان فيها مع الصحة، فكذلك مع الفساد (2) .

وقد اتفق الظاهرية مع الجمهور في أن العقد الفاسد لا يفيد الملك مطلقًا، لكنهم قالوا: "إن المثمن المقبوض في العقد الفاسد مضمون على المشتري ضمان الغصب سواء بسواء، والثمن مضمون على البائع إن قبضه، ولا يصححه طول الأزمان، ولا تغير الأسواق، ولا فساد السلعة، ولا ذهابها

" (3) .

وبعد هذا العرض يمكن القول بأن الفقهاء متفقون على أن المقبوض بعقد فاسد مضمون ما دامت طبيعة هذا العقد لو كان صحيحًا يوجب الضمان على التفصيل السابق بينهم، واتضح لنا أن القبض كان له أثره حتى مع كون العقد فاسدًا، كما أنه يمكننا تلخيص هذه الآراء السابقة في ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: أن المقبوض بعقد فاسد لا يفيد الملك مطلقًا، وهذا اتجاه الشافعية، وأحمد في المشهور من مذهبه.

الاتجاه الثاني: أن المقبوض بعقد فاسد يفيد الملك وهذا مذهب الحنفية.

الاتجاه الثالث: أن المقبوض بعقد فاسد إن فات أفاد الملك، وإن بقي ولم يتغير يجب رده ولم يفد الملك، وإن تغير حاله، أو سعره بنسبه الربع فيعتبر كالهلاك، وبالتالي فلا يرده، بل يرد قيمته إن كان قيميًا، وأما إن كان مثليًا فيرد المثل، وأما العقار فلا يؤثر فيه تغير الأسعار.

(1) المنثور في القواعد للزركشي: 3/8-12، الوسيط مخطوطة بدار الكتب الرقم 312 – فقه الشافعي) ورقة: 100، والتمهيد للإِسنوي ص 60، والمنثور: 3/9، المنثور في القواعد: 3/16-17.

(2)

القواعد لابن رجب: ص 69، ويراجع: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 29/327، 406.

(3)

المحلى لابن حزم: 9/418- 421.

ص: 465

المقبوض على سوم الشراء، أو النظر، أو الرهن:

وأما المقبوض على سوم الشراء فهو أن يتساوم شخصان حول بضاعة ويصلان إلى ثمن معين، ثم يطلب المتساوم الراغب في الشراء أن يأخذها، على أن ينظر فيها: فإن أعجبته أنشأ العقد مع صاحبه، وإلا أرجعها إليه، وقد ضرب العلامة ابن عابدين مثلًا لهذه المسألة فقال:"طلب منه ثوبًا ليشتريه، فأعطاه ثلاثة أثواب، وقال: هذا بعشرة وهذا بعشرين، وهذا بثلاثين، فاحملها، فأي ثوب ترضى بعته منك، فحمل، فهلكت عند المشتري"، ففي هذا المثال يكون الضمان على المشتري لأحد هذه الأثواب الثلاثة لا على التعيين، لأنه هو المطلوب للشراء، فيكون الضمان بالثلث، ولذلك قال الإِمام ابن فضل في هذه المسألة:"إن هلكت جملة، أو متعاقبًا ولا يدري الأول وما بعده ضمن تلك الكل، وإن عرف الأول لزمه ذلك الثوب، والثوبان أمانة، وإن هلك اثنان ولا يعلم أيهما الأول ضمن نصف كل منهما، ورد الثالث، لأنه أمانة، وإن نقص الثالث ثلثه، أو ربعه لا يضمن النقصان، وإن هلك واحد فقط لزمه ثمنه ويرد الثوبين". يقول ابن عابدين: "قال في البحر: فهذا صريح في أن بيان الثمن من جهة البائع يكفي للضمان

قلت وبيان ذلك أن المساوم إنما يلزمه الضمان إذا رضي بأخذه بالثمن المسمى على وجه الشراء، فإذا سمى البائع الثمن، وتسلم المساوم الثوب على وجه الشراء يكون راضيًا بذلك، كما أنه إذا سمى هو الثمن، وسلم البائع يكون راضيًا بذلك فكأن التسمية صدرت منهما معًا بخلاف ما إذا أخذه على وجه النظر" (1) . أما إذا كان الثوب واحدًا – مثلًا – ثم هلك فيكون مضمونًا كله.

ثم الضمان في المقبوض على سوم الشراء يكون بالقيمة إذا هلك، أما إذا استهلكه الراغب في الشراء فمضمون بالثمن كما حققه الطرسوس، في حين أن بعض فقهاء الحنفية قالوا: يكون مضمونًا بالقيمة مطلقًا بالغة ما بلغت، وبعضهم الآخر قيدوا ذلك بأن لا يزاد بالقيمة على المسمى، وقد صرح الحنفية بأن اشتراط الراغب في الشرار (المساوم) عدم ضمانه لا يعفيه من المسئولية (2) .

(1) رد المحتار على الدر المختار: 4/50، والفتاوى الهندية: 3/11، والفتاوي البزازية: 4/366.

(2)

حاشية ابن عابدين: 4/50-51، والفتاوي الهندية: 3/11.

ص: 466

وأما المقبوض على سوم النظر فهو بأن يقول: أعطني هذه البضاعة حتى أنظر إليها، أو حتى أريها غيري، ولا يقول: إن رضيته أخذته سواء ذكر الثمن أم لا.

وحكمه عدم الضمان مطلقًا إذا هلك، أما لو استهلكه القابض فإنه يضمن قيمته.

والفرق بين هذا وسابقه هو وجود القبض على وجه الشراء في الأول، وعدم وجود ذلك في المقبوض على وجه النظر، بل القبض فيه على وجه النظر وقد رضي به المقبض فيكون أمانة، ومن هنا فقبض المساوم على وجه الشراء يصبح كأنه راض بتسمية البائع فكأنها وجدت منهما، وأما القبض على وجه النظر فليس فيه ذكر البيع فيكون أمانة (1) . جاء في الفتاوى الهندية: "وفي فروق الكرابيسي: هذا الثوب لك بعشرة، فقال: هاته حتى أنظر إليه، أو حتى أريه غيري فضاع، قال أبو حنيفة رحمه الله، لا شيء عليه يعني يهلك أمانة، وإن قال: هاته فإن رضيته أخذته فضاع كان عليه الثمن، والفرق أنه في الأول أمر بدفعه إليه لينظر إليه، أو ليريه غيره، وذلك ليس ببيع، وفي الثاني أمره بالإِتيان به ليرضاه ويأخذه، وذلك بيع بدون الأمر (أي المعاطاة) فمع الأمر أولى

وإن أخذه لا على النظر فضاع لا يخرجه الكلام الأخير عن الضمان الواجب بأول مرة" (2) .

وقد أفاض علماء الحنفية في هذه المسائل فقالوا: لو أرسل شخص رسولًا إلى بزاز – مثلًا – ليرسل إليه ثوبًا فبعثه البزاز مع رسوله، فضاع الثوب قبل أن يصل إلى الآمر، وتصادقوا على ذلك فلا ضمان على الرسول، وإنما الضمان على الآمر، ولكن لو أرسله البزاز مع رسوله فضاع قبل وصوله إلى الآمر يكون الضمان على البزاز (3) .

(1) رد المحتار على الدر المختار: 4/50، والفتاوى الهندية: 3/11، والفتاوي البزازية: 4/366، حاشية ابن عابدين: 4/50-51، والفتاوي الهندية: 3/11.

(2)

الفتاوى الهندية: 3/11.

(3)

الفتاوى الهندية: 3/11 - 12، والفتاوى البزازية: 4/366- 367.

ص: 467

وقالوا أيضًا: لو قبض الوكيل بالشراء البضاعة على سوم فأراها الموكل فلم يرض به وردّه عليه فهلكت عند الوكيل ضمنها الوكيل بالقيمة ولا يرجع بها على الموكل إلا أن يأمره الموكل بالأخذ على سوم الشراء فحينئذ إذا ضمن الوكيل رجع على الموكل (1) .

وقالوا أيضًا: لو طلب شخص شراء قوس، فذكر الثمن وتقرر، ثم قبل أن يتم التعاقد اللفظي أخذ القوس بإذن البائع فمدَّه فانكسر يضمن قيمته حتى ولو قال له البائع: إن انكسر فلا ضمان عليك، أما إذا لم يتقرر الثمن فلا ضمان عليه ما دام الأخذ بإذن البائع (2) .

وقالوا أيضًا: رجل جاء إلى زجاج (بائع الزجاج) فقال له: ادفع لي هذه القارورة فأراها إياه فقال الزجاج: ارفعها، فرفعها فوقعت فانكسرت لا يضمن، لأنه رفعها بإذنه ما دام الثمن لم يتقرر، أما إذا ساوم عليها واستقر الثمن، ثم رفعها فالضمان عليه، هذا كله إذا كان بإذن الزجاج، أما لو رفعها بدون إذنه فانكسرت كان ضامنًا (3) .

وقالوا أيضًا: لو اشترى شيئًا فأعطاه البائع غير المبيع غلطًا فهلك ضمن القيمة، لأنه قبضه على جهة البيع وهو سوم (4) .

وأما المقبوض على سوم الرهن، وذلك بأن يعده شخص أن يقرضه مبلغًا معينًا فجاء المدين برهن فسلمه إليه قبل أن يأخذ دينه فهلك المرهون، جاء في البزازية: "الرهن بالدين الموعود مقبوض على سوم الرهن

بأن وعده أن يقرضه ألفًا فأعطاه رهنًا وهلك قبل الإِقراض

" (5) .

وحكمه أنه مضمون على الذي قبض بالأقل من قيمته ومن الدين ما دام سمى قدر الدين، أما إذا لم يبين مقداره فليس بمضمون على الإصلاح (6) .

* * * *

(1) الفتاوى الهندية: 3/11 - 12، والفتاوى البزازية: 4/366- 367.

(2)

الفتاوى الهندية: 3/11 - 12، والفتاوى البزازية: 4/366- 367.

(3)

3/11 - 12، والفتاوى البزازية: 4/366- 367.

(4)

الفتاوى الهندية: 3/11 - 12، والفتاوى البزازية: 4/366- 367.

(5)

حاشية ابن عابدين: 4/51.

(6)

حاشية ابن عابدين: 4/51.

ص: 468

الخاتمة

بعد المعايشة مع هذا الموضوع والبحث عن مسائله في بطون المصادر المعتمدة: من كتب التفسير، والحديث، والفقه يمكننا أن نلخص النتائج التي تمخض عنها البحث بما يلي:

* أولًا: إن القبض في اللغة لا ينحصر معناه في الأخذ باليد، وإنما له عدة معان منها الإمساك، والتمكن من الشيء، والأخذ المطلق، ونحوها، وقد ورد بهذه المعاني اللغوية أيضًا في القرآن الكريم والسنة المطهرة.

ونفيد من هذا البحث اللغوي أن القبض ليس له معنى محدد معين في اللغة، ولم يخصصه الكتاب، أو السنة بمعنى معين، ولذلك يكون مرجعه إلى العرف، وهذا ما صرح به الفقهاء.

* ثانيًا: وفي اصطلاح الفقهاء وجدناهم متفقين على أن القبض في العقار بالتخلية، ثم ثار بينهم خلاف في غيره، فوجدنا اتجاهاتهم تنحصر – بشكل عام – في اتجاهين: اتجاه يرى أن القبض هو التخلية والتمكن من القبض دون حائل ولا مانع، واتجاه آخر يرى أن القبض في المنقول لا يتم إلا بالنقل، أو الكيل، أو الوزن، أو التوفية.

وقد ذكرنا أدلة كل فريق مع ما يمكن أن يجرى فيها من مناقشة، فوجدنا أن الذي يدعمه الدليل هو أن القبض هو التخلية، والتمكن من الاستلام دون حائل ولا مانع، لكنا اشترطنا أن يكون القبض في الربويات يتم داخل المجلس، وكذلك رجحنا القول بأن القبض التام في الطعام لا يتم إلا بالنقل أو التوفية، أو الكيل، أو الوزن جمعًا بين الأدلة.

* ثالثًا: وصلنا من خلال أنواع القبض وصوره التي ذكرها فقهاؤنا القدامى أن مرجع هذه الصور أعراف أزمانهم وعوائدها، حيث عللوا أحكامها بالعرف، وقرروا أن الحاكم فيها العرف.

ص: 469

* رابعًا: وعند بحثنا عن صور القبض المعاصرة وضعنا ضابطة تسهل لنا كثيرًا من صور القبض المعاصرة، وهي أن مبنى القبض وأساس مسائله وصوره قائم على العرف، حيث إن أطلقه، ولم يرد في اللغة في معنى محدد، فيكون الرجوع فيه إلى العرف، ومن هنا فكل ما عدّه العرف قبضًا في أي عصر من العصور فهو قبض ما دام لا يصطدم مع نص شرعي ثابت صريح، ومن هنا فمقتضيات الأعراف السابقة لا تكون حدة على مقتضيات عصرنا الحاضر ما دامت أعرافه قد تغيرت، لأن ما هو مبني على العرف يتغير بتغيره، وعلى ضوء ذلك وصلنا إلى ما يلي:

1-

قبض العقار لا يزال بالتخلية، وكذلك قبض المصانع والشركات.

2-

المنقولات – ما عدا الطعام – إذا كانت حاضرة يتم فيها القبض بمجرد التخلية، وأما الطعام فلا يجوز بيعه إلا بعد نقله، أو كيله، أو وزنه.

3-

وأما القبض في السلع الحاضرة – ما عدا الطعام – والسلع التي رآها المشتري سابقًا، فيتم بمجرد التخلية بعد العقد.

4-

وأما السلع الغائبة، فإما أن يتم العقد فيها بين المستورد والمصدر مباشرة

وحينئذ لا يلزم العقد إلا بعد وصول البضاعة، ومطابقتها للمواصفات التي طلبها المشتري في العقد، وبالتالي فإن القبض يتم بعد ذلك مباشرة.

ومن المعلوم فقهًا أن رؤية الوكيل تنوب عن رؤية الموكل، وأن رؤية البعض قد تغني عن رؤية الكل.

5-

وقد يتم العقد عن طريق البنوك من خلال الاعتمادات المستندية وحينئذ إما أن يدخل البنك كوكيل فيكون استلامه البضاعة قبضًا، وكذلك إذا دخل كشريك.

أما إذا دخل البنك كمرابح (بيع المرابحة) فيكون قبضه للبضاعة قبضًا لنفسه، ولا يتم القبض للعميل إلا إذا وصلت البضاعة إلى الميناء المطلوب، ويتم العقد بينهما، ثم يراها، ويخلى بينه وبينها حسب العرف الجاري.

ص: 470

6-

وأما القبض في النقود فلا بد أن يكون في المجلس، ولكن مفهوم المجلس قد يتوسع فيه، وكيفية القبض قد يؤثر فيها العرف دون الاصطدام مع النص على ضوء ما يأتي:

(أ) تقديم المبلغ إلى المصرف وقيامه بتسجيله لحساب العميل الخاص الاستثماري، أو الجاري قبض، وبذلك يكون المصرف مضاربًا، أو شريكًا – حسب الاتفاق – في حالة تسجيله في حسابه الاستثماري، ويكون مدينًا في حالة تسجيله في الحساب الجاري (حسب الاتفاق)

(ب) يدفع العميل ريالات مثلًا ليسجلها المصرف في حسابه الخاص بالدولار فيقوم المصرف بذلك ويعطي له إيصالًا، فهذا أيضًا جائز يدخل في باب المصارفة في الذمة التي أجازها جماعة من الفقهاء، وأكد على ذلك مؤتمر المصرف الإِسلامي بدبي.

(جـ) تحويل مبلغ من النقود بعد تحويلها إلى عملة البلد المحول إليه يتضمن المصارفة في الذمة، مع ما يسميه الفقه الإِسلامي بالسفتجة، وكلتاهما جائزتان، وكذلك لو أخذ العميل شيكًا مصرفيًا أو شيكًا سياحيًّا.

* خامسًا: وجدنا أن أركان القبض ثلاثة: القابض، والمقبض، والمقبوض، ويشترط في المتقابضين ما يشترط في العاقدين – كقاعدة عامة -.

* سادسًا: الأصل عدم اتحاد القابض والمقبض لكل الفقهاء أجازوا اتحادهما في عدة حالات ذكرنا منها سبعًا.

ص: 471

* سابعًا: أوضحنا بشيء من التفصيل أثر القبض في العقود الصحيحة، فوجدناها بالنسبة له ليست على سنن واحد حيث قسم الفقهاء العقود بالنسبة لأثر القبض إلى أربعة أقسام وهي:

1-

قسم لا يشترط فيه القبض لا في صحته، ولا في لزومه، ولا في استقراره مثل النكاح، والحوالة، والوكالة، والوصية.

2-

قسم يشترط فيه القبض في صحته مثل الصرف.

3-

ما يشترط فيه القبض في لزومه كالرهن، وقد أثرنا آراء الفقهاء في ذلك مع الأدلة والمناقشة، ثم رجحنا القول بأن الرهن يلزم بمجرد العقد، وأن القبض شرط للاستقرار، وحينئذ يجبر الراهن على تسليم الرهن بعد العقد.

وقد ذكر الفقهاء لهذا القسم مثالًا آخر وهو الهبة، وذكرنا آراء الفقهاء في ذلك وأدلتهم، مع المناقشة، وترجيح الرأي القائل بأن القبض فيها شرط للزوم.

4-

وقسم يشترط فيه القبض لاستقراره مثل البيع، حيث يترتب على عدم القبض عدة آثار من أهمها أن المبيع يكون على ضمان البائع ما دام لم يقبض (على خلاف فيه وتفصيل) .

ومن أهم هذه الآثار أيضًا عدم جواز البيع قبل القبض، وقد ذكرنا فيه آراء الفقهاء، وأدلتهم مع المناقشة، ثم ترجيح جواز البيع قبل القبض إلا في الطعام جمعًا بين الأدلة (مع تفصيل وتحليل) .

* ثامنًا: فصلنا القول في أثر القبض في العقود الفاسدة، حيث ذكرنا اتجاهات الفقهاء، ورجحنا القول بأن المقبوض بعقد فاسد مضمون على قابضه.

* تاسعًا: أثرنا حكم المقبوض على سوم الشراء، أو النظر، أو الرهن، حيث وجدنا فيه تفصيلًا ذكرناه.

هذا والله أسأل أن يعصمني من الزلل والخطأ ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.

والله أعلم بالصواب.

الدكتور علي محيي الدين القره داغي

ص: 472